رمضـان في عيون الرحالة العرب

رمضـان في عيون الرحالة العرب

حافظ‭ ‬العرب‭ ‬على‭ ‬رحلة‭ ‬التجارة‭ ‬ورحلة‭ ‬الجهاد‭ ‬والسفارة،‭ ‬ضمن‭ ‬ما‭ ‬وصل‭ ‬إليهم‭ ‬من‭ ‬التركة‭ ‬الحضارية‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬إليهم،‭ ‬وقد‭ ‬حرص‭ ‬المسلمون‭ ‬على‭ ‬طلب‭ ‬الرحلة،‭ ‬ولكنهم‭ ‬أضافوا‭ ‬ثلاثة‭ ‬أغراض‭ ‬جديدة‭ ‬إليها‭ ‬حتى‭ ‬تلبي‭ ‬متطلبات‭ ‬الحياة‭ ‬المتنوعة،‭ ‬وهي‭: ‬رحلة‭ ‬الحج،‭ ‬ورحلة‭ ‬طلب‭ ‬العلم،‭ ‬ورحلة‭ ‬التجول‭ ‬والطواف‭.‬

ويزخر التراث الجغرافي العربي بحكايات رحالة مسلمين وأجانب جابوا الآفاق، ودونوا بقلمهم ما وصلوا إليه من مدن وبلدان وأصقاع، وسجلوا لنا تفاصيل عديدة عن عادات وتقاليد الحياة الاجتماعية لتلك الأقوام والملل والنحل التي قصدوها، فكانت بحق سجلاً لأولئك الناس احتفظ بها العرب في مصنفاتهم الجغرافية، ونهل منها الغربيون ما شاءوا أن ينهلوا، وأشادوا بكل فخر واعتزار  بتلك الرحلات العربية في مؤلفاتهم الصادرة لاحقاً، ورسموا في رحلاتهم صوراً حية وناطقة عن احتفالات المسلمين بشهر رمضان المبارك، وقد اخترنا ثلاثة نماذج من الرحالة العرب: ابن جبير، وابن بطوطة، أبوبكر العياشي، الذين قاموا بزيارة ثلاث مدن عربية خلال شهر رمضان المعظم، وهي: مكة المكرمة ودمشق والقاهرة.

 

ابن‭ ‬جبير‭ ‬في‭ ‬مكة

وقد وصف الرحالة  الأندلسي ابن جبير في كتابه «تذكرة الأخبار عن اتفاقات الأسفار» المعروف بـ «رحلة ابن جبير» شهر رمضان في مكة المكرمة والاحتفالات الخاصة بقدوم وإحياء لياليه المباركة لعامي (579 - 578 هـ)، فسجل مظاهر ختم القرآن الكريم بها في كل وتر من الليالي العشر الأواخر في رمضان. ووصف في رحلته إلى مكة الأركان الأربعة للحرم، وبإزاء المقام الكريم منبر الخطيب، فقال: «وهو أيضاً على بكرات أربع.. فإذا كان يوم الجمعة، وقرب وقت الصلاة، ضم إلى صفحة الكعبة الذي يقابل المقام، وهو بين الركن الأسود والعراقي، فيسند إليه المنبر».

كما عرفنا ابن جبير في رحلته عن الاحتفاء بالأهلة في مكة، وما يجري فيها من احتفالات وكيف دخل أمير مكة مكثر المذكور داخل الحرم الشريف مع طلوع الشمس، والاحتفال بشهر رمضان فيها، فسجل الاهتمام الكبير بزيادة أحجام وأعداد وسائل الإضاءة منذ صلاة المغرب، والفطور، وحتى الفجر، والسحور، وتجديد فُرُش الحرم الشريف من الحصير عند دخول غُرة الشهر الكريم.

ثم ذكر إقامة صلاة التراويح بالحرم المكي في أماكن عدة متفرقة، وكان لكل فرقة إمامها، وأن عدد ركعات التراويح بلغ أربعاً وعشرين ركعة خارجاً عن الشفع والوتر، مع تعداد مرات الطواف حول الكعبة المشرفة فيما بينها.

كما دوّن ابن جبير مظاهر ختم القرآن الكريم في كل وتر من الليالي العشر الأواخر من شهر رمضان، حيث كان أبناء مكة من الصبية يتنافسون في ختمه والاحتفال بذلك بإيقاد الشموع والثريات وتقديم الطعام.

وأشار الرحالة إلى ابن إمام الحرم الذي ختم القرآن الكريم في ليلة خمس وعشرين، وأعقب ذلك بخطبة بليغة نالت استحسان الحضور، على الرغم من صغر سن الخطيب.

