مع أبي يوسف القاضي وكتابه «الخراج»

مع أبي يوسف القاضي وكتابه «الخراج»

يحظى‭ ‬أبو‭ ‬يوسف‭ ‬القاضي‭ ‬بمكانة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الفقه‭ ‬الإسلامي‭. ‬وتعود‭ ‬هذه‭ ‬المكانة‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬تقلد‭ ‬منصب‭ ‬اقاضي‭ ‬القضاةب‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الإسلامي‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬وإلى‭ ‬كتابه‭ ‬االخراجب‭ ‬الذي‭ ‬يُعدُّ‭ ‬أول‭ ‬كتاب‭ ‬علمي‭ ‬في‭ ‬ميدانه‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬ثانية،‭ ‬وإلى‭ ‬ما‭ ‬تركه‭ ‬من‭ ‬تراث‭ ‬ضخم‭ ‬من‭ ‬الأحكام‭ ‬والفتاوى‭ ‬والخبرات‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬القضاء‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬ثالثة‭. ‬فمن‭ ‬هو‭ ‬أبو‭ ‬يوسف؟‭ ‬وما‭ ‬أهمية‭ ‬كتابه؟

هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن خُنيس بن سعد، عربي الأصل، وكان يكنى أبا يوسف، وجده سعد كان أحد الصحابة (رضي الله عنهم). ولد أبو يوسف في الكوفة عام 113 للهجرة. ونشأ في أسرة فقيرة الحال، ولكنه تحدى العوز والتحق بحلقات الدراسة في الكوفة، حيث سمع من عدد من العلماء والفقهاء فيها، أمثال الفقيه محمد بن أبي ليلى. ولكن الفضل الكبير في تكوينه العلمي يعود إلى الإمام أبي حنيفة النعمان
(ت 150هـ) صاحب المذهب الحنفي. حيث أمضى أبويوسف سنوات طويلة مواظباً على حضور مجلسه العلمي، بل غدا من أقرب تلاميذه إليه، حتى اشتهر في التاريخ بلقب «صاحب أبي حنيفة». ويظهر الأثر العلمي لأبي حنيفة واضحاً لا في ثنايا مؤلفات أبي يوسف فحسب وإنما في ممارسته للقضاء والإفتاء أيضاً، فقد كان يقول إنه يعتمد في أحكامه على القرآن الكريم والسنة النبوية، وما أشكل عليه اعتمد فيه على فتاوى أبي حنيفة. ولكن على الرغم من ذلك كان أبو يوسف يخالف أبا حنيفة في بعض المسائل. كما أخذ أبو يوسف عن الإمام مالك بن أنس وعن غيره من الفقهاء. 

 لم يكتف أبو حنيفة بتقديم علمه لأبي يوسف، وإنما قدَّم له أيضاً عوناً مادياًً لمواجهة تكاليف معيشة أسرته من ناحية، وحتى لا ينقطع عن حضور مجلسه العلمي وينشغل في طلب الرزق من ناحية أخرى. وذكر ابن خلكان أن أبا يوسف قال: «كنت أطلب الحديث والفقه وأنا مقلٌ رث الحال، فجاء أبي يوماً وأنا عند أبي حنيفة فانصرفت معه، فتفقدني أبو حنيفة. فلما كان أول يوم أتيته، بعد تأخري عنه، دفع إليَّ صرةً فيها مائة درهم، وقال لي: الزم الحلقة، وإذا فرغت هذه فأعلمني. فلزمت الحلقة. فلما مضت مدة يسيرة دفع إليَّ مائة أخرى. ثم كان يتعاهدني حتى استغنيت وتمولت». ولهذا كان أبو يوسف يردد دائماً القول: «أطعمني أبو حنيفة العلم والدنيا إطعاماً».

 لم يكن أبو يوسف عالماً بالفقه فحسب, وإنما كان حافظاً للتفسير والحديث والمغازي وأيام العرب. ويشهد أبو حنيفة بنبوغ تلميذه، فتروي المصادر أن أبا يوسف مرض يوماً مرضاً خِيف عليه منه، فعاده أبو حنيفة، فلما خرج من عنده وضع يده على عتبة بابه وقال «إن يمت هذا الفتى فإنه أعلم من عليها وأومأ إلى الأرض». وفي رواية أخرى أنه قال له «ولئن أُصيب الناسُ بك ليموتن معك علمٌ كثير».

