عام ابن رشد فيلسوف العقل والاستنارة

عام ابن رشد فيلسوف العقل والاستنارة

وضع ابن رشد بصماته البارزة على مسار الفكر الفلسفي الإنساني. إنه عميد الفلسفة العقلية في بلداننا العربية، من مشرقها إلى مغربها، وكان آخر فلاسفة العرب، بحيث انقطع وجود الفلاسفة في عالمنا العربي، منذ أكثر من ثمانية قرون، وعلى وجه التحديد في العاشر من ديسمبر عام 1198م، وهو تاريخ وفاة ابن رشد ببلاد الأندلس.

يعتبر المنصفون من مؤرخي الفلسفة العالمية ابن رشد واحدًا من أربعة من الفلاسفة وقفوا على قمم الاتجاه النقدي الفلسفي، وهم طبقًا للتاريخ: أرسطو قبل الميلاد بالنسبة للفلسفة اليونانية، وابن رشد في مجال الفلسفة العربية، والقدّيس توما الأكويني في محيط الفلسفة الغربية في العصور الوسطى، وكانْت الفيلسوف الألماني في تاريخ الفلسفة الحديثة.

وبالرغم من احتلال ابن رشد الفيلسوف العربي هذه المكانة العقلية النقدية، التي نفخر بها ونتفاخر، فإننا كعرب - ومع الأسف الشديد - قد ظلمناه حيًا وظلمناه ميتًا. ظلمناه حيًا حين هاجمه أصحاب التقليد والفكر الرجعي المظلم، حتى صدر ضده الحكم بالنفي والإقامة ببلدة أليسانة فترة من الزمان، ثم النظر إليه بعد عودته من المنفى، نظرة ظالمة، بحيث ظل مهجورًا في منزله حتى وفاته.

وظلمناه ميتًا وحتى الآن، لأننا أسأنا إلى أفكاره ولم نقدّرها حق قدرها، وأصدرنا ضد فكره العديد من الأحكام الخاطئة والظالمة، ولم نستفد من أفكاره بالرغم من دقتها وروعتها، وقد كان من المنتظر، وقد أحبّ ابن رشد ثقافتنا العربية وأعطاها الكثير، أن نبادله حبًا بحب وعطاء بعطاء، ولكن - مع الأسف الشديد - لم يقدّره إلا مفكرو أوربا، الذين كتبوا عنه مئات الدراسات بأكثر لغات العالم، وآلاف الصفحات.

أما نحن كعرب، فقد وجدنا جيوش البلاء والظلام والجهل والتقليد وأشباه المثقفين من متخلفي العقل، تشن هجومها على ابن رشد، وفكره وفلسفته.

نعم أسأنا إلى ابن رشد، ولم نضع في الاعتبار أننا نجد في فكره - كما سنشير - حلولاً لأكثر مشكلاتنا الفكرية والثقافية. ولو كنا قد وضعنا في الاعتبار، دروس ابن رشد الخلاقة، وما أعظمها من دروس! لكان الحال قد أصبح غير الحال، ولكن ماذا نفعل أمام جيوش الظلام وأنصار التقليد والرجعية والصعود إلى الهاوية وبئس المصير.

ونود أن نشير إلى بعض دروس ابن رشد في مجال التنوير العقلي الثقافية، بعد إشارة موجزة إلى حياته الفكرية.

ولد ابن رشد بقرطبة في بلاد الأندلس عام 520هـ = 1126م، والذي قدمه للخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبدالمؤمن الموحدي، هو الفيلسوف ابن طفيل، والذي كان معاصرًا له، وكان ذلك عام 1168م، أي قبل وفاته بثلاثين عامًا، إذ إن ابن رشد قد توفى، وكما سبق أن أشرنا عام 595 هـ = 1198م، وأثناء حياة ابن رشد تم إحراق كل كتب الفلسفة والمنطق ومن بينها كتبه، وكان ذلك بعد صدور الحكم على ابن رشد بالنفي وصدور المنشور الذي كتبه كاتب الخليفة، وهو الكاتب عبدالله بن عيّاش. أما عن وفاة ابن رشد، فقد دفن جثمانه أولاً في مراكش، ثم تم حمل الجثمان لكي يدفن في قرطبة. ويروي ابن عربي الفيلسوف الصوفي الأندلسي أنه شاهد تحميل جثته على دابة لتنقل إلى قرطبة وتدفن في روضة سلفه بمقبرة ابن عباس.

