رمضان والسينما.. ماذا فعلت التقنيات في «حواديت» الأفلام؟

لعبت التقنيات الحديثة دوراً ملحوظاً في علاقة المسلمين بشهر رمضان، فصار هناك اهتمام فني أكثر به، وحول الإنسان نهاراته ولياليه إلى احتفاليات كبرى سهراً بلا نوم إلا قليلاً طوال أيام الشهر الفضيل، ولعل علاقة السينما بحكايات شهر رمضان تبدو بالغة الوضوح من خلال الصور التي ظهرت في السينما المصرية الروائية التي تبلغ هذا العام عمرها التسعين.
بدا ذلك واضحا للغاية في مجموع الأفلام التي تم إنتاجها حتى منتصف ثمانينيات القرن الماضي, أي قبل ظهور الفضائيات بانتشارها الشعبي بفترة قصيرة للغاية، فـقـبل ذلك كان ظهور شهر رمضان في قصص الأفلام هامشياً للغاية, بشكل محدود بما يوحي بعلاقة المصريين بالشهر، طوال عقود من الزمن، ففي فيلم «العزيمة» من إخراج كمال سليم عام 1939, صعد العاشقان محمد وفاطمة إلى سطح المنزل لتلقي الغرام وجلسا أقرب إلى العناق في ليلة رمضانية عادية لا نكاد نعرف أنها في رمضان إلا من خلال جملة حوارية، وسرعان ما سوف نفهم أن الناس جميعاً قد ذهبوا إلى النوم بعد صلاة العشاء مباشرة، وأنها فرصة ذهبية للحبيبين أن يتناجيا فوق السطح حتى يقوم المسحراتي بنداء الناس أن يستيقظوا لتناول السحور.
يكشف هذا المشهد عن الأجواء الرمضانية في تلك الحقبة من الزمن، وعن الشخصيات التي كانت تلعب دوراً حاسماً في حياة الصائمين, وفيما بعد, فإن وجود شهر رمضان بدا هامشياً للغاية كأنه غير موجود، مثلما حدث في أفلام «قلبي علي ولدي» لهنري بركات (1953), و«الفانوس السحري» من إخراج فطين عبدالوهاب عام 1959, و«في بيتنا رجل» إخراج بركات عام 1961, ففي الفيلم الأول فإن الشهر الكريم يتمثل في أغنية الأطفال التي رددوها في الشارع بمناسبة حلول الشهر الكريم، وفي الفيلم الثاني فإن الحوار الذي يدور بين إسماعيل، وطفلة صغيرة حول امتلاك فانوس رمضان أمام بائع وصانع الفوانيس، حيث يحصل إسماعيل، العامل بإحدى الشركات الإدارية على فانوس يسكنه العفريت الظريف «عفركوش»، وفيما عدا جملة الحوار، فإن القصة تستمر كأننا في أي شهر من شهور السنة الهجرية، أما في الفيلم الثالث فإن ساعة الإفطار في رمضان تمكن الشاب الذي اغتال رجلاً سياسياً من الهروب من مستشفى القصر العيني, ويتجه لمنزل أحد زملائه بعد انطلاق مدفع الإفطار مباشرة، وهي فترة تخلو فيها الشوارع من الناس، حيث يكون الصائمون منشغلين بالإفطار, ويظل في البيت ثلاثة أيام بعيداً عن أعين الشرطة، ثم يتسلل خارجاً منه, وهو يغادر المنزل أيضاً في ساعة مشابهة، دون أن نرى أياً من مراسم شهر رمضان في المشاهد، وهي المراسم التي رأيناها بالتفاصيل في أفلام تم إنتاجها في السنوات الأخيرة.
ذريعة درامية لحوادث هامشية
يعني هذا أن السينما كانت تتخذ من الشهر الفضيل ذريعة درامية لحوادث هامشية، وقد بدا ذلك واضحاً وغريباً في فيلم «ضربة معلم» من إخراج عاطف الطيب عام 1986, حيث إن هناك امرأة مسنة تخون زوجها في فراشها مع صديق ابنها الشاب في ساعة الإفطار، ويهجم عليهما الابن، ويردي العشيق برصاصة، ثم تنزل العناوين، ما يدعو إلى التساؤل، لماذا هذا المشهد بكل ما به من محرمات وعنف؟ ولماذا شهر رمضان بالذات لمثل هذا الخروج عن المألوف؟ حيث إننا أمام فيلم اجتماعي بوليسي حول ضابط شرطة شريف يقوم بالتحقيق, ويتصدى لوالد القاتل الذي يتمتع بمكانة مالية واجتماعية كبيرة.
