أساطير «الماوري» وحكاياتهم الخرافية

أساطير «الماوري» وحكاياتهم الخرافية

صدر‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬عن‭ ‬مشروع‭ ‬اكلمةب‭ ‬للترجمة،‭ ‬التابع‭ ‬لهيئة‭ ‬أبوظبي‭ ‬للسياحة‭ ‬والثقافة،‭ ‬عام‭ ‬2014‭.  ‬وهو‭ ‬كتاب‭ ‬عن‭ ‬الأساطير‭ ‬والخرافات‭ ‬التي‭ ‬أنتجها‭ ‬شعب‭ ‬االماوريب‭. ‬وهو‭ ‬شعب‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬سبيله‭ ‬إلى‭ ‬الانقراض،‭ ‬مثلما‭ ‬حدث‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬الشعوب‭ ‬القديمة‭ - ‬كما‭ ‬للهنود‭ ‬الحمر‭ ‬مثلاً‭ - ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬زحف‭ ‬الحضارة‭ ‬الأوربية،‭ ‬التي‭ ‬ضاقت‭ ‬بها‭ ‬حدود‭ ‬قارتها‭ ‬الصغيرة،‭ ‬فقررت‭ ‬أن‭ ‬تغامر‭ ‬باستكشاف‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬البحار‭ ‬المحيطة‭ ‬بها‭.‬

من الناحية الجغرافية، يعيش شعب الماوري في الجزر المتفرقة المعروفة باسم جزر كوك، التي يربو عددها على ألف جزيرة، وتجتمع جغرافياً تحت اسم «مثلث بولينيزيا» الذي يضم جزراً كثيرة متفرقة، تشمل هاواي وتاهيتي ونيوزيلاندا وفيجي وساموا... إلخ. وهي تقع إلى جنوب شرقي قارة أستراليا. 

لكن من الناحية الأنثروبولوجية، لا توجد نظريات متسقة عن أصل شعب الماوري وكيفية وصوله إلى الجزر التي يقطنها. بل تتميز أغلب النظريات الحديثة المتعلقة بهذا الصدد بالتعقيد الشديد. وأغلبها يخمن حدوث نزوح لجماعات من سواحل تايوان لاستكشاف البحار جنوب تايوان، ثم عثورها على جزر بولينيزيا واتخاذها لها موطناً، على مراحل عدة، اعتماداً على مسافة ابتعاد كل جزيرة وصول جديدة عن سواحل تايوان. فهذه الجماعات لا تجتمع سوى في أصلها التايواني البعيد، وفي عشقها للسفر البعيد عبر المحيط. وهناك نظريات أخرى تؤكد استقلال هذه الشعوب عن الشعوب الأسترالية، اعتماداً على بعض الأدلة الأركيولوجية التي تقول باستقلال الشعوب الأسترالية عما تحتها من الشعوب التي تعيش إلى الشمال، وذلك استناداً إلى قدم الحضارات الأسترالية وتوغلها في التاريخ. لكن بشكل عام، لا يسع القارئ إلا أن يلاحظ التشابهات الكثيرة في المستوى الحضاري بين جميع السكان الأصليين لهذه المنطقة الجنوبية من كوكب الأرض، حتى بما يشمل سكان قارة أستراليا الأصليين. فلا نكاد نجد مبرراً واضحاً لأستراليا كي تحرص كل هذا الحرص على تأكيد تميزها الحضاري عن بقية الشعوب البولينيزية، وكأنها أعلى حضارة وأكثر تقدماً، وكأن الأمر يعنى بقياس حضارة المستعمر الأوربي في أستراليا، على حضارة السكان الأصليين في بولينيزيا، ولا يعنى بقياس حضارة السكان الأصليين في المنطقة ككل، الذين نلحظ فيهم اشتراكهم الواضح في انعدام الطفرات الحضارية أو الدينية أو الفكرية في تاريخهم. وبالتالي يدهشنا عدم تحقيقهم مستويات حضارية متفاوتة بشكل واضح. وتثبت أغلب الدراسات سبق وقِدَم الإنسان الأسترالي إلى ما يصل لنحو 60 ألف عام في التاريخ الماضي، بينما يقل تاريخ الإنسان البولينيزي عن الثلاثين ألف عام في التاريخ الماضي، وفي بعض التقديرات لا يزيد على ألفي عام، وهذا فارق كبير، ويفتح الباب لنظريات أخرى قد تعتبر سكان بولينيزيا نازحين من بين سكان أستراليا. 

