رسائل من البادية «الملكُ الضلّيل»

رسائل من البادية «الملكُ الضلّيل»

في هضبة من هضاب نجد، رأيت خيولاً ومضارب وبقايا نار، يجلسُ رجالٌ أمام خيمةٍ ملونةٍ موشومةٍ برسوم كندة ومآثرها، يتحلقون حول الملك الضّلّيل امرئ القيس بن حُجر الكندي.
على بعد خطواتٍ سمعتُ صوت إحدى القيان، تغني شعر سيّدها.
 أفاطم مهلاً بعض هذا التّدلّل  
وإنْ كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
 وإنْ تكُ قدْ ساءتك مني خليقةٌ 
فسُلّي ثيابي من ثيـــــابك تنسُل
أغرّك مني أنّ حبــك قاتلي
 وأنك مهما تأمــــري القلب يفعل؟
 وما ذرفتْ عيناك إلا لتضربي 
بسهميك في أعشار قلـــبٍ مُقتّل

كنتُ قد اقتربتُ من مجلس القوم، فشممتُ رائحة الخمر والشواء... الملك الضليل... كما قرأناه تماماً، الملك الضليل الذي يتركُ السلطان، ويجالسُ أخلاطاً من شُذّاذ العرب وصعاليكهم، من طيء وبكر بن وائل، ها هو يمكثُ على رأس غدير في هضبةٍ من هضاب نجد، يذبحُ ويشربُ ويسقي جُلاسه.
جفل القومُ حينما رأوني، ولم يلتفتْ امرؤ القيس، لم أتعجبْ لعدم التفاتته نحوي، أذكرُ أنه حينما أتاه رسولُ الشرّ يخبره بمقتل أبيه لم يلتفت إليه، وكان يلعبُ الشطرنج مع بعض ندمائه، فأمسك نديمُه، فقال له امرؤ القيس: اضربْ فضرب حتى إذا فرغ, قال: ما كنتُ لأفسد عليك دستك، ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كله، فلم يبك وقال قولته المشهورة: «ضيّعني أبي صغيراً، وحملني دمه كبيراً، اليوم خمرٌ، وغداً أمر».
قلت السلامُ على ملك كنْدة امرئ القيس أمير الشعر، أنت من أنت وتتوارى هنا بين شعاب نجد وهضابها، وأنت الجسورُ الجريء؟ ألست القائل:
تجاوزتُ أحراساً إليها ومعشراً 
عليّ حراساً لو يُسرُّون مقْتلي؟
قال امرؤ القيس وهو بين النشوة والثمالة: من أي قبيلