أثر القرآن في الأديب الإسباني لوركا «بَلَغَتِ القُلوبُ الحَناجـِرَ»

أثر  القرآن في الأديب الإسباني لوركا «بَلَغَتِ القُلوبُ الحَناجـِرَ»

كثيرون‭ ‬أولئك‭ ‬الأدباء‭ ‬الذين‭ ‬اطلعوا‭ ‬على‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬أمثال‭ ‬الألماني‭ ‬جوته‭ (‬1749‭ - ‬1832‭)‬،‭ ‬والروسي‭ ‬ألكسندر‭ ‬بوشكين‭ (‬1799‭ - ‬1837‭)‬،‭ ‬والإسباني‭ ‬خوسيه‭ ‬ثوريا‭ (‬1817‭ - ‬1893‭)‬،‭ ‬أما‭ ‬الأديب‭ ‬الإسباني‭ ‬فدريكو‭ ‬غارثيا‭ ‬لوركا‭ (‬1898‭ - ‬1936‭)‬،‭ ‬فلم‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬دواوينه‭ ‬ومسرحياته‭ ‬ورسائله‭ ‬ما‭ ‬يشير‭  ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬قرأ‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬ولكنه‭ ‬ذكر‭ ‬النبي‭ ‬محمداً،‭ ‬حيث‭ ‬قال‭ ‬امحمد‭ ‬نابغة‭ ‬عظيمب‭.‬

فضلاً‭ ‬عن‭ ‬إشاراته‭ ‬لبعض‭ ‬الشعراء‭ ‬العرب‭ ‬والفرس،‭ ‬واعترافه‭ ‬بأنه‭ ‬قرأ‭ ‬لهم‭. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬بمستبعَد‭ ‬أن‭ ‬أديباً‭ ‬مثل‭ ‬لوركا‭ ‬المعجب‭ ‬بالحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬يتأثر‭ ‬بالأسلوب‭ ‬القرآني،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نظنه،‭ ‬كما‭ ‬سنرى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مسرحيته‭ ‬ابيت‭ ‬برناردا‭ ‬ألباب،‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬عام‭ ‬1936‭.‬

يعتبر فدريكو غارثيا لوركا، المولود في بلدة فوينتي باكيروس من أعمال محافظة غرناطة، جنوب إسبانيا، من أهم أدباء إسبانيا في العصر الحديث، وهو أحد أبرز شعراء جيل
الـ 27 في إسبانيا، جيل البرتي وأليكسندرة، ألمع الأجيال الأدبية الإسبانية. درس في غرناطة ومدريد ثم الولايات المتحدة، وكتب عديداً من الدواوين الشعرية والمسرحيات، منها: الأغاني، وتماريت، وشاعر في نيويورك، ومن مسرحياته المشهورة: عرس الدم، وماريانا بينيدا، ويرما، وبيت برناردا ألبا، وهي آخر ما كتب قبل أن يُحكم عليه بالإعدام في بداية الحرب الأهلية الإسبانية (1936 - 1939)، التي راح ضحيتها مئات الآلاف، وفي مقدمتهم لوركا، ونفِّذ فيه حكم الإعدام في أغسطس عام 1936 في منحدر بين بلدة بيثنار وبلدة الفاكار، قرب مدينة غرناطة، وكان لايزال في الثامنة والثلاثين من عمره، فكان أول أديب يلقى حتفه بسبب هذه الحرب.

 

النص‭ ‬القرآني

النص القرآني الذي نظن أنه قد وصل إلى لوركا هو ‭{‬وَبَلَغَتِ‭ ‬الْقُلُوبُ‭ ‬الْحَنَاجِرَ‭} (‬سورة‭ ‬الأحزاب‭: ‬من‭ ‬الآية‭ ‬10‭)‬،الذي ورد في نص مسرحيته «بيت برناردا ألبا»، وهو تعبير غريب على اللغة الإسبانية، وذلك عندما يصوِّر لوركا محادثة تجري بين شخصيات المسرحية: بونثيا وأميليا وأنجوستياس. ها هو النص باللغة العربية حسب ترجمة سمير عزت نصـّار للمسرحية:

بونثيا: اسمعي يا أنجوستياس، ماذا قال لكِ في أول مرة اقترب فيها من نافذتك؟

أنجوستياس: لا شيء. ماذا كان يجب أن يقول؟ مجرد كلام.

