نصف قرن من فنون الخليج.. نهضة متأخرة.. وحداثة مبكرة

نصف قرن من فنون الخليج.. نهضة متأخرة.. وحداثة مبكرة

من الشائع أن وصول لوحة «الحامل» الغربية إلى محترفات الخليج تخلّف ما يقرب من نصف قرن عن نظائره في أقطار المشرق العربي، ومع ذلك فإن حداثة الفنون الخليجية توحي برغبتها الجادة في تجاوز هذا التأخر.

لاشك بأن دراسة الفنانين الخليجيين في معاهد العواصم الثلاثة: القاهرة - بغداد - دمشق، ساعد منذ الخمسينيات على الخروج من السبات التشكيلي، وذلك قبل أن تتجه البعثات إلى المعاهد المختصة في باريس وروما، ولندن ونيويورك. وفي الحالتين، كانوا على الأغلب من خريجي معاهد التربية المحلية التي كانت تؤهلهم لتدريس مادة الرسم والأشغال اليدوية.

إذا تناولنا مثال المحترَف البحريني الأشد إبكارًا في صحوته النهضوية التشكيلية، نجد أن تعددية دراسة فنانيه في «المونوبولات» الثلاثة منح «لاستراتيجيته» الثقافية بعدًا عربيًا: درس في كلية فنون القاهرة أكثر من خمسة عشر فنانًا رائدًا، منهم المحرقي والكوهجي والعريفي والموسوي، وكان آخرهم عمر راشد. أما أكاديمية بغداد، فدرس فيها أكثر من عشرة على مثال السني، ومحروس واليماني وإبراهيم بوسعد. ودرس في كلية فنون دمشق المحرقي وغضبان وخميس. يغلب في جدة التعلّم في القاهرة: رضوي وصفية بن زقر وموصلي ورائدة عاشور وغيرهم كثير مثل نجاة مكي في الإمارات، ولكن تأثير عبدالله الشيخ يبدو متفوّقًا بدراسته في بغداد.

إذا أكملنا قائمة البحرين، وجدنا أن أحمد باقر وعدنان الأحمد درسا في فرنسا، وبلقيس فخرو في الولايات المتحدة، وعبدالرحيم شريف في الاثنتين.

لا تحتكر هذه المعاهد ظاهرة النهضة التشكيلية، لأنها ترتبط بشروط عامة، فإن تأسيس أي كلية فنون، ما هو إلا ثمرة لمحاولات أسبق على المستوى الأهلي أو الخاص، فخلف تاريخ تأسيس المعهد الأول العربي في القاهرة تقع أتيليهات ومحترفات خاصة للتدريس في الإسكندرية أقامها الوافدون من كل حدب، فمرسم زانييري خرّج محمود سعيد وآخرين، ستعثر على دور التأسيس الاستشراقي نفسه في العديد من دول الخليج في الخمسينيات أبلغ أمثلتها البحرين و«جماعة المنامة» الذين كانوا يجتمعون كل يوم جمعة في أحد أرياف المنامة ليصوّروا المناظر على طريقة الإنجليز والدانمارك بصحبة بعض الفنانين المرافقين للبعثات الأثرية، من هؤلاء العريض وسنّي وناصر اليوسف والعريفي والمحرقي وسواهم، يرافقهم أحيانًا بعض هؤلاء الأجانب، عرفنا منهم بلجريف وبوفين، والأخير هو الذي صدر عنه كتاب بالغ الأهمية بعنوان «بوفين البحرين» (ترجمة د. محمد البندر، المؤسسة العربية للدراسات عام 2003).

قد يكون تأسيس المتاحف والجمعيات التشكيلية والمعارض والصالات الرسمية والحرة أهم من تأسيس معاهد الفنون، وهنا ندرك نقطة المبالغة في صورة التقصير النهضوي لمحترفات الخليج عن نظائرها المشرقية، فالظواهر الجدية النهضوية لم تظهر في دمشق مثلاً، إلا من خلال النزعة الانطباعية في بداية الأربعينيات، وهذا يعني أن الفرق بينها وبين نشاط «جماعة المنامة» (رسامي المناظر) لا يتجاوز العقد من الزمان.