وتحدث ابن جبير عن السحور في مكة الذي كان يتم قرب المئذنة التي توجد في الركن الشرقي للمسجد الحرام، وذلك بسبب قربها من دار شريف مكة، فيقوم الزمزمي (المسحراتي) بالصعود إلى أعلاها وقت السحور، داعياً ومذكراً ومحرضاً على السحور ومعه أخوان صغيران يجاوبانه ويقاولانه.

فيقول الزمزمي:

نياماً‭ ‬قوموا

قوموا‭ ‬للسحور

فيردد الطفلان ما قاله الزمزمي ثم ينشد السابق ذكره:

 

أيها‭ ‬النوّام‭ ‬قوموا‭ ‬للفلاح‭ ‬

 ونظراً لترامي الدور بعيداً عن الحرم المكي، حيث يصعب وصول صوت المؤذن كانت تنصب في أعلى المئذنة، كما يقول ابن جبير «خشبة طويلة في رأسها عمود كالذراع وفي طرفيه بكرتان صغيرتان يرفع عليهما قنديلان من الزجاج كبيران لايزالان يوقدان مدة التسحير، فإذا قَرُبَ تبين خطى الفجر ووقع الإيذان بالقطع مرة بعد مرة حطَّ المؤذن المذكور القنديلين من أعلى الخشبة، وبدأ وثوب المؤذنين من كل ناحية بالأذان. وعندما يرى أهل مكة من سطوح منازلهم العالية القنديلين قد أطفئا يعلمون أن الوقت قد انقطع». 

ونقل ابن جبير حكاية أخرى عن غلام مكيّ من ذوي اليسار دون الخامسة عشرة احتفل أبوه به عقب ختمه للقرآن العظيم في ليلة ثلاث وعشرين، حيث أعد له ثريا صنعت من الشمع وذات غصون علِّقت فيها أنواع الفواكه اليابسة والرطبة، وأعدّ له والده شمعاً كثيراً، ووضع وسط المحراب المربع الذي أقيم على قوائم أربعة تدلت منه قناديل مُسرجة، وأحاط دائرة المحراب المربع بمسامير مدببة الأطراف غرز فيها الشمع وأوقدت الثريا المغصّنة ذات الفواكه، ووضع الأب بمقربة من المحراب مِنْبَراً مُجللاً بكسوة مجزعة مختلفة الألوان، وحضر الإمام الطفل فصلى التراويح وختم وقد مُلِأَ المسجد بالرجال والنساء في محرابه وحوله الشمع المضاء. 

 

ابن‭ ‬بطوطة‭ ‬في‭ ‬دمشق‭ ‬

ويعد ابن بطوطة شاهد عيان على حلول غرة شهر الصوم المبارك في دمشق الشام التي زارها غير مرة وصادف فيها شهر رمضان عام 749هـ، فذكر لنا في رحلته تفاصيل عديدة عن عادات أهلها في استهلال الشهر الكريم، فيقول «وإذا أهل هلال رمضان تضرب الطبول عند أمير دمشق، ويقع الاحتفال بمسجد دمشق من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعل، حتى يتلألأ المسجد نوراً ويسطع بهجة وإشراقاً، وتتفرق الأئمة فرقاً من القراء، يتناوبون القراءة ويوقدون الشمع ولا تبقى في المسجد زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلي بجماعته، فيرتج المسجد لأصوات القراء، وترق النفوس وتحضر القلوب وتهمي الأعين».

كما يشير إلى فضائل الدمشقيين فيقول: «إنه لا يفطر أحد منهم في ليالي رمضان وحده البتة، فمن كان من الأمراء والكبراء فإنه يدعو أصحابه والفقراء يفطرون عنده، ومن كان من التجار وكبار السوقة صنع مثل ذلك، ومن كان من الضعفاء والبادية، فإنهم يجتمعون كل ليلة في دار أحدهم أو في مسجد ويأتي كل واحد بما عنده فيفطرون جميعا».

وكانت مجالس الفقه والحديث تنتظم بالجامع الأموي خلال شهر رمضان ويحضرها جمع غفير من الفقهاء وطلاب العلم.

وعندما أقام الرحالة ابن بطوطة في دمشق خلال شهر رمضان عام 726هـ، فقد سمع جميع صحيح البخاري خلال أربعة عشر مجلساً أولها يوم الثلاثاء منتصف شهر رمضان، وآخرها في الثامن والعشرون منه. وكان ذلك على الشيخ المعمر، رحلة الآفاق، ملحق الأصاغر بالأكابر شهاب الدين أحمد بن أبي النعم حسن بن علي بن بيان الدين مقرئ الصالحي المعروف بابن الشحنة الحجازي.

