يوميّات الحرب.. آلام الذاكرة.. محمد علي شمس الدين

يوميّات الحرب.. آلام الذاكرة.. محمد علي شمس الدين

12 (يوليو) تموز - 14 (أغسطس) آب 2006

أنا الآن في منزلي الكائن على الطرف الغربي من الضاحية الجنوبية في بيروت. أمام عيني، من الناحية الجنوبية، تنبسط غابة من الأشجار هي حديقة «الغولف»، حيث العصافير تثرثر كالعادة، والغصون لا تميل بأدنى نسمة من نسمات الصيف، نباح كلب يأتي من بعيد، فيذكّرني بريف الجنوب اللبناني (مسقط رأسي)، على الرغم من إقامتي في المدينة.. فقد رزقني الله بمنزل أشمّ من خلاله بعض روائح الطبيعة في مدينة مُصْمتةٍ من الأسمنت، تختنق بشوارعها وبناياتها المندفعة صُعُدًا إلى الأعلى، وتكاد تكون بلا مساحات خضراء أوحدائق عامة، ذلك أنّ مهندسيها ومستثمريها الجدد، بعد أن تدمّرت المدينة في الجزء الكبير من أقسامها خلال الحروب والاجتياحات المتوالية عليها على امتداد ثلاثين عامًا خلت، لم يفكّروا إلا لمامًا في هندسة المساحات الخضراء، في المدينة الجديدة.. بيروت الأسواق التجارية والفنادق، والأحياء السكنية الأرستقراطيّة والشعبية على السواء، بمقدار مافكّروا في الاستثمار العقاري والمالي للمدينة. لذلك اتّسعت إلى الضواحي بطابعها المعهود نفسه من الأسمنت والحديد والحجر، واستطالت صُعُدًا في السماء، ولم تتنفس أفقيًا في مساحتها. ويحسبها الناظر إليها من الطائرة، كأنها رجمة من حجارة، وكأنها لا تنتسب لفسحة من لبنان الأخضر، لبنان القائم استثناء داخل محيطه الصحراوي العربي، بين زرقة البحر وخضرة الجبل، ولم تزره الصحراء إلا في المعنى.

من الناحية الغربية لمنزلي، ومن شرفة الطبقة الرابعة حيث أقف الآن، ثمة فسح جانبية أستطيع من خلالها أن أشاهد البحر.. الرؤية ليست قريبة على كل حال، بسبب المسافة الكبيرة التي تفصلني عن الشاطئ، ولكنّ الفسحة الزرقاء الممتدّة أمام ناظري، تساعدني على أن أسافر في المتوسّط سفرًا هادئًا في الرؤية إذا شئت. المنزل الذي أصفه في هذه اليومية، لم يخطر ببالي أن أصفه في يوم من الأيام.

لماذا؟

- لأنه منزل حاضر حضورًا جسديًا كاملا غير منقوص، وما يحضر في الواقع لا يحتاج إلى دليل عليه. فالكتابة على ما أرى - والشعر منها بشكل خاص - هي حضور ما لا يحضر في الواقع. هي المتأمَّل فيه والمأمول الذي نحلم به، وهي المتخيل الذي نستولده بالكلمات حين نفتقده في الحقيقة.

لو لم يحصل ما حصل في فجر هذ اليوم من هذا الصيف من هذا العام، لما كتبتُ ما كتبت. ربما كنت اكتفيت، للذكرى، بصورة فوتوغرافية للمنزل، توضع في ألبوم الصُور، فقد قضيت أربعين عامًا من حياتي أبحث عن منزل. كان دائمًا يهرب من بين يدي كلما خيّل لي أني لمسته أو أقمت فيه. كنت بين فترة وأخرى، أستيقظ صباحًا فأجدني في الشارع أو في العراء، تحت جسرٍ أو في كنيسة أو فندق.. فالحرب الأهلية التي عشناها، والاحتياجات التي رافقتها، جعلت معنى الإقامة معنى قلقًا وملتبسًا، وجعلته بالضرورة في نفسي مرتبطا بميتافيزيقيا الإقامة على الأرض.. وبمعنى وجودي وشعري للإقامة والرحيل.كذلك كان منزلي، أطوف حوله ولا أقيم فيه. أمشي نحوه ولا أصل إليه.. وحين خُيّل لي أني أخيرًا آن لي أن أستقر أو أستريح، وأن أتحضر أو أتمدّن في منزل محسوس وملموس وموصوف، من غرف ونوافذ وشرفة، تودي إليه طرق موصوفة، ويمكن الوصول إليه لمن يقصده، حين خُيِّل لي ذلك، فقدته بغتة.

