رواية «رام الله الشقراء» سيرة ذاتية لمدينة مبتورة

رواية «رام الله الشقراء» سيرة ذاتية لمدينة مبتورة

الرواية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬حاضرة‭ ‬بقوة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجنس‭ ‬الأدبي‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬العربي‭. ‬ويمر‭ ‬الإسهام‭ ‬الفلسطيني‭ ‬بالرواية‭ ‬العربية‭ ‬عبر‭ ‬أسماء‭ ‬معروفة،‭ ‬منها‭: ‬غسان‭ ‬كنفاني،‭ ‬جبرا‭ ‬إبراهيم‭ ‬جبرا،‭ ‬إميل‭ ‬حبيبي،‭ ‬إبراهيم‭ ‬نصرالله‭ ‬وغيرهم،‭ ‬وسيظل‭ ‬الإسهام‭ ‬قائماً‭ ‬ومستمراً‭ ‬طالما‭ ‬بقيت‭ ‬الرواية‭ ‬وطالما‭ ‬بقي‭ ‬الإبداع‭ ‬الروائي‭ ‬سالكاً‭.‬

قرأت رواية «رام الله الشقراء» (1) بعمق واهتمام بتحريض لا يمكن تجاهله من المصيدة التي هيأها الكاتب الفلسطيني عبّاد يحيى منذ السطر الأول حين بدأ الرواية بأسلوب التنكير: «كانت أفضل طريقة للتعرّف على «الرجل» هي مراقبة أبناء «المخيم» وبناته ...». 

هناك «رجل» وهناك «مخيم» ستأتي الرواية لاحقاً إلى الكشف عنهما، وما على القارئ سوى الاستمرار في مشاركة الكاتب في اللعبة الفنية التي تحتاج إلى تواطؤ بين الكاتب والقارئ كي يكتمل فعل القراءة، وكي يغادر القارئ بعد ذلك فعل القراءة إلى الفعل النقدي، مهما تكن وجهة النقد، نحو الرفض أو القبول، الاستياء أو الإعجاب. وبالنسبة إليّ، استولت الرواية على إعجابي، واستحوذ العمل الروائي على مساحة واسعة من قناعاتي السياسية التي استهدَفها النص الروائي بالدرجة الأولى، وهو نصٌ سياسي مفتوح على جرح فلسطين الدامي.

 

أدب‭ ‬سياسي‭ ‬من‭ ‬الألف‭ ‬إلى‭ ‬الياء

آخر روايتين قرأتهما باللغة العربية هذه الأيام كانتا غارقتين بالسياسة، وطافحتين بالشكوى الفكرية والمعرفية والثقافية من أوضاعٍ سياسية غارقة بالبؤس. الأولى «الرياض - نوفمبر90» للكاتب السعودي سعد الدوسري، والثانية «عدَّاء الطائرة الورقية» للكاتب الأمريكي من أصول أفغانية خالد حسيني. 

 رواية «فرانكشتاين في بغداد» للعراقي أحمد سعداوي الذي تناول الإعلام العربي نبأ فوز روايته بجائزة البوكر كأفضل عمل روائي نُشر خلال عام 2013، واختيرت روايته في أواخر أبريل 2014 من بين 156 رواية مرشحة تتوزع على 18 بلداً عربياً. تبدأ حروفها الأولى كما يلي: «تقرير نهائي – سرّي للغاية – أولاً: بشأن عمل «دائرة المتابعة والتعقيب» المرتبطة جزئياً بالإدارة المدنية لقوات الائتلاف الدولي في العراق...». إذن، ومنذ الحرف الأول نحن أمام «مانشيت» صحفي سياسي، وليس أمام تخييل روائي. 

بهذه الأمثلة، يمكننا التكهّن بأن أمور السياسة تتسرب إلى النسيج الروائي الأدبي لتعطي الرواية مذاقها الذي يتمركز حوله إقبال القارئ، طالما أن السياسة هي الموئل والإطار الناظم لحياة البشر، ومن هنا سيكون مدخلي إلى رواية «رام الله الشقراء».

 

دفاعاً‭ ‬عن‭ ‬الهوية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬ضد‭ ‬

‮«‬التغريب‮»‬‭ ‬و«الأسرلة‮»‬

يصلح هذا العنوان الفرعـــي لأن يكون خلاصة لرواية «رام الله الشقراء» بكلمات معدودات. 

