إبريق مروان

إبريق مروان

‭ ‬مرسمه‭ ‬ضيق،‭ ‬مزدحم‭ ‬باللوحات‭ ‬الفنية‭ ‬وقطع‭ ‬النحاس‭ ‬المطروق،‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬السير‭  ‬فيه‭ ‬بحرية،‭ ‬أو‭ ‬تنشق‭ ‬هواء‭ ‬خال‭ ‬من‭ ‬رائحة‭ ‬الألوان،‭ ‬ولكن‭ ‬الفنان‭ ‬محمد‭ ‬قاسم‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يعمل‭ ‬إلا‭ ‬هكذا،‭ ‬بهذا‭ ‬الالتصاق‭ ‬الحميم‭ ‬بأعماله،‭ ‬رغم‭ ‬إدراكه‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬أصبح‭ ‬لها‭ ‬كيانها‭ ‬الخاص،‭ ‬ولكنه‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يقطع‭ ‬الصلة‭ ‬بها،‭ ‬لا‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬تأملها‭ ‬وهو‭ ‬يصنع‭ ‬مشروعه‭ ‬الجديد،‭ ‬كان‭ ‬النحاس‭ ‬هو‭ ‬خامته‭ ‬المفضلة،‭ ‬لأنها‭ ‬طيِّعة‭ ‬وصلبة‭ ‬وقدرتها‭ ‬على‭ ‬التشكل‭ ‬غير‭ ‬محدودة،‭ ‬ثم‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الثبات‭ ‬لعشرات‭ ‬السنين‭.‬

يتوقف قاسم كل فترة من الزمن ليدقق في تفاصيل صورة الإبريق الموجودة أمامه، كان قد ذهب بنفسه إلى المتحف الإسلامي بالقاهرة والتقط صوراً لهذا الإبريق من مختلف الزوايا، كان له شكل ديك داكن الخضرة، نقوشه معقدة بعض الشيء، تتداخل في تركيبه أشكال أخرى، طيور ساكنة وأزهار جامدة، تشكلت كلها من النحاس وظلت على حالها، مدفونة في باطن الأرض حتى تم اكتشافها بالمصادفة في إحدى مقابر الفيوم، ومنذ أن رآها قاسم وقد خلبت لبه، وحلم طويلاً بأن يعيد تشكيلها حتى يمتلك نسخة من هذا الجمال الفريد.

 كان قاسم وحده تماماً كما تعود حين يعمل، ولكنه سمع فجأة صوتاً ما، شخص يتنهد في حرقة، أوقف مصباح اللحام الذي يعمل به، اختفى وشيش اللهب، لكن التنهد لم يتوقف، شعر برعب غامض يتسلل إليه، إنه ليس وحده، هناك من يشاركه وربما يراقبه من داخل المرسم، تلفت حوله، لم ير شيئاً، دقق النظر في أحد الأركان المعتمة، بدت بقايا الأدخنة المتصاعدة من المصباح وكأنها لم تتبدد، تجمعت في الركن القصي من المرسم، تكاثفت لتكوِّن شكلاً ما، رأس إنسان ملامحه باهتة، ليس مخيفاً لدرجة كبيرة، مجرد رأس هش من دخان، يستلزم بعض التأمل أكثر من الخوف، حجمه أضخم من العادة، مع تكاثف الدخان تظهر تفاصيل أخرى، عمامة ضخمة ولحية مسترسلة ووجه مليء بالغضون، حزين السمات، يتطلع نحوه بعينين غائرتين، أضاعتا شيئاً لا يمكن تعويضه، ظل قاسم واقفاً في مكانه، خشي أن يقترب منه أو يمد يده نحوه حتى لا يتبدد، ظل الرأس صامتاً لبعض الوقت ثم بدأ صوت يصدر منه: هذا الإبريق يخصني، ما إن تنتهي منه حتى يمتلئ بدمي.

