ترجمات القرآن الكريم.. الوفاء للنص إشكاليّات متجدّدة

ترجمات القرآن الكريم.. الوفاء للنص إشكاليّات متجدّدة

أيهما‭ ‬الأَوْلى‭: ‬ترجمة‭ ‬المعنى‭ ‬أم‭ ‬المبنى؟‭  ‬وما‭ ‬إمكان‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬إيقاع‭ ‬فواصله؟

وهل‭ ‬تطول‭ ‬الترجمة‭ ‬المعنى؟‭ ‬أم‭ ‬تطول‭ ‬الأسلوب؟‭ ‬بما‭ ‬أنّ‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬كلام‭ ‬الله‭ ‬يمتاز‭ ‬بأسلوبه‭ ‬عن‭ ‬كلام‭ ‬البشر‭ ‬فهو‭ ‬الثرّ‭ ‬المعجز‭. ‬هذه‭ ‬إشكالية‭ ‬أولى‭ ‬أثارها‭ ‬الجاحظ‭ ‬قديماً،‭ ‬حيث‭ ‬ذكر‭ ‬صعوبتها،‭ ‬لعدم‭ ‬تكافؤ‭ ‬النصين‭ ‬المنقول‭ ‬منه‭ ‬والمنقول‭ ‬إليه‭: ‬فالأول‭ ‬كلام‭ ‬الله‭ ‬والآخر‭ ‬كلام‭ ‬البشر،‭ ‬مقترحاً‭ ‬مصطلح‭ ‬اتفسير‭ ‬القرآنب‭ ‬بغير‭ ‬العربية،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬حسن‭ ‬حمزة‭ ‬مسؤول‭ ‬شعبة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬ليون‭ ‬الفرنسية‭ ‬سابقاً‭ (‬مترجم‭ ‬فرنسي‭ ‬عربي‭) ‬يؤكد‭ ‬صعوبة‭ ‬فصل‭ ‬المعنى‭ ‬عن‭ ‬المبنى‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭. ‬والإشكالية‭ ‬الثانية‭: ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينقل‭ ‬المعنى‭ ‬نقلاً‭ ‬أميناً‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬خيانة‭ ‬النص؟‭ ‬

فلماذا‭ ‬يُترجم‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم؟‭ ‬وهل‭ ‬رأيتم‭ ‬أحداً‭ ‬من‭ ‬النّاس‭ ‬دخل‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬بفضل‭ ‬قراءة‭ ‬تفسيرٍ‭ ‬مترجمٍ؟