رغم أن المعرض الأول للرضوي في جدة كان عام 1960 تبعه معرضا السليم ثم صفية بن زقر، فقد كان يؤكد في أكثر من حوار منشور له أن استخدام اللوحة ابتدأ منذ الخمسينيات، أي خلال الفترة التي كان يدرس فيها في القاهرة، وأن «المرسم الحر» في الكويت تأسس في الستينيات.

من الأكيد أن آخر دولة خليجية مارست فن اللوحة هي سلطنة عُمان سنة تحررها عام 1970، وعودة أنورسوينا ورابحة محمود وسواهما.

علينا مراجعة دور الأنثى الذي لا يماثله في الحركات الفنية المشرقية إلا شراكتها في لبنان. لقد حبا الله محترف جدة بعدد من المبدعات الإناث لا نعثر له على مثيل في العدّة والعدد، وذلك ابتداء من الرائدة صفية بن زقر وانتهاء بإلهام بومحرز، مرورًا بشادية عالم ومنيرة موصلي وزهرة بوعلي ورائدة عاشور وكثيرات غيرهن. هؤلاء تحلّقن في محاضرة فنية واحدة هي «جدة» سنجد الشراكة نفسها في البحرين، ثم في مسقط.

أطلال المكان

انشغلت المحترفات الخليجية ما بين الستينيات والثمانينيات بمشاهد إطلالية تتمسّك بأهداب «المدينة الفاضلة»، ومسارب أشواقها الروحية (يسمّيها مغربل بطيبه)، مدينة نكوصية يتملّكها الحنين إلى صناعات ورقش وأزياء وتقاليد نشوة الماضي ودكاكينه وأسواقه وعاداته وطرزه المعمارية وأقواسه وقصوره ونخيله ورقشه وجماهيره السرابيّة، شخوص وعمائر ترقص بنشوة لونية غامضة، بشجن الموضوعات الموسيقية التي تسيطر على الكثير من رضوي وحتى سوار، مرورًا بـ«غناوي الشوق» لناصر اليوسف، تندرج في هذه الأشواق التصويرية الحضرية العرفانية مشاهد عبدالقادر الريّس (الإمارات)، وبدايات بلقيس فخرو (البحرين)، وطه صبّان (السعودية)، تتحول إلى مدن عاصفة لدى أحمد يوسف جاها، وكريستالية نورانية لدى كل من مغربل وسيام، وبواطن منزليّة حميمة لدى جاسم الزيني (قطر) وصفية بن زقر (جدة). تنطلق وثبة شادية، عالم من ركام هذه الصور البيئية لتعبّر في محراب ذاتها الأنثوية وهواجس عزلتها، لتتقاطع مع الخيال الصوفي لأختها الأديبة رجاء. أما منحوتات أيوب، فهي مستخرجة من أساطير شاطئ مسقط وسعي طيوره الرمزية من خشب التيك.

أما التيار الموازي «للتصوير البيئي» فتمثله «الحروفية»، التي وفدت من خارج محترفات الخليج، فقد تأسست منذ الستينيات على قواعد قدسية عرفانية استهلها شاكر حسن آل سعيد (العراق) وحماد (سورية)، وشيرين والصلحي ووقيع الله (السودان) وحامد عبدالله (مصر)، ولم يشارك الخليج سوى بالسليم في نظريته ««الآفاقية» (جدة)، تبعه العديد من المريدين على مثال عاشور كما تبع شاكر مهدي مطشر وتبع حماد سعيد طه، لعل أبرزهم في لبنان سمير صايغ، وذلك قبل أن تظهر المدرسة القطرية على يد فنانين أصيلين: علي حسن ويوسف أحمد ثم محميد في البحرين، هاجر الثلاثة عن هيئة الحرف إلى ذاكرة رفيفه وتوقيعاته وموسيقاه الكرافيكية، فعبروا بذلك من رقعة التعاويذ إلى التجريد الغنائي المتقدّم. ولاشك أن منهج ضياء العزاوي (العراق) نال حظوة أسلوبية كبيرة.