والجدير بالذكر أن الخليفة الذي قام بمحاكمة ابن رشد ونفيه، هو ابن الخليفة الذي تم تقديم ابن رشد إليه عن طريق ابن طفيل كما قلنا، والذي كان مهتمًا بالفلسفة وسائر العلوم العقلية. ومعنى هذا أن الاتجاه الفكري بالنسبة للأب والذي طلب أن تشرح له كتب أرسطو، كان يختلف تمام الاختلاف عن الاتجاه التقليدي الذي وجد عند ابنه، والذي تمت في عهده نكبة ابن رشد، وهذا الخليفة يسمى بالمنصور.

ترك لنا ابن رشد العديد من المؤلفات والشروح، وكان موسوعة فكرية كبرى. لقد ألّف ابن رشد في مجال الفقه، وخاصة أنه عمل قاضيًا، وقاضيًا للقضاة، ومن أهم مؤلفاته في الفقه كتابه المشهور والذي مازال يطبع حتى الآن «بداية المجتهد ونهاية المقتصد». واهتم ابن رشد بوضع رسائل ومؤلفات طبية عدة، على رأسها كتابه «الكليات في الطب» والذي ترجم إلى أكثر من لغة أوربية، وكان المرجع الرئيسي في المناهج الطبية بجامعات العصور الوسطى فترة من الزمان. ولا أشك في أن اهتمام ابن رشد بالطب كعلم من العلوم، كان من أسباب دعوته إلى ضرورة التسلح بالعلم والمنهج العلمي، وما أحوجنا الآن إلى أن نستفيد من دعوة ابن رشد إلى الاتجاه العلمي، وخاصة أننا مازلنا نجد على أرضنا العربية من يفسد فيها، وذلك حين يسخر من العلوم، وخاصة علوم الغرب والحضارة الأوربية.

أما بالنسبة لمجال الفلسفة، المجال الرئيسي لفيلسوفنا العملاق، وعميد الفلسفة العقلية في بلداننا العربية، ابن رشد، فقد ترك لنا كتبًا عدة، من بينها «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» و«مناهج الأدلة في عقائد الملة»، و«تهافت التهافت»، والذي رد فيه على عدو الفلسفة والتفلسف، الغزالي، الذي قام بتأليف كتابه «تهافت الفلاسفة»، والذي كان سببًا من أسباب هجرة الفلسفة من المشرق العربي إلى المغرب العربي، أي بلاد الأندلس، وخاصة أن النزعة الهجومية من جانب الغزالي قد ارتبطت بقيامه بإعلان كفر الفلاسفة بالنسبة لبعض الآراء، التي قالوا بها حول قدم العالم، وموضوع الخلود وموضوع العلم الإلهي.

الشارح الأكبر

ولم يكن ابن رشد مكتفيًا بالتأليف في مجالات لا حصر لها، ومن بينها - كما سبق - أن أشرنا منذ قليل: الفقه والطب والفلسفة، بل إنه كان شارحًا لأكثر كتب أرسطو، حتى أنه يسمى بـ«الشارح». واسم الشارح يسبق الفيلسوف في العديد من دوائر المعارف، وخاصة الأجنبية. لقد بدأ بالشرح بعد أن طلب منه ابن طفيل - بناء على رغبة الخليفة - شرح كتب أرسطو. وشرح ابن رشد كتب أرسطو ثلاثة أنواع من الشروح: الشرح الأصغر أو التلخيص، والشرح الأوسط، والشرح الأكبر. ويتميز ابن رشد بهذا النوع الأخير من الشروح، أي الشرح الأكبر، لأن جميع الفلاسفة الذين سبقوه في المشرق العربي والمغرب العربي، لا نجد لديهم من الشروح إلا ما يدخل في إطار النوع الأول أو النوع الثاني من الشروح، أي الأصغر أو الأوسط.