 

‭ ‬أبو‭ ‬يوسف‭ ‬والرشيد

 ظل أبو يوسف في الكوفة فترة من الزمن بعد وفاة أبي حنيفة (150هـ)، يُدَرس ويُفتي. ثم انتقل إلى بغداد حيث عمل في التدريس والإفتاء أيضاً. وسرعان ما ذاع صيته فولاه الخليفة المهدي (ت 169هـ) ومن ثم ابنه الخليفة الهادي (ت 170هـ) القضاء فيها. وعندما تولى الرشيد الخلافة (170 ــ 193هـ) احتاج إلى فقيه يستفتيه في شيء من أمور الدين، فجيء بأبي يوسف فارتاح لما سمع منه وأُعجب بعلمه وأكرمه. وكانت هذه الواقعة بداية مرحلة جديدة في مسيرة أبي يوسف، حيث قال: «وصار ذلك أصلاً للنعمة ولزمت الدار، فكان هذا يستفتيني وهذا يشاورني ولم يزل حالي يقوى عند الرشيد حتى قلدني القضاء». وتُجمع المصادر على ما حظي به أبو يوسف من احترام وتقدير عند الرشيد، فقد كان يجالسه ويأكل على مائدته، كما خصص له مائة وثلاثين ألف درهم من بيت المال، كمرتب شهري، هذا فضلاً عن المكافآت التي كانت تُمنح له مقابل كل فتوى يقدمها للخليفة أو لزوجته زبيدة. وكان أبو يوسف يرافق الخليفة أحياناً إلى الحج وفي بعض رحلاته خارج العاصمة كالبصرة. وبلغت مكانة أبي يوسف ذروتها عندما أحدث الخليفة منصب «قاضي القضاة» وعيَّنه فيه، وبذلك كان أول من اتخذ هذا اللقب في التاريخ الإسلامي. وكانت مهمته تعيين القضاة في جميع الأقاليم التابعة للخلافة العباسية والإشراف عليهم. ويُعدُّ
أبويوسف أول من جعل للقضاة لباساً خاصاً بهم. وقد حزن الرشيد حزناً شديداً عند وفاة أبي يوسف عام 182هـ ومشى بجنازته وصلى عليه ودُفن في مقابر قريش بكرخ بغداد، وقال الرشيد حين دُفن: «ينبغي لأهل الإسلام أن يعزي بعضهم بعضاً».

 ترك أبو يوسف تراثاً ضخماً من الأحكام والفتاوى والمؤلفات, فضلاً عن عدد كبير من التلاميذ الذين وفدوا إليه من مشرق العالم الإسلامي ومغربه، ومنهم الفقيه المغربي أسد بن الفرات (ت 213هـ)، الذي رحل إلى المدينة المنورة وأخذ عن الإمام مالك، ثم رحل إلى العراق وأخذ عن أبي يوسف، وعاد إلى القيروان وغدا من علماء المالكية. وتولى أسد قيادة الجيش الذي فتح جزيرة صقلية للأغالبة. ومن تلاميذ أبي يوسف، على قول ابن خلكان، محمد بن الحسن الحنفي، وهو من إحدى قرى غوطة دمشق، ولكنه نشأ في الكوفة وتفقه على يد أبي يوسف. ومن تلاميذه أيضاً ابنه يوسف الذي تولى القضاء في الجانب الغربي من بغداد في حياة أبيه.

 

‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الخراج‮»‬

 إن عنوان كتاب أبي يوسف، كما يذكر ابن النديم في «الفهرست»، هو «كتاب رسالة في الخراج إلى الرشيد». ومصطلح «الخراج» في عنوان الكتاب يُقصد به «موارد الدولة». أما المعنى الخاص لهذا المصطلح فهو «ضريبة الأرض». والكتاب هو أجوبة عن ستة وعشرين سؤالاً وجهها الخليفة الرشيد لأبي يوسف، وطلب منه أن يُجيب عنها. ويدور معظمها حول موارد الدولة ونفقاتها والطرق المثلى لجباية تلك الموارد. فقام أبو يوسف بما طُلب منه خير قيام وكتب الأجوبة عن تلك الأسئلة في رسالة سميت بكتاب «الخراج». وكان غرض الرشيد من هذه الأسئلة هو الوقوف على ما يجري في أقاليم دولته، ولاسيما في شؤون المال، ويضمن حقوق الدولة ولا يظلم أحداً من الرعية. وقد بيَّنَ أبو يوسف ذلك كله في مقدمة كتابه حيث قال: «إن أمير المؤمنين أيده الله تعالى سألني أن أضع له كتاباً جامعاً يعمل به في جباية الخراج والعشور والصدقات، وغير ذلك مما يجب عليه النظر فيه والعمل به، وإنما أراد بذلك رفع الظلم عن رعيته والصلاح لأمرهم. وطلب أن أبيَّنَ ما سألني عنه مما يريد العمل به وأفسره وأشرحه وقد فسرت ذلك وشرحته. ثم يُوصي أبو يوسف الخليفة الرشيد قائلاً: «فلا تضيعن ما قلدك الله من أمر هذه الأمة والرعية فإن القوة في العمل بإذن الله»، ثم يقول له «لا تؤخر عمل اليوم إلى غد، فأقم الحق فيما ولاك الله وقلدك، وإياك والأمر بالهوى والأخذ بالغضب واجعل الناس عندك في أمر الله سواء، القريب والبعيد، ولا تخف في الله لومة لائم»، ثم يقول أبو يوسف: «لقد اجتهدت لك وإني لأرجو إن عملت بما فيه أن يوفر الله لك خراجك من غير ظلم مسلم ولا معاهد، ويُصلح لك رعيتك».  

 ومن الأمثلة على أسئلة الخليفة وأجوبة أبي يوسف عنها نذكر:

‭ ‬1‭ ‬- سأل الخليفة عن الأرض الموات، أي الأرض التي افتتحت عنوة وصولح عليها أهلها ولا يرى فيها أثر زراعة أو بناء لأحد. أجاب أبو يوسف: إذا لم يكن في هذه الأرض أثر بناء ولا زرع ولم تكن فناء لأهل القرية وليست بملك أحد ولا في يد أحد فهي موات، فمن أحياها أو أحيا منها شيئاً فهي له.

 2 - وحول ما ينبغي أن يعامل به أهل الذمة أجاب أبو يوسف: «ينبغي يا أمير المؤمنين، أيدك الله، أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد (صلى الله عليه وسلم) والتفقد لهم حتى لا يُظلموا ولا يُؤذوا ولا يُكلفوا فوق طاقتهم ولا يُؤخذ شيء من أموالهم إلا بحق يجب عليهم فقد روي عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه يوم القيامة».

 3 - وسأل الخليفة حول ما يحصل عليه الولاة من اللصوص ، فأجاب أبو يوسف أنه ينبغي على الخليفة أن يطلب من الولاة أن يتم التحفظ عليها، من أموال ومتاع وسلاح وغير ذلك، عند رجل من أهل الأمانة، فإذا جاء طالب وأقام البينة رد عليه متاعه وأشهد عليه، وإن لم يأت طالب بيع المتاع والسلاح ووضع ثمنه وكل الأموال المصادرة في بيت مال المسلمين.

 4 - أما سؤال الخليفة عن مصير أموال ومتاع الغرباء الذين يموتون في بلدان الخلافة وليس لهم وارث، أجاب أبو يوسف إنه ينبغي على الولاة نقل كل ما خلَّفه هؤلاء الغرباء إلى بيت مال المسلمين.  

 لقد أفاد من كتاب «الخراج» لأبي يوسف معظم من كتب في هذا الميدان، ومنهم يحيى بن آدم (ت 203هـ) في كتابه «الخراج»، وابن سلام (ت 224هـ) في كتابه «الأموال»، والبلاذري (ت 279هـ) في كتابه «فتوح البلدان»، والماوردي (ت 450هـ) في كتابه «الأحكام السلطانية» وغيرهم.

 وفي ضوء ما تقدم يمكن القول إن أبا يوسف كان من أفقه علماء عصره، وشكَّل صفحة مشرقة في تاريخ القضاء الإسلامي، وترك تراثاً غنياً خصباً أفادت منه أجيال بعد أجيال من الفقهاء والقضاة وطلاب العلم .