نرى بعيون عقولنا... لا بعيوننا

نرى بعيون عقولنا... لا بعيوننا

تإن‭ ‬توضُّع‭ ‬العينين‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬الرأس‭ ‬توضعاً‭ ‬أمامياً‭ ‬يجعل‭ ‬الرؤية‭ ‬المكانية‭ ‬ثلاثية‭ ‬الأبعاد‭ ‬أكثر‭ ‬دقةً‭ ‬وميْزاً‭ ‬مما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬توضعهما‭ ‬على‭ ‬جانبي‭ ‬الرأس،‭ ‬مثلما‭ ‬هو‭ ‬قائم‭ ‬لدى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الحيوانات‭. ‬وتنجز‭  ‬الرؤية‭ - ‬بكل‭ ‬الأحوال‭ - ‬عبر‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬المتوالية،‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬الضوء‭ ‬المنعكس‭ ‬عن‭ ‬الأشياء‭ ‬الخارجية‭ ‬إلى‭ ‬الحدقة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عين،‭ ‬مروراً‭ ‬بعدسة‭ ‬العين‭ ‬الشفافة‭ ‬ثم‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬الشبكية‭.‬

  ترتسم الصورة المقلوبة للأشياء على شبكية العين، وهنا تتحول الصورة الضوئية إلى رسالة عصبية كهربية مؤلفة من إشارات ونبضات كهربية تسافر من الخلايا العصبية في الشبكية عبر العصب البصري إلى المنطقة الخلفية من الدماغ، حيث يتم فيها (بمشاركة مناطق أخرى عديدة من الدماغ) ترجمة الرسالة الكهربية إلى الألوان والأضواء والظلال والأشكال التي نختبرها في تجاربنا البصرية الاعتيادية. 

   في الحقيقة، ليست سيرورة الإبصار بتلك السلاسة والانسيابية المرسومة أعلاه، أو كما تعلمنا به الكتب المدرسية والجامعية؛ فالاستقصاء العميق لعملية الإبصار يستلزم إعادة إنتاج لمفاهيم سابقة وإبداع مفاهيم أخرى. ولتكن البداية بالضوء المنعكس والداخل إلى العين.

يشكل الضوء المرئي شدفة صغيرة جداً من طيف الأشعة الكهرومغناطيسية، وتتراوح أطوال موجات الضوء المرئي بين ٤٠٠ نانو متر  و700 نانو متر، بينما تقع موجات الطيف الكهرومغناطيسي في مجال الموجات ذات الطول المقيس بالكيلومترات (الموجات الراديوية) وموجات الأشعة الكونية التي تقل أطوالها عن جزء واحد من ألف جزء من النانو متر. 

 واللافت في جميع تلك الموجات أنها محايدة وخالية من الألوان؛ فلا يوجد في الخارج «هناك» ضوء أحمر، أو ضوء أخضر أو أزرق، بل تموجات لحقلين متعامدين كهربائي ومغناطيسي لا يعرف أحد كنههما أو ماهيتيهما، والأرجح أنهما افتراضان عمليان مفيدان بحسب نظر جميع الفيزيائيين.  أما أنه ليس ثمة ألوان هناك في الخارج فهو أمر معروف منذ عدة قرون خلت، فقد كتب إسحق نيوتن (1704م) أن «الأشعة ليست ملونة»، وهو يقصد هنا الأشعة الضوئية المرئية، وكان قد سبقه فلاسفة القرن السابع عشر إلى القول بأن للأشياء صفات وخصائص أولية ثابتة ودائمة تتمثل في أشكالها وحجومها وأعدادها، ولها أيضاً صفات ثانوية تخترعها عقولنا بفعل تأثرها بقوة نابعة من تلك الأشياء، وهي تتمثل في جميع ما نحسه من أحاسيس متعلقة بالأشياء الخارجية من ألوان وطعوم وروائح وأصوات؛ فلا المرئيات ملونة هناك (أي في الخارج)، ولا المطعومات لها طعم هناك، ولا المشمومات لها رائحة هناك، ولا المسموعات فيها أصوات هناك؛ فكل ما «هناك» له لون وطعم ورائحة وصوت «هنا» في الذات المدركة، أي في عقولنا وأدمغتنا. 

  

الصور‭ ‬التقليدية‭ ‬للإبصار

ومن جهة أخرى، تؤلف النافذة التي نرى من خلالها العالم الخارجي جزءاً صغيراً من الطيف الكهرومغناطيسي – كما ذكر آنفاً - وهذا يجعل معرفتنا الحسية محصورة بهذا الجزء، فنحن لا يمكننا أن نحس باللون فوق البنفسجي أو تحت الأحمر، بينما ثمة كائنات يمكنها أن تتحسس تلك الأشعة وترى العالم الخارجي من خلالها مختلفاً تمام الاختلاف عما نراه ونختبره، فكثير من الطيور تستقبل عيونها الأشعة فوق البنفسجية وتترجمها أدمغتها إلى ألوان لا يمكننا أن نتخيلها، والأفاعي ترى الأشعة تحت الحمراء وتتعقب فرائسها ليلاً من خلال تلك الرؤية. 

وبالعودة إلى الصورة التقليدية للإبصار، تكون صورة الأشياء المنعكسة التي ترتسم على الشبكية مقلوبةً، ثم تُرحّل إلى الدماغ عبر العصب البصري. أما في الواقع الفعلي لتشريح العين، فإن الخلايا العصبية وأليافها التي تشكل العصب البصري لاحقاً تغطي الشبكية من الجهة الأمامية، أي من جهة دخول الضوء إلى الشبكية، وهذا يعني أن الصورة الضوئية المنعكسة ستتشوه وتتلوى قبل أن تصل إلى الخلايا مستقبلة الضوء في الشبكية (المخاريط والعصي)، وقد لا يصل منها إلا نتف وأجزاء مبعثرة، لا سيما إذا ما اعتبر الضوء مؤلفاً من فوتونات (كريات الطاقة)، فجزء منها سيتم امتصاصه من قبل الخلايا والألياف العصبية، وقسم آخر سيتشتت هنا وهناك، والقسم المتبقي سيصل إلى مستقبلات الضوء في الشبكية، وهو ما ستحوله من فوتونات إلى نبضات عصبية كهربية. 

قد يكون الأكثر إدهاشاً من جميع ما سبق ذكره، هو اللدونة الدماغية العصبية التي أمكن بفضلها إعادة البصر للعميان منذ ولادتهم، وذلك ليس عبر عيونهم وشبكياتهم، إنما تحقق بواسطة ألسنتهم، حيث توضع شريحة تشبه فرشاة الأسنان، فيها أقطاب كهربائية  2525  قطباً على اللسان، وتثبت كاميرا فيديو على الرأس مثل النظارات تقوم بتحويل فيلم الفيديو المرئي إلى إشارات كهربائية وإرسالها إلى مصفوفة الأقطاب المرنة الموضوعة على اللسان. وعند تشغيل المنظومة يشعر الشخص بنماذج التنبيه الكهربائي على اللسان مثل فرقعة الفقاعات. تنتقل الإشارات الحسية اللمسية الناتجة عبر الأعصاب الحسية إلى المناطق الحسية والبصرية في الدماغ، وهناك تترجم النبضات الكهربائية إلى إبصار لا بأس به؛ فقد أثبتت هذه التقنية نجاحها لكونها تسمح لمستخدميها برؤية الأشكال والحروف وقراءة الكلمات وتجربة التحرك والإدراك الحيزي، وذلك من دون الحاجة إلى العيون والأعصاب البصرية. 

إذن، صار بحوزتنا ثلاثة أمور في غاية الأهمية: أولها يشير إلى أن الضوء عبارة عن موجات كهرومغناطيسية أو فوتونات ليست ملونة بحد ذاتها، بل تصبح ألواناً وأشكالاً عندما تترجمها عقولنا وأدمغتنا. وثانيها يشي بأن صورة الأشياء الخارجية المطبوعة على الشبكية ليست بالقدر الذي كنا نتوقعه من حيث أمانتها وصدقها في نقل الحقيقة عن تلك الأشياء. وثالثها ينزع عن العين جلالها ومكانتها التقليدية في سيرورة الإبصار، ويجعل من الدماغ مخدومها سيد الوقائع. 

ولتقريب تلك الأمور إلى الأفهام أكثر، لنتخيل أن لدى جميع عيون البشر عدسات عينية قالبة للألوان بدلاً من العدسات المحدبة الشفافة التي نمتلكها، بحيث تقوم بقلب موجات الضوء التي تشير إلى اللون الأخضر إلى الموجات التي تدل على اللون الأحمر، وتلك الدالة على الأزرق ستنقلب إلى موجات دالة على اللون البرتقالي. فهل سيقول هؤلاء البشر - وقتئذ - إن لون السماء أزرق وإن العشب أخضر، أم سيقولون إن سماءهم برتقالية وأعشابهم حمراء؟ بالطبع، ستبدو سماؤهم برتقالية ويبدو العشب أحمر. وهذا يدلل على أن السماء بذاتها ليست زرقاء ولا برتقالية والعشب الفعلي ليس بأخضر ولا بأحمر إلا في عقولنا وأدمغتنا. 

ويمكننا أن نتخيل أيضاً حدوث طفرة مورثية سائدة لدى البشر تجعل  - في نهاية
المطاف - عدسات عيونهم الشفافة والمحدبة عدسات مقعرة أو متموجة، فهل سيرون الخط المستقيم مستقيماً والكرة المحدبة محدبةً والسماء المقعرة مقعرةً؟ الجواب بالطبع: كلّا. وهكذا، غدت الأشياء بخصائصها الأولية والثانوية ذاتيةً تبدعها عقولنا بطريقتها الخاصة، لا كما هي عليه في الواقع الخارجي هناك.  

  وخلاصة القول: إن عقولنا وأدمغتنا المحبوسة في صناديق جماجمنا المعتمة هي التي تقوم بإبداع الألوان والأشكال والمدركات الأخرى اعتباراً من واقع خارجي لا يمكننا أن نعرف حقيقته بصورة موثوقة وعلى نحو يقيني، إلا بافتراض أن ما ندركه هو الواقع الفعلي بذاته، وهذا ما لا يوجد دليل قاطع على صدقه ورفع ظلال الشك عنه، لأن عيون عقولنا هي التي ترى وليست العيون في وجوهنا .