عن الصورة الشعرية

عن الصورة الشعرية

كان أمل دنقل يعي جيداً الوضع الصعب الذي وضع فيه قصيدته، فقد كان يرفض الأشكال السياسية التي وجد فيها زمنه، ابتداءً من التسلطية السياسية التي ترفض كل أشكال الحرية، مروراً  بالانكسار  والهزيمة الماحقة في 1967، والتفسخ الاجتماعي الذي اقترن بزيادة معدلات الفقر، وأخيراً مفارقة النفط، الذي لم ير  أنه يستخدم في مصلحة تقدم الأمة العربية وتحقيق العدالة بين أفراد شعوبها. وكان يعلم في الوقت نفسه خطورة أن تتحول قصيدة الرفض إلى دعاية سياسية أو خطابة سياسية.

قد تعلم أن الشعر تفكير بالصورة، وأن الاستعارة هي آية الموهبة الشعرية، وأنها إحدى علامات الشاعر الكبير، شأنها في ذلك شأن التشبيه الذي يخالف المعهود، والذي يفتح أمام الخيال آفاقاً جديدة من الرؤى، وأشكالاً مبتكرة من العلاقات. وكنت ألاحظ - في صحبتي له - أن الشعر الذي لم يكن يخفي إعجابه به هو منجم استعارات وتشبيهات نادرة ورموز حمالة أوجه. ولذلك كان مهيأً- بفضل موهبته أولاً، وقراءاته ثانياً- لأن يجعل من شعره تفكيراً بالصور التي هي عماد الشعر ولحمته وسداه في الوقت نفسه. هكذا يكتب عن «الأرض والجرح الذي لا ينفتح»، قائلا:
الأرض مازالت: بأذنيها دم من قرطها المنزوع،
قهقهة اللصوص تسوق هودجها.. وتتركها بلا زاد،
تشد أصابع العطش المميت على  الرمال،
تضيع صرختها بحمحمة الخيول
الأرض ملقاة على الصحراء.. ظامئة،
وتلقي الدلو مرات.. وتخرجه بلا ماء!
وتزحف في لهيب القيظ..
تسأل عن عذوبة نهرها..
والنهر سممه المغول
وعيونها تخبو من الإعياء، تستسقي جذور الشوك،
تنتظر المصير المر.. يطحنها الذبول.
يمكن أن نقول إن سر بلاغة الصورة الممتدة هو الاستعارة المكنية التي يتم ترشيحها وتوسيعها، لتدنو من أن تكون رمزاً. ولكن هذا وصف بلاغي لا يكشف تماماً عن أسرار بلاغة الصورة ولا عن دلائل تميزها. ربما كان الأوفق القول إن تشخيص الأرض، بإكسابها خصائص وسمات بشرية لأنثى منزوعة القرط، تتساقط الدماء من أذنيها هو ما يتيح لنا بداية الفهم لسر بلاغة الاستعارة التي تفيض على التشبيه ابتداء. ولكن هناك اختيار تشبيه الأرض بالأنثى، وهو تشبيه يقود إلى دلالات العرض والشرف، فالأرض هي العرض، والشرف، هو الدفاع عنه. وهناك التضاد بين صرخة وجع المرأة وقهقهة اللصوص الذين سرقوا هودجها وتركوها بلا زاد، فتشد أصابع العطش المميت- استعارة أخرى- على الرمال سدى، وتضيع صرختها بحمحمة الخيول. وهي كناية تضفي معنى للتضاد الواقع بين الضحية (الأرض - المرأة) والجلاد (اللصوص). ولكن الشاعر لا يكتفي بذلك، فيمضي في تعميق الدلالات الرمزية والامتداد بالتشخيص، فنجد المرأة (الأرض) ملقاة على الصحراء ظامئة، وتلقي الدلو في بئر (نتخيله بفاعلية السياق) فتخرجه بلا ماء، فتزحف في لهيب القيظ (استعارة مكنية) تسأل عن نهرها العذب (والتنكير يفيد معنى التعميم الذي يجعل من النهر