لا تحسبوا أن المنزل الذي أصفه لكم الآن، قد زال عن وجه الخريطة، وأنه تهدّم أو اندثر مع ما اندثر من منازل الضاحية الجنوبية بالقصف المدمر، فأنا الآن غير متيقن من بقائه أو زواله.. لم أزره بعدما غادرته، حتى هذه اللحظة، ولم يحمل لي أحد شيئًا من خبره.. ومع ذلك انهدم المنزل في قلبي. انهدم فيه معنى الإقامة، وأنا أكتب عنه الآن مثلما أكتب عن مفقود. رحلت عنه وأستطيع أن أقول رحل عني.. حتى ولو بقيت الجدران قائمة والنوافذ مفتوحة، والحديقة من جهة الجنوب، تثرثر فيها العصافير، والبحر من ناحية الغرب تثرثر أمواجه ثرثرتها الرتيبة الأبدية، والقمر الأصفر الواسع يطل من فوق كتف الجبل ويدخل إلى الصالون كضيف ليليّ أليف. أكتب الآن عن جنة فقدتها فجأة، عن جنّة لم أمتلكها البتة.. كثيرون مثلي خسروا منازلهم، وهم مكشوفون في عراء الله.

انتهى. ابتعد المنزل. غاب. سيان تهدّم أو لم.. غبنا، رحلنا. لم يعد لنا ولم نعد له. نحنُ لسنا نحنُ ولا هو هو.. نقطة صغيرة في مكان صغير وضاعت في دخان كثيف. علامة برقت وانطفأت في ليل. جماعة كانت هنا ثم وصلت..

«بالأمس كانوا هنا واليوم رحلوا
وخلّفوا في سويدا القلب نيرانا
نذرًا عليّ لئن عادوا وإن رجعوا
لأزرعنّ طريق البيت ريحانا..»

لقد حدث كل شيء فجأة، كأنه أمر قاهر وقدر لا يرد. حين تولد، يقال لك: كُنْ هنا والآن، حين تموت يقال لك: مُتْ والآن. ولا شيء بعد ذلك ليقال، ولا تعليق على ماحدث»...

أنا الآن أكتب من مكان آخر. دعوني أصف لكم أين أنا، أمهلوني قليلاً.. الكلمات ليست طيّعة، والأحاسيس ترتجف والجغرافيا زاحلة. أنا الآن في الطبقة السادسة من مكان اسمه... (أمهلوني قليلاً) ماذا أسميه؟ إنه فقط كائن على الطرف الشرقي من المدينة، عال ومنكشف كالفضاء. إنه مكان طائر، وليس له سوى جهة واحدة، جهة لا تني تضرب بضرباتها المؤلمة على بصري.. جهة الضاحية، يكشفها ويراها ولا تراه... مسكين أنا، ومسكينة الضاحية. الضاحية. الأضحية. الضحيّة، الضحى... والضحى * والليل إذا سجى * ما ودّعَكَ ربُّك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى * ألم يجدْك يتيمًا فآوى * ووجدك ضالاً فهدى * ووجدك عائلا فأغنى * فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهرْ * وأما بنعمة ربّك فحدّثْ . آخ يا فقه الضحايا وميتافيزيقيا المعذّبين. قيامتكم حاضرة وعرسكم مؤجّل لآخر الزمان.