انحرف الحماس للحروفية بأسلوب بعض كبار المصورين بمستوى أحمد يوسف جاها وعبدالقادر الرّيس قبل أن يعيدوا قطار الصورة إلى سكته لحسن الحظ. نتساءل اليوم: هل طمست الحروفية من جديد الصورة التصويرية؟

تنحو نهضوية الكويت منحى خاصًا بسبب ازدهار فن النحت على يد سامي محمد وعيسى الصقر وخزعل عوض بتاريخ مبكر نسبيًا (منذ بداية الخمسينيات)، كما غلبت «السوريالية» الرمزية على التصوير ابتداء من خليفة القطّان وانتهاء بثريا البقصمي، مرورًا بعبدالرضا في ملصقاته الورقية. يظل عبدالرسول سلمان على دوره التوثيقي والنقدي البارز، مصورًا تعبيريًا نسيج ذاته، يملك خصائص نادرة في تطبيقه لمنظور «عين الطائر» الذي كان يُستخدم في تقاليد رسوم المخطوطات.

ينقلنا المتحف الوطني المنشأ حديثًا في الكويت (2003) عبر ذاكرة محترف النهضة المحلية، هي التي ابتدأت مع بداية الخمسينيات ومع عودة عدد من المبعوثين لدراسة الفن، لعل أولهم معجب الدوسري الذي عاد عام 1952. ثم تقيم إدارة المعارف المعرض الأول عام 1958في ثانوية الشويخ، بدأت بعدها تتالت معارض الربيع بعد عام، ثم تم إنشاء «المرسم الحر» المشتمل على قاعات عرض ومحترفات عمل ومختبرات نظرية وندوات ومطبوعات. وهناك مشروع راهن من أجل تحويله إلى أول أكاديمية مختصة في تدريس الفنون في الخليج.

الجمعية الكويتية للفنون

ثم تأسست الجمعية الكويتية للفنون الجميلة عام 1967، وكان معرضها الأول في العام التالي، وترصعت بداية الثمانينيات بمعرض نهضوي كويتي «بانورامي» شامل متجوّل لفترة طويلة في المونوبولات العربية: القاهرة ودمشق، الرياض والمنامة والشارقة قبل أن يعبر إلى أوربا: باريس وروما، موسكو ومدريد، برشلونة وصوفيا.

ثم تأسست «دار الفنون» عام 1993، ثم «بيت لوذان» ثم صالة «أحمد العدواني»، ويشهد عام 1996 تأسيس «صالة الكويت للفنون الجميلة» في مقر الجمعية الكويتية للفنون الجميلة، كما افتتحت الدورة الأولى لـ«بينالي الكويت الدولي».

يعرّفنا المتحف من خلال خمسمائة عمل فني على سياق التحوّل ما بين الخمسينيات والتسعينيات، فبعد تقليد المدرسة المصرية على مثال لوحة القصار: «الحصاد» 1969 يبدأ تمايز الحساسية التعبيرية المحلية ابتداء من لوحة «القهوة الشعبية» لمساعد فهد عام 1973 وخليفة قطان (الغائب عن المجموعة). ثم وبشكل خاص، تطور النحت النهضوي يمثله سامي محمد وتأثره بالبلغاري فيلوكوفيتش في تصاوير عام 1984المعروضة، ثم بتوجهه إلى تقاليد النحت الغربي (مثل إيبوسكوبي)، أما صالة صفوان الأيوبي، فقد تخصصت بالاتجاهات التجريدية.

لا تقل موهبة الرائد القطري جاسم الزيني أهمية تأسيسية عن الأسماء اللامعة في جدّة: رضوي - السليم - بن ظقر. تتناظر تجربته مع عبقرية معاصره البحريني ناصر اليوسف، ناهيك عن ارتباط تفتح موهبة الاثنين بالبعثات الأثرية في الخمسينيات. يعتبر الزيني أول رائد قطري يدرس خارج البلاد، فقد أرسل عام 1962 إلى «أكاديمية فنون بغداد» وتخرج فيها عام 1968 ليتسلّم مسئولية التوجيه التربوي في الوزارة.