دجلة أو الفرات أو النيل أو بردى أو حتى العاصي)، فتعرف أن النهر سممه المغول (تسمية أخرى للصوص) فتخبو عيناها من الإعياء (كناية) وتستسقي جذور الشوك. ومعنى الفعل «يستسقي» طلب السقي (الماء للشرب). وإذا عدنا إلى الصورة من بدايتها وجدناها تبدأ باستعارة مكنية تتبعها استعارة مرشحة، تختلط بالكناية كي نعود إلى بنية الاستعارة الممتدة التي تختمها استعارة مكنية (يطحنها الذبول) ترد العجز على الصدر، كما يقول البلاغيون، أو كي تكتمل الاستعارة الرمزية التي تحيل الأرض العربية إلى امرأة سلبها اللصوص كل شيء. وصفة العربية المضافة قرينة تنكير النهر المنسوب إلى الأرض على امتدادها القومي. أما «اللصوص» فهم حكامها الذين يطوونها في «بساط النفط» التي يمكن أن نقرأها بوصفها إشارة إلى كليوباترا التي احتال رجالها على مراقبيها فطووا عليها سجادة، وحملوها إلى قيصر، فكان اللقاء الأول في مصر. وعندما تطوى الأرض العربية في بساط «النفط» فمن الطبيعي أن تحمل السفائن خيراتها إلى «قيصر» العالم الجديد.
إن البنية الاستعارية التي تمتد بالصورة البلاغية، ويتشكل منها رمز جزئي أو كلي هي إحدى خصائص الصورة الشعرية في قصيدة أمل دنقل. وإذا كانت الاستعارة في قصيدة «الأرض.. والجرح الذي لا ينفتح»، قامت على تشخيص المادي، أي منح الأرض صورة امرأة، فإن النقيض لافت بالقدر نفسه، وخصوصا حين نقرأ:
في كل ليل
تخلعُ الذكرى ملابسها المغبرة القديمة،
تستحم برشرشات الضوء، تغسل فيه وعثاء الطريق.
وتستردُ نضارة الألوان... والمرح القديم
نديانةً... كالظلِّ، تخلع خُفَّها المبلول،
تستلقي جواري في الظلام، تضيء بشرتُها
برائحة التوغل في الحقول.
برعشة القمر المؤرجح في مرايا النيل...
بالقطرات تلمع في منابت شعرها المحلول...
بالنبض الخجول... يرف في استدفائها...
باللثغةِ الغنَّاء في الصوت الرخيم...
وذراعها يلتف: يرتعش التوهج تحت لمسته
هذا المقطع الاستهلالي من قصيدة «بكائية الليل والظهيرة» يبدأ من تجسيد المعنوي، وتحويله إلى كائن حي، فالذكرى التي هي حضور غير ملموس تتحول إلى كائن محسوس، يتحرك ويمتلئ بالحياة، كأنه يُبعث من سباته، فتستدعي الذكرى لدى الذاكرة ذكريات حب فات، فتستيقظ من غمرة النسيان. والبداية هي ترشيح الاستعارة المكنية التي تخلع عن الذكرى ملابسها المغبرة القديمة، كي تستعيدها حية نضرة، مشرقة، كما لو كانت قد استحمت برذاذ الضوء الذي تغتسل به من غبار النسيان، فتسترد نضارة ألوانها ومرحها القديم، وتغدو فتية كالحبيبة التي هي إياها، في تبادل الصفات، فتغدو ندية كزهور الصباح، تضيء بشرتها في الظلام، تقترن برائحة الحقول ورعشة القمر الذي يتأرجح فوق صفحة النيل (استعارة)، وقطرات المياه التي تلمع في منابت شعرها من الماء (ترشيح للاستعارة).. إلى آخر الصفات التي تدنو بطرفي الاستعارة الأصلية إلى حال من الاتحاد الذي يسمح بتبادل الصفات ما بين طرفيه.