من خلال النافذة أنظر إلى الضاحية. عيناي واسعتان حتى تكاد تتمزّق حدقتاهما من شدة الاتساع. أذناي كأنهما رادار الأبديّة.. أريد أن أرى وأسمع كل شيء يحدث هناك. كل تنهيدة وصرخة وصلاة، وأريد أرى الناس وهم في الزوايا يرتجفون من الخوف أو من خشية الله. يعلو في «المنار» دعاء الجوشن. دعك من الخوف فهو لاغ في لاهوت المضطهدين. ولكن دعك أيضًا من الأمل..

فمن يقنع الطفل بسوى حليب أمه ولعبته؟ ومن باستطاعته الآن أن يجادل اليأس أو يجادل الألم؟ البريد يصلني من الضاحية بأعلى صوته.. أنا الآن موصول بها، بالجسد، بحبل السرّة، الهواء الذي يفصل بيننا محض هواء، لا أنام، عند الفجر يصل صوت المؤذن ناحلاً كالغيبوبة.

أصغي إليه وأنا أنظر إلى صليب كنيسة مجاورة وهو مضاء فتنعقد في قلبي الطمأنينة. البنايات التي بيننا تنام تحت خط الصمت. إنها تصغي فقط، ولا تعطّل ما بيننا من حوار عجيب. أسمع أرى وأحدد الأمكنة باتجاه الانفجارات وعلامات الدخان المتصاعد منها، والمتبدّد نحو الغرب. الطائرات المفزعة تحوم وتنقضّ فتنفجر صواريخها كالصواعق فتتبعثر البيوت الواهية كأنها العهن المنفوش، ومن فيها، تدفنهم تحت منازلهم أحياء وأشلاء، وعيونهم شاخصة إلى السماء.

«مات أهلي جميعًا وعيونهم محدّقة في السماء». كيف يستعار لهذا الموت سوى كلامك يا جبران؟ كيف يوصف هذا الموت إلا به؟

ذكّرتني الانفجارات وكومات الدخان، بين غارة وغارة، أنه كان لي منزل هناك. كنت أخمّن من خلال الدخان، أماكن الإصابة واحتمالاتها. خمّنتُ كثيرًا.. ولكنني أقلعت عن ذلك. كتبت في صدر: انتهى، وأقفلت الباب..

وكنت أنظر إلى سيف جلعاد وهو يقطع المدينة نصفين كما تقطع السكين التفاحة.

أنا الآن أقيم في وطني. لبنان. وموصول بفلسطين بالجنوب بجبل الشيخ والجليل. تسمّي إسرائيل أرضها أرض جلعاد، أو الميعاد. حسنًا. أنا الآن أقيم في البلاد التي تقع شمالي أرض جلعاد. لقد سمّت إسرائيل هذه الحرب باسم جنديها الأسير واسم نبيها القديم «سيف جلعاد». وحددت الجغرافيا، بحدّ السيف. ولكنْ «من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ».

البلاد التي هي شمالي جلعاد يفري فيها السيف. تنبش صواريخهم أرضها وتقتل أهلها. الجسور قطعت والبلاد والقرى قورت كأنها الذبائح.

سيف جلعاد

يا للتسمية التوراتية القاتلة.

أقول لنفسي: أثمة وقت للتأمل الآن في الكلمات؟ في الاسم والمسمى؟ في فقه اللغة وفقه القوّة؟

أنا الآن أقيم في وطني. لبنان. وموصول بفلسطين بالجنوب بجبل الشيخ والجليل. تسمّي إسرائيل أرضها أرض جلعاد، أو الميعاد. حسنًا. أنا الآن أقيم في البلاد التي تقع شمالي أرض جلعاد. لقد سمّت إسرائيل هذه الحرب باسم جنديها الأسير واسم نبيها القديم «سيف جلعاد». وحددت الجغرافيا، بحدّ السيف. ولكنْ «من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ».

البلاد التي هي شمالي جلعاد يفري فيها السيف. تنبش صواريخهم أرضها وتقتل أهلها. الجسور قطعت والبلاد والقرى قورت كأنها الذبائح.

سيف جلعاد

يا للتسمية التوراتية القاتلة.

أقول لنفسي: أثمة وقت للتأمل الآن في الكلمات؟ في الاسم والمسمى؟ في فقه اللغة وفقه القوّة؟

وأخذت أستعير من ذاكرتي ما يثير عجبي. إنهم يستعيرون لمجازرهم ومخازيهم عناوين القصائد والروايات والأساطير... «النجم الساطع»، «عناقيد الغضب»، «سيف جلعاد».. يستخدمون فقه اللغة لفقه القوة. ما هذا؟ أهم يتحدثون عن الشعر أم عن الجريمة؟

وانعقد في مخيلتي قوس من رجلين متباعدين. مختلفين في الزمان والمكان واللغة والرؤية. إنما لكل منهما حكمته، ولا ضير في ذلك..

وهُما، (ولتعجبوا): فريدريك نيتشه وأبوعمرو الجاحظ. فيلسوف القوة وشاعرها المجنون، وحكيم الأدب وظريفه العاقل.

يلاحظ «نيتشه» في كتابه «تحطيم الأصنام» أن الأقوياء يمنحون أنفسهم حق تسمية الأشياء والأفكار بالتسميات التي يريدونها، وأنهم يمنحون التسميات يشاءون من دلالات. هكذا تتغير اللغة دائمًا بفعل ما تحفزه سكاكين القوة في جلد القاموس ولبّه وقلبه من علامات.

نعم إذن:إنها مناورات «النجم الساطع الأمريكية» وما رسمته من خرائط الخليج، وإنها حملة «عناقيد الغضب» الإسرائيلية، وما أرّخت له في مجزرة قانا في العام 1996، واليوم إنها حرب «سيف جلعاد» على لبنان... هذه الحرب التي سيُذبح بها حامل سيفها على الأرجح.

وحدهم الأقوياء هم سادة الاسم. سمّت المقاومة أعمالها «الوعد الصادق»، لقد منحها سيد المقاومة الاسم. استلّه من عمق القرآن، وصدق الوعد الإلهي لعبدِهِ. لقد وعد السيد أسرانا بالتحرير، وهو، كما علّمنا، إذا وعد صدق في وعده.

ولكن: مالنا الآن ولهذا الترف في اللغة وفقهها، والقوة وفقهها؟

ألقي بسمعي إلى النافذة، فأسمع انفجارات الضاحية عالية بليغة رهيبة، ولا بلاغة تعلو على بلاغتها. وأكثر بلاغة منها صليات حزب الله على مستعمرات إسرائيل.

ألقي ببصري إلى شاشة التلفزيون، فأقرأ تحت صور المتحاورين والمعلقين والمحللين، سطورًا صغيرة، تمر سريعة كالطيور.

سطر: المجازر تتوالى في القرى الجنوبية.

سطر: صواريخ حزب الله تنصب على كريات شمونة.

سطر: عائلة الشيخ عكّاش في الدوير: الأب والأم والأولاد العشرة، دُفنوا تحت ركام منزلهم بصاروخ واحد.

سطر آخر: صواريخ المقاومة تنصبّ على حيفا.

سطر آخر: أربعون شخصًا قصفتهم الطائرات الإسرائيلية في «مروحين» بعد أن أمرتهم بمغادرة القرية، واصطادتهم بضربة واحدة.

سطر آخر: ثلاثون شخصًا من الأهالي في «الزرارية» قُتلوا بصاروخ مسدّد إليهم وهم يتجمّعون في منزل واحد، فدفنتهم في مكانهم، ومازال أنين بعض المدفونين يُسمع من تحت الأنقاض.

...

آنئذٍ، رأيت بين صلية وأخرى تنصبّ على إسرائيل، مجازر أخرى ستحدث لا محالة، والقرى الجنوبية، واحدة واحدة، ستُبقر بطونها كالذبائح، فما نفع التعداد؟

آنئذٍ، أحسست أن «قانا» قادمة لامحالة، وبدأت أرسم صورة لعرسها الجليل.

قتيل واحد بضخامة الوطن يكفي. فما نفع التعداد؟

سطر: صواريخ حزب الله تضرب في عمق إسرائيل: العدد خمسون.