في تلك الفترة من بداية الستينيات، ولمدة عقدين من الزمان، ولسبب غير معروف، ولعلها المصادفة، انتبه السينمائيون إلى أن الشهر الفضيل يتناسب مع مصائر «الحواديت»، باعتبار أن الأشرار والمارقين، تجب عليهم العودة إلى الرشد. بالتوبة، أو أن يدفعوا ثمن ما اقترفوا، وقد حدث ذلك في نهاية أحداث فيلم «مال ونساء» لحسن الإمام عام 1960، فالموظف أمين المخازن الذي انصاع لإغراءات رؤسائه الفاسدين، صار عليه أن يتوب عما كسب وفعل، وقرر أن يحرق المخزن الذي به المسروقات من الشركة، وهو يفعل ذلك في اليوم الأخير من شهر رمضان على طريقة «عليَّ وعلى أعدائي», وبموته يكون قد غسل ذنوبه، ويساعد ابنته الوحيدة في العودة إلى زوجها الموظف الشريف, وفي صباح يوم عيد الفطر تنطلق تكبيرات المصلين في الجو كأنها تغسل الهواء من روائح الفساد، وتعود الابنة إلى زوجها الذي تعالت عليه من قبل.
وهكذا ظل شهر رمضان بمنزلة ديكور, وزينة للزمن في القليل من الأفلام المتناثرة في السينما المصرية والعربية, منها كما ذكرنا فيلم « قلبي على ولدي»، حيث نزل الأطفال إلى الحارة حاملين الفوانيس, يمرون على الحوانيت، ومعهم الطفلة نزهة يونس, التي تغني لشهر رمضان أغنية تحمل كلمات غير مفهومة المعنى، لكنها تتردد في هذه المناسبات منذ مئات السنين، وتقول:
وحوي يا وحوي إيوحة
وكمان وحوي إيوحة
وتبدو حكاية بعيدة تماماً عن أن تدور أحداثها في شهر رمضان, لذا فما إن تنتهي الأغنية حتى يبتعد الفيلم تماماً عن شهر رمضان، ومن هذه الأفلام أيضاً ما قدمه عاطف الطيب في فيلمه «ضربة معلم»، الذي يوحي إلينا بأن جرائم خيانة وزنا وقتل, وصراع على الثروات والمال، تدور في شهر رمضان، حيث يسرع شاب بسيارته ومعه اثنان من أصدقائه ساعة الإفطار في شوارع المدينة الخالية لضبط والدة الشاب في إحدى الشقق مع صديق ثالث له، فيطلق عليهما الرصاص, والمفروض أن بقية الأحداث تدور في الشهر نفسه، حيث يسعى والد القاتل إلى إخراجه من التحقيقات كأنه لم يفعل شيئاً، وإغراء الضابط المحقق بالمال والشقق, والسلطة، والقوة, وهذا هو المنحى الأساسي للفيلم.
أما المخرج المغربي فوزي بن السقا، فقد صور فيلمه الروائي الأول «ألف شهر» عام 2002 في أجواء شهر رمضان من خلال أحداث تدور في قرية جبلية تطل مباشرة على السماء، حيث يصعد الطفل مهدي الجبل القريب، ويقوم وحده باستطلاع هلال شهر رمضان، الذي يبدو جلياً، وما إن يراه حتى ينزل إلى أهله ويبلغ القرية بحلول الشهر الكريم، لكن يبدو أن هناك تشابها بين إيقاع الحياة في القرية الجبلية وبين الحياة في حواري القاهرة عام 1939 في فيلم «العزيمة»، فليست هناك احتفالات لاستقبال الشهر, أو أداء مراسم، سوى أن مهدي قد استطلع «الهلال». وهو يذهب مع أمه إلى منزل جده لأبيه، بعد أن تم القبض على الأب، وإيداعه السجن، وصار على الجد أن يرعى أسرة ابنه الغائب, وهذا الطفل يحمل المقعد من بيت جده يومياً إلى المدرسة ليجلس عليه المدرس, وعندما يقترب عيد الفطر فإن الجد يسرق المقعد، ويبيعه, كي يشتري لحفيده ملابس العيد، وليس أمامنا مشهد واحد يؤكد أن الناس هنا تصوم الشهر، فابنة العمدة تأكل في أثناء النهار، ويهتم الفيلم بدور مهدي وهو ينقل رسائل الغرام بين الأستاذ وحبيبته.
في العقود الأخيرة انطلقت التقنيات في المدن تنيرها، وتبدد الليل، فلم يعد الصائمون يذهبون مباشرة إلى النوم عقب انتهاء صلاة التراويح, ينتظرون نداءات المسحراتي الذي بدأ يختفي ويصير إرثا من الماضي, وخرج الناس للسهر في الميادين، والذهاب إلى المقاهي, أو الجلوس حتى ما بعد الفجر أمام التلفزيونات ومشاهدة المسلسلات والبرامج المسلية.