وهكذا حمل خصائص المحترف التعبيري العراقي (التي أسسها جواد سليم) إلى الحساسية القطرية، مثله مثل عبدالله الشيخ في المحترف السعودي. تتابعت بعده البعثات الفنية، فأرسل حسن الملا إلى بغداد، أما أغلب البعثات الأخرى، فكانت باتجاه «مكية فنون القاهرة»، ابتداء من يوسف أحمد، وانتهاء بسلمان المالك. وقد تهيأ للجيل التالي ابتداء تخصصه محليًا في الجامعة، بعد إحداث فرع التربية (عام 1973)، ليرسل بعد ذلك في بعثة للدراسات العليا. استكمل يوسف أحمد - مثلاً بعد دبلومه القاهري دراسة الماجستير في أوكلاند الولايات المتحدة عام 1982. وحاز فرج دهام على ماجستير فنون جميلة من الولايات المتحدة أيضًا عام 1988، وذلك بعد حصوله على بكالوريوس المعهد العالي للفنون المسرحية. يعزى إليه فضل تأسيس «مركز الفنون البصرية» التابع للمجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث. وارتبط سلمان المالك بإدارة «المركز الشبابي للإبداع الفني» المنبثق عن الهيئة العامة للشباب والرياضة (تأسس عام 1997). كانت وزارة الإعلام قد أسست المركز الثقافي (عام 1976) افتتح نشاطه بمعرض يوسف أحمد، ثم أنشأت إدارة الثقافة بعد عام «المرسم الحر».

أما «الجمعية القطرية للفنون التشكيلية» فتبدو بالغة الحيوية في معارضها سواء المشتركة أو الخاصة.

يتقابل تيار التعبيرية في هذه الأسماء الموهوبة (من جاسم الزيني وحتى فرج دهّام مرورًا بسلمان المالك) بالحروفية التي بلغت مبلغًا رهيفًا على يد علي حسن ويوسف أحمد، ثم تجاوز تجريدهما الخط والحرف والكلمة إلى رحاب موسيقى اللون ورفيف الخط الحر.

ومن المثير للانتباه أن ظاهرة العصامية مسيطرة على فناني محترف مسقط. علّم أغلبهم نفسه بنفسه دون أدنى توجيه من تعليم مختص، ولا حتى معاهد تربية محليّة.

ويعكس تجمّع جماعة «أصدقاء الفن التشكيلي» عام 1985 ثبوتية الخارطة الذوقية الخليجية، وهم يوسف أحمد وحسن الملا (قطر) عبدالرسول سلمان (الكويت)، وفؤاد مغربل (السعودية). وسيّروا معرضًا متنقلاً في المونوبولات العربية: القاهرة وتونس، عمان ودمشق قبل أن يتوجه إلى أوربا: مدريد وبون، واشنطن وسان دومنجو (الدومينيكان).

فنانون بلا وزارة

رغم حجم وكرم ما يبذل من ميزانية ضخمة لتنشيط الحركة التشكيلية، فلا يوجد في أي قطر خليجي صيغة لوزارة الثقافة التي نسختها الحكومات النهضوية المشرقية عن أوربا (النموذج المصري)، إذ إن مهمات هذه الوزارة اندمجت ضمن مسمّيات أخرى ترتبط بالمعارف (التربية)، أو الإعلام والتراث، على مثال معاهد التربية الفنية لإعداد مدرسي مادة «الرسم والأشغال» في المملكة العربية السعودية منذ الستينيات، تخرج فيها وعلّم في تأهيلها فنانون محترفون بمستوى أحمد يوسف جاها، تتوازى معها هيئة أكثر تخصّصًا هي «الرئاسة العامة لرعاية الشباب» التي تهتم بالمعارض الرسمية في الخارج والداخل، وقد انبثق عنها افتتاح مراسم تشجيعية في «قرية مفتاحة» المعتدلة المناخ في منطقة أبها جنوب المملكة. تستضيف الفنانين في مواسم الصيف بأجور رمزية، وكان أمير منطقة عسير خالد الفيصل أسّسها مجهزة باثني محترفًا مع صالات عرض ومكتبة وسوق شعبي ومحل لبيع مواد الرسم والتّصوير، كان ذلك عام 2001 على غرار مراسم أسوان.

أما «مركز الفنون» بجدة، فهو تابع لوزارة المعارف، يهدف إلى إقامة المعارض الشخصية والجماعية، كما أسست الدولة في المدينة نفسها «المركز السعودي للفنون التشكيلية». ثم تحالفت القطاعات العامة الرديفة مع هذه الخطة، لعل أبلغها «مسابقة ملون» السنوية بجوائزها الثمينة ومطبوعاتها الزاهية، والتي تغطيها شركة الطيران السعودية.

المرسم الحر

وفي الشارقة، تأسست منذ بداية السبعينيات جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، ثم انتشرت فروعها في باقي إمارات الدولة، كما تحولت صيغة «المرسم الشاب» 1980 في مسقط إلى «الجمعية العمانية لفن المعاصر الناشطة منذ تأسيسها عام 1993.

وتذكرنا صيغته بـ«المرسم الحر» في الكويت، هو البرزخ المتوسط بين صيغة الجمعيات الرسمية والأهلية الخاصة، تأسس أهليًا قبل الاستقلال، (نهاية عام 1959) في ضاحية عبدالله السالم، ولم يقو تأثيره حتى أصبح تحت إشراف وزارة الإعلام عام 1972، ارتبطت بنشاطه أسماء الرواد، من مثال خليفة قطان وسامي محمد، وعيسى الصقر وخزعل القفاص، ثم ثريا البقصمي التي أرّخت له في كتاب توثيقي مزيّن بصور بالغة الأهمية تحت عنوان: «المرسم الحر ورحلة الـ52 عامًا»، تعثر على نظيره «الرسمي - الأهلي» في الدوحة: «المركز الشبابي للإبداع الفني»، انبثق عن الهيئة العامة للشباب والرياضة وحافظ على طابعه التربوي الشعبي، ويشتمل على صالات عرض ومحترفات وصالات محاضرات وسواها. ويتزامن تاريخ تأسيس «جمعية الفن المعاصر» في البحرين مع نظيرتها الكويتية عام 1969م، قابلتها مبادرة أهلية عام 1974 بتأسيس «جمعية البحرين للفنون التشكيلية»، ملحق بمقرها صالة عرض ومحترفات للحفر والطباعة والنحت والسيراميك وسواها.

وقد تأخر تأسيس نظيرتها: «الجمعية القطرية للفنون التشكيلية» في الدوحة حتى عام 1980.

مبادرات أهلية في السعودية

ترجع أولى المبادرات الأهلية في المملكة العربية السعودية إلى الرائد محمد السليم الذي أنشأ في جدّة عام 1979م: «دار الفنون»، شهدنا بعدها تفريخًا خصبًا للجمعيات التشكيلية غير الرسمية، ابتداء من «بيت التشكيليين» في جدة عام 1993 وانتهاء بجماعة عشتروت في المنطقة الشرقية، والتي نهضت في القطيف بفضل علي الصفار والضامن وسنان وآخرين.

ينتسب الفنان والناقد عبدالرحمن سليمان إلى المنطقة نفسها، ويعود إليه فضل تأليف أول كتاب توثيقي جاد عن الفن التشكيلي في المملكة تحت عنوان: «مسيرة الفن التشكيلي السعودي»، طبعته الرئاسة العامة للشباب عام 2000 بمناسبة اختيار الرياض عاصمة للثقافة العربية.

ثم هناك جماعة «فنانو المدينة المنورة» (مغربل، سيام، خطاب)، تأسست عام 1981م. وجماعة «درب النّجا التشكيلية»، أسسها فنانو جيزان عام 1991م، ثم «مرسم الجمعية النسائية الخيرية» بالدمام، تأسست في بداية الثمانينيات ثم توقف نشاطها.

أما المرسم الشاب في مسقط، فقد تأسس عام 1980م، ثم تشكّلت فروعه وورشاته في بقية المدن العمانية. تتفوق بعض صالات العرض الخاصة أحيانًا على نظائرها المشرقية من ناحية الانتشار، وكثافة العروض وإمكان التسويق، على مثال روشان والعربية في جدّة، بوشهري في الكويت، «الرواق» في المنامة و«بيسان» أخيرًا في الدوحة وعشرات أخرى غيرها.

وقد حاول التشكيل الخليجي تعويض تأخيره النهضوي معتمدًا على أسباب الازدهار التي مرت معنا، وذلك بتأسيس متين لذاكرة متجذّرة بالخصائص التنزيهية (تمامًا كما فعل أقطاب الموسيقى). لدرجة قد تتفوّق فيه بعض التجارب الرائدة في عمقها الذاكراتي العرفاني أو التصوّفي على الشرق، ابتداءً من ناصر اليوسف، وانتهاء بشادية عالم مرورًا بمغربل وأيوب وجاها وجاسم الزيني. إن تبرؤ مستوى هؤلاء من الاجتياح الثقافي غطّى عورة تراخي تقاليد أصالة التصوير قبلهم، وهو ما أدى إلى تسارع التهاب الخطوات الحداثية، وما بعد الحداثية التالية بنوع من القفز دون مقدمات أو سياقات متمفصلة مع السابق أو اللاحق.