وتقوم دراسات النسب الإثنية على ملاحظة المشترك والمختلف بين الشعوب في تشكيل الأدوات وفي فونيمات اللغات وفي تركيب الجينات. وبشكل عام، هناك من يرفض مفهوم «العنصر الإثني» race بشكل تام، لكونه يتحمل بحمولات عنصرية عاناها الغرب أثناء نازية ألمانيا الهتلرية التي لا تزال ذكرى حية في أذهان الغربيين.

 

الاستيطان‭ ‬الغربي‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬الأستروآسيوية

لا يمتلك شعب الماوري، تاريخاً «موثقاً» مديداً، فلا تكاد تجد له ذكراً إلا بعد مرور قرون عدة من التاريخ الميلادي الحالي. كما لا يكاد عدد الأحياء منهم يتجاوز المليون نسمة حالياً.

إن شعوب هذه المنطقة من العالم يمثلون نموذجاً دالاً للغاية على مخاطر الثبات والاستقرار الاجتماعي والثقافي، حين يتطرف إلى درجة شديدة من السكونية والقصور، بما يقعد أصحابه عن امتلاك الرغبة في التقدم والتطور والتغيير، فيكون مصيرهم الحتمي هو الانقراض، بعد أن يصطدموا بحضارة أخرى أشد تقدماً وأكثر رغبة في التغيير والتطور، كالحضارة الأوربية. وتلك هي النظرية التي قال بها تشارلز داروين عندما سمع بمقاومة شعوب بولينيزيا - والماوري من
ضمنهم - لزحف الحضارة الأوربية على حدودهم برغم البحار التي تفصل بينهما.

فمنذ اكتشف الرحالة البريطاني جيمس كوك الجزر البولينيزية ونيوزيلاندا وأجزاء من أستراليا، في حدود العقد السابع من القرن الثامن عشر، وتحديداً بعد عام 1770 ميلادية، قررت بريطانيا وبعض الدول الأوربية تحويل هذه الأراضي إلى أماكن لتنفيذ أحكام النفي والسجن على بعض مواطنيها الأوربيين من المجرمين المدانين. وبهذا تم تحويل أغلب نطاق هذه الجزر إلى سجون تابعة للإمبراطورية البريطانية، وكأنها كانت تريد أن ترسل مجرميها إلى تلك النقطة من الأرض التي تغرب عندها الشمس، لتؤكد مقولة أن الشمس لا تغرب عن حدود الإمبراطورية البريطانية،  فحتى في أقصى الغرب سيوجد أيضاً بعض البريطانيين.

منذ هذا التاريخ، تحولت هذه المناطق النائية إلى مستعمرات أوربية عقابية الطابع. وكان من الطبيعي أن تتطلب السجون والمؤسسات العقابية - بصفتها نمطاً من المؤسسات في حد ذاته - إنشاء خدمات ومؤسسات أخرى تابعة لها، وهكذا بدأ زحف الحضارة الأوربية على هذه الأراضي البعيدة.

 

أهمية‭ ‬الكتاب

لا يخوض الكتاب الحالي في أي من هذه التفاصيل التي ذكرناها، بل يحصر نطاقه فقط في سرد الأساطير والخرافات الخاصة بشعوب الماوري حصرياً، من دون أن يمنح القارئ العربي العادي أي لمحة تعينه على تمييز تعقد وتلاقح الثقافات في هذه المنطقة، ومدى تداخل تواريخ نشوئها واستمرارها ومآلاتها. ويمكن تفسير هذا النقص في الكتاب، بأنه في الأصل موجه بشكل محدد إلى سكان نيوزيلاندا وبقية المناطق البولينيزية وأستراليا، حيث تعد هذه التفصيلات مفهومة وبديهية للقراء القاطنين هناك. بينما هي ليست كذلك بالنسبة إلى القارئ العربي. 