‭***‬

أنجوستياس: ماذا؟ ليس بطريقة معينة: «أنتِ تعلمين أنني وراءك. أنا بحاجة إلى امرأة طيبة جيدة التربية، وتلك هي أنتِ. إذا كان هذا مقبولاً».

أميليا: هذه الأمور تربكني.

أنجوستياس: هي تربكني أنا أيضاً، لكن، لابد أن تمر بها المرأة.

بونثيا: وهل قال أي كلام أكثر من هذا؟

أنجوستياس: نعم، قام بكل الكلام.

مارتيريو: وأنتِ؟

أنجوستياس: لم أستطع ترديد كلمة. كاد قلبي يقفز خارجاً من فمي. كانت أول مرة أبقى فيها ليلاً منفردة مع رجل».

والعبارة التي نظن أنها مقتبسة من القرآن الكريم، في هذا النص هي «كاد قلبي يقفز خارجاً من فمي»، وهي في الحقيقة العبارة المقتبسة من القرآن الكريم «بَـلـَغـَتِ القــُـلـوبُ الحَـناجـِرَ»، فهي متفقة تماماً مع ما ورد في نص لوركا باللغة الإسبانية. 

إن تعبير «بَـلـَغـَتِ القــُـلـوبُ الحَـناجـِرَ» غير موجود في اللغة الإسبانية، على الأقل حتى عصر لوركا، والدليل على ذلك هو أن مترجم القرآن الكريم إلى اللغة الإسبانية، المستعرب خوليو كورتيس، عندما ترجم هذه العبارة، عدّل في الترجمة كي تكون مفهومة لدى القارئ الإسباني، فكتبها بالشكل التالي «تشكـلت عقدة في حناجركم»، وهي عبارة قريبة من المعنى، وليست مطابقة، لكن المستعرب كورتيس يعود فيستدرك في الحاشية، فيوضح لنا سبب ترجمته للعبارة بهذا الشكل، ليقول ما يلي: 

«إن الترجمة الحرفية لهذه العبارة هي وصلت القلوب إلى الحناجر» نص عبارة المستعرب كورتيس في حاشية ترجمته للقرآن هي:

(Lit. los corazones llegaron a las gargantas» El Corán, trad. Julio Cortés, 2a ed., Herder, Barcelona, 1998, 485).  

ولا شك في أن الملاحظة التوضيحية للمترجم، دليل واضح على أن التعبير غريب عن أسلوب التعابير الإسبانية.

 وهناك دليل آخر، وهو أن مترجم القرآن الكريم عام 1872 إلى اللغة الإسبانية، بيثـنـتي أرتيث دي لا بويبلا

 (El Corán o Biblia Mahometana seguido de la biografía de Mahoma, primera versión española anotada y comentada según los más distinguidos comentadores del Corán por Vicente Ortiz de la Puebla, Barcelona, Juan Alea, Editor, 1872, 396).

كان قد ذكر أن هذه العبارة بالذات، أي العبارة القرآنية: «بَـلـَغـَتِ القــُـلـوبُ الحَـناجـِرَ» عبارة غريبة على اللغة الإسبانية، ولهذا نراه يعلّـق عليها، في الحاشية بقوله:

 «هذا تعبير مجازي تختص به اللغة العربية من أجل التعبير عن حالة متأزمة نتيجة ذعر خانق»

(El Corán o Biblia, traducción por Vicente Ortiz de la Puebla, 402).

والنص الإسباني كما ورد عند بـيـثـنـتي أورتيث دي لا بويـبـلا: 

«esto es una locución figurada, propia de la lengua árabe, para, espresar (sic) el estado angustioso causado por el terror que sofoca». (El Corán, 402).

 وقول المترجم، لا بويبلا، يؤكد أن مثل هذه المجازات غريبة على اللغة الإسبانية، ومن هنا فإنه من المحتمل أن لوركا التقطها لكونها غريـبة، إذ إن لوركا معروف باهتمامه بالأساليب الغريبة. 