والروايـــــة تشكــــل جــــرس إنذار متــــقدم لأمـــور خطيرة تحدث فــــي الأماكن الظليـــلة البعيدة عن الأنظار في مدينة رام الله، وخصوصاً في الفضاء الثقافي: المسرح، السينما، الصحافة، المنابر الإعلامية، الجامعة، والمحاولة الناعمة التي لجأ إليها رعاة «أوسلو» الغربيون، وبالخفاء من ورائهم الإسرائيليون، بهدف اغتيال الروح الفلسطينية وإعاقة جوهرها عن كل إمكان للتفتح والإفصاح عن الذات.

يتكئ الشكل السردي في رواية «رام الله...» على رسائل إلكترونية مُتبادلة بين صحفي شاب فلسطيني يساري مثــقــــف، وفــــتاة تعـــمل في معهد صحــــي تابــــع لجامعة «بير زيت» (38 رسالة يتقاسمها الشاب والفتاة بالعدل والقسطاس، غير متناوبة، إذ قد يكتب أحدهما رسالتين متتاليتين، وهناك 13 عنواناً فرعياً له علاقة بمضمون كل بضع رسائل، وللعناوين دلالات لا تخفى على عابر: تأبين جوليانو، غزوات ناعمة، الولادة من جديد، على يسار المارينز ...). 

 يعتبر تبادل الرسائل بين شخصيتين أو أكثر في السياق الروائي «تقنية سردية» مألوفة منذ زمن بعيد في كل المراحل التي عبرتها الرواية في تاريخها الطويل. وهذه التقنية تسمح بوجود راويين يتناوبان على السرد، وتسمح أيضاً بتجاور وجهتي نظر حيال واقعة أو حدث واحد، ما يجعل مساحة الرؤية الروائية أوسع، وتسمح أيضا بكسر حدّة الرتابة وتضفي التقنية عنصر التشويق على العمل، وهذه الأمور تحققت بأوضح معانيها في رواية «رام الله..».

يكتب الناقد عبده وازن في تناوله لرواية «ص. ب: 1003» للقاص والروائي سلطان العميمي، الذي يلجأ إلى لعبة تبادل الرسائل كإطار سردي لروايته: «هذا العنوان الذي يبدو مجرد رقم لصندوق بريد يخفي وراءه عالماً هو عالم البريد نفسه وما يتفرع عنه من عناصر جعلها الروائي والقاص الإماراتي سردية بامتياز، منذ أن وظّفها في صميم لعبته الروائية القائمة على التخييل والفانتازيا الفريدة. أما اللعبة هذه فعمادها تبادل الرسائل أو المراسلة في بعدها السردي ووظيفتها البنيوية. ولعل ما يلفت هنا كثيراً هو عودة الروائي إلى هذا الضرب من المراسلة الذي ألغاه أو كاد يلغيه زمن الإنترنت...». 

انتهى زمن البـــريد فعـــلاً، ولكــن زمن الإنترنت حاضر بقوة في روايـــة عبَّاد يحيى، وزمن العولمة حاضر، وكذلك تحضـــر مــــعه، قبله وبعده، قائمة طويلة تمتلئ خاناتــــها بمفردات البلاء الذي يحاصــــرنا: الجهــــل، الفساد، الفقر، الكسل... إلخ.

 

ظلال‭ ‬المأساة‭ ‬الحكائية

من قراءة هذه العشرات من الرسائل التي يتبادلها الشاب الفلسطيني المثقف الذي لا نعرف، ولن نعرف اسمه، مع الفتاة التي ستظل مجهولة الاسم في الرواية أيضاً، وكأن الكاتب يتقصَّد الإيهام بأن هذين الشخصين هما أي فلسطيني أو فلسطينية محتملين يتكاتبان. ويفصح عبَّاد يحيى عن ذلك بالإهداء أو بالفاتحة: «أحياناً يكفي أن تضغط Print Out على أرشيف مراسلاتك في فيسبوك لتكون لديك «رواية» ما». ومن قراءة أرشيف عبَّاد يحيى المُضمر في وعيه، والمتجسّد عبر التخييل، نفهم الثيمة الحكائية المركبة والمتعددة الجوانب.