سطر آخر: الصواريخ تضرب في عمق الطاغوت: العدد سبعون.

سطر آخر: إنها تضرب في عمق العمق. العدد مائة.

سطر آخر: إنها تضرب في عمق عمق العمق... العدد مائة وخمسون.

سطر آخر: الصواريخ تسقط تمامًا في قلب جلعاد: بلا عدد

الحرب لاتزال تضرب بأجنحتها المسعورة على الدم. كلاب التلمود تنبح، وأنا أكتب. وأسأل نفسي: لماذا؟ مادامت الكلمات ترحل، أما الكارثة فتبقى؟

وأجيب نفسي متعللاً: لعلّ العكس هو الصحيح: الكارثة ترحل أما الكلمات فتبقى.

من أجل هذا وضعت صدري في مرمى النبلة.

من أجل هذا أكتب لأشهد.

انتهى...

ماتت الطفلة

انتهى. أقفلنا عيني الطفلة الميتة على منظر لعبتها، التي كانت ممددة إلى جانبها، وأوصينا خالتها بالصبر والصلاة.

رسالة في زجاجة في بحر

أعتصر من شرياني نقطة من الدم، وأضعها على آخر سطر في الصفحة البيضاء، لأقول لك ياحبيبتي انتهت الحرب، فليخفف عني جمالك وطأة المجازر، وليشملني بعفوه الخاص، فأنا سأحبك بين حرب وأخرى، وقبل الدم وبعد الموت، وقبل الأبجدية وبعد الكلمات، وأعدُك بأن أكون لك أبًا في هذه الحروب الطويلة، فكوني لي أمّا فيها.

إنّ قبلتَكِ يا حبيبتي، فرحُ الشعوب بالسلام، ولن تمنعني الطائرات من تدبّر شئوني الصغيرة معكِ، كأن أحبّك ولا أفكّر بالكارثة. كأن تهدر حولنا الطائرات وتتناثر الأشلاء والضحايا.

وأنا وأنت كلانا ملجأ للآخر.

أحبيني بين قتيل وقتيل.

اذكريني عند مدافن القرى وبين ورودها، واعلمي أنني طائعًا وضعت عنقي أمامك في مرمى النبلة، وفرشت صدري كبساطٍ ممدد لخطواتك القادمة.

حلمت يا حبيبتي بأن الحروب انتهت، فكتبت لك هذه الرسالة على عجل، حيث أنتِ بعيدة، والبريد لا يصل، وضعتها في زجاجة، وألقيتها في البحر، البحر الذي تتمددين على رماله الصفراء الآن، والذي يلامس كل يوم، أصابع رجليك العاريتين.

دعابة الجاحظ

أنستني أهوال الحرب دعابة الجاحظ، فمن بعد نيتشه وأصنامه، تخاطر إلى ذهني ترفٌ آخر:

قال: كان اثنان يركبان في مركب، ويجدّفان في نهر. أحدهما فقيه وأديب نحرير، والآخر رجل من همَلَ الناس وعامّتهم.

قال الفقيه لرفيقه المسكين: هل تعرف القراءة والكتابة؟

أجاب الرجل: كلا... فأهلي لم يرسلوني إلى الكتّاب وأنا صغير... وهكذا بقيت أميّا كما ترى.

قال الفقيه متعاظمًا: ويلي عليك.. لقد أضعتَ

نصف عمرك سدى.

وفيما هما يتحاوران، اهتاج النهر وحرّكت الرياحُ المركب بعنف، فألقت الرجلين في الماء.

في تلك اللحظة من الحكاية، سأل الرجل الأميّ صاحبه الفقيه وهو يتخبّط في اللجّة، وقد شارفَ على الغرق، ألا تعرف السباحة ياسيّدي؟

فأجابه الفقيه: كلا

فقال الرجل متنهّدًا: إذنْ، لقد أضعتَ كل عمركَ سُدى...