إذا عَرضنا لأكثر من اثنتين وثلاثين ترجمة إلى الفرنسية، مسلطين الضوء على أشهرها وأكثرها انتشاراً واستخداماً واقتناء في مكتبات الفرنسيين والجالية العربية في فرنسا، كما يشير الدكتور حسام سباط (مترجم العربية الفرنسية) إلى أن شهرة أي ترجمة منها لم تكن لتجعلَها الأجود أو لتصنفها الأوفى؛ لأنّ لكلّ نسخة مشهورة ظروفاً ملائمةً لشهرتها، منها البساطة والسهولة واليسر، ومنها، تراكيب الجمل، ومنها ظروف التوزيع والبيع، وغير ذلك...، إلا أننا نتوصّل إلى أنّ كلّ تلك الترجمات جاءت منقوصة، باتّفاق كثير من الدارسين، مما يدعونا إلى إيجاد نسخة موحّدة من كلّ تلك النسخ المعتمدة، فهل ذلك ممكن يا تُرى؟ ما يستدعي وجود معارضين لفكرة ترجمة القرآن الكريم، حديثاً، بحجّة عدم استخدامها وسيلة من وسائل الدعوة إلى الدخول في الإسلام بحسب قناعة
د. محمد بدوي (مترجم الإنجليزية العربية): «من يعرف منكم أحداً دخل في الدين الإسلامي عن طريق قرآن مترجم فليخبرني به. إلا أني أوافقه دعوته؛ لعدم جدوى الترجمات الوفية مضمونياً وعقدياً؛ لأنّها تُفقد النصّ القرآنيّ طلاوة السماع وحلاوة الإيقاع التي تدخل القلب قبل الأُذن، باعتراف معظم من أجري عليهم استفتاءات في برامج تلفزيونية عالمية، بعد سماعه، ولكثيرين من الأجانب غير المسلمين الذين إذا سمعوا تلاوته كانوا يرتاحون ويطربون له، وتطمئن به قلوبهم، كما سُمع من قبل {إِنَّا‭ ‬سَمِعْنَا‭ ‬قُرْآنًا‭ ‬عَجَبًاً} ‭(‬سورة‭ ‬الجن‭: ‬من‭ ‬الآية‭ ‬1‭)‬. ثم إنّي أوافقه لتعذّر الإحاطة بمعانيه كاملة، فإذا تعذّر على العرب أنفسهم الإحاطة وفهمه بكلّ ما فيه، في عصر ذروة أمجاد العربية، فكيف لنا نحن ذلك؟ وإلا فما تفسير ظاهرة كثرة التفاسير حوله؟ وإني أعارض رافضي فكرة الترجمة؛ لأنّها فرضت نفسها ولا رجوع، ليس من العرب والمسلمين أنفسهم، بل من فضول كثيرٍ من أناس من غير العرب وحتى من غير المسلمين أنفسهم لمعرفة إعجازه والاطّلاع على مضامينه - إذا أخذنا بحسن النيّة -  ولكي لا تبقى الساحة متروكة لغير العارفين به، بوقوعهم في الخطأ العفوي أو المتعمّد، فكان لابدّ أن ينبري غيورون إلى ترجمته ترجمة ناجحة شاملة كاملة، مصحّحة منقّحة، من مسلمين عرب وغير عرب، وليس ذلك بالأمر السهل، ومن العرب أخصّ الذين هم من أصل وثقافة عربية يعيشون في مجتمع غير عربي وعلى اطلاع بالحضارتين، وهذا أمر لا يمكن أن يدركه فرد بعينه مهما بلغ شأواً من العبقرية، وليس لمؤسسات علمية أن تبلغ مراميه، وذلك لوجود خصوصية للعربية، وخاصيّة للنص القرآني، لأنّ ترجمة اللفظة الواحدة، بحسب ما يميل إليه
د. هاشم الأيوبي (مترجم الألمانية العربية)، يجب أن تنطلق من مستويات متعددة منها: 

المستوى المعجمي والسياقي والدلالي والديني البلاغي والزمني والعلمي الذي يقوده د. زغلول النجار، أبرز رواد مفسري الإعجاز العلمي للقرآن الكريم. ولايمكن الإحاطة بكل ذلك دفعة واحدة ووقت واحد. ثم إن  معنى الكلمة بحسب المعجم قد تؤدي الغرض المطلوب، وقد لا تصل إليه، فكلمة «غرابيب سود» كما تشير د. أمينة أردودور (مترجمة الفرنسية العربية) أن غرابيب جمع غربيب وهو الحجر الأسود الصلد، على عكس ما فسّره غيرها بأنه جمع غراب (طائر أسود)، وفي ذلك فرق معجمي يؤدي إلى آخر دلالي وسياقي. وقد لا تجد مقابله الأجنبي الملائم الدالّ على معنى الغرابة المعنوية، أي الناجمة عن الغرابة اللفظية. أو كما يرى الألماني ف. فيشر في معنى كلمة «التعفّف» في الآية {يَحْسَبُهُمُ‭ ‬الْجَاهِلُ‭ ‬أَغْنِيَاءَ‭ ‬مِنَ‭ ‬التَّعَفُّفِ} ‭(‬سورة‭ ‬البقرة‭: ‬من‭ ‬الآية‭ ‬273‭)‬ هل هو: التعالي أو الترفّع أو عزّة النّفس، أو الشعور بالشبع أو عدم الذلّ والانكسار أو الإنفاق في سبيل الله بتناسي الذات؟ بل هو كل ذلك، فما هي اللفظة الدقيقة الأوفى معنى ولفظاً وموسيقى في لغة أجنبية؟

