الحسبة على الخطاطين والوراقين... ومكانة الخط من المنظور الشرعي

الحسبة على الخطاطين والوراقين... ومكانة الخط من المنظور الشرعي

 يمتاز موضوع الحسبة بالشمول والسعة والتفصيل الدقيق، لأنه يعمل على مراقبة وتصويب الأقوال والأفعال والأعمال والمقاصد والسلوك العام للإنسان، ما أكسبه صفة «النظام»، ولهذا يسمى «نظام الحسبة»، وتزداد أهميته إذا ما ربط بصناعة الكتابة والوراقة. 
يركز هذا المقال على أحد جوانب الأعمال التي يقوم بها المحتسب تجاه فئة مهنية معروفة كانت تقوم مقام دور النشر في أيامنا هذه، تلك الفئة المهنية هي: فئة الخطاطين والوراقين.
 تتبنى الدراسة المنهج الوصفي مع استعراض لما يتعلق بفئة الخطاطين والوراقين أو صناع الكواغد والأحبار والأقلام خاصة من المنظور المهني. 

يتناول المقال هذا الموضوع من خلال ثلاثة مجالات: 
< الأول: التعريف بالحسبة والاحتساب على المهن.
< الثاني: مكانة الخط وتعلمه والوراقة من المنظور الشرعي والمهني.
< الثالث: سبل الاحتساب على الخطاطين والخط والوراقة وأشكاله.

 أولاً: الحسبة والمحتسب
 يعتبر المحتسب بمنزلة إمام للمجتمع الإسلامي، وكان يلقب بالشيخ، ويتلخص عمله في المحافظة على النظام العام والآداب في حق الأفراد والجماعة وإلزام الناس بها من خلال هدي الشريعة. 
والحسبة من وظائف الدولة الإسلامية التي أخذ بها الخلفاء والأمراء، وكان ترتيب هذه الوظيفة الخامس بين الوظائف الرئيسة بعد القضاء، وقاضي العسكر، ومنصب الإفتاء، وبيت المال، ثم الحسبة في دول الخلافة.
 ويقوم المحتسب نفسه بمتابعة وضبط الأعمال والحرف والأقوال والسلوك والآداب العامة، ويتخذ الإجراءات والعقوبات المناسبة للمخالفات، فمن الأعمال التي يراقبها - مثلاً- النظر في أعمال السوق وفي عمارة الحيطان والنظر بين الجيران، وعلى العقار، والدور والمساكن، وعلى الأطباء والكحالين والمجبِّرين والجراحين، وعلى الصيادلة والعطارين، والصاغة والفصادين والحجامين، وغير ذلك من جوانب النشاط في المدن والحواضر الإسلامية.
 ومن مزايا نظام الحسبة والاحتساب اتصاله المباشر بالإنسان واستناده إلى أساس متين هو الكتاب والسنة النبوية وهديهما، والتأكيد على الإتقان والجودة في الصناعة والحرف وفي أعمال السوق، وقابلية التجدد والسعة والشمول وضبط السلوك الإنساني في الحواضر والمستوطنات البشرية.

ثانياً: مكانة الخط 
وتعلمه من المنظورين الشرعي والمهني 
ذكر الله تعالى القلم في أول ما أنزل بقوله تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، (سورة العلق - الآيات من 3:5) فقرن القراءة بالقلم، باعتبار أن الخط والبيان يتقاسمان فضيلة البيان، فالخط دال على الألفاظ، والألفاظ دالة على الإفهام. وأقسم الله تعالى بالقلم في قوله {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}(سورة القلم - الآية: 1)، روي أن: «ن» تعني الدواة. وقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } (سورة البقرة - الآية: 282). وقوله تعالى{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } (سورة العنكبوت - الآية: 48).
وقوله تعالى {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } (سورة لقمان - الآية: 27). وآيات كثيرة تذكر مكانة القلم، وقال رسول الله : «قيّدوا العلم بالكتابة».
 وقال مجاهد في قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ }(سورة البقرة - الآية: 269) أي الخط، والعرب تقول: «الخط أحد اللسانين». وقوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} (سورة البقرة - الآية: 129) أي يعلمهم الكتابة والكتب. وقوله تعالى: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (سورة الرحمن - الآية: 4) يشمل البيان اللفظي والخطي.