اقشعر جسد قاسم لكلماته، تراجع قليلاً وهو يقول: من أنت بحق الله، وكيف دخلت مرسمي؟

استدار رأس الدخان ونظر إليه مستغرباً، مستنكراً عدم تعرُّفه عليه، قال ببعض الحدة: مادمت لا تعرفني، لماذا تشغل نفسك إذن بصنع مثيل لإبريقي؟

 حدق فيه قاسم غير مصدق، كيف تداخلت الأزمنة لهذه الدرجة، وقال: لا تقل لي إنك شبح مروان بن محمد؟

 اهتز الرأس متألماً، وفكر قاسم في نفسه. هذا الرجل الذي أضاع دولة بني أمية، رأس من دخان أضاع دولة هائلة، ولكن برغم شدة تحمله وصبره على القتال كان القدر أقوى منه، اتضحت ملامح الرأس أكثر، وتكون جانب من الجسم، كأنه يحاول جاهداً الانتقال من عالم الوهم إلى عالم الحقيقة، قال قاسم: الإبريق الأصلي الذي أخذت عنه هذه الصور كان مدفوناً في إحدى مقابر بلدة الفيوم، وأنت كنت خليفة بني أمية في دمشق، ما الذي أحضره إلى هنا؟

 كان هذا هو المخبأ الأخير، لم يدر أنها المقبرة التي كان يسعى إليها طوال رحلة هربه إلى مصر. المقبرة الأوسع في الكون، تحوي أجداث الملوك منذ ولادة التاريخ، لا ينقصها إلا جسده، حاول جاهداً أن يتجنب هذا المصير، كان ينام الليل من دون أن يخفت في أذنيه صهيل خيولهم المطاردة، لم تغادر رأسه هذه الأصوات، رغم أنه حاول تضليلهم، سار عبر مزارع وصحراوات وفلوات غير مأهولة لا تسكنها غير الوحوش، ولكن لابد أنهم يتعقبون رائحته، يصلون إليه حتى داخل القرية الصغيرة بجوار بلدة أبوصير، هناك حاصرته السيوف، حتى عندما ناورهم وطلب منهم أن يأخذوه للخليفة العباسي في بغداد حتى يبايعه، رد عليه أحدهم في إيجاز: هنا أم هناك.. نهايتك واحدة، وأشار إلى أتباعه ليجهزوا عليه، قتلوه هكذا ببساطة وكأنه لم يكن الحاكم الأوحد لهذا العالم الممتد.

 

بيت‭ ‬أمية‭ ‬يتصدع

 قال قاسم وقد شاهد انفعاله، والدموع التي توشك أن تطفر من عينيه: اهدأ أرجوك، يقول لنا التاريخ إنك كنت فارساً شجاعاً جلداً، تصل السير بالسرى، وعندما أطلقوا عليك لقب «الحمار» لم يكونوا يقصدون إهانتك كما نفعل هذه الأيام، ولكن لشدة جلدك وتحمُّلك، كيف إذن كانت نهاية دولة الأمويين على يديك، أهو سوء الطالع؟

 قال الخليفة في صوت باتر: بل هي اللعنة.

 

يذكر جيداً هذا اليوم الذي بدأت فيه الأحوال بالتدهور، كان في قصره في «حران»، المدينة التي نقل إليها عاصمة ملكه، بعيداً عن دمشق، العاصمة القديمة التي كرهها من كثرة ما فيها من فتن وصراعات، والمشكلة أن الأسرة كلها خرجت من القصور المغلقة إلى الشوارع المفتوحة، انقسم بيت بني أمية على نفسه، استعرت الخلافات في الأسرة الواحدة، بين أهله الذين لم يعد يثق بهم، كل واحد منهم يرى نفسه خليفة ووريثاً للعرش، ولم يقتصر الأمر على ذلك ولكن الخلافات أيضاً دبت بين القبائل اليمنية والقيسية، القبائل التي ناصرتهم طويلاً، كل واحدة منها تعتقد أنها الأحق بمناصب الدول وغنائمها، لذلك فضل أن يذهب شمالاً إلى حران، المدينة التي استقر فيها نبي الله إبراهيم عليه السلام عندما ثار عليه قومه، لكن مروان لم ينعم بالسلام في عاصمته الجديدة، لم يستكن فيها لفترة كافية من الزمن، عليه أن يخرج كل فترة ليقاوم العصاة الذين كانوا يثورون عليه في كل مكان بالدولة، العلويين والخوارج والعباسيين، الأصدقاء القدامى والأعداء الحاليين، كوابيس لا يستطيع الإفاقة منها، رغم كثرة المعارك كان يحقق الانتصارات، حتى هذه اللحظة على الأقل، كان يعاقب كل الذين خرجوا عليه، ويسحق حتى ألد الأصدقاء، ولكنه لم يكن يدري ماذا يفعل بالضبط مع متمرد مثل «ثابت بن نعيم الجذامي»؟