هذا النوع من الصور التي تقوم على تجسيد المعنوي يكرره أمل دنقل في صورة أخرى من مثل:
مصفوفة حقائبي على رفوف الذاكرة
والسفر الطويل
يبدأ دون أن تسير القاطرة.
وهي صورة دالة من قصيدة «الموت في لوحات»، تنبني على تشخيص المعنوي، أو المعنى في ترشيح الاستعارة المكنية بما يؤكد نفي الحركة في مفارقة السفر الطويل الذي يبدأ من دون أن تسير القاطرة، وهي مفارقة تستدعي الصورة الاستهلالية في قصيدة «العشاء الأخير»، حيث نقرأ:
أعطني القدرة حتى أبتسم..
عندما ينغرس الخنجر في صدر المرح
ويدب الموت، كالقنفذ، في ظل الجدار
حاملاً مبخرة الرعب لأحداق الصغار.
ومصدر المفارقة هو طلب الابتسام في حضرة الخنجر الذي ينغرس في صدر المرح (استعارة مكنية)، ويدب الموت كالقنفذ (تشبيه) في ظل الجدار، حاملاً مبخرة الرعب لأحداق الصغار، حيث يتحول التشبيه إلى استعارة، أو تتولد الاستعارة من التشبيه بما يؤكد المعنوي أو يشخص المادي، شأنه في ذلك شأن الكناية التي نراها كثيراً في شعر أمل، وخصوصا حين توقفنا صوره البصرية من مثل:
عرفت أنها
تنسى حزام خصرها
في العربات الفارهة..
وهي صورة أخرى من صور المدينة التي تتعامل مع جسد المرأة بوصفه سلعة في سوق مدينة لا تخلو من القمع أو العنف. أعني العنف الذي سرعان ما ينقلب ببواكير عالم الحلم إلى كابوس، على نحو ما نجده في هذه الصورة التشبيهية:
فأرى الصمت... كعصفور صغير
ينقر العينين والقلب،
 ويعوي في ثنايا كل فم.
والعصفور الصغير كالصمت ينيران في الخيال إيحاءات حالمة، لكنه يتحول، في سياق المفارقة، إلى عصفور متوحش، مثل طيور هيتشكوك، ينقر العينين والقلب، ويعوي كالذئاب في ثنايا كل فم. وهي صورة تجمع –إلى مفارقتها- صفات عبثية مرعبة. ومن هذا النوع من الصور العبثية ما يقابلنا في قصيدة «الضحك في دقيقة الحداد»:
كنت في المقهى، وكان الببغاء
يقرأ الأنباء في فئران حقل القمح
فوق القردة
وهي تجتر النراجيل، وترنو للنساء
...  ...
(... رفع أثمان جميع الأسمدة)
...   ...
... النساء - القطط - الأفراس- سمّان العشاء
وعيون الرغبة الفئران تبتل بأصداء المواء         (ص:260)
...   ...
(- رفع سعر الصوف...)
... ما من فائدة!
واللامعقولية هي سمة العلاقات بين مفردات الصورة السابقة، فالراديو يتحول إلى قفص طيور، والمذيع إلى ببغاء، يقرأ الأخبار التي يتلقاها، أو يسمعها الرجال الجالسون في المقهى. وهؤلاء 
يتحولون - بدورهم - إلى قردة تعلو فئران حقل القمح، وهم يجترون النراجيل (وفعل الاجترار يحيل البشر إلى حيوانات مجترة كالبقر والجمال) وينظرون إلى النساء العابرات في الطريق. ويعلن المذيع: رفع أسعار جميع الأسمدة. فلا نرى له صدى عند الرجال الذين يجترون النراجيل (يُخرجون دخانها من بطونهم) وهم يحدقون في النساء اللائي يتحولن - في الأعين الشهوانية - إلى قطط وطيور للعشاء، وأفراس للركوب، في سياق يجعل عيون الرغبة (استعارة) عند الرجال الفئران والقردة، تبتل بأصداء المواء. ولكن يأتي صوت المذيع الببغاء، ليعلن: رفع أسعار جميع الأسمدة، وهو خبر يصدم المزارعين أو ملاك الأراضي الزراعية الجالسين على المقهى، فيكون رد الفعل التعليق اليائس: ما من فائدة. قد أكون قد أضفت إلى الصورة لا معقولية فوق لا معقوليتها، ولكن هذا ما كان يقصد إليه الشاعر نفسه حتى لو حاول تخفيف إرباك القارئ بقوله:
تلعق الفئران في الجحر تراب الاشتهاء
وهي تجتر النراجيل، وترنو للنساء
النساء - القطط الكسلى
صحيح تضاءلت اللامعقولية، ولكن منطق بناء الصور - القصيدة نفسها- يفضي إلى صور من قبيل:
حطت الحدأة فوق المائدة
رفع النسر عن الشمس يده
فهوت، والأرض غطاها الوباء
وهي صورة تتناسب لامعقوليتها مع مفارقة الضحك في دقيقة الحداد. وهو عنوان تنطوي دلالته على المفارقة التي تقود إلى اللامعقول.