ولشرف القلم فإن أول من خط بالقلم نبي، هو النبي إدريس عليه السلام كما في تفسير الجلالين لسورة القلم، وذكره ابن قتيبة في «الأوائل»، وقيل إن آدم عليه السلام هو أول من كتب لقوله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}(سورة البقرة - من الآية 31).
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن أول من وضع العربية ثلاثة رجال من بولان، وبولان قبيلة من طي، نزلوا مدينة الأنبار وهم مرار بن مرة، أسلم بن سدرة، عامر بن حدرة، اجتمعوا فوضعوا حروفاً مقطعة وموصولة، ثم أقاموا على السيريانية، فأما مرار فوضع الصور، وأما أسلم ففصل ووصل، وأما عامر فوضع الإعجام، ثم نقل هذا العلم إلى مكة وتداوله الناس. 
وقد اتخذ رسول الله  لنفسه كتّاباً - بتشديد التاء - من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم لكتابة الوحي وللمكاتبات مع الملوك. 
والعناية بالخط صناعة شريفة كما قال ابن خلدون في مقدمته:
 «إن الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية، وهو رسومات وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس، فهو ثاني رتبة على الدلالة اللغوية، وهو صناعة شريفة وخروجها في الإنسان من القوة إلى الفعل إنما يكون بالتعلم».

الخطاطة والوراقة عند الأدباء
  قيل في المأثورات إن «الخط صورة روحها البيان، ويدها السرعة وقدمها التسوية»، وإن «الخط هندسة روحانية وإن ظهرت بآلة جسمانية». ومن فضل الخط أن يدعو الناظر إلى أن يقرأه وإن اشتمل على لفظ مستغرب ومعنى مجهول. ووصف أحدهم خطاً حسناً، فقال: «لو كان نبتاً لكان زهراً، ولو كان معدناً لكان تبراً، أو مذاقاً لكان حلواً، أو شراباً لكان صفواً».
 وسُئل بعض الكتاب متى يستحق أن يوصف الخط بالجودة فقال: «إذا اعتدلت أقسامه، وطالت ألِفُه ولامُهُ، واستقامت سطوره، وضاهى صعوده حدوره وتفتحت عيونه». وقالوا إن الخط دليل على ما في النفوس، وما في النفوس دليل على ما في الأشياء ذوات المعاني، وإن اثنين لا يتغيران هما الأشياء ذوات المعاني وما في النفوس، واثنين يتغيران بتغير اللغات والبلدان، هما اللغات والخط. 
 وقيل: «عقول الناس تحت أسنة أقلامها»، و«صرير الأقلام كصليل الحسام». وقال أحد الوراقين يصف حاله بما يفصح عن أدوات الخط وآثارها:  «عيشي أضيق من محبرة، وجسمي أدق من مسطرة، وجاهي عند الناس أرق من الزجاج، ووجهي عند الناس أشد سواداً من الزاج، وحظي أخفى من شق القلم، ويدي أضعف من القصب، وطعامي أمر العفص، وسوء الحالة أًلصق بي من الصَمغ». وقال بعضهم: «إذا جمع الوراق بين حسن الخط وصحة المكتوب فقد جمع الحسنيين».
 وإذا كان الحفظ بالصدور فإن جمع القرآن كان بالكتابة والقلم، وبالقلم حفظت الألسن والآثار، ووكدت العهود، وأثبتت الحقوق، وبه يأمن الإنسان من النسيان، وقيدت الشهادات، وأنزل الله في ذلك آية الدّين، وهي أطول آية في القرآن، تأكيداً على تقييد الدين. 

مدارس تجويد الخط
ساعدت المدارس بتوجهاتها واهتماماتها على تنوع الخط وتقويته. وقد ذكر الدالي (1996) أن من أوائل مدارس الخط المدرسة الشامية، التي تلقت الخط عن خالد الهياج وقطبة المحرر، ثم جاءت بعدها المدرسة العراقية في العصر العباسي على وجه الخصوص، ونبغ فيها الضحاك، وإسحاق بن حماد، وغيرهما، إلى فترة بروز أئمة تجويد الخط كابن مقلة، وابن البواب، وهاتان المدرستان، أي الشامية والعراقية، وعلى الأخص العراقية العباسية هي التي بلغت بالكتابة العربية مرحلة الجمال ومعاييره وأحكامه.