كان يجلس في انتظار وصوله وحوله كل وجوه الدولة، يعلم يقيناً أن ثابت سيأتي طائعاً على قدميه، للمرة الأولى يشعر بأنه قد قبض على روحه، عرف نقطة ضعفه وضغط عليها، أعطى تعليماته لحراس الأسوار أن يتركوه يجتاز أبواب المدينة حين يأتي قادماً من البادية، وأن يدعوه يتجول في الشوارع من دون أن يتعرض له أحد، كان الخليفة يعرف أن الجذامي مهما سار لن يذهب بعيداً، ستقوده قدماه إليه طائعاً، وحدث ذلك بالفعل، اجتاز الجذامي الساحة المؤدية للقصر، وطلب من الحراس الإذن بالدخول، جردوه من سلاحه وتركوه ينتظر، فلينتظر قليلا فلقد انتظره الخليفة طويلاً، يسمحون له أخيراً بالدخول، يسير بخطى مترددة إلى قاعة العرش، يتوقف حين يرى الخليفة وهو يحدق فيه بعينين نافذتين، يقف ويحني رأسه، لا يرتمي على الأرض أو يتوسل، يقول بصوت مازال قوياً: جئت يا مولاي أسلم نفسي طائعاً إليك، افعل بحياتي ما تريد، فقط أطلق سراح ولديَّ الاثنين!

 لم يأبه الخليفة إلى لهجته المتوسلة، وتظاهر الجذامي بالضعف أشعره بغضب عارم، صاح فيه: أيها البائس اللعين، لقد خنتني مرتين، وتأتي الآن لتقف أمامي وتأمرني بما عليَّ أن أفعل بك؟!

لا يدري ماذا يربطه بهذا الرجل؟ لم يكن إلا واحداً من الولاة الذين يعينهم على الأمصار، اختاره لأن قبيلته كبيرة وعصبيته قوية، لكن يبدو أن الخيانة هي إحدى خصاله، كلما أمن له فوجئ به وهو يخونه، وعندما يعفو عنه يستقيم قليلاً ثم يعاود خيانته من جديد.

قبل أن يتولى مروان الخلافة كان الجذامي يعمل والياً على «أرمينية»، وبدلاً من أن يرسل له فروض الطاعة، قاد ضده حفنة من الجنود المارقين، وعندما قبض عليه كان في استطاعته قتله، ولكنه لم يفعل. من الخطأ إطلاق سراح الثعبان بعد أن تظفر به. وحتى بعد أن تولى الخلافة، أراد مروان أن يفتح صفحة جديدة مع كل رعاياه، أراد أن يعم السلام دولته، وأن تتوقف الفتن ولو قليلاً، لذلك فعل ما لم يفعله خليفة من قبل، سأل أهالي كل ولاية عمن يختارونه ليحكمهم، وكأن القدر كان يعانده، اختار أهل فلسطين الجذامي حاكماً لهم، وجده يقف أمامه مرة أخرى وسط أنصاره وجنده، لحظتها لم يكن يستطيع الرفض، برغم أنه لمح تلك الابتسامة الصفراء وهي تعلو وجهه، ويعرف أن الثعابين تلدغ عندما تحس بالدفء، وبالفعل ما إن تأكد الجذامي من أنه قد أصبح بعيداً عن مخالب الخليفة حتى بدأ تمرده، أرغمه على خوض الحرب ضده من جديد، لم يهزمه فقط ولكنه قبض أيضاً على ولديه، وها هو يعاود الكلام الآن بعد أن ذاق طعم الهزيمة:

«ما كنت لأجرؤ على أن أعصي أمر خليفة الله في أرضه، لم أخنك، ولكن خنت نفسي حين اعتقدت أنني قادر على الخروج عليك، لم أعد أملك سوى روحي، أسلمها إليك تفعل بها ما تشاء، فقط أفرج عن ولديَّ فلا ذنب لهما في كل ما حدث. 