ولكن الصور في القصيدة السابقة تلفتنا إلى مغايرتها بطبيعتها المدنية، فهي صور من على رصيف مقهى، تتأمل التجاور العبثي للحياة والموت، واختلاط الرغبة بالموت، وهي الدلالة التي يمكن أن نشاهدها في الصور التالية، مثل هذه الصورة:
من هنا مَرَّت خيول الخيلاء
من هنا مَرَّت... فلم يدفن لها قتلى
ولم تحقن دماء.
حطت الحدأة فوق المائدة
رفع النسر عن الشمس يده
فهوت، والأرض غطاها الوباء.
وهي صورة لا معقولة، ملغزة، تتعمد تحطيم المدركات العرفية للأشياء، والعبث بمنطق العلاقات بينها، هادفة إلى أن تضعنا في حضرة اللا معنى، أو في حضرة اللغز الذي ينطوي عليه، أو يؤدي إليه الضحك في وقت الحداد. 
ولكن ليست كل صور أمل دنقل تتعمد مثل هذا الالتباس المجازي، ففي قدرة الشاعر أن يكون بسيطاً شفيفاً في صوره التي نقرأ في بعضها: 
في الشارع...
أتلاقى - في ضوء الصبح - بظلي الفارع
نتصافح بالأقدام
وبلاغة هذه الصورة تكمن في المفارقة الدلالية التي لا تقتصر على مصافحة الظل بالأقدام، بل تجاوزها إلى الفعل (أتلاقى) الدال على المشاركة، وخصوصاً بما يجعل الظل حضوراً مجسداً أو مشخصاً. ويمكن أن نضيف إلى ذلك البناء السهل الممتنع للصورة التي تبدأ بحرف الجر الذي يستهل حضور الفضاء الكائن للجملتين التاليتين اللتين تبدآن بفعل مضارع يؤدي معنى الحركة التي تمنحها طزاجتها أو غرابتها الاستعارة المكنية التي تغلق الصورة، لكن بما يفرض على الذهن أن يعاود النظر في تركيبها الذي يعتمد تماما على لغة الحياة اليومية، لكن بما يعطي لتركيب لغة الحياة اليومية بعداً غير مألوف، يحدث صدمة تفرض على وعي المتلقي الوقوف أمام هذه الصورة التي تفجر خصائص شعرية في نثر الحياة اليومية. قارن بين هذه الصورة – مثلا- والصورة التالية من شعر صلاح عبدالصبور:
وشربت شايا في الطريق
ورتقت نعلي
ولعبت بالنرد الموزع بين كفي والصديق
قل عشرة أو عشرتين
قل ساعة أو ساعتين
هنا تجد أن اللغة المستخدمة هي لغة الحياة اليومية حقاً، لكن في تركيبتها الدلالية والنحوية العادية، وقد كان ذلك في وقته جرأة كبيرة على تحطيم الهالة الرومانسية المتوارثة للغة الشعر، لكن الجديد في صورة أمل دنقل هو تغيير العلاقات الدلالية للغة الحياة اليومية نفسها، وخلق خاصية شعرية حيث لا يوجد الشعر، وذلك بإسناد دلالة الفعل إلى غير فاعله، مع إبقاء المفردات على عاديتها، هكذا الإنسان وظله، يتصافحان في مجازية تنقل اللغة من حال إلى حال، ومن مستوى اعتياديتها إلى شعريتها. وشيء قريب من هذا - مع شيء من الاختلاف- هو ما نجده في بداية المقطع السادس من القصيدة نفسها:
أطرق باب صديقي في منتصف الليل
(تثب القطة من داخل صندوق الفضلات)
وسر البلاغة في هذين السطرين، (من قصيدة «يوميات كهل صغير السن») لا يرجع إلى استخدام مفردات الحياة اليومية فحسب، وإنما إلى البصرية التي تعتمد على مفاجأة دلالية، تقترن بهذه القطة التي تقفز أمام أعيننا، فجأة، من صندوق القمامة، فتحدث نوعاً من المفاجأة الدلالية التي توجد الشعر، حيث لا شعر.