أما المدرسة المصرية المملوكية على وجه الخصوص، فقد جمعت تراث الخط وجودت الخطوط المشتقة من خط الطومار الكبير (خط الثلث والثلثين).
ومن مدارس التجويد المدرسة السلجوقية الأتابكية، التي جودت خط النسخ، ولذلك كان المصحف السلجوقي الأتابكي أجمل من المصحف المملوكي.
والخاتمة في المدرسة التركية العثمانية، التي جمعت جملة من خطوط المدارس السابقة. فقد أخذت من المدرسة المصرية والمملوكية والسلجوقية وطورت ما أخذت بأسلوبها الخاص، وابتكرت خطين جديدين هما خط الرقعة والخط الديواني، ولم يتوقف العثمانيون عند ذلك، بل طوّروا قلمين جديدين هما خط الإجازة الذي جمع بين النسخ والثلث، والخط الهمايوني المولد من الخط الديواني. كما تفرّدوا بخط الطغراء الذي صُدّرت به الأوامر السلطانية.

تطور القلم العربي
إذا كان القلم هو أداة الكتابة، فإن تطور الكتابة مرهون بلا شك بتطور هذا القلم. ولقد بدأ تطور القلم منذ الانتهاء من نسخ المصحف الإمام الذي خطه عثمان بن عفان  ] وعمل منه عدة نسخ ووزعها، ومن تلك اللحظة بدأت الأقلام تظهر تباعاً حين تسابقت الحواضر الإسلامية في نسخ المصحف دون توقف، وذلك للحاجة الماسة إلى هذا الدستور السماوي الخالد لجميع حواضر الإسلام مع التوسع في نشر الإسلام.
إن أقلام الخط تطورت وتبدلت مع التوسع الحضاري الإسلامي، فاللغة العربية كانت تسري في نموها وانتشارها مع فتوحات العرب، فأينما حل العرب حلت لغتهم، وكذلك الخط العربي، فقد كان يسير في انتشاره معها جنباً إلى جنب، ولكنه تجاوزها إلى الإسلام، فأينما حل الإسلام حل الخط العربي.
بل إن الخط ذاته من حيث القلم وشكل الحرف، يتناسب مع العلم الذي يستعمله، فقلم المصحف غير قلم الحديث النبوي، وهما غير قلم الفقه والتاريخ والشعر وهكذا، والأقلام الأساسية ستة يجب على الخطاط أن يعرفها تمام المعرفة، وهي: الثلث، والنسخ، والرقعة، والديواني، والفارسي، والإجازة. أما ما تفرع عنها فتسمى الخطوط الفرعية، مثل: جلي الثلث، وجلي الديواني، وجلي الفارسي، والريحاني، وخط التاج. ومعنى الجلي أي الظاهر أو الكبير الواضح، الذي بري القلم فيه يصل إلى سنتيمتر واحد.
أما «خط الثلث» و«خط النسخ» فلا يسمى الخطاط خطاطاً ما لم يتقنهما. وواضع أصول الثلث الإمام الوزير ابن مقلة، كما أنه هو الذي وضع خط النسخ أيضاً، حين اشتق قواعده من خط الطومار، وسماه البديع، ثم أطلق عليه خط النسخ واشتهر بذلك الاسم، لكثرة استعماله في نسخ الكتب. أما «خط الرقعة» و«خط الديواني» فهما أقل صعوبة من الخطين السابقين.
أما «خط الفارسي» فهو ثلاثة أنواع، أبرزها النستعليق الذي الذي تنسب أصوله إلى خط العربي. أما الخط السادس والأخير فهو «خط الإجازة» أو التوقيع، وهو ما بين الثلث والنسخ، ووضع أساسه الشجري مستنبطاً من الخط الجليل، وسمي بالخط الرياسي لأنه يحرّر به مكاتبات السلاطين.