كان مروان قد أرسل له جيشاً قوياً، بقدر الحنق الذي كان يحس به ضده، طلب من قائده ألا يفلت الجذامي من بين أصابعه، ولكن القائد فشل في القبض عليه، ولم يشأ أن يعود إلى الخليفة خالي الوفاض، فاقتحم منزله وهدد حريمه وقبض على ولديه وساقهما للخليفة، تصرف لا يمتُّ للفروسية بصلة، ولكن لم يكن منه بُد، عندما وضعهما في السجن، لم يبق أمامه غير انتظار الجذامي ليأتي على قدميه، ولكنه لا يبدو ذليلاً كما يجب أن يكون، يحاول الخليفة أن يهدئ من ذات نفسه، يسأله: لقد كنت دائماً صاحب الفضل عليك، لماذا تمردت عليَّ مرتين؟

 

دولة‭ ‬عجوز

قال الرجل وقد اكتسب جراءة من يقف على حافة الموت: لست المتمرد الوحيد يا مولاي، الأرض من حولك مليئة بالمتمردين، قصرك على أطراف الدولة، المكان الأهدأ وسط عالم مليء بالحرائق، لكنك تحكم دولة عجوزاً عمرها مائة عام، ملأت الأرض بالملوك الظلمة، خرج منهم قتلة آل البيت، والخلفاء الناقصون، والمجدفون، وممزقو القرآن الكريم، أصبح لبني أمية ثارات في كل مكان، مع القبائل الذين قتلت أبناءهم، مع الشيعة، والطالبيين، والعباسيين الذين يجتاحون سهول فارس، قتلي لن يقضي على المتمردين، فهم أكثر انتشاراً من النباتات البرية.

يصمت وهو يلهث، أفرغ كل ما في جوفه، ولكنه ملأ صدر الخليفة بالغضب، الذي قال من بين أسنانه: قد حكمت على نفسك وأدنيت حتفك.

حين انقض عليه الحراس، لم يقاومهم طويلاً، هتف فقط: أولادي، دون جدوى، اقتادوه إلى حديقة القصر، وسط ورد الجوري وأشجار اللارنج والليمون، مزقوا رداءه وعروا رقبته، وانتهى السياف من الأمر سريعاً، وظل الدم يغطي أرض الحديقة من دون أن تتشربه. لم يطق قاسم هذا الوصف الدموي، بدا وكأن رأس الدخان يتشفى فيما حدث، هتف به: لا تستطرد أرجوك، أريد أن أعرف ماذا فعلت بالولدين.

صمت الرأس قليلاً ثم قال ببساطة: قتلتهما بالطبع.

لم يملك قاسم نفسه من القول: قتلت الأطفال؟

قال الرأس: إنهما أبناء عدوي!

      

صلب‭ ‬الموتى

كان قد فعل الأسوأ، عندما اضطربت الأمور في دمشق وقتل الخليفة الوليد بن يزيد، وجد مروان أن عليه أن يتدخل لينقذ عرش بني أمية من الضياع، جاء من أرمينية بجيش قوي، تمرس على القتال في مواجهة البيزنطيين، اقتحم دمشق  دون عناء، واستولى على القصر القديم، لكنه قبل أن يعلو العرش أراد أن يقوم بعمل يبعث الرهبة في القلوب، أعلن للجميع أنه جاء للبحث عن قاتل الخليفة الوليد، قالوا مندهشين: لكن قاتله هو الخليفة «يزيد الناقص»، وقد مات منذ أشهر ودفن وانتهى أمره، لكن هذه النهاية الباردة لم تُرض مروان، لم توقفه عن غايته، ذهب إلى قبره وأمرهم أن ينبشوه، وأخرجوا الجثة التي كانت قد تحللت بالفعل، أمرهم بأن يصلبوها على أبواب دمشق أمام أعين الجميع، كان الأمر يفوق حد البشاعة، عظام عارية، عليها بقايا لحم متهدل، ودود يزحف، تفوح منها رائحة عفنة، هذا كان عنوان عهد الخليفة الذي أراد أن يجمع أشلاء دولة عجوز، واكتفى بصلب أشلاء عدو سابق.