لقد عرف الغرب أرسطو في البداية من خلال شروح ابن رشد على أرسطو، وخاصة الشرح الأكبر، فابن رشد وهو الذي ظلمناه وهاجمنا فكره، حيّا وميتًا، نحن كعرب، يعترف الأوربيون المنصفون بأثره على ثقافتهم وفكرهم الناضج الخلاق.

ويكفي أن نعرف - على سبيل المثال لا الحصر، ولكي نتعرّف على مجهودات فيلسوفنا العملاق ابن رشد - أن شرحه الكبير لكتاب واحد من كتب أرسطو، وهو كتاب «الميتافيزيقا» أو «ما بعد الطبيعة»، قد اقتربت صفحاته من ألفي صفحة. وإذا كنا نقول دومًا - ولن نمل من تكرار القول من جانبنا، وبعد أن عايشنا فلسفة ابن رشد ما يقرب من نصف قرن من الزمان - إننا في أمس الحاجة إلى بعث فلسفة ابن رشد، والقول برشدية معاصرة، فإن من أسباب ذلك اعتقادنا أننا كعرب فكريًا نرجع إلى الوراء ولا نتقدم إلى الأمام. ولن يتحقق لنا - كعرب - التقدم إلى الأمام، وبحيث نكون مستقبلاً أفضل من زماننا الحاضر، إلا بالتمسك بالتنوير العقلاني والذي يمكن أن نجد جذورًا عدة له، في فكر ابن رشد وفلسفة ابن رشد.

لقد خلق الله تعالى عيوننا في مقدمة أدمغتنا، وهذا إن دلنا على شيء، فإنما يدلنا على ضرورة التقدم إلى الأمام، وليس الرجوع إلى الخلف، والعياذ بالله، إنها حكمة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.

القياس العقلي طريق حياة

لقد دعانا ابن رشد في كتابه «فصل المقال» وفي كتب أخرى عدة، إلى أهمية التأويل، تأويل النص الديني، واللجوء إلى القياس العقلي، تمامًا كما نرجع في المسائل الدينية إلى القياس الفقهي. إن كل نوع من القياسين، يعد مطلب حياة، مطلب وجود، إنه يعني أن نكون أو لا نكون. إن وقوفنا جامدين إزاء النص، فإن ذلك يعني الموت والفناء والخراب، أما إذا استخدمنا عقولنا في تأويل النص الديني، واستخدمنا القياس العقلي، فإن ذلك يعني الاستمرار والحياة. إننا إذا كنا نقول إن الدين مطلب حياة، مطلب وجود، فإن ذلك يعني بالضرورة ضرورة اللجوء إلى القياس، القياس الفقهي في المسائل الدينية، والقياس العقلي في المسائل البشرية. ألم يقل ابن رشد في كتابه «فصل المقال»: ونحن نقطع قطعًا أن كل نص يخالف في ظاهره العقل أن هذا النص يقبل التأويل عن طريق القياس. وهذه القضية - كما يقول ابن رشد - لا يشك فيها مسلم، ولا يرتاب فيها مؤمن، وأن هذا التأويل يكون على أساس قواعد التأويل العربي.

وانظروا أيها القرّاء الأعزاء إلى ما يحدث حتى الآن نتيجة إغفال هذه القاعدة الرشدية. لقد حدثت تفسيرات خاطئة وأحكام زائفة نسبت إلى الإسلام، والإسلام منها براء، ولو كنا قد استفدنا من القاعدة، التي وضعها لنا فيلسوفنا العربي، لكان الحال قد أصبح غير الحال، ولكن ماذا نفعل حيال قوم ارتضوا لأنفسهم، طريق التقليد، طريق الظلام، وأصبحوا كالخفافيش، التي تؤثر الظلام، وتعيش في الكهوف والمغارات.