 

النص‭ ‬القرآني

العبارة القرآنية هذه وردت ضمن سورة الأحزاب، وهي:

‭{‬يَا‭ ‬أَيُّهَا‭ ‬الَّذِينَ‭ ‬آمَنُوا‭ ‬اذْكُرُوا‭ ‬نِعْمَةَ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬عَلَيْكُمْ‭ ‬إِذْ‭ ‬جَاءَتْكُمْ‭ ‬جُنُودٌ‭ ‬فَأَرْسَلْنَا‭ ‬عَلَيْهِمْ‭ ‬رِيحًا‭ ‬وَجُنُودًا‭ ‬لَمْ‭ ‬تَرَوْهَا‭ ‬وَكَانَ‭ ‬اللَّهُ‭ ‬بِمَا‭ ‬تَعْمَلُونَ‭ ‬بَصِيرًا،‮ ‬إِذْ‭ ‬جَاءُوكُمْ‭ ‬مِنْ‭ ‬فَوْقِكُمْ‭ ‬وَمِنْ‭ ‬أَسْفَلَ‭ ‬مِنْكُمْ‭ ‬وَإِذْ‭ ‬زَاغَتِ‭ ‬الْأَبْصَارُ‭ ‬وَبَلَغَتِ‭ ‬الْقُلُوبُ‭ ‬الْحَنَاجِرَ‭ ‬وَتَظُنُّونَ‭ ‬بِاللَّهِ‭ ‬الظُّنُونَا،‭ ‬هُنَالِكَ‭ ‬ابْتُلِيَ‭ ‬الْمُؤْمِنُونَ‭ ‬وَزُلْزِلُوا‭ ‬زِلْزَالًا‭ ‬شَدِيدًا‭} (‬سورة‭ ‬الأحزاب‭: ‬11‭:‬9‭).‬

وتعبـيـر «بَـلـَغـَتِ القــُـلـوبُ الحَـناجـِرَ» هذا ورد في القرآن الكريم لوصف حالة حرجة وصعبة للغاية، وهي الحالة نفسها التي استعمل فيها لوركا هذا التعبير في مسرحيته «بيت برناردا ألبا» عندما تمر إحدى شخصيات المسرحية، (أنجوستياس)، بحالة حرجة وصعبة، وعندها تقول هذه العبارة.

 

في‭ ‬كتب‭ ‬التفاسير

تشير كتب تفسير القرآن الكريم إلى أن «بَـلـَغـَتِ القــُـلـوبُ الحَـناجـِرَ» تعني الخوف والفزع، فقد جاء في تفسير ابن كثير حول أنها تعني: «شدة الخوف والفزع» (ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، تحقيق سامي بن محمد السلامة، دار طيبة للنشر، الرياض، الطبعة الثانية، 1420 هـ ـ 1999 م، ج 6، ص 388). وقال ابن جرير الطبري إن معناها: «نـَبـَتِ القلوب عن أماكنها من الرّعبِ والخوفِ، فبلغت إلى الحناجر» (ابن جرير الطبري: تفسير الطبري جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق:
د. عبدالله التركي، بالتعاون مع د. عبدالسند حسن يمامة، هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، القاهرة، 1422 هـ ـ 2001 م، ج 19، ص 35).

أما القرطبي فقد وضّحها بشكل أوسع، قائلاً: إن «بَـلـَغـَتِ القــُـلـوبُ الحَـناجـِرَ»: «أي زالت عن أماكنها من الصدور حتى بلغت الحناجر وهي الحلاقيم، فلولا أن الحلوق ضاقت عنها لخرجت»؛ قاله قتادة. وقيل: هو على معنى المبالغة على مذهب العرب على إضمار كاد. ويقال: إن الرئة تنفتح عند الخوف فيرتفع القلب حتى يكاد يبلغ الحنجرة مثلاً؛ ولهذا يقال للجبان: انتفخ سَـحْره. وقيل: إنه مثل مضروب في شدة الخوف ببلوغ القلوب الحناجر وإن لم تزل عن أماكنها مع بقاء الحياة، والأظهر أنه أراد اضطراب القلب وضرباته، أي كأنه لشدة اضطرابه بلغ الحنجرة» (القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، مطبعة دار الكتب، القاهرة، 1384 هـ ـ 1964 م، ج 14، ص 145). 