وأما الدالي فقد قسم الأقلام إلى ثلاثة أقسام هي القديمة والحديثة والمستقلة. وتصل الأقلام القديمة أو المستعملة من قبل إلى أحد عشر قلماً، وتشمل: قلم الطومار، وهو من أنواع القلم الجليل، وسُمّي بذلك نسبة إلى ورقة الخط الكبيرة بعرض ذراع. وقلم مختصر الطومار، وقلم الثلثين، وقلم المدور الصغير لكتابة الدفاتر ونقل الحديث والشعر، وقلم المؤامرات الخاص بمحاضر ما دار بين الأمراء من نقاش، وقلم الحرم الخاص بالأميرات، وقلم العهود لكتابة العهود، وقلم غبار الحلبة الذي يحمله الحمام الزاجل، وقلم التوقيع كان يوقع به الخلفاء، وقلم الرقاع لديوان الإنشاء، والقلم البديع أو الخط المنسوب وفق الرسوم والقوانين لرسم الحرف، وسمي بذلك لتناسب أشكاله، ونسبة ذلك إلى الإمام الذي طوره وحسنه.
أما الأقلام الحديثة فتشمل قلم الثلث، وهو ثلث الطومار، وقلم النسخ، وقلم الرقعة، وقلم الفارسي ويشمل التعليق ونستعليق، قلم الديواني، الديواني الجلي، والقلم الكوفي، والقلم المغربي ويشمل القيرواني والأندلسي.
وتشمل الأقلام المستقلة الطغراء، وهو في الأصل للتوقيع السلطاني، ويرجع إلى العهد المملوكي، ولكنه ظهر جليا في العهد العثماني، والخط الهمايوني، وهو الخط الملكي الذي يشمل الديواني وجلي الديواني والطغراء، وقد اعتنى به الأتراك، وخــــط حرف التاج الذي ابتدعه الخطاط المصري محمد محفوظ في عهد الملك فؤاد 1349 هـ، لأنه يتصل بصاحب التاج ملك مصر.

تطور الورق والوراقة
كان العرب يكتبون على الجلود واللخاف والعسب والكرانيف التي هي أصول النخل بعد قطعه، والرقاع وعـــظــــام الأكــتاف. وتطور الأمر إلى الكتابة على النسيج والحـــرير، وكــــان لعــــدم ظهور الــــورق أثر كبير في ضخامة أحجام المخطوطات والكتابات، وكان يستعان بالدواب لحملها. بعد ذلك بدأ يظهر الورق كالــورق الصيني والهندي ثم الخراساني وعرف في العهد الأموي ثم العباسي مع توسع الفتوحات الإسلامية. وظهر الورق في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكان من كتَّاب النبي صلى الله عليه وسلم كما قدمنا. واستمر الأمر إلى ظهور الورق الأنيق بأشكاله خاصــة مع ظهور آلات الطباعة فيما بعد. ولقد ظهرت إثر ذلك مهنة مهمة في هذا المجال هي الوراقة والوراقين.
 يشير خير الله سعيد (2011) في «موسوعة الوراقة والوراقين» إلى أن الوراق هو ذلك الشخص الذي يمتهن حرفة الوراقة، بحيث يكتب أو ينسخ المصاحف والكتب ويطلق أيضاً على من يبيع الورق. لهذا فهي مهنة تحمل في طياتها الإبداع والتجارة، وكذلك فإنها تخدم الحضارة عموماً بتوثيق وكتابة علوم الشريعة والعلوم التجريبية والأدب والتاريخ وكل ما تحتاجه الحياة العلمية. لقد توسعت هذه المهنة مع تطور الحياة العلمية، فأصبحت الوراقة تطلق - كما ذكر خير الله سعيد - على النسخ ويدخل معه التزويق والتذهيب، وتجليد الكتب بأنواع الأغلفة المناسبة بحسب نوع العلم المكنون في الكتاب، وبيع الورق، ويدخل في ذلك بيع أدوات الكتابة كالأقلام والأحبار وملحقاتها، وبيع الكتب وتشمل بالطبع بيعها بعد إتمام النسخ والتجليد.
ولابد أنها تشمل أيضاً ترميم الكتب, والورق وزخرفتها ونحو ذلك.

الأحبار وأنواعها
 كانت الأحبار تصنع من مواد خاصة، ومما يحسن ذكره، أن التحبير لغة هو الاجتهاد في تجويد الخط وتجميله وتزيينه، فإذا قال شخص: «كتبه فلان وحبّره تحبيراً»، أي بالغ في تجويده وتحسينه، وسمي كذلك بالمداد لأنه يمد القلم ويعينه على الانسياب والتحرك.