لقد اتسعت مساحات ساعات الشهر ليكون بالفعل أطول شهور السنة، وكأنه يتجاوز الألف شهر. وظهرت عادات جديدة في أنحاء العالم الإسلامي, مع التمسك بالعادات القديمة ومنها إقامة موائد الرحمن على مستوى أكثر اتساعاً، وعمل الكعك خاصة في الأحياء الشعبية، كما كان يفعل الأجداد، والتمسك بتناول أطعمة قديمة ومنها الكنافة, مع إقامة الولائم يومياً بهدف التماسك الاجتماعي, وهكذا وجدت الحوانيت، ورأينا المزيد من التفاصيل الرمضانية في قصص الأفلام، وقد بدا ذلك واضحاً في فيلمين تم إنتاجهما في فترتين متقاربتين، وقام ببطولتهما الممثل نفسه، الفيلم الأول هو «عسل أسود» من إخراج أحمد جلال عام 2009, الذي تدور أحداثه كلها طوال الشهر وما قبله وبعده، مما أتاح الفرصة لمعايشة كيف يعيش المسلمون في الأحياء الشعبية طوال الشهر، على غرار الأجداد لا يتركون من تراثهم شيئاً، يذهبون إلى موائد الرحمن التي لم تعد المشاركة فيها معيبة، وأيضاً زيادة الإحسان، والزكاة، وعمل الكعك والحلويات، وأداء الصلوات والفروض معا، خاصة التراويح وصلاة العيد، وقد حدث ذلك بشكل تلقائي، باعتبار أن الشاب «مصري» غاب عن وطنه عشرين عاماً وعاد إليه مليئاً بالدهشة، والرغبة في استرجاع أجمل ما فيه، وتلك السمة كانت بالغة الذكاء من السيناريو، فالمقيمون في الوطن يمارسون عاداتهم بشكل تقليدي, من دون تغيير، أما المواطن الأمريكي فإنه يسعى إلى التعرف والمعايشة مع الشعائر الدينية والاجتماعية التي افتقدها طوال حياته التي عاشها في الولايات المتحدة، وكان ذكاء السيناريو أن جعل «مصري» يعيش هذه العادات في داخل البيت وخارجه، فهو يذهب إلى موائد الرحمن ويجلس إلى جوار المواطنين الكثيرين الذين يذهبون للإفطار مجاناً على نفقة القادرين، ويجلس بين الصائمين، ويأكل مثلهم، وبكل براءة يعرض على صاحب المائدة ثمن ما أكل، وبكل نبل يبلغه هذا القادر أنه لو أخذ منه المال فإن ثوابه سوف يضيع، وفي هذا المشهد نرى النشاط الاجتماعي الجماعي، فهناك متبرعون للطهي وتقديم الطعام، وما يلي ذلك من خدمات، كما يبين المشهد أن رواد موائد الرحمن ليسوا فقط من المحتاجين، بل من فئات متعددة، وعقب هذه الوليمة الجماعية، فإن مصري يذهب إلى مكان آخر في المدينة قريباً من النهر، حيث يبرز نوع آخر من الناس، أو المحتاجين، إنهم عمال النظافة, الذين لا يتسولون بل يتقبلون الإحسان، وبينما هو جالس عند الرصيف, تأتي سيارة فارهة تقودها امرأة تنزل لتوزع اللحم على الساهرين من عمال النظافة، ويسترعي مصري انتباهها بملابسه، فتنادي عليه وتقدم له نصيبه من اللحم النيئ، فيبلغها أنه أمريكي, وعندما يقول لها إن اسمه مصري، تردد: «تبقى غلبان»، وفي هذا معنى واضح للمشهد الأسبق الذي يذهب فيه كثيرون إلى موائد الرحمن.
أما شعائر نهاية شهر رمضان فقد تمثلت داخل بيت الجيران الذين يرسلون طبق الحلويات بين الشقق، فلا يعرف أحد من هو صاحب الطبق، أو الحلوى, كما نرى العائلة بجميع أجيالها حريصة على خبز كعك العيد، ويحمل مصري الصاجات مع جاره إلى الفرن على طريقة أمهاتنا، ثم يأتي المشهد التالي في عيد الفطر، حين تنزل الأسرة بأكملها إلى الحدائق, ويأكلون الفسيخ المملح، رغم ما يوحي من فساد رائحته، إلا أن هذا موروث شعبي قديم.