ذلك أن المؤلف الأصلي للكتاب وهو ألكساندر ويكليف ريد (1908 – 1979) نيوزيلاندي الجنسية عاشق لمهنة تأليف الكتب والنشر، وتدور جميع كتبه التي تربو على عشرة حول أساطير «الماوري» والبولينيزيين والسكان الأصليين لأستراليا وعاداتهم وتقاليدهم. وقد طبع الكتاب مرات عدة، منذ صدوره في 1946، لكنه لم يترجم إلى «العربية» إلا في عام 2014.

لكن لا يمكننا أن نلوم المترجم على عدم كتابته مقدمة وافية تتطرق لهذه الأمور في مدخل ترجمته، فقد اقتصر على ذات قصد مؤلف الكتاب من التوجه إلى نوعية محددة من القراء، من دون أن يتفضل بتقريب موضوع الكتاب إلى قارئه العربي الجديد. فلو ظن أحد أن هذا تقصير من المترجم، فهو تقصير في النوافل التحسينية، لا في الفرائض الأساسية. ذلك أن اللغة العربية الرائقة والسهلة التي استطاع بها المترجم تحويل هذا الكتاب من لغته الإنجليزية الأصلية إلى لغته المترجمة الجديدة بحيث يستطيبها قارئ لغة الضاد، هو أمر يكفي المترجم، بحيث نحمد له أداء الفرض الأساس في الترجمة، حتى ولو أنجز تلك الترجمة من دون أداء نافلة تقدمة الكتاب لقارئه الجديد.

فهذا كتاب يمكن تصنيفه بطرق عديدة. فيمكن اعتباره كتاباً في علم الأنثروبولوجيا، لولا أن لغة الكتاب سهلة للغاية، بما يجعل قارئه يستبعد إدراجه في أي مجال له علاقة بالعلوم التي تتميز بالرصانة الأكاديمية المعتادة. لذا فلا غرابة أن نجد كثيرين يصنفون هذا الكتاب ضمن كتب الأطفال، نتيجة سهولة لغته. بل إن هذا الكتاب حاز بالفعل جائزة باعتباره أحد أفضل كتب الأطفال، وذلك في عام 1974، وهي ميدالية «إيستر جلين» لكتب الأطفال. وهذا أمر قد يضطرب له قارئ العربية. لكن اضطرابه قد يزول لو عرف أن قضية «السكان الأصليين» – المعروفين بالإنجليزية بـ «الأب أوريجينز» – هي قضية ساخنة للغاية في تلك المنطقة البعيدة من العالم، بحيث إن تلك الكتب التي تعيد استكشاف الأساطير والخرافات الخاصة بثقافة السكان الأصليين هي كتب تقع محل تقدير شديد من القراء هناك. وذلك لأنها تدور في فلك إعادة الاعتبار إلى تلك الثقافات التي عانى أصحابها معاناة شديدة من وطأة الاحتلال الاستيطاني الغربي لبلدانها.

وهذا الإطار المسيس الذي أصبح يلقي بظلاله الكثيفة على مناشط الحياة كافة في تلك المنطقة البعيدة من العالم، أضحى يمس علوم الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا ويتسلل إلى علوم الحكم والإدارة والسياسة، وهو يحض على ممارسة التسامح بشكل واضح مع هكذا محاولات لإعادة إحياء واستكشاف هذه الأساطير والخرافات القديمة، دون أن يتوجس منها، كما قد يتوجس القارئ العادي، لكونها تعبر عن ثقافة تخص ماضياً سحيقاً بصدد الانقراض والزوال. فهناك تعمد واضح للاحتفاء بهذه الأمور، باعتبارها من قبيل احترام ثقافة الغير والخوض الموجوب في حقيقة التمايز بين البشر، وبخاصة بعد أن باتت هذه الشعوب في حكم المقهورة قهراً مبرماً، حيث لم يعد هناك خطر من النظر في ثقافتها. بل أضحى كما النظر في فولكلوريات قديمة أصبحت محلاً للتندر والدهشة، دون أن تصبح محلاً للاقتناع أو التبني. وهذا هو الإطار أو الجو الفكري الصحيح الذي نحسبه يليق بهذا الكتاب، بعيداً عما نشهده من تحفظ بعض القراء ضد كل ما قد يحمل كلمة أسطورة أو خرافة، باعتبارها صارت تلمح إلى مسائل لم يعد يليق بعقولنا المعاصرة الخوض فيها.