 

عودة‭ ‬إلى‭ ‬ترجمة‭ ‬الآية

وكما أشرنا سابقاً، فإن المستعرب الإسباني خوليو كورتيس، مترجم القرآن، كان قد ترجمها إلى اللغة الإسبانية بالشكل التالي: «تشكـلت عقدة في حناجركم»

 (El Corán, trad. Julio Cortés, Herder, 20 ed, Barcelona, 1998, 485).

لكن مترجماً آخر للقرآن الكريم إلى اللغة الإسبانية، وهو المستعرب خوان بيرنيت، نقلها إلى الإسبانية بشكل أقرب إلى الأسلوب القرآني، حيث ترجمها «وصلت قلوبكم إلى الحناجر»

(El Corán, trad. Juan Vernet, 2a ed., Plaza & Janes, Barcelona, 1986, 372).

وكذا جاءت أيضاً في ترجمة بهيج ملا حويش، وهي ترجمة مطابقة للمعنى القرآني:

(El Corán, edición bilingüe comentada, traducción Bahige Mulla Huech, con la revisión de Alberto Castro Chicharro y corrección de Marciano Villanueva, Editado por Didaco, Barcelona, 2994, IV, p. 1684).

 وعبدالغني ميلارا نابو وترجمة عبدالغني ميلارا نابو، وهي ترجمة مطابقة أيضاً للمعنى القرآني:

(El Noble Corán, traducción de Abdel Ghani Melara Navío, Complejo del rey Fahd para la edición del texto de Noble Corán, Medina al-Munawwara, Arabia Saudí, 1417 H., 664).

 

آيـة‭ ‬أُخـرى

وقد تكررت هذه العبارة مرة أخرى في القرآن الكريم في سورة غافـِر، بقوله:

‭{‬وَأَنْذِرْهُمْ‭ ‬يَوْمَ‭ ‬الْآزِفَةِ‭ ‬إِذِ‭ ‬الْقُلُوبُ‭ ‬لَدَى‭ ‬الْحَنَاجِرِ‭ ‬كَاظِمِينَ‭ ‬مَا‭ ‬لِلظَّالِمِينَ‭ ‬مِنْ‭ ‬حَمِيمٍ‭ ‬وَلَا‭ ‬شَفِيعٍ‭ ‬يُطَاعُ‭} (‬سورة‭ ‬غافر‭: ‬18‭)‬

وحسب الترجمة الإسبانية لعام 1872، التي قام بها بيثـنـتي أرتيث دي لا بويبلا، فإنها مطابقة تماماً لمعنى النص القرآني، أما المستعرب خوليو كورتيس فـنراه يلجأ مرة أخرى إلى ترجمة هذه العبارة، بأسلوب إسباني فيترجمها هكذا: «تتكوّن عقدة في حناجرهم» للتعبير عن الحالة الصعبة التي يمرون بها. أما خوان بيرنيت، وهو مترجم آخر للقرآن، فقد ترجمها بشكل مقارب جداً للأسلوب العربي.

 

‭... ‬وأخيراً

فليس غريباً على أديب مثل فدريكو غارثيا لوركا أن يتأثر بتعبير قرآني، فهو من المعجبين بالحضارة العربية الإسلامية، ومن القلائل الذين رفضوا سقوط آخر مملكة إسلامية في الأندلس، مملكة غرناطة العربية، على يد الملكة إيزابيل الكاثوليكية، عام 1492، وكان يفخر بكونه غرناطياً من أحفاد العرب، كما أنه أكد صراحة أنه معجب بالأدب العربي. من كل ذلك نظن أن لوركا قد تأثر بالتعبير القرآني السابق الذكر، خاصة أن ترجمة القرآن الكريم كانت متوافرة بـلغات عدة إبان حياة لوركا، ومنها الترجمة الإسبانية عام 1872 .