 

صعوبة‭ ‬ترجمة‭ ‬الترادف‭ ‬من‭ ‬نواحي‭ ‬اللغة‭ ‬والشرع‭ ‬والمفسرين

وقد يكون لترادف اللفظة غيرُ معنى، في معرض الآيات وهي كثيرة، والمعنى الديني كما ترى إيمان لاغا (مترجمة الفرنسية العربية الإنجليزية) إلى معنى كلمة «القَوَامة» في الآية الكريمة {الرِّجَالُ‭ ‬قَوَّامُونَ‭ ‬عَلَى‭ ‬النِّسَاءِ} ‭(‬سورة‭ ‬النساء‭: ‬من‭ ‬الآية‭ ‬34‭) ‬فالترجمات التي سِيقت لهذا الغرض دلّت على سلطة الرجل وسطوته وتملّكه، أو كما حشد المترجمون من ألفاظ أجنبية وغير ذلك،  إلا أنّ معنى القوامة من منظور دينيّ هو «تكليف»، حسب تفسير ابن عباس، بل «زيادة في الواجبات والعبء الملقى على عاتق الرجل في رعاية زوجته»، وهذا قد لحقه تحريف أو عدم دقّة في النقل، إلا أن ما يؤخذ عليها عدم إيجاد المقابل الأجنبي البديل.

 

الإعجاز‭ ‬العلمي‭ ‬فرض‭ ‬نوعاً‭ ‬جديداً‭ ‬من‭ ‬الترجمة‭ ‬والفهم‭ ‬

سبعة أراضين وردت ألفاظها في النص القرآني كل واحدة تحمل معنى مغايراً، أمّا الإشكاليات الكبرى التي تقضي بتحميل المترجم مسؤولية معرفة الإعجاز العلمي في التفاسير المعاصرة، فتبدو أكبر حين يطالب
د. زغلول النجار بضرورة أن يعرف المترجم معاني الإعجاز العلمي الذي حمل لواءه هو ومريدوه، والذي يقضي بمعرفة علوم اللغة العربية وضوابطها ومن ثمّ علوم الأرض والكون؛ لأن القرآن الكريم دقيق جداً، عارضاً لمصطلح «الأرض» الذي ورد سبع مرات في القرآن الكريم في سبعة معانٍ علمية ٍمختلفةٍ: الذي يحمل معنى الجرم، والمعنى الثاني من الرتق مخالفاً معنى المفسرين بأنها هذه الأرض التي نعيش عليها انطلاقاً من قياس سرعة الزمن في الخلق من العدم. والمقصود هنا أن المادة التي خلقت منها السماوات والمادة التي خلقت منها الأرض واحدة، ثم المعنى الآخر وهو كومة من الرماد لحظة تكوين الأرض لو وقفت عليها ذبابة لغرقت فيها وهي شاهدة لعظمة القدرة الإلهية في جعل الإنسان يعيش عليها وهي صارت بقدرته صالحة للعمران.