وما يميز الصورتين السابقتين أنهما صور مدينة حقاً، وعلامة على قدرة الشاعر على الغوص في أحشاء المدينة وهوامشها، حيث الحواري والأزقة التي تتيح المدركات التي يستمد منها الشاعر مادة لصوره. وقد تبدأ الصورة واقعية كما لو كانت نوعاً من الكناية، لكن التركيبة الدلالية واللغوية تشدها إلى دائرة مغايرة تنحو بها إلى المجازية، مثل هذه الصورة التي تستهل قصيدة «الموت في... الفراش»:
أيها السادة: لم يبق اختيار
سقط المهر من الإعياء،
وانحلت سيور العربة
ضاقت الدائرة السوداء حول الرقبة
صدرنا يلمسه السيف
وفي الظهر الجدار
والسطر الأول، في المقطع، يمكن أن نراه كما لو كان هو الموّلد الذي تتولد منه بقية الأسطر دلالة ومجازا وإشارة في آن. والصورة المولِّدة هي كناية سقوط المهر من الإعياء، ومثلها انحلال سيور العربة، وما يليها سطر ملتبس الدلالة، يمكن أن يشير إلى المهر الذي سقط من الإعياء، أو إلى راكبي العربة الذين انسدت أمامهم مسالك الاختيار، وهي دلالة ترجحها الصورة اللاحقة للصدر الذي أصبح عارياً في مواجهة السيف، وفي ظهره الجدار. هكذا تبدو دلالات الصور الكنائية المتتالية بما يجعل منها إبانة أو تدليلا على السطر الأول، ولكن بما يؤكد غلبة الإحساس البصري، والطبيعة المدينية للصورة على السواء. 
ومن الطبيعي أن يكون التضاد عنصرا تكوينيا من عناصر قصيدة مثل «الكعكة الحجرية»، فدوال القصيدة مثل دلالاتها تتوزع بين نقائض متنافرة، متكئة على الثنائية الضدية التي تجمع بين الجلادين والضحايا في سياق واحد، نراه في هذه الصورة الكنائية المنقسمة إلى قسمين متضادين:
دقت الساعة المتعبة
جلست أمه، رتقت جوربه
(وخزته عيون المحقق
حتى تفجّر من جلده الدم والأجوبة).
فالقسم الأول من الصورة يصل بين الأم والساعة في دلالة التعب التي يمكن فهمها من الفاعلية السياقية، فالأم الفقيرة تسهر حتى مشرق النور لترفو جوارب ابنها الممزقة، بينما ابنها المتمرد - بحكم وضعه ووعيه الطبقي - يجلس مجلس المتهم من محقق يطعنه بالأسئلة التي تأتي الإجابة عنها مغموسة بدم التعذيب.
