أجنحة الموت (قصة × صفحة)

   أجنحة الموت (قصة × صفحة)

في أسواق البصرة كانت عيوننا معلقة تبحث عن لعبة، أو ثوب جميل نحمله لأطفالنا أنا وصديقي (ماركار) الذي يسكن مدينة بغداد، وهو أب لطفلة جميلة اسمها (سهى) تصغر ابني الحبيب (يوسف) بشهر واحد.. كثيرا ما كنت أمازح صديقي وأقول له: ابني سيتزوج ابنتك عندما يكبران، فيقهقه عاليا ويقول: لن أعطيها له لأنه سيكون مثلك جبانا.. تركنا صورتيهما معلقتين فوق صندوق المئونة في ملجئنا وانطلقنا.

كنا فرحين لأن إجازتنا تصادف دائما في نفس الوجبة - التي تتأخر لتستمر أكثر من خمسين يوما أوقات الإنذار - وهذا يهيئ لنا فرصة «العيش سوية أو الموت معا».. كنت أعد الأيام، أنتظر أن أضع (نموذج الإجازة) في جيبي واحمل حقيبتي وسط توديع زملائي الجنود وتمنياتهم لي بقضاء إجازة سعيدة، وعيونهم مليئة باللهفة والأمل لأوصل رسائلهم وأخبارهم إلى عوائلهم وأحبائهم الذين ينتظرون عودتهم بفارغ الصبر. كم كنت أود لو أحلق بطائرة تحملني إلى قريتي الجميلة التي تنام بهدوء شمال مدينة الموصل، لاختصر الزمن وأكسب ساعات ثمينة أضيفها فوق عمر الإجازة القصير.

أكملنا شراء حاجياتنا وأقلتنا سيارة (تاكسي) من كراج البصرة باتجاه العاصمة، كل منا يقلّب الهدايا التي اختارها غير مصدقين بها من (الفرح) الذي تعلمنا أن نستعيره بغريزتنا، لنرمي وراء ظهورنا (مؤقتا) كل مناظر القتل وبشاعة الموت والدم المتيبس المجبول بالتراب ورائحة البارود، ومرارة الترقب والقلق الذي يسكن أرواحنا طوال الوقت، ولا نستطيع انتزاعه منّا حتى أيام الإجازات، فكم مرة فززت من نومي على صوت قذيفة مدفع مزّقت بقايا أحلامي الهادئة وانتزعتني من فراشي لاصطدم بنظرات زوجتي المذهولة والممزوجة بالشفقة والمرارة.

جلسنا في المقعد الخلفي للسيارة نسمع أغاني الجنوب منطربين (بالأبوذية) التي كان يغنيها داخل حسن.. كانت الأحاديث تدور عن آخر مستجدات الحرب والهجوم المزمع شنّه على القاطع القريب من مدينة الفاو.. تلك المدينة التي تحولت إلى محرقة ابتلعت آلاف الجنود وأبيدت (ألوية) بأكملها على مشارفها دون أن تحقق شيئا يذكر.. قاطعنا السائق وكان رجلا تجاوز الستين من عمره، تبدو على محيّاه علامات المرح واللامبالاة، يضع في زاوية فمه سيجارة تهتز كلما تكلم. ومن المرآة المقابلة لوجهه بانت ندبة واضحة فوق حاجبه الأيمن أعطت وجهه تميّزا وقوة وقال ضاحكاً: سأحكي لكم عن حادث وقع ليلة البارحة، كان سببه (دبابة مشئومة) معطلة تربض على جانب الطريق في منطقة لا تبعد أكثر من ربع ساعة عن هذا المكان.. تصوروا غباء السائق الذي لم يميّز الدبابة واصطدم بها! فتحولت سيارته إلى (خردة) والركاب الذين معه إلى أشلاء.. ثم أكمل بعصبية: «كم أكره تلك الدبابة اللعينة التي لا يسلم منها الأبرياء حتى وهي معطلة»!. استمتعنا بحديث السائق وضحكاته ونكاته، وبدأ التعب والنعاس يداهمان جفوني المتعبة من (واجب) الليلة الماضية، فاستغرقت في إغفاءة لذيذة... فتحت عينيّ بعدها لأجد صديقي ممددا على سرير بالقرب مني وساقه معلقة إلى أعمدة فوق سريره!! سألت الممرضة باستغراب: ما الذي أتى بنا إلى هنا بحق السماء؟! ابتسمت وقالت: أنتما محظوظان لأنكما نجوتما بأعجوبة من حادث اصطدام مروّع بدبابة معطلة على الطريق بين البصرة وبغداد.. الحمد لله على نجاتكما. قلت لها بسخرية ممزوجة بالألم:

«ما الفائدة من نجاتنا ما دامت أجنحة الموت ترفرف فوقنا أينما كنّا؟!».

 

نواف خلف السنجاري