نعم لو كنا قد استفدنا من دعوة ابن رشد في كتبه الفقهية وكتبه الفلسفية من ترك طريق التقليد، طريق الجمود، لكان الدين الإسلامي قد استوعب كل قضايا العصر، لأنه دين صالح لكل الناس في كل زمان ومكان، ولكننا هاجمنا دعوة ابن رشد، وجعلناها في زوال الإهمال والنسيان، وكأنه أطلقها في واد غير ذي زرع.

وإذا كان ابن رشد قد دعانا في سائر كتبه إلى ضرورة الانفتاح على كل الثقافات، وقال: ينبغي أن نبحث بأيدينا عن كتبهم (كتب سائر البلدان)، فإن كان فيها شيء يعد صوابًا شكرناه عليهم، وإن كان فيها شيء يعد غير صواب، نبهنا إلى هذا الخطأ.

نقول إذا كانت هذه هي دعوة ابن رشد، فإنها لعمري تعد دعوة عقلانية ووقفة تنويرية انفتاحية. وكم نحن في أمس الحاجة إلى هذه الدعوة، وتلك الوقفة التي تعد معبرة من جانبه عن ذكاء ثاقب. لقد قال بها وكأنه كان يعلم ما سيحدث بعد وفاته بعدة قرون، وذلك حتى انتشر بيننا الآن أناس يهاجمون كل ما هو غربي، ويقولون إنه يعد معبرًا عن الغزو الثقافي. يقولون بهذا وهم لا يعلمون أن الانفتاح على ثقافات الآخرين، نجد فيه الخير كل الخير. بل إن هذه الدعوة من جانب ابن رشد تعد مفتاحًا للعولمة الثقافية التي نتحدث عنها الآن. إن رفض التقدم العلمي بدعوى أنه يتعارض مع الأخلاق، وتصور أن العلاقات غير ضرورية بين الأسباب والمسببات، يعد شيئًا مهمًا في حياتنا التي نحياها. وهذا ما نجده عند ابن رشد حين نقد بعنف طريق الأشاعرة وطريق الغزالي وطريق الصوفية، لأنها تعد في رأي ابن رشد دعوات تضرب عرض الحائط بكل اتجاه علمي، نجد هذا في العديد من كتب ابن رشد وخاصة في كتابه «تهافت التهافت»، وتفسيره الكبير لما بعد الطبيعة لأرسطو.

رفض هذه الدعوات الخاطئة والجامدة والتقليدية، يعد - فيما يرى ابن رشد - واجبًا على كل من ينتصر للعقل. إنه في رفضه لها يعتمد على منطق البرهان، والذي يعد أسمى مراتب اليقين، يعتمد على منطق الوجود، منطق الحياة. وهذا يعني أن فلسفة ابن رشد لا تعد عالية ولا متعالية، بل إنها في القاع الخصيب من بطن أرض الواقع والحياة والوجود.

إننا لو كنا قد وضعنا ذلك في اعتبارنا لكنا قد باعدنا بيننا وبين الإرهاب بكل صوره، وابتعدنا تمامًا عن الخلط بين الدين والسياسة.

إن هذه الدعوات من جانب ابن رشد، والتي نجدها في كتبه المؤلفة وكتبه الشارحة، لا يصح أن نلهو بها، بل لابد من التأثر بها، وجعلها دستورًا لنا في حياتنا الفكرية والثقافية.

إن أوربا لم تتقدم إلا عن طريق السعي بكل قوتها، وابتداءً من عصر النهضة نحو تحقيق مبدأ التنوير، وبحيث وجدنا ثقافة أوربية جديدة تختلف في أساسهها ومنهجها عن ثقافة القدماء. لم تقل أوربا لنفسها إننا يجب أن نقف عند آراء تقليدية، بل إنها آمنت بالانطلاق نحو العقل، نحو الحضارة الحديثة، نحو التنوير.

ابن رشد أساس للنهضة

ونستطيع تصور نظام عربي جديد، إذا أخذنا من تراث ابن رشد ما يؤدي إلى نهضتنا الفكرية، وبحيث لا يكون معوقًا لمسيرتنا الإنسانية. نستطيع أن نسعى إلى النظام الجديد إذا اعتقدنا بأن النزعة الإنسانية التنويرية هي التي يجب أن نبحث عنها في تراثنا. إننا نحتاج إلى التنبيه إلى أخطاء من يطلقون على أنفسهم بأنهم من الأصوليين، وهذا التفكير الأصولي يحاول الرجوع بنا إلى الوراء. يحاول بكل قوته ضرب التنوير في الصميم. يجب ألا نقف عند التراث وإلا وصلنا إلى حالة العدم، بل يجب أن نسعى بكل قوتنا إلى التنوير إذ إن وجودنا وبقاءنا يرتبطان بالنور، أساسًا، كما يرتبط العدم والفناء بالظلام.

ولن يصبح لنا دورنا الحيوي والفعال والنشيط والرائد في العالم الذي نعيش فيه، إلا إذا آمن كل فرد بأن تراثنا لا يكون صحيحًا إلا إذا نظرنا إليه من خلال النور والتنوير من خلال دروس الفلسفة الرشدية. أما إذا وقفنا عند التراث لمجرد أنه تراث وحافظنا على كل ما فيه، على الرغم مما قد نجده من بعض الخرافات في هذا الكم التراثي، فإننا سنعود إلى الوراء، سنصعد إلى الهاوية، سيكون حالنا كمن يبكي على الأطلال، في الوقت الذي يجب فيه أن نركز على حاضرنا، وننطلق منه إلى مستقبل مشرق وضّاء.

غير مجد في ملتي واعتقادي الابتعاد عن طريق العقل، طريق النور. هذا ما تعلمناه من ابن رشد، وإذا كان ابن رشد يمثل جانبًا تراثيًا، فالعيب إذن - كما نقول - ليس في التراث، ولكن في الفهم الخاطئ للتراث. ولا أكون مبالغًا إذا قلت بأننا يجب أن نبدأ صفحة جديدة، نبدأ بأن ندرس تراثنا عامة، وتراث ابن رشد خاصة، ونفحص كل ما فيه، وبحيث لا نأخذ منه بعد دراسته إلا ما يكون متفقًا مع التنوير، وبحيث يكون مفيدًا لنا في حياتنا التي نحياها. أما ما لا يفيدنا في حياتنا التي نحياها ويعد معوقًا لنا في مسيرتنا العلمية والفكرية، فإننا ننصرف عنه إلى سواه.

إن العيب ليس في تراثنا، ولكن في الفهم الخاطئ للتراث. وهل من المعقول أن نظل بعيدين عن ابن رشد، وفكر ابن رشد، حتى أننا نجد حتى الآن بعض البلدان العربية تحرم فلسفة ابن رشد وتمنع كتبه من دخول أراضيها!!! وإذا كان بابا روما الراحل القديس يوحنا بولس الثاني، قد أصدر قرارًا بالعفو عن جاليليو، فأولى بنا الاحتفال بفكر ابن رشد وفلسفة ابن رشد.

وإذا كان الفيلسوف العربي ابن رشد، قد انتقل إلى دار الخلود في العاشر من ديسمبر عام 1198م، فإننا تخليدًا لذكراه، لابد وأن نتذكر الدروس التي يمكن الاستفادة منها في حياتنا لقد قدم لنا هذا المفكر العملاق، نسقًا فلسفيًا محكمًا يعد تعبيرًا عن ثورة العقل وانتصاره، وبذل في التوصل إلى الآراء التي يتكون منها نسقه الفلسفي جهدًا، وجهدًا كبيرًا، وإذا كانت بعض آرائه قد لاقت الكثير من أوجه المعارضة، سواء في أوربا أو في بلداننا العربية فإن أكثر آرائه قد لاقت الإعجاب أيضًا، بل إن تلك المعارضة في حد ذاتها تعد دليلاً، ودليلاً قويًا على أن آراءه كانت ومازالت آراء حية تعبر عن فكر مفتوح لا فكر مغلق، وكان ابن رشد بهذا كله جديرًا بأن يدخل الفكر الفلسفي العالمي من أوسع وأرحب أبوابه.