إن تخلّف النهضة الخليجية لا يقارن إلا بالتوثّب النهضوي الاستثنائي في دول المشرق العربي، وبالعكس، فإن ريادة الحداثة وما بعدها لا تشير إلا إلى ترهّل النسق الثقافي ومؤسساته في دول المواجهة.

إذا كان القسم الكبير من مغامرة الاندفاع الحداثي وما بعد الحداثي لا يخلو من المراهقة الاتباعية، فإنه يقفز فوق العطالة الاستهلاكية التي وصلت إليها المشاهد «الفولكلورية» وتعثرت بها سذاجة التعاويذ الحروفية. اتجه هذا التسارع من تقليد النموذج القومي النهضوي إلى طلائعه الغربية مباشرة، وذلك بتحديث الأدوات التعبيرية المحمولة من تيارات ما بعد السبعينيات في المونوبولات الأوربية والأمريكية. وذلك بالتحول من السطح التصويري وتقاليد لوحة الحامل (رمز النهضة) إلى وسائط الفيديو والإنشاءات المجهزة، وطقوس «البرفورمانس» والمفاهيمية، وإعادة بعث عبثية «الدادائية» الثانية دون المرور بالأولى ودون العبور من «المنماليزم» أو «التعبيرية المحدثة».

الفن الجديد

يتميّز المحترف الإماراتي المتمركز في الشارقة عن بقية محترفات الخليج بقوة حضور الاتجاه الحداثي منذ فترة التأسيس في السبعينيات، لعله التنازع بين تأثيرات الدراستين المتعارضتين: تقليدية النهضوية المصرية، وجنون ما بعد الحداثة في لندن، ففي الوقت الذي تحوّل فيه الرائد عبدالقادر الريس (من مواليد 1951) إلى الحروفية القدسيّة، تحول عبدالرحيم سالم (من مواليد 1955) من هياكله الشبحية المحاكة بتهشيرات تعبيرية قزحية خاصة، إلى مجموعة «الفن الجديد» ليختبر الإنشاءات المجهزة والتي ترفع الحدود بين النحت والتصوير، ثم عاود القطبان منهجيهما السابقين فكانت المحطتان عابرتين لحسن الحظ. أما الرائدة النهضوية الثالثة نجاة مكي (التي درست في مصر) فقد ظلت بمتانة عالمها الأنثوي الحسي في منجى من هذه الانعطافات الحادة، والعقائد التنظيرية التي قادت عبثيتها إلى بعض الثمرات أبرزها حق التحرّر الإبداعي الكامل خاصة بعد إقفال «مرسم المريجة» في الشارقة عام 1985، ذلك المرسم الذي جمع تجارب عبثية تصويرية (حسن شريف) وأدبية (نجوم الغانم)، وكان سبق هذا إقامتهم لـ«جماعة أقواس» التي اختفت في الثمانينيات. وكذلك معرض «سالب موجب» الذي ضمّ حسن شريف وحسين عبدالرحيم سالم والصمودعي، وأقيم في صالة «النادي الأهلي» بدبي. ثم غذت عروض دورات بينالي الشارقة هذا التوجه الحداثي.

يبدو كتاب «آلات حادة لصنع الفن» من أبرز الكتب الحداثية في الخيلج، وهو مجموعة شهادات حرّر أغلبها حسن الشريف وقدمها بنص تحليلي د.يوسف عيدابي، وقد عرض فيه خصائص تجارب كوكبة ما بعد الحداثة الإماراتية، قدم حسن الشريف تجارب زملائه ما بين 1983 و1995، وقد دعا عقيدتهم بـ«الفن الجديد» كترجمة موازية لـ«ما بعد الحداثة» في الغرب (منشورات بينالي الشارقة 1995).

يرجع فضل تأسيس هذا الاتجاه والتنظير لمعارضه إلى حسن شريف (من مواليد دبي 1952)، وذلك منذ عودته الدراسية من لندن في السبعينيات. يتميّز بروحه المتمردة على طريقة الثقافة الغربية، وما قصده بالأدوات الحادة، التي كان يستخدمها في أكوام لفافات الورق، التي كان يكدسها في المعارض ،يشير إلى أن في استخدامه السادي لإبرة ماكينة الخياطة ودرازة الورق بعدًا نفسيًا. بذلك كان يؤكد أن طقوس أداء العمل الفني هي التي تمثل غاية بحد ذاتها، فالتجربة الوجودية والوجدية التي تصاحبها، تمثل الإحساس العميق بالعبث والفناء، وحين أخذ يستبدل بهذه الثقافات أكواماً من الحبال ضمن أحوال متغيرة كان يهدف إلى تحريض المتفرج على إعادة طرح السؤال حول ما يعنيه الفن خارج سياق أداءاته النوعية. فإذا كان لا ينكر قوة تأثيره ومتانة ثقافته، فإن غربته تقع في أنه نقل رد فعل أصيلاً من بيئته الغربية إلى بيئة أخرى مازال فيها الفعل ناقصًا، أقصد أن سياق النهضة وفن الحامل واللوحة لم يستحوذا نضجهما العضوي والنوعي بعد. ومهما يكن من أمر فإن ما أثاره من جدل جاد كفيل بأن يعكس شهادة الاحتدام في هذا التسارع الذي ذكرته، كان أخوه حسني من أول المؤمنين بدعوته، فأخذ يعيد استثمار المستهلكات الطباعية، سليلة ملصقات الألماني شويترز باحثًا عن جمال من نوع آخر في سلة المهملات.

قصاصات ورق

لا نعثر في سياق المحترف الكويتي النهضوي منذ الخمسينيات على هاجس الحداثة المتسارعة. قد يرجع السبب إلى السمة الرمزية التي طبعت تاريخه، فضلاً عن متانة الطابع الأكاديمي في النحت.

اكتشف الناقد الفنان حميد خزعل مع ذلك استثناء هو تجربة الفنان المتميز زميله المرحوم أحمد عبدالرضا، فكان كتابه التحليلي عنه غاية في الأهميّة، تحت عنوان حداثي مثير: «السباحة في بحر من قصاصات الورق»، صدر بعناية طباعية خاصة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بمناسبة اختيار الكويت عاصمة الثقافة 2001.

والفنان عبدالرضا من خريجي معهد التربية الفنيّة الذي التحق به منذ عام 1965، ومعروف كممثّل مسرحي مرموق، وهنا ندرك سر أصول الرمزية في أعماله، والتي تشكّل الخيط الرهيف الذي يربطه بخصائص نهضوية المحترف، مثل التأكيد مثلاً على موضوع النافذة الرمزية، ولكنّها تتحول دومًا إلى مفردة تربيعيّة تشكّل الطرف الهندسي والبنائي في تشكيلاته التي انطلقت من ملصقات استهلاكية عبثية، دون أن تفقد روح التدمير والأداء البكر وما بعد الحداثي. ليس فقط من ناحية استبدال خامة الصباغة والفرشاة بأوراق الطباعة، بل بطريقة إخراج واختيار هذه الطباعات الاستهلاكية، وأنها نفس حساسية الواقعية أو التعبيرية المحدثة، التي تنطلق من الاستهلاكي المبتذل إلى طوباوية عبثية تشطح بتخييلها التشكيلي خارج عمارة الاستدلالات والأبعاد «السيميولوجية» للشكل. من هنا تبدو قيمة مواضيعه المفرقة في حداثتها: من الأرجوحة داخل العالم الحضري إلى لاعبي الشطرنج وسواهم. وبالرغم مما يوشّح ماضيه من الاهتمام بأهداب الأقاصيص الخرافية المحلية، فإن مزاجه الحلمي والمهندس دفعه خارج هذه الدائرة باتجاه عالم المدينة الصناعية المحدثة، والقائمة على أشلاء الماضي.