 ولكن الأعداء الأحياء كانوا أكثر من أن يتمكن من إحصائهم، كأن جميع أطراف الدولة قد رفعت رايات العصيان، في العام نفسه الذي تولى فيه الحكم ثار عليه أهل حمص، كانوا قد بايعوه واعتبرها مدينة صديقة، ولكنه فوجئ بهم يقتلون عامله ويمنعون خراجها، وكان عليه أن يتوجه إليهم سريعاً ويضربهم بقسوة، ثم جاءت الثورة الثانية من قلب دمشق، من الغوطة، وسريعاً قام يحاصرهم وحرق أشجارهم، فمن السهل دائماً اصطياد المزارعين، ثم ثار أهل فلسطين، وقادهم الجذامي ناكر الجميل، ولكن هذا كان لا شيء بجانب العاصفة الحقيقية التي كنت تستعد للهبوب من سهول العراق وفارس، أخطر مناطق الدولة التي تضم الطامعين والخارجين عليه، سحب سوداء لا تكف عن التكاثف، الجزء الأقوى هم العباسيون، المطالبون الأوائل بالعرش، الذين يروا أنهم أحق الناس بخلافة المسلمين لقرابتهم من بيت النبوة، وهناك الخوارج، بذاكرتهم العنيدة، الذين خرجوا على كل حكم وعادوا كل نظام، لا يريدون من العالم إلا شيئاً واحداً هو إشباع ثاراتهم من بني أمية، وهناك أيضا الشيعة الذين لا تخفت حركتهم، كطائر العنقاء يصعدون دائماً من رماد الحرائق.

 يستمع قاسم إليه طويلاً قبل أن يسأله مندهشاً: وكيف واجهت كل هؤلاء الأعداء؟

قال: لم يكن هناك بد من مواجهتهم جميعاً في معركة فاصلة.

 

عند‭ ‬نهر‭ ‬الزاب

الحياة حلم واليقظة موت، ولابد من لحظة لتقرير المصير، لرمي النرد في رهان أخير، حتى ولو كان خاسراً، يمتطي صهوة جواده وخلفه حشد رهيب من جيشه، تتبعه القبائل التي استفادت من دولة بني أمية على مدى مائة عام، مخلصون ومرتزقة وخونة ومهووسون بالقتل وباحثون عن غنائم، لا يوجد بينهم مثله ذاهب لتحديد مصيره.

قبل أن يخرج أعلن للجميع أنه ذاهب لمحاربة الروم، أراد أن يتعالى أمامهم ولا يبدو منشغلاً بمحاربة بعض العصاة والمنشقين، ولكنه كدأب بقية خلفاء بني أمية العظام، يسعى إلى توسيع الدولة قبل أن تنقرض أطرافها، سيضيف إليها «بيزنطة» التي أعجز اقتحامها الجميع، كان يكذب عليهم وعلى نفسه، فما إن ابتعد الجيش عن أطراف دمشق حتى غيَّر اتجاهه وبدأ في الزحف شرقاً، واصلوا السير الحثيث حتى ظهرت أمامهم مياه نهر «الزاب»، فرع صغير من نهر دجلة الأم، انفصل عنه وأخذ ينساب وحيداً بين تلال كردستان، ثم يلتف مبتعداً عن مدينة الموصل، وها هو الآن يفصله عن المنشقين عليه من العباسيين، وبعد سير طويل يصل مروان إليهم.