«يا عريسْ
يا طويل القامة
أجّلت عرسكْ
ليوم القيامة»

(من أهزوجة تقولها نساء الجنوب في جنائز الشباب). حين سمعتُ اسم قانا، سألت نفسي: هل أستيقظُ الآن على مأتم أم عرس؟ ما هذا الندب الحزين، ولماذا تتزيّن قانا الجليل؟

إنه عرسها الثالث، عرس الدم. ولا معجزة سوى موت أهلها جماعة تحت علَم الأمم، وقُرْب المغارة. تجمّع الناس من القرى المجاورة. فقد تناقل الرواة خبرًا يقول إنه المسيح عاد حاملاً على كتفيه صليبًا كبيرًا بحجم المدينة، وإنهم رأوه عاريًا وواقفًا بوجهه الحزين عند مدخل المغارة، وإن قانا جمّعت صغارها لمقدم البشارة. قال بعضهم إنه ليس المسيح بل سواه، فكيف يستطيع أن يعود والجسور قُطّعت كما تقطّع الأوصال، والبلاد قوّرت كأنها الذبيحة؟

تجمّعوا من القرى يقودهم الخوف والرجاء... قيل إنهم عشرون، وقيل أربعون أو مائة. لكنهم، وهم رعاة خوفهم، تناقلوا ما بينهم بأنه في عرسه الثالث والأخير ربما ستحدث المعجزة ويقودهم إلى الحياة. وبينما كان هذا، تناقل الرواة فجأة خبرهم بأنهم تمزّقوا... وأسدلت ستارة المأساة فوقهم كالليل. تقول أمه مريم إنها تخاف عليه من أن يموت في يوم عرسه.

لذلك خاطبت الذين تجمعوا على مدخل المغارة للقائه قائلةً لهم: عودوا إلى دياركم. أخاف عليكم من هذه الطائرات، التي تحوم حولكم في الجو، وأشمّ فيها رائحة الشرّ. أخاف أن تدفنكم جميعًا في قبر واحد.

شرِقَ أحد القرويين بالبكاء حين سمع المرأة تتكلم، ونظر إلى ابنها الواقف بجانبها، وخاطبه قائلاً: يا سيدي ويا ملكي ويا حبيبي. يا أيها القتيل والغريب والمؤمّل القريب والذي يبدّل اسمه مثلما تبدّل البحار ماءها والسماء طيرها والبلاد ساكنيها... خبّرنا هل أنت المسيح أم العباس؟ وأمك هذه الواقفة بجانبك، ما اسمها؟ مريم أم زينب؟

وقل لنا: متى يقام عرسك العجيب؟ وكيف لنا أن ننتظره إلى آخر الدهر ونحن هنا معلّقون بين الحياة والموت؟

آنئذٍ، وفوق ساحة مضاءة بأضواء قويّة، أشار لهم الرجل بكفّه البيضاء إشارة غامضة، وصوّب نحو المدينة بصره، وقال لهم: امكثوا هاهنا لكي تحرسوا هذا المكان، أحياء كنتم أم أمواتًا... أما أنا فسأغادركم لأنني أجلت عرسي لآخر الزمان.

إنه الصيف إذن. عزّ يوليو وصفو أغسطس. أنظر من نافذتي فلا أبصر إلا غيومًا كثيفة سوداء تعلو فوق الضاحية من دون موسم للمطر.

إنها لهاث الجسور المحطمة والمنازل المردومة، ولهاث الضحايا ينعقد دخانًا ويصعد نحو السماء

نصف عمرك سدى.

وفيما هما يتحاوران، اهتاج النهر وحرّكت الرياحُ المركب بعنف، فألقت الرجلين في الماء.

في تلك اللحظة من الحكاية، سأل الرجل الأميّ صاحبه الفقيه وهو يتخبّط في اللجّة، وقد شارفَ على الغرق، ألا تعرف السباحة ياسيّدي؟

فأجابه الفقيه: كلا

فقال الرجل متنهّدًا: إذنْ، لقد أضعتَ كل عمركَ سُدى...