وقد كانت دروس رمضان بجامع دمشق تستوعب أيضاً عدداً لا بأس به من السيدات اللاتي جلسن للتدريس وأَجزْنَ رجالاً كان من بينهم ابن بطوطة الذي ذكر أن من بين من أجازوه عامة الشيخة الصالحة أم محمد عائشة بنت محمد بن مسلم بن سلامة الحرّاني، والشيخة الصالحة رحلة الدنيا زينب بنت كمال الدين أحمد بن عبدالرحيم بن عبدالواحد بن أحمد المقدسي.

 

العياشي‭ ‬في‭ ‬القاهرة

عبدالله بن محمد بن أبي بكر العياشي، رحالة عربي مغربي زار مصر غير مرّة وهو في طريقه ضمن قافلة الحج المغربي. وقد ترك لنا مذكراته في رحلاته للحج، وهي التي نشرت باسم «الرحلة العياشية»، وإن لم يهتم بإيراد ملامح الحياة الاجتماعية في البلاد التي مر بها من الجزائر إلى طرابلس الغرب، مكتفياً بتسجيل ملاحظاته اليومية في القاهرة وبلاد الحجاز.

وقد تحرك الرحالة المغربي العياشي في السادس والعشرين من شهر رمضان 1072هـ - 1662م ورفاقه من مدينة إمبابة، قاصدين ميناء القاهرة النيلي في بولاق، فهاله أن وجد النيل في غاية النقصان وقد انحسر الماء عن بقاع كثيرة في وسطه. ولم يستطع الرحالة أن يحقق أمنيته بالإقامة قرب الجامع الأزهر لانشغال الدور بالحجاج من الشمال الإفريقي، وقد كانوا أحرص الناس على الاحتفاء بشهر رمضان الكريم في الأزهر.

فطرح أمتعته هو وأصحابه بوكالة قايتباي في باب الأزهر الغربي، وسعى يطلب دارا للسكن وقد عثر آخر النهار بمحل بقال يطلق عليه البردبكية. وجد داراً واسعة فيها مساكن عدة، إلا أنها بعيدة عن الجامع الأزهر بنحو أربعمائة خطوة قريبة من مشهد سيدنا الحسين ].

ورمضان شهر القرآن الكريم، وفيه يقبل المسلمون الصائمون على قراءته وتجويده، لذا هب العياشي إلى زيارة شيخ القراء ورئيس أهل التجويد بلا مراجعة الشيخ سلطان، وقد سلَّم الشيخ عليه ودعا له، وكان ذلك غاية ما أراده الرحالة وقصّاد الحج المغاربة من تلك الزيارة.

وقد سجل لنا في رحلته بندم وأسى أنه لم يحضر إلى الأزهر في يوم التاسع والعشرين من رمضان لأسباب ثلاثة، أولها لبعد منزله عن المسجد، وتلك واحدة من الغرائب، إذ استكثر الأربعمائة خطوة وهو الذي سار وقطع الصحراء خمسة وأربعين يوماً دفعة واحدة من مصراتة إلى مصر. والسبب الثاني ما لحقه من التعب بسبب الصوم. أما السبب الثالث فكان ذلك اللغط الذي ثار في القاهرة حول تحديد أول أيام عيد الفطر المبارك.

ويروي العياشي أن قاضي الشافعية صعد مع الشهود العدول في ليلة الثلاثين إلى أعلى المئذنة، ويعني بذلك مئذنة مسجد المنصور قلاوون بالنحّاسين، وبقي الجميع فوقها من قبيل الغروب حتى انتشر الظلام، فلم يروا شيئاً، فأوقدوا المصابيح في المئذنة كما هي عادتهم في ليالي الشهر كلها، فعلم الناس أن الغد من رمضان، وكذبت أقوال المنجمين.

كما أشار إلى الاهتمام بالسحور، وكان التسحير في غير الجوامع يتم بواسطة الطبلة المعروفة الآن، يطوف بها أصحاب الأرباع وغيرهم على البيوت، ويضربون عليها.

وبعد أن أتم العياشي صيام شهر رمضان في مدينة القاهرة نجده يجري على عادة المصريين في الخروج لزيارة المقابر، فيخرج عشاء إلى القرافة الصغرى، ولكنه لم يستكمل مراده من الزيارة، فعاد إلى القاهرة لشدة الحرّ من ناحية، ومن ناحية أخرى (لكثرة الزحام بالمقابر؛ لأن عادة نساء مصر أن يخرجن ليلة العيد ويومه إلى المقابر، ويبقين هناك برهة من الزمان).

وعلى الرغم من أن الرحالة العياشي قد ذهب إلى القرافة بغرض الزيارة والتبرك بمقابر الأولياء، فإنه لم يجد أي غضاضة في أن يصف عادة المصريات بأنها «عادة مذمومة في جميع الأيام، فما بالنا بيوم العيد؟ إنه يوم أكل وشرب ومرح وسرور، وزيارة القبور تذكر بالآخرة وتثير في القلب حزناً» .