ويقيني أن أي دارس لتاريخ الفلسفة العربية لن يكون بإمكانه، إذا كان منصفًا وموضوعيًا في أحكامه، تخطي أو تجاوز آراء هذا الفيلسوف الذي قدر له - كما قلنا - أن يكون آخر فلاسفة المغرب العربي، بل آخر فلاسفة العرب، بالمعنى الدقيق لكلمة الفلسفة وكلمة الفيلسوف.

وإذا أردنا أن نبحث عن نقطة انطلاق لما نتحدث عنه اليوم من قضايا الأصالة والمعاصرة، وإذا أردنا وصل ما انقطع، أي أن نجد مستقبلا فلاسفة في وطننا العربي، فلا مفر - فيما يبدو لنا - من تدبر آراء هذا الفيلسوف ودراستها ودراسة دقيقة، وكم في فلسفته من آراء مازلنا في القرن الحادي والعشرين في حاجة ماسة إليها.

ويكفي فيلسوفنا فخرًا أن فلسفته كانت معبرة عن عظمة الفكر التي تتلاشى أمامها، ولا تقترب منها أي عظمة أخرى، يكفي فلسوفنا فخرًا أن فلسفته لم تكن محصورة في نطاق العلاقة بين الدين والفلسفة، وكأنه أدرك أنه يجب النظر إلى الفكر الفلسفي في حد ذاته وبصرف النظر عن اقتراب هذا الفكر أو ابتعاده عن موضوع العلاقة بين الدين والفلسفة.

إننا إذا نظرنا إلى ابن رشد كمجرد فيلسوف إسلامي، فإن هذه النظرة تعد خاطئة قلبًا وقالبًا، ولا يصح أن نقلل من أهمية نقده للغزالي وكيف أن منطلقات ابن رشد، تختلف اختلافًا جذريًا عن منطلقات الغزالي، فإذا حصرنا فلسفة ابن رشد في النطاق التوفيقي، فكيف نبرر إذن هجوم الغزالي ولجوءه إلى تكفير الفلاسفة؟

إن ابن رشد إذا كان استفاد من فلاسفة اليونان وفلاسفة العرب في المشرق العربي وفي المغرب العربي، والذين سبقوه ومهدوا له الطريق، طريق العقل، إلا أنه قدم لنا مذهبًا لا نستطيع أن نقول إنه يعد مجرد صدى لآراء من سبقوه، بل كان تعبيرًا من جانبه عن آراء فريدة ودقيقة وناضجة صادرة عن منهج ارتضاه لنفسه هذا الفيلسوف الذي يعد - فيما نرى من جانبنا - أكبر عميد للفلسفة في بلاد المشرق والمغرب معًا، وصاحب اتجاه يقوم على إعلاء كلمة العقل فوق كل كلمة.

وإذا كنا في عالمنا العربي، قد بدأنا الاهتمام بفلسفة ابن رشد، فإنني أحسب أن روح ابن رشد تحلق الآن في سعادة في عالم البقاء والخلود، وذلك حين تدرك أننا بدأنا في رد الاعتبار لفكر ابن رشد العقلي التنويري، ابن رشد الفقيه والعالم والفيلسوف الذي ظلم بأشد أنواع الظلم وكما سبق أن أشرنا حيًا وميتًا. إنها دعوة من جانبنا نرجو أن تجد صداها في نفوس وعقول أبناء وطننا العربي في كل زمان وكل مكان.

 

عاطف العراقي