 وكان الحبر قديماً على نوعين, الأول: الحبر الفحمي، والثاني: الحبر العفصي المعدني، وذكر البهنسي (1995) في معجمه تحت كلمة مداد، بقوله إن المداد هو الحبر، وسمي مداداً لأنه يمد القلم ويعينه بالاستمداد، وكان يصنع من الكافور والعفص والزاج والصمغ، وإن هناك أنواعاً من المداد تستعمل فيه مواد مختلفة، خاصة قشر الرمان، والمداد الأبيض، من الزرنيخ، أو مداد السناج. وعند الإمام ابن مقلة أجود المداد ما اتخذ من سخام النفط.
 وقد تبين ذلك في نظم بعض الخطاطين، بقوله عن صناعة الحبر أو المداد، وهو الإمام ابن البواب في رائيته المشهورة:
وألق دواتك بالدخان مدبراً 
بالخل أو بالحصرم المعصور
وأضف إليه مغرة قد صولت
مع أصفر الزرنيخ والكافور
أدوات الكتابة
أما «أدوات الكتابة» إذا أجملناها فقد ازدادت وكثرت مع دخول عنصر الزخرفة والتنميق والتزيين، فتشمل الأوراق والدواة، والقلم أو البوص، وهو القصب الذي اتخذ مقاييس محددة تحدد طبيعة الخط والحرف، والمقلمة، والمدية، والمقط وهو عود بعرض أصبعين صلب لقطّ القلم، أي قطع رأس القلم بحسب الانحراف المرغوب، والمحبرة، والحبر أو المداد، والليق وهو الحرير أو اللباد أو القطن أو الكرسف الذي يوضع داخل الدواة ليثبت الحبر حين يمسه الخطاط برأس القلم ليستمد الحبر للكتابة، والورق بحسب نوعه، والمتربة لحفظ التراب، وهو نوع من التراب يُترّب به الخط ليثبت حتى لا يسيح على الورق ويدوم، والمدية أو السكين لبري القلم، والمرفعة أو طاولة الرسم التي يستند إليها الخطاط حين يكتب أو إذا عجز الكاتب عن الاستمداد - أي تناول الحبر برأس القلم - أو يضع عليها الورقة للكتابة في حالة الجلوس ناصباً رجله مسنداً بها عليها، يضاف إلى ذلك أدوات تنظيف ومسح شوارد الحبر والكتابة من أنواع الخرق والمناديل المخصصة. 

ثالثاً: الحسبة على الكُتَّاب 
والخطاطين والوراقين
كانت كتابة النص في تلك الفترة دقيقة ومتسلسلة وتراتبية، تدل على وجود نظام للكتابة أو التأليف مما يساعد المراقب - وهو المحتسب - على أن يكون أكثر قدرة على معرفة موضع الخلل أشبه بخط الإنتاج، فإذا توقف يعرف موضع الخلل فيه.
ويستعرض العلامة الأديب أبوبكر الصولي في كتابه «أدب الكاتب» مراحل الكتابة والخط بالقلم، فأولاها إعداد الدواة، والمرحلة الثانية: إلاقة الدواة، والثالثة: إعداد المداد، والرابعة: إعداد القرطاس، والخامسة: قط القلم، بوجود المقط الذي يقطع عليه رأس القلم، والمرفع الذي يستند إليه، ومحراك الدواة الذي يحرك الحبر.
 ثم تأتي مرحلة العزم على الكتابة أو الكَتب - بفتح الكاف وسكون الباء -، وهي شأن آخر وهَمّ عظيم يحمله الكاتب أو حتى الناسخ في ذهنه حين يقرر أن يكتب، فلابد من اعتبار قيمة ما يكتب، والفائدة المرجوة منه، وأن يعرف قبل ذلك أصول الكتابة والتأليف والتصنيف، وكذا الناسخ، بأن يعرف أصول النسخ وأحواله ومراحله. أما الإنشاء فهو أن يبتدئ عمله على غير مثال سابق، وهذا في حالة إذا أنشأ كتاباً أو علماً جديداً في بابه، كما يقال: أنشأ الإمام الشافعي علم الأصول مثلاً.
 والدارج الآن أنه يتناول أسلوب الكتابة وعلم الإنشاء وشكل السياق والسبك. أما بالنسبة للسطور فيقال سطّر - بتشديد الطاء -، إذ كتب، قال تعالى: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} (سورة الطور - 1:2)، أي مكتتب، وكل استواء غير خارج عن نظيره فهو مسطّر، يراعي الكاتب أو الناسخ استواء السطور وحسن انتظامها مع السياق والجمل.