ومن الواضح أن العنف تسلل إلى صور أمل التي ما كان لمكوناتها المدينية أن تخلع من ميسم العنف الذي يتخلل كل المشاهد. ومنها ذلك المشهد الذي يعود فيه خيال الشاعر إلى الزمن الماضي عابراً القرون، ليشاهد التضحية بعروس النيل في مصر القديمة، فنقرأ:
رأيتهم ينحدرون في طريق النهر
لكي يشاهدوا عروس النيل -عند الموت - في جلوتها الأخيرة
 وانخرطوا في الصلوات والبكاء
وجئت... بعد أن تلاشت الفقاقيع، وعادت الزوارق الصغيرة
والصورة تغلب عليها الإحساسات البصرية بالدرجة الأولى، والمشهدية فيها نوع من الكناية، إذا أخذنا الصورة بظاهر معناها، أو بمعناها الأول - إذا استخدمنا لغة عبدالقاهر الجرجاني - لكن هذا المعنى الأول يقودنا إلى معنى ثانٍ، نراه فيما يشبه الحلم:
رأيتها - فيما يرى النائمُ - مهرةً كسلى
يسرجها الحوذي في مركبة الكراء
يهوي عليها بالسياط، وهي لا تشكو... ولا تسير!
وعندما ثرتُ وأغلظت له القولا...
دارت برأسها...
دارت بعينيها الجميلتين...
رأيت في العينين زهرتين
تنتظران قبلةً، من نحلة هيضَ جناحُها.. فلم تعد تطير!
رأيتها... ظلاً!
وفي الصباح حينما شاهدتها مشدودة إلى الشراع
ابتسمت، ولوَّحَت لي بالذراع
لكنني: عثرت في سيري!
رأيتني... غيري!
وعندما نهضت: ألقيت عليها نظرة الوداع
كأنني لم أرها قبلا!
ومنطق الصورة المتتابعة الأجزاء - كأنها شريط سينمائي- هو منطق الحلم، ومن ثم نرى كل شيء يتحول إلى غيره، وتختفي العلاقات المنطقية لتحل محلها التداعيات اللاشعورية التي تجد مراحها في الاستبدالات والاستعارات. هكذا تغدو عروس النيل مهرة كسلى، ويتحول المصلون إلى حوذي في مركبة كراء، كانت سفينة قبل الحلم، والحوذي ينهال على المهرة بالسياط، لكنها لا تعبأ بالضرب وترفض المسير، فلا يملك الرائي في الحلم سوى تعنيف الحوذي، فتنظر له المهرة، وتثبت عينا الرائي على عيني المهرة اللتين تتحولان إلى زهرتين، تنتظران قبلة من نحلة مكسورة الجناح فلم تعد تطير (والفعل الماضي هاض العظم: كسره وفتته بعد الجبور). ولكن سرعان ما تتحول الزهرتان إلى ظل كالشبح. وحين يأتي الصباح وينتهي الحلم، تلمح عينا الرائي عروس النيل - مرة أخيرة- مشدودة إلى شراع السفينة، فيبتسم لها الرائي، فتبادله الابتسامة وتلوِّح له بذراعها، لكن الرائي يتعثر في سيره، فينقلب إلى آخر. وعندما ينهض من عثرته، ويستعيد توازنه، يلقي عليها نظرة الوداع، كأنه لم يرها من قبل. وهذا أمر طبيعي بمنطق الحلم الذي يقلب الحضور المتجسد للرائي إلى ظل، هو نوع من الحضور الشبحي المغاير الذي يجعلنا في مواجهة آخر. وهو الأمر الذي ينطبق على عروس النيل المستدعاة من التاريخ الفرعوني وحكاياته عن هذه العروس البشرية التي ظلوا يلقونها في النيل، إلى أن جاء الدور على ابنة فرعون نفسه، فاحتالت جاريتها واستبدلت بها تمثال عروس تشبهها تماما، ونجحت الحيلة، فانقلبت الشعيرة، وتحولت، ونجت عذراوات مصر. لكن يؤدي المعنى المتحول للحلم إلى تحويل الواقع إلى فانتازيا من التحولات الخادعة التي أصبحت سمة الحياة المخادعة المحتشدة بالعنف الخاص بالمدينة المعاصرة، الموازي لجوهر العنف نفسه.