«يا عريسْ
يا طويل القامة
أجّلت عرسكْ
ليوم القيامة»

(من أهزوجة تقولها نساء الجنوب في جنائز الشباب). حين سمعتُ اسم قانا، سألت نفسي: هل أستيقظُ الآن على مأتم أم عرس؟ ما هذا الندب الحزين، ولماذا تتزيّن قانا الجليل؟

إنه عرسها الثالث، عرس الدم. ولا معجزة سوى موت أهلها جماعة تحت علَم الأمم، وقُرْب المغارة. تجمّع الناس من القرى المجاورة. فقد تناقل الرواة خبرًا يقول إنه المسيح عاد حاملاً على كتفيه صليبًا كبيرًا بحجم المدينة، وإنهم رأوه عاريًا وواقفًا بوجهه الحزين عند مدخل المغارة، وإن قانا جمّعت صغارها لمقدم البشارة. قال بعضهم إنه ليس المسيح بل سواه، فكيف يستطيع أن يعود والجسور قُطّعت كما تقطّع الأوصال، والبلاد قوّرت كأنها الذبيحة؟

تجمّعوا من القرى يقودهم الخوف والرجاء... قيل إنهم عشرون، وقيل أربعون أو مائة. لكنهم، وهم رعاة خوفهم، تناقلوا ما بينهم بأنه في عرسه الثالث والأخير ربما ستحدث المعجزة ويقودهم إلى الحياة. وبينما كان هذا، تناقل الرواة فجأة خبرهم بأنهم تمزّقوا... وأسدلت ستارة المأساة فوقهم كالليل. تقول أمه مريم إنها تخاف عليه من أن يموت في يوم عرسه.

لذلك خاطبت الذين تجمعوا على مدخل المغارة للقائه قائلةً لهم: عودوا إلى دياركم. أخاف عليكم من هذه الطائرات، التي تحوم حولكم في الجو، وأشمّ فيها رائحة الشرّ. أخاف أن تدفنكم جميعًا في قبر واحد.

شرِقَ أحد القرويين بالبكاء حين سمع المرأة تتكلم، ونظر إلى ابنها الواقف بجانبها، وخاطبه قائلاً: يا سيدي ويا ملكي ويا حبيبي. يا أيها القتيل والغريب والمؤمّل القريب والذي يبدّل اسمه مثلما تبدّل البحار ماءها والسماء طيرها والبلاد ساكنيها... خبّرنا هل أنت المسيح أم العباس؟ وأمك هذه الواقفة بجانبك، ما اسمها؟ مريم أم زينب؟

وقل لنا: متى يقام عرسك العجيب؟ وكيف لنا أن ننتظره إلى آخر الدهر ونحن هنا معلّقون بين الحياة والموت؟

آنئذٍ، وفوق ساحة مضاءة بأضواء قويّة، أشار لهم الرجل بكفّه البيضاء إشارة غامضة، وصوّب نحو المدينة بصره، وقال لهم: امكثوا هاهنا لكي تحرسوا هذا المكان، أحياء كنتم أم أمواتًا... أما أنا فسأغادركم لأنني أجلت عرسي لآخر الزمان.

إنه الصيف إذن. عزّ يوليو وصفو أغسطس. أنظر من نافذتي فلا أبصر إلا غيومًا كثيفة سوداء تعلو فوق الضاحية من دون موسم للمطر.

إنها لهاث الجسور المحطمة والمنازل المردومة، ولهاث الضحايا ينعقد دخانًا ويصعد نحو السماء.


محمد علي شمس الدين 




12 (يوليو) تموز - 14 (أغسطس) آب 2006





الأربعاء 12 تموز





الخميس 13 تموز مكان آخر





الجمعة 14 تموز البريد يصل





 





السبت 15 تموز سيف جلعاد





الأحد 16 تموز تحطيم الأصنام





الإثنين 17 تموز مكان آخر





الثلاثاء 18 تموز سطور حزب الله





الخميس 20 تموز وضعتُ صدري في مرمى النبلة





الجمعة 21 تموز انتهى.. ماتت الطفلة





السبت 22 تموز رسالة في زجاجة في بحر





الأحد 23 تموز دعابة الجاحظ





الأحد 30 تموز قانا الجليل - العرس الثالث





الثلاثاء 15 آب