قطر ونشاط جارف

تتميّز كوكبة النهضة التشكيلية في الدوحة، (على محدودية عددها مقارنة بأقربائهم في البحرين)، بكثافة نشاطهم وعروضهم خاصّة في التظاهرات العربية ابتداء من بينالي القاهرة والإسكندرية وانتهاء ببينالي الشارقة والكويت، وتسيير المعارض المتنقلة المشتركة بينهم لعدة أشهر، ما بين الصالات الرسمية العربية، والتظاهرات الخارجية في أوربا وآسيا (مثل بينالي بنغلاديش). يكفي أن نطالع تعددية جوائز يوسف أحمد، وكثافة معارض علي حسن وأسفار حسن الملا وغانم وسواهم، حتى ندرك درجة شيوعهم وخروجهم عن العزلة الخليجية.

بالرغم من تطور تكوينات علي حسن برهافة ألوانه النادرة والتهامها لماضي حروفياته، وبالرغم من تطويقها بالهوامش الجريئة المزروعة بالإشارات العبثية، فقد حافظ على عقيدة لوحة الحامل وأدواتها، وقدسية السطح التصويرية، وتقاليد أداءاته وتنوع خاماته. يبدو زميله يوسف أحمد أشجع اقتحامًا لمواقع الحداثة وتجرؤًا على مبادئ اللوحة، تشارف تجريداته رفيف فنون الوهم البصري، ناهيك عن مخاطرات ملصقاته وربط اللوحة بالحبال من أجل تربيع الفراغ ولكن «المفاهيمية» لديه تظل في إسار الماهية المتأنية.

بالرغم من أن محترف سلطنة عمان يعتبر الأكثر تأخرًا في تاريخ نهوض النهضة التشكيلية فهو الأشد توثبًا وحماسًا في قطع شوط السباق باتجاه ما بعد الحداثة (على عصامية أغلب ممثليه).

لذلك فقد اصطبغ سياقه بحدة الانعطاف والانحراف المتسارع (وأحيانًا المتسرّع) تعويضًا عن تأخر ولادته.

يعكس محمد الفاضل وعبدالله الحنيني الجانب الإيجابي في تهوّرات هذا التسارع، فقد توصّل الفاضل بانقلابه المباغت من «الحروفية» إلى «التعبيرية المحدثة»، وذلك بتفجير مخزون عالمه الداخلي من الصور الأسطورية، التي تتوازى مع أصالة نحت أيوب ملنج، الذي درج على ممارسة نحت أحلامه بخشب التيك المباشر. تتميز تجريدات رشيد عبدالرحمن بالتدرجات العمودية القريبة من نوتة سلالم الأورج أو نظام الصواعد والنوازل أو المقرنصات.

سيتملكنا العجب عندما نكتشف أحد أبرز مؤسسي محترف عمان (منذ عام 1970 كما مر معنا)، مستبدلاً دون أدنى مقدمات بصيغة اللوحة الشاشة والفيديو، ومستبدلاً بالشاشة عرائس بشرية عملاقة متعلقة، لعلها الحالة الرمزية التي تكشف تطابق مساحة النّهضة المتأخرة مع ما بعد الحداثة المبكرة.

هُوَ الحَبِيبُ الذِّي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ لِكُلِّ هَوْلٍ مِنَ الأَهْوَالِ مُقْتَحِمِ
دَعَا إِلىَ اللهِ فَالْمُسْتَمْسِكُونَ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بِحَبْلٍ غَيْرِ مُنْفَصِمِ
فَاقَ النَبِيّينَ فيِ خَلْقٍ وَفيِ خُلُقٍ وَلَمْ يُدَانُوهُ فيِ عِلْمٍ وَلاَ كَرَمِ
وَكُلُّهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ مُلْتَمِسٌ غَرْفًا مِنَ البَحْرِ أَوْ رَشْفًا مِنَ الدِّيَمِ
وَوَاقِفُونَ لَدَيْهِ عِنْدَ حَدِّهِمِ مِنْ نُقْطَةِ العِلِمِ أَوْ مِنْ شَكْلَةِ الحِكَمِ


البوصيري

 

أسعد عرابي 




فيصل سمرة (السعودية)، مجموعة «جسد يحمل وثيقة» - عام 2001





شبك معدني، بلاستيك محروق، نبتة برية، خشب قياس 100 × 58 × 9 سم





تمثال هنري مور في كورنيش جدة (السعودية). برونز 1965





حسن مير (سلطان عمان)





ذاكرة الذكري عمل فيديو مركب عام 2000