الفيلم الثاني الذي احتفى بشهر رمضان بشكل ملحوظ في العقد الحالي - الثاني من القرن الواحد والعشرين - هو «إكس لارج» من إخراج شريف عرفة عام 2011, وهو أيضا من بطولة أحمد حلمي الذي ظهر في شكل مختلف تماما, هو مجدي رسام «الاستربس» في إحدى المجلات، وهو بدين بشكل ملحوظ، يعاني ضخامة جسده، ولا يكف عن التهام الطعام، وفي ليلة الرؤية يطلب من البواب شراء كميات كثيرة من الطعام لزوم السحور، وهو يعيش وحده، يمكنه أن يتناول خمس علب فول وعشرين بيضة، كما أنه يخاف العطش، وقد ظهر الشهر الكريم من خلال وقائع اليوم الأول من الشهر، حيث أقام الناس الزينات، ويأتي صوت المطرب محمد عبدالمطلب مرحباً بالشهر المبارك, كما أنه يفخر بأنه لم يتناول الأرز في السحور, ونراه يصلي الفجر, وهو الذي أوصى البواب بعدم إيقاظه إلا عند صلاة المغرب, ولكن دينا تتصل به هاتفيا بعد الفجر، وتطلب منه أن يصحبها بسيارة إلى محافظة الشرقية لدفن أحد أقارب عمتها، دينا هذه هي صديقة الطفولة التي عادت من السفر بعد خمسة عشر عاماً، وأخفى عليها حقيقته حتى لا يفقدها بسبب بدانته، وقبل أن ينطلق بالسيارة مع دينا يقوم بشراء طعام وشراب لزوم الطريق، باعتبار أن من حق المسافر الإفطار, لكنه سرعان ما يتراجع عن تناول الطعام حينما يركب معهم السيارة أحد الأقرباء، وهو رجل ملتح يبدو غليظا, ويكون الطعام من نصيب العمة التي أعلنت إفطارها نظراً لمرضها, وقد فرض وجود هذا الشخص على مجدي الالتزام بالصيام، ولم يتمكن من تحقيق رغبته في الإفطار، وقضى اليوم في حضور مراسم العزاء, ولم يأكل إلا بعد عودته إلى القاهرة، حيث رأيناه يطل من الشرفة علي أسرة البواب التي تتناول الطعام معا، وبعد أن تناول مجدي شطيرته، يأتي خاله الأعزب البدين بالإفطار «الدليفري»، كي يأكل مع ابن أخته، وهكذا كان اليوم الأول في شهر رمضان في حياة مواطن عادي, وسوف يقوم مجدي بعد ذلك بزيارة إلى بيت دينا لتناول الإفطار, وتقوم بينه وبين عمتها مشادة لفظية طريفة حول الطهي والطعام، ويجلس مجدي مطولا أمام التلفاز يشاهد البرامج والمسلسلات الرمضانية، ما يعكس ثقافة الناس في مثل هذه المناسبات.
الفيلم الثالث «لا مؤاخذة» من تأليف وإخراج عمرو سلامة عام 2014, الذي قدم شهر رمضان بشكل مختلف من خلال ما يحدث في فصل مدرسي جميع التلاميذ فيه والمدرسين من المسلمين, وإلى هذا الفصل تم نقل التلميذ هاني الذي اضطرت أمه إلى نقله إلى المدرسة الحكومية بعد أن ضاقت بها الحال عقب وفاة زوجها, وفي الفصل يخفي التلميذ هويته كقبطي, وسط عالم مليء بالقسوة والتعصب, سواء من التلاميذ أو المدرسين، وهو مع الوقت يصبح صلداً قوياً، وبعد أن كان يخفي هويته، فإنه يأخذ معه طعامه في أيام «رمضان»، ويخرج الشطائر ويتناولها على مرأى من الجميع الذين ينظرون إليه بغيظ ملحوظ، واستنكار لما يفعل، ويبدأ شهر رمضان هنا من خلال أغنية قديمة مشهورة لعبدالعزيز محمود هي «مرحب شهر الصوم مرحب», ومثل هذا المشهد يعبر عن التحول الذي جرى لهاني، فهو يدخل للمرة الثانية في صراع جسدي مع زميله الذي يتحرش به وينتصر عليه، ما يعني أنه صار واحداً مثل زملاء هذه المدرسة المتشددة، ولكن التغير لا يحدث كاملاً فلن يلبث التلميذ أن يهاجر مع أمه إلى خارج وطنه.
وهكذا صار في الشهر الكريم خلال العقد الحالي المزيد من القصص المسلية، ما ينبئ بأننا في انتظار المزيد من وجود شهر رمضان في الأفلام العربية .