والأرض اليابسة الممدودة التي بدأت بالنشاط البركاني كانت قارة واحدة، فانداحت إلى خمس قارات. والأرض الكوكب والأرض غير اليابسة القابلة لأن نحيا عليها، وكذلك تعني بقعة محددة من الأرض يقصد بها الأرض المقدسة، وتربة {وَتَرَى‭ ‬الْأَرْضَ‭ ‬هَامِدَةً‭ ‬فَإِذَا‭ ‬أَنْزَلْنَا‭ ‬عَلَيْهَا‭ ‬الْمَاءَ‭ ‬اهْتَزَّتْ‭ ‬وَرَبَتْ‭ ‬وَأَنْبَتَتْ‭ ‬مِنْ‭ ‬كُلِّ‭ ‬زَوْجٍ‭ ‬بَهِيجٍ} ‭(‬سورة‭ ‬الحج‭: ‬5‭)‬ هي رقائق ترابية (طبقات) تجمع كائنات حية وشحنات كهربائية تتناثر إلى أعلى حتى تفسح مجالاً لإنبات العشب والبذور، والأرض الأخرى السابعة هي أرض مستقبليّة {يَوْمَ‭ ‬تُبَدَّلُ‭ ‬الْأَرْضُ‭ ‬غَيْرَ‭ ‬الْأَرْضِ‭ ‬وَالسَّمَاوَاتُ‭ ‬‭}‬ ‭(‬سورة‭ ‬إبراهيم‭: ‬من‭ ‬الآية‭ ‬48‭) ‬تتسع لملايين الناس ليوم الحساب، ومرة الكرة الأرضية وأخرى. ولا يمكن ذلك لغير عالم بعلوم الأرض والبحار وبواطن التربة ومناجمها أن يعرفها.

وعلى ذلك فإنّي أطرح سؤالاً على الدكتور النجار: هل أضحى ما يدعو إليه من الثوابت العلمية التي اكتُشِفت معانيها في القرآن الكريم؟ أليست قابلة للنسخ أو التعديل؟ وهل ما يدعو إليه قابل للاستمرار بأن يقيّض الله لهذا العِلْم الفتح لمن يتابعه؟ وهل نتوصّل إلى من يكتشف إعجازاً علمياً من القرآن الكريم، من خلال التفاسير والشروحات قبل اكتشاف العلماء له؟ وهل ينجح النجار في ترجمة معانٍ جديدة،  فينسف كل ما سبق من ترجمات سبقتْ؟ وهل تكون الأجدى في مخاطبة مجتمع غير مسلم يؤمن بالعلم فيأتي الخطاب الإعجازي مقنعاً لطالبي العلم ومقترفيه؟ بالطبع إني معجب بما يقدّمه؛ لكنّي أظن ذلك دائراً في فكره، ليس في ذهن كثير من المترجمين أو الباحثين في ترجمة معاني القرآن الكريم.

 

ترجمة‭ ‬النص‭ ‬المجاز‭ ‬وتعدّد‭ ‬القراءات

هذا فضلاً عن المعاني المجازية للعربية من خلال التفسير الصوفي وأقوال محيي الدين بن عربي، الذي كان شديد الغموض والتلميح والتلويح، وبخاصة عندما يشرع في تفسير الحروف المقطعة في أوائل آي بعض سور القرآن الكريم وما لروعتها ومدلولاتها الرمزية، وصعوبة تفسير الحرف الواحد بأكثر من جملة ولوحة معانٍ يلتفّ حولها النص القرآني في المعنى الواحد، غيره كذلك تفسير القاشاني المستند إلى التفسير الإشاري الصرف الذي عرّفه الألوسي وغيره، ولكل تفسير منهجه وطريقة عرضه، وبالتالي نتائج مقاصده ومعانيه. 

هذا إذا لم نغفل دور القراءات القرآنية واختلافها في سعة علمية وأحكام دينية ولغوية ومعرفية، ما يجعل الحاجة كبيرة أمام العلماء إلى الخوض في غمار مؤتمرات كثيرة تتابع مسيرة البحث في مجال الترجمات القرآنية، وتضافر الجهود وتوحيدها لا تفريقها، ليأخذ كل فريق بطريق، وإلا تبقى النتائج مشرذمة والترجمات في طريق متعسّر، هذا بالنسبة إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية، فما بالكم بالإيطالية والإسبانية والصينية والتركية والروسية وسائر لغات الأرض؟ فهل تحقق الترجمات الوفاء المنشود؟ .