المقابلة بالكتاب ونسخه وهي المعارضة للتأكد من أن الناسخ قد طابق ما نسخه مع الأصل من غير نقصان أو سقط أو تصحيف، ولهذا قال الصولي: «أن ينسخ الشيء الشيء فيجيء بمثله غير مخالف له»، والسحاة هي عملية حرفية أو فنية تعني التقشير، أي الكتابة والورق حتى يأتي ناعماً لا تعتريه النتوءات فلا يتلاصق الورق أو الحبر أو يسيح فتتلف الكتابة أو الورق، لهذا يقال: سحوت الكتاب سحواً، ثم التتريب، وهو أن يذر التراب على الكلمات والجمل ذراً وهو تراب رقيق يعمل على تماسك الحبر وتثبيته على الورق فيدوم بقاؤه ونضارته، وكان بعض المؤلفين والكتَّاب المكثرين للكتابة، يضع قلمه ومحبرته في كمه ويضع كيس التتريب بين ثنايا عمامته ليقتنص الأوابد والشوارد من الحكمة، فيبادر إلى كتابتها ثم يتربها لكي لا تضيع، ثم العرض وهي مرحلة مهمة حين يمرر المؤلف طرفه بعد الفراغ من الكتابة على مجمل ما كتبه ليتأكد من سلامة ما كتب، والحال نفسها تقال عن الناسخ للتثبت مما نسخه، ثم التوقيع وهو في ما هو دارج الآن أن يختم كتابته بمهر اسمه، غير أنه عند العلامة الصولي: هو الإيجاز في الكلام، وقال بعض الحكماء: «إن استطعتم أن تكون كتبكم كالتوقيعات فافعلوا»، يريد حضهم على الاختصار، وكان بعضهم يوقع «آمنت بالله وحده» أو «لا غالب إلا الله»، وهذا يأخذنا إلى الخاتم، وهو مهم جداً لبيان الفراغ من مكنون الخطاب ومضمونه بختمه بشيء، ومنه القول: «الأعمال بخواتيمها»، وكان الملوك لا يقبلون الكتاب إلا مختوماً فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً نقش عليه «محمد رسول الله» ، وجعل لفظ الجلالة في أعلاه . 
 إن المتأمل لعملية الإعداد للكتابة ومن ثم الكتابة نفسها يستشعر ثقل المهمة على المحتسب، الذي ينبغي أن يكون ملمّاً هو وأعوانه بذلك، ليسهل عليه معرفة الخطأ والغش أو التساهل والتسيب في الكتابة، وبالتالي ضمان الجودة في النتاج الفكري النافع.
 فالمحتسب في هذه الحالة يتجول في سوق الوراقين والنساخين ويتقصّى بنفسه صناعة الورق والنظر إلى منتجها والأسعار، ويحاسب كل مقصر ويقر عليه العقوبة الرادعة. وربما أخذ عينة من الصنعة وقلبها بين يديه ونظر فيها، وخاطب المستعملين لها كيف وجدوها ليتأكد من متانتها.
 ويتحرى المحتسب ويتأكد من سلامة أدوات الكتابة عن طريق تتبع مصادر الأقلام أو القصب إن كان فارسياً أو إفريقياً أو صينياً، ونوع المداد وصناعته ومركباته ومقاديرها، ويعرف طريق قطّ القلم ونوع الخط المستعمل، حتى يحكم على سلامة صناعة الكتابة بمجملها. وينظر كذلك في حجم الكتب المنسوخة ويقف على جودة التجليد ومتانة الصنعة، ويطمئن على عملية توقير النص القرآني والحديث وأقوال العلماء، مما يؤكد أن الاحتساب لا ينفصل عن أصول الشريعة. ومن أعمال المحتسب:
< مراقبة الصبيان ومعلمهم:
 وذكر السبكي في «معيد النعم ومبيد النقم» كيفية الاحتساب على ثلاثة أصناف من المهن المتصلة بالخط وهي تعليم الكتابة والنساخة والوراقة والتذهيب، يقول - رحمه الله - في شأن معلم الكتابة:
 «ومن حق معلم الصغار ألا يعلمهم شيئاً قبل القرآن الكريم ثم بعده حديث النبي ... ويقول: وله تمكين الصبي المميز من كتابة القرآن في اللوح وحمله...».