يتكون الكتاب من 26 فصلاً قصيراً، تقع بمجملها في حوالي 354 صفحة من القطع المتوسط، ويضم حوالي 40 رسماً توضيحياً لطيفاً تصور بعض المواقف القصصية المعبرة بالأبيض والأسود.

ندلف إلى أساطير الكتاب، فنشهد حرص شعب الماوري على البدء من نقطة بدء البشرية، فهم يرون أنفسهم يتحدرون من إنسانهم الأول المسمى «ماوي»، الذي نجم عن تزاوج الأرض والسماء، في التاريخ البعيد قبل نشوء البشر. فنلمح هنا نظرتهم التأنيسية «الأنثروبومورفية» للأرض والسماء، وكأنها تتصرف كالإنسان، فتقرر التزاوج مثله، بل وتنجب أطفالاً. وهذه النظرة تسري في كثير من أساطير الشعوب القديمة، التي تحرص على أن تعتبر نفسها أصلاً للكون، ونقطة بدء له.

 

‮«‬ماوي‮»‬‭ ‬أبو‭ ‬‮«‬الماوري‮»‬

تتميز شخصية «ماوي» – أبو الماوري - بحب المغامرة وكثير من شقاوة الأطفال الصغار. وتفسير ذلك قد نجده في أحداث حياته - الأسطورية بالطبع – التي يقدمها الكتاب في شكل قصص سريعة ومثيرة. وهو يشبه أغلب الشخصيات العظيمة في أغلب الثقافات. فهو الذي يسرق النار التي تفيد البشر فيما بعد. وهو الذي تلقيه أمه في البحر، لكنه لا يموت، بل يحيا في بيئة جديدة، ثم يقرر، بعد أن يشتد عوده، أن يعود إلى بيت أمه (الأرض) وسط إخوته، ليبدأ مغامراته البشرية ويشكل تاريخ شعب الماوري بإنجازاته الشقية والشائقة. وهو الذي يصطاد الشمس بالحبال القوية ليجعلها تستمر في الشروق فترة أطول ليمنح إخوته وأهله الدفء وينهي برودة الشتاء.

وقد برع المؤلف ريد أيما براعة في سرد هذه القصص الأسطورية بأسلوب يجمع بين الهدوء والإثارة والسرعة، فلا تكاد تشعر بانقطاعات في سلاسة وسريان الأسلوب السردي الطريف. 

ولو قيض لنا أن ندوّن بعض الملاحظات السريعة عن هذه القصص - أو الأساطير والخرافات - لوجدنا فيها ما يلي: 

< درجة أعلى من المتوسط في حدة الصراع والعدائية بين الأبطال وبين الطبيعة وبين غيرهم من الناس، بل حتى بين بعض الإخوة. 

< درجة أعلى من المعتاد في جرأة الأبطال الذكور ومبادرتهم إلى العمل والسفر والحركة. حيث تعلو أهمية عنصر الحركة والمبادرة دوماً على أهمية التفكير والتعقل والتدبر. 

< درجة أعلى من المتوسط في ضعف النساء وتعرضهن للخطف والسبي وممارسة السحر بفعل تعرضهن لقوى الجن والعفاريت بشكل أكبر من الذكور.

< درجة أعلى من المتوسط في فاعلية قوى الطبيعة والحيوانات والطيور والأسماك والألوان.

وربما تعبر هذه الملاحظات عن طبيعة زخم وازدحام الحياة الطبيعية في بيئة الماوري بتعقد شديد التشابك من العناصر اللافتة، كما تعبر عن شدة حساسية شعب الماوري الأصليين لكل ما يحيط بهم من طبيعة ثرية في جميع عناصرها بما في ذلك حتى العناصر اللونية، وتلك مسائل قد تحتاج إلى بحث أعمق .