يقفون على الضفة الأخرى رافعين راياتهم السود، فكر مروان في نفسه: كيف يجرؤ هذا الجمع الصغير على الوقوف في مواجهته؟ من أين أتتهم الشجاعة للخروج على دولة حكمت الأرض قرناً كاملاً هزمت فيه مختلف أنواع الأعداء؟ كان قد أحضر خلفه 125 ألف مقاتل، ولم يكن أمامه منهم إلا بضعة آلاف، يمكن أن يسحقهم جميعاً في ضربة واحدة، ولكنه لم يكن يريد القتال على الفور، كان جيشه متعباً من السير الطويل، وفي حاجة إلى إعادة تنظيم، أوفد رسولاً إلى قائد العصاة عبدالله بن علي، يطلب منه الموادعة حتى اليوم التالي، لا ضرورة للبدء بالقتال في الحال، ولكن المفاجأة أن الرد جاء بالرفض، كانوا متشوقين للقتال، مدفوعين برغبة عدمية للانتحار، نظر إلى قادته مندهشاً، سأل الرسول الذي ذهب لمعسكرهم: كم عددهم فيما تظن؟ قال الرجل في ثقة: مهما بالغنا في عددهم فلن يتجاوزوا العشرين ألفاً، وخيولهم أقل من القليل، قال لنفسه في حيرة: لماذا هم متشوقون للموت إلى هذا الحد؟ كان النهر يفصل بينه وبينهم، وهناك جسر خشبي وحيد فوقه، عليه أن يستولي عليه ويؤمنه قبل أن يعبر إليهم، لو أنه تردد لحظة سوف يعتبرونه متخاذلاً، رسم خطته ببساطة، سيأمر رجال القبائل بمحاصرتهم من كل جهة، ثم بعد ذلك يقتحمهم في القلب، يخترق صفوفهم بفرسانه حتى إذا تفرق جمعهم لن يجدوا مهربا يلجأون إليه، أمر قادته جميعاً أن يتقدموا، لا يدري لماذا كانوا مترددين، كل واحد أراد أن يزيح الهجوم الأول عن عاتقه لزعيم القبيلة الأخرى، لا يدري سر التردد أمام معركة سهلة، سهولتها أكثر مما ينبغي، أكثر من خمسة مقاتلين في مقابل كل واحد منهم، فضلاً عن عدد الخيول، لذلك أمرهم جميعاً بالهجوم، كان العصاة من السذاجة بحيث تركوه يعبر الجسر في سهولة ويحشد قواته على الضفة نفسها، تركوه ينظم قواته وينشرها حولهم من دون أن يتحركوا من موقعهم، ظلوا ثابتين على كتلتهم نفسها، الرجال في الأمام، والفرسان في المؤخرة، واقفين لا يبدو عليهم أنهم متأهبون، أي خطة للحرب هذه؟ كان عليه أن يهاجم قبل أن يفطنوا للخطأ الذين وقعوا فيه، وكان يريد أن يصل إلى قائدهم عبدالله بن علي، يعرف أنه عم الخليفة أبي العباس السفاح الذي نصَّبه العباسيون، ولو استطاع أن يقضي عليه فسوف يقضي على الدعوة وعلى خليفتها الزائف معاً.

 

