معيار القراءة واستنهاض الأمّة... سبيل الاعتدال بين النقل والعقل

معيار القراءة واستنهاض الأمّة...  سبيل الاعتدال بين النقل والعقل

أمّة «اقرأ» لم تَعُد تقرأ... ولا تتعلم بالقَلَم، ولا تكتب على الورق... وصار الكاتب ناسخاً طابعاً، والمعلم جاهلاً بما يُعَلمه لتلاميذه في إطار منهج متأخر لا يتوافق مع الواقع، ولا يَقْرب من فهم الحقيقة. يُحكى أنْ جاء وجيهٌ إلى أحد العلماء مفتخراً بابنه الذي حفظ صحيح البخاري عن ظهر غيب، فأجابه العالم: إنما زادت نُسَخ صحيح البخاري نُسْخة. فالحفظ شيء والفهم شيء آخر... فياليت قومي يفهمون.

أمّة «القرآن» تعامل كِتابها المحفوظ على أنّه «كلام الله الأزلي القديم» فقط، ولأنّه مُعجِزٌ في لغته ومعانيه أخذوا منه، رجماً بالغيب، ما يشفي القلوب التي في الصدور، وما يملأ الحسّ والنفس والروح والشعور باليقين، وظنوا ظنّ السامري في زمن النبي موسى عندما سَوَّلَت إليه نفسه فأخذ من «أثر الرسول» {ليضلَّ قومه} (سورة طه- الآية: 96)، فنرى إعلانات في الصحف والمجلات ووسائل التواصل الاجتماعي، وربما هناك قنوات فضائية خاصة، لأولئك المعالجين بالقرآن وما يسمونه «الرُقْيَة الشرعية»، يعالجون بها الناس من العَيْن والحَسَد، ويطردون عنهم الجنّ والشياطين التي مسّت أجسادهم، ألا ساء ما يفعلون.
استند العامة والبسطاء إلى فهم خاطئ لنصوص شرعية من الكتاب والسنّة في تعريف معنى «العَيْن»، فظنوا خطأً أنّ ما جاء في سورة الفلق: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدْ}، دلالة على أنّ المقصود بذلك «العَيُّون»، صاحب العين الحاسدة، وليعلم هؤلاء بأنّ ليس هناك عين حاسدة ولا عين راضية، فهي إما مبصرة وإما غير مبصرة. ثم استدلوا بالأحاديث الشريفة، مثل: «العين حقّ»، فقيل لهم: «المقصود بالعين هنا «عَيْن المِلكيّة» فالعين التي تملكها حقٌّ لك». وقالوا: «ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين»، فقيل لهم: إنّ سرعة إبصار العين تصل إلى السماء بلحظة، وهذا معنى السَبْق في الحديث الشريف. وقالوا: وهذا دعاء الرسول [: «أعوذ بكلمات الله التامة من كلّ شيطان وهامّة ومن كلّ عيْنٍ لامّة»، فقيل لهم: إنما «العين اللامّة» هي تلك العين التي تتجسس على عورات الناس، وتركز على «اللمم» وهو صغائر الخطايا.
إنّ الجهل باللغة يفشي الجهل بالعلوم الأخرى، وجهلنا باللغة يجعلنا دائماً خائفين ومترددين من فهمنا لمقاصد الكَلِم ومعاني العبارات، حتى وصل بنا الأمر إلى أن نعيش حياتنا الفكرية تحت رحمة الشارحين والمُعرّفين والمفسّرين، فأدمنا الاتكال في التفكير، لنصبح تُبّعاً، ولنكون في درك أسفل في سلّم الإدراك والتقدم والإبداع. وليخرج علينا من يُعلمنا كيف نفكر وكيف نتذكر، وكيف نحفظ وكيف نطوّر عقولنا... ويتمادى في ذلك، ليعطينا تمارين يومية تساعد على التذكر والتفكر والاستيعاب. وهذا ما لاحظناه في الدورات التدريبية ذات المخرجات المستنسخة من أصل واحد، التي تولّد لنا ما هو أقرب إلى الآلة منه إلى الإنسان.
ومما أثار أهل السنّة والجماعة على أبي بكر الرازي أنّه كان يرفض «العلاج الروحاني» أو ما يُسمى بالطب النبوي، فلم يكن سيدنا محمد [ في نظره طبيبا، ولم يكن الطبّ من معجزاته. والحقيقة أنّ الرازي لم يصرّح أبدا بانتقاد «الطب النبوي»، ولكنه انتقد الأطباء غير الأكفاء الذين يقومون بخداع العامة لإظهار القيمة الدينية في معالجة الأمراض، والإصرار على رفض الطب «العلمي» لكونه من ابتداع الكفرة، كجالينوس وأبقراط. إنّ ما يسميه هؤلاء بالطب النبوي، إنّما هو في حقيقته تلك الممارسات العلاجية المستخدمة في فترة ما قبل الإسلام وامتدت إلى عصر الرسول [، كالفصد والكيّ والحمية الغذائية من آلام الجهاز الهضمي، واستخدام بعض الأعشاب والحبوب كأدوية مفردة تساعد على تسكين الأوجاع، كالحبّة السوداء، أو المركبات البسيطة كالتمر أو العسل. وقد أكد أبوبكر الرازي أنّ عامة الناس لا يمكنهم أن يستوعبوا إلا النصّ الحرفي الظاهر، أما مقاصد النصوص، تفسيراً أو تأويلاً، فهي أعمق في الاختلاف، وهي التي عادة ما تؤدي إلى الانشقاق ثم إلى الثورات والفتن.
 يقول ابن خلدون في المقدمة (1048-50):