< مراقبة النساخ وتحذيرهم من كتابة ما يسيء:
 أما النساخ فيقول في حقهم:
«بأن لا يكتب الكتب التي لا ينفع الله تعالى بها التي تضيع الزمان وليس لها حاجة، وكذلك كتب المجون...». ويقول: فنحن نحذر النسّاخ منها، فإن الدنيا تغرهم وغالباً مستكتب هذه الأشياء يعطي من الأجرة أكثر مما يعطيه مستكتب كتب العلم، فينبغي للناسخ ألا يبيع دينه بدنياه.
< تحذير النساخ من التعجل بالكتابة:
 ويقول: «ومن النُسَّاخ من لا يتقي الله تعالى ويكتب عن عجلة ويحذف في أثناء الكتابة شيئاً رغبة في إنجازه إذا كان قد استؤجر على نسخه جملة...». 
< تحذير النساخ من الاستخفاف بالحروف:
وذكر السنامي في «نصاب الاحتساب» الباب الثاني قوله: «الاحتساب على من يستخف بالحروف والكواغد ونحوها»، قال ومن استأجر للتعليم بساطاً أو مصلى كُتب عليه في النسيج الملك لله تعالى يكره بسطه والقعود عليه واستعماله، ولو قُطع حرف من حروفه أو خيط على بعض الحروف حتى لا تبقى الكلمة متصلة لا تسقط الكراهة لأنه بقيت الحروف وللحروف حرمة، لأن النظم القرآني وأخبار النبي  بوساطة هذه الحروف».
< تحذير النساخ من كتابة التعاويذ:
 وذكر السنامي في «نصاب الاحتساب» باباً حول «الاحتساب على من يكتب التعويذ ويستكتبه»، وقال بتحريم من يكتب التعويذ ويستكتبه كأن يكتب تعويذة لامرأة ليحبها زوجها بعدما كان يبغضها.
< تحذير النساخ من الكتابة على الأدوات:
 لهذا ينهى عن كتابة ما يتصل بذلك مما تعلق بالله تعالى أو برسوله ، يقول: «... يمنعون من كتابة العز والإقبال ونحوه على العصا والطشت والإبريق والقدح وغلاف السروج ونحوها، لأنها كلها مستعملة مبتذلة فتصان الحروف من الابتذال». 
أما الوراقون فيحذرهم مما يأتي:
< تحذير الوراقين من ابتذال الورق وما كتب عليه:
 ويكره استعمال الكواغد في وليمة ليمسح بها، والكتب والرسائل يستغنى عنها وفيها اسم الله تعالى، يمحى عنها ثم يلقى في الماء الجاري، أو يدفن في أرض طيبة، أو يفعل ذلك قبل المحو، ولا يحرق.
< تحذير الوراقين من بيعها على أهل الأهواء والمزورين:
أما الوراقون والوراقة فقد قال في الحسبة عليهم:
 «وهي من أجود الصنائع لما فيها من الإعانة على كتابة المصاحف وكتب العلم ووثائق الناس وعهدهم. فمن شكر صاحبها أن يرفق بطالب العلم ويرجح جانب من يعلم أنه يشتري الورق لكتابة كتب العلم، ويمتنع عن بيعه لمن يعرف أنه يكتب ما لا ينبغي من البدع والأهواء وشهادات الزور والمرافعات».
< تحذير المُذهّبين من تذهيب غير المصحف - لمن أجاز ذلك:
أما المُذَهِّب - بضم الميم وفتح الذال وتشديد الهاء: «فمن حقه ألا يُذهّب غير المصحف وقد عرف اختلاف الناس في تحلية المصحف بالذهب. وأما غير المصحف فاتفق الأصحاب على أنه لا تجوز تحليته بالذهب...».
< التحذير من نقش المساجد بماء الذهب:
ويحذر من النقش بالذهب وخاصة المساجد، فيقول بكراهة نقش المسجد بالجص وماء الذهب وذكر حديثاً فيه «أن في هذه الأمة مسخاً وخسفاً إذا زخرفت المساجد وورقت». أو وردت المصاحف.