قنفذ‭ ‬ضخم

 لن يوجد في الأرض بعد اليوم إلا خليفة واحد، هو سليل نسل بني أمية، رفع سيفه وصاح في الجميع: هبوا هبة رجل واحد، وأخذ يعدو نحوهم وبقية الخيول تتبعه، وقع حوافرها والرمال التي تثيرها يثيران الرعب في قلوب أعتى الرجال، كان يتوقع أن تنفرط الكتلة السوداء، تتفرق شذراً، لم تتحرك ولكن تغيرت هيئتها، برزت منها عشرات الحراب، طويلة ومسنونة، أصبحت كتلة الجند أشبه بقنفذ ضخم مكسو بالأشواك، لم تستطع الخيول المندفعة التوقف، انغرست أسنة الرماح في أعناقها، صهلت وحمحمت والتوت والتفَّت حول نفسها، وسقط الفرسان تحت سنابكها، شد عنان جواده بقوة وأبطأ من سرعته، ولكنه شاهد بقية فرسانه وهم يسقطون، يهوون على الأرض منذ الجولة الأولى، وشاهد دم الخيول مختلطاً بدمائهم، في ضربة واحدة سقط معظم قادة جيشه، رؤساء القبائل الذي يدين لهم أتباعهم بالولاء أكثر منه، لم يكن في استطاعته التراجع، أمر بقية الجنود بأن يتقدموا، يواجهوا الرماح بدروعهم، وأن يفتحوا ثغرة في الصفوف المتراصة، ولكن أمطاراً من السهام انهالت عليهم، أي شيطان أعد لهم هذه الخطط وعلمهم فنون الخديعة؟ على مدى أيام القتال، في كل صدام معهم، كانوا يبادرونه بمناورة جديدة تسقط المئات من رجاله، بينما لا يسقط منهم قتلى إلا فيما ندر، يحركهم عبدالله بن علي من دون أن يظهر، ومن دون أن يكون له موضع محدد يمكن الوصول إليه، يظل رجاله صامدين في وقفتهم، بينما بدأ رجال مروان في الهرب، انفرط عقد القبائل، بدأ الجيش الضخم ينقسم ثم يتجزأ ثم يتفتت، بينما تتحرك الكتلة السوداء نحوه مثل كابوس، لا يطلبون سوى رأسه، صدره لهم وظهره عار، لم تعد المقاومة تجدي، ولا يوجد من يحميه، لا مفر من عبور النهر والهرب بعيداً، وليغمر الطوفان كل شيء بعد ذلك، يعدو فوق الأرض التي كان ذات يوم سلطاناً عليها، أصبح مطارداً، سيتبعه خيل العباسيين إلى كل مكان، يعرفون أن دولتهم لن تقوم مادام رأسه على رقبته، عاد إلى دمشق فوجد أن أنباء هزيمته قد سبقته، كل أتباعه متخاذلون وكل خصومه شامتون، لا أحد يتحمس لنصرة المهزوم، لا نصيب له غير طعنة في الظهر، سيسلمونه للعباسيين فور وصولهم، اضطر إلى الهرب مرة أخرى، ضاقت رقعة الأرض بما وسعت، أغلقت مدن الشام وفلسطين أبوابها في وجهه، وخيول العباسيين تلاحقه، انحدر جنوباً، عبر الصحراء المقفرة إلى مصر، انحدر أكثر إلى بلدة صغيرة بجانب الفيوم، وهناك لاحقته الخيول كأنهم كانوا يعرفون مسبقاً إلى أين يتجه.

رفع قاسم يده منبهاً رأس الدخان حتى يتوقف: انتظر قليلاً يا سيدي، أنا أحترم ألمك ومعاناتك، ولكنك تغفل بعض التفاصيل، أنت لم تهرب فقط من ميدان المعركة، ولكنك بعد أن عبرت قطعت الجسر الوحيد الذي كان يصل الضفة الأخرى من النهر. 

قال الخليفة: هل كنت تريد أن أترك منفذاً يتبعني منه العباسيون؟

قال قاسم في مرارة: لقد نجوت وحدك، لكنك تركت آلافاً من جنودك داخل مصيدة الموت حين كر فرسان العباسيين عليهم بخيولهم، اخترقوا صفوفهم كأنهم يحرثون العشب، لا شيء يحميهم من السيوف التي تنهال عليهم من أعلى وتحز أعناقهم، اندفعوا نحو الجسر الخشبي، منفذ النجاة الوحيد، فوجدوه محطماً، ألقوا بأنفسهم في النهر فكان غادراً، لم يمنحهم النجاة ولكن جذبهم في أعماقه، وطواهم في ظلمته، اختنقت صدورهم بمائه العكر، أخذ من أرواحهم أضعاف ما أخذته المعركة.

 تأوه الخليفة برأسه الدخاني وهو يردد من جديد: «إنها اللعنة». 

ولكن قاسم صاح غاضباً: هذه اللعنة صنيعة يديك، أنت الذي قتلت الأطفال، وصلبت جثث الموتى، وأوقعت جنودك في فخ الموت، لا أدري ما الذي ورطني في صنع هذا الإبريق!

كان جسده كله يرتعد، مد يده وقبض على الإبريق، يريد أن يهوي به على رأس الخليفة، لكنه تبدد بسرعة، ألقى به على الأرض، وفي الحال سالت منه بقعة داكنة من الدماء .