«من الغريب الواقع أنّ حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، وليس في العرب حملة علم، لا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية إلاّ في القليل النادر، وإن كان منهم العربي في نسبته فهو أعجمي في لغته ومرباه ومشيخته...ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلاّ الأعاجم».
وبرغم مبالغة ابن خلدون المفرطة في ذلك، إلاّ أنّ رأيه كان يعكس مفهوم العالِم المتحضر، الذي كان يكره الرجوع القهقرى إلى البداوة. ولأنّه مقاوم لذلك الرجوع أو الرجعية الحضارية، فقد ناصر في فكرته القوم السابقين في التحضّر على العرب البدو، وخصوصاً أنّه غالباً حين يذكر كلمة «عرب» إنّما يقصد بذلك «الأعراب». وإن كان لا ينكر أبداً أن من الأعراب من هم أصحاب علم وفضل كبيرين، وقد ساهم بعض منهم في بناء الحضارة العربية الإسلامية. ولعل استنادنا إلى ابن خلدون في تلك المقولة يرجع إلى أننا نوافقه بأنّ التقدم الفكري والثقافي والحضاري لابدّ أن يخرج عن أعراف القبيلة ويصل لمرحلة قانون الدولة، ومن قانون الدولة إلى التشريع الأممي. فإذا كان قانون الدولة ودستورها يعني انصهار أعراف القبيلة بقانون الدولة، فإنّ التشريع الأممي يعني توافق قوانين الدولة مع مثيلاتها في تحالف دولي على شكل اتحاد أو منظمة دولية.
انقسمنا إلى مدرستين فكريتين: إحداهما تُعْمِلُ النَّقل وتُهملُ العَقْل، والأخرى تُعْمِلُ العَقْل وتُهملُ النَّقل، وما كان الإسلام ديناً وسطاً في الجوهر، إلا لتوسطه بين النقل والعقل. وإعمال النقل من أجل إهمال العقل يصبح فيه الإبداع بدعة، ويكون البحث العلمي عبثاً وفسوقاً، ويصير نقد الفكر الديني كفراً وإلحاداً. وحتى يومنا هذا، لايزال الخطاب الديني لا يتطابق والتقدم العلمي السريع، ليأتي رجال الدين على تحريم «ما لم يرد به نص» درءاً للشبهات أو سدّا لباب الذرائع. ووفقاً لذلك حُرّم على المسلمين أمور كثيرة، مع العلم بأنّ الحرام لا يكون إلا بنصٍّ قطعي الدلالة وقطعي الثبوت في آن واحد، بمعنى أن يكون نص التحريم واضحاً لا شكّ فيه للمتلقي من عامة الناس. لقد وقف علماء الدين منذ القدم وعبر مسيرة الحضارة الإسلامية وقفة الشكّ والريبة أمام كل تقدم في مجال العلوم، ورفضوا الفلسفة وكفَّروا أصحابها، لا لشيء، سوى أنّها تؤكد على المعقول وتنقض المنقول، فأُخرجَ فلاسفة الإسلام ومن يتكلم بكلامهم عن ملة الإسلام. ولا نبالغ إن قلنا إنّ جميع الفلاسفة المسلمين قد أكدوا في رسائلهم وكتبهم فضل الفلسفة في ترسيخ الإيمان ومعرفة الدين. ولكن، كم من تهمة اتهم بها الأبرياء، من علماء وفلاسفة، قضت مضاجعهم وأوقفتهم عن التفكير والبحث والعمل، فترحلوا عن ديارهم ومكتباتهم وتشردوا، وطولب بدمائهم وقُتِّلوا، حتى أصبح السجن رحمة لهم، فكم من فكرة تفتقت من عقل عالم، وكم من كتاب كُتِب في السجون، فالحبس للأجساد وليس للعقول. إنّ اللهجة المُسْتَفِزَّة التي تأتي من وراء عصا الدين، تُخرج العلماء أحيانا من طَوْرِهم وسَمْتِهمُ المعهود والمعروف بالرزانة والاحترام، وهي مثال لواقع الحال يتكرر عبر الزمن، فما أشبه اليوم بالبارحة. مضت أكثر من سبعة قرون، ولم نعرف نتاجاً علمياً إسلامياً ساهم في أي مجال من مجالات العلم أو الصناعة، وذهب بنا النشاط كأمة عربية إلى تقليب صفحات الماضي وأوراقه والوقوف عنده، نستأنس به ونبكي على أطلاله. وصمة عار تلاحقنا، فبعد أنْ وصمنا بالتأخر والرجعية، نوصم اليوم بالوحشية والإرهاب، وانتشرت ثقافة الكره بيننا، ومات الحبّ، وتفشى فينا الخوف من الجوع والمرض والعَيْن والحسَد والجنّ والشياطين، ولبسنا ثوب الطَيَرة، وهاجت بنا الوساوس، فسلكنا دروب الجهل جميعها، ظنّاً منا بأنها دروب النجاة، حتى كرهنا الحياة، فأفتينا بالحجامة لكي لا نتبرع بدمائنا، وآثرنا البتر ولم نقبل بنقل الأعضاء وزراعتها، حيث لم يَرِد بذلك نصّ! وعاندنا زماننا في تطبيق «البصمة الوراثية»، خوفا على الأنساب والمواريث... وللعاهر الحَجَر.
لابدّ لنا من إعمال العقل في البدء ببرنامج توعوي يأخذ بعين الاعتبار المستجدات في الثقافة والتربية والعلوم والفنون، وتطبيق مثل هذا الأمر ليس منوطاً بالعلماء والأكاديميين المتخصصين في مجالات العلوم المختلفة، بل هو مشروع متكامل، لابدّ أن يساهم فيه المثقفون والقادة من أهل السياسة، إنّه مشروع دولة عصرية وناهضة.