«رام الله» التي رآها مريد البرغوثي وكتب عنها روايته الساحرة «رأيت رام الله» بعد أن عانى عذاب الغياب عنها 30 عاماً، مختلفة جداً عن «رام الله» التي يراها اليوم عبَّاد يحيى الذي لا أظن أنه غادرها يوماً «يقول الكاتب عنها: «لم نعرف سواها وربما لن نعرف سواها» (ص 126)، وكتب عنها «رام الله الشقراء» ووصمها بعار الغزو المعلن والسرّي للونها الأصيل الأسمر المتماهي مع لون الحنطة، وانزياحها نحو الفخ الأشقر ودلالة هذا اللون وارتباطه بالغرب. 

مدينة «البرغوثي» تغفو في أحضان الأهل الطيبين النشامى، وحين وقف على مشارفها كتب في روايته عنها: «هذه هي خطواتي عليها، ها أنا أسير نحو أرض القصيدة: زائراً؟ عائداً؟ لاجئاً؟ مواطناً؟ ضيفاً؟ لا أدري! أهي لحظةٌ سياسية؟ أم عاطفية؟ أم اجتماعية؟ ... لحظة واقعية؟ سريالية؟... لحظة جسدية؟ أم ذهنية؟»، فهي موطن الذاكرة المنهوبة من قبل الإسرائيلي، وعلى وشك أن تستعيد صورتها المُصادَرَة عبر إعادة اكتشاف قسمات وجهها الأليف الذي يحبه البرغوثي.

 مدينة عبَّاد يحيى التي يعايشها ككاتب روائي (هو في حقيقة الأمر والحياة المهنية يعمل كباحث في علم الاجتماع) مدينة منكوبة وتتعرض للاغتصاب الاجتماعي والأخلاقي والسياسي. مدينة مفخّخة ومسكونة بالهشاشة. الخلاصة أن الروايات تُجْمِع على أنّه يقيم علاقات غير مشروعة (ص 19) والعادات الدخيلة «شربَ ما تبقى في العلبة التنكيّة فلا ماء في البيت ليشرب» (ص49)، وشوارعها وأمكنتها العامة مكشوفة بالكامل أمام عدسات الكاميرات التي ترصد وتراقب الفلسطينيين: «من يصدق أن هذا يجري في شوارع كانت تعطّل فيها الإنارة ليلاً حتّى يتحرك أفراد الفصائل دون أيّ رقابة؟» (ص 25). وفيها «كل شيء قابل للمساومة» (ص31). والناس ضحايا اكتئاب غير مبرر «الناس هنا منكسرون فلا يفكرون في رفع أعناقهم» (ص 38). و«رام الله» تتحول إلى مختبر لتجريب النظريات، ويتحول فيها الفلسطيني إلى فأر تجارب، وتنسلخ من إرث خبزها وزيتونها إلى بدعة الهلاليات (الكرواسان)، ويتحول اقتصادها إلى اقتناص المستثمرين وأموالهم الطائلة غير المُنتِجة، وغالباً ما تُسترجع بوسائل غير مفهومة «نحن نقطة متقدمة في حلقة الارتزاق، مركز أطراف، بلغة التنمية» (ص 103). بكلمات وكما تكتب الفتاة في آخر رسالة لها، وهي خاتمة الرواية: «رام الله مبتورة وكل ما فيها مبتور» (ص 126).

 

الواقعية‭ ‬الخيالية‭ ‬

يصف الروائي والناقد الفلسطيني محمد الأسعد هذا النص كما جاء على الغلاف الأخير بالواقعية الخيالية، على خطى الواقعية السحرية التي وصف النقاد بها كتابات غارثيا ماركيز، فما المقصود؟ 

هناك وقائع وأحداث ينبني عالم عبّاد يحيى الروائي من خلال تفصيلاتها وحيثياتها. على سبيل المثال: 

- مهرجان رام الله للرقص المعاصر.

- واقعة هدم استديو «فينوس» للتصوير لصاحبه أبوعفيف الأرمني وبيع تجهيزاته التاريخية النادرة كخردة بهدف تحويله إلى محمص لبيع المكسرات والتسالي.

- حكاية اختيار الشباب الفلسطيني لتدريبهم عبر دورة تشرف عليها مدرّبة وخبيرة إيطالية في فيزياء الحركة.

- حشد من أسماء مشاريع وهيئات ومؤسسات ووكالات رسمية وأهلية وأكاديميات ورعاة ومانحين وممولين لاقتراحات تنمية اجتماعية وفنية «إنفاق 3 ملايين دولار لاستحضار لوحة لبيكاسو وعرضها في رام الله تحت عنوان بيكاسو في فلسطين بموافقة إسرائيل وتغطية من شركات التأمين عندها، في حين ترفض إسرائيل دخول تشومسكي لإلقاء محاضرة في رام الله!».

في تفسيري الخاص للواقعية الخيالية هذه، والتوصيف ليس لي كما أشرت آنفاً، يجوز أن تكون نقلاً حرْفياً دقيقاً عن الواقع، أو تخييلاً يقبله المنطق السليم وانضواء سمات واقعية في تلافيفه، أو مزيجاً من هذه وتلك. وهذه التركيبة تمنح النص حيوية وتضع القارئ في متاهة التخمين ومتعة التساؤل والتفكير، وأعترف بأن الكاتب قد نجح في ذلك.

من جانب آخر، هناك قائمة طويلة لأسماء أجنبية حقيقية، غير الشخصيات الوهمية العربية والأجنبية التي تشكل الواجهة الإنسانية لأفكار الروائي، يرد ذكرها في النص، إما بشكل عابر، أو بتناول إطار علاقتها بالواقع الفلسطيني السياسي بكلمات، ومن هذه الأسماء: جوليانو مير خميس، فيتورو أريغوني، راشيل كوري (كل هؤلاء قُتلوا أو اغتيلوا)، سلوفوي جيجك. يشكل هؤلاء الخلفية الإنسانية، والدوليّة، لذاكرة التشابك الفلسطيني - الإسرائيلي العالمي. ويعزز هذا الجانب قيمة ومقدار الوزن المعرفي والثقافي للرواية الصغيرة بحجمها، وهو تعويض يرضي القارئ بلا شك.

 

خاتمة

لرسم مناخ الـــرواية الفكــــري والسياسي، وهي المكتــوبة بلغة أدبية، سأكتـــفي بانتقـــاءٍ مقصــــود لجملٍ ومفردات من النص، وما عليكم سوى وضع خطـــوط وهمــية بينها لتظــــهر صورة الرواية واضحة الدلالات:

تحويل المقاومين إلى ممثلين – سقف الحرية لا يعرف استقراراً، هو في انخفاض دائم – لا أقف للنشيد الذي يُعزف قبل كل كبيرة وصغيرة، واليوم لم أقف لنشيدنا العظيم – آه يا زمن الانكشاف! – ينكسر الحاجز، وقد تذوب المخاوف حول أمور عدة – الوطنية الملتزمة المثقفة تفكر في العمل مع المارينز – الفلسطينيون حملة الـ«جرين كارد» حاضرون بقوة – بين كل ثلاثة أجانب في رام الله، أربعة إسرائيليين – سنظل في هذه الدوامة : أجانب/إيدز/موساد/رام الله/ثقافة – كل مشاريع الدول المانحة هنا هي محض تدوير أموال – الارتزاق يجعل القتلة المأجورين مشروعاً مقبولاً – إذا لم تفلح في تطويع الإنسان وتحويله إلى مستسلم خانع، فعليك بتطويع المكان أو الفضاء ليغدو مستسلماً خانعاً – هناك مؤامرة لإغراق الشعب بالشاورما – السّلطة كلّها مَديْنَةً للبنك العربي – سنذهب نحن أبناء أوسلو... لنعلم أبناء الثورة في تونس كيف يشاركون سياسياً!.. لدينا ما نقوله لإخوة البوعزيزي! – كدت أنسى أنّ أريحا «أولى المدن المحرَّرة» تحتضن قاعدة عسكرية للجيش الأمريكي لا يعلم الفلسطينيون عنها أيّ شيء – التجزئة خيار الخائفين من الإخلال بالتسامح الإسلامي - المسيحي في رام الله – في رام الله نكتفي من الأشياء بأسمائها.

إذن، كل شيء في الرواية يُحيل إلى هذا المناخ السياسي الثقيل والهموم الإنسانية الواسعة. وكأن الكاتب عبّاد يحيى يضع خلاصه الفردي، وخلاص شعبه، في رهانٍ مع ضرورات التغيير، وكذلك يكشف عن خليط وطني غير مفهوم من الأحلام والأوهام والأدلجة الزائفة، ويترك للقارئ العربي رواية ذات قيمة فكرية وأدبية جادّة ورصينة، تَعِد بأن هذا الكاتب الفلسطيني الشاب يبحث لنفسه عن مكان لائق في قائمة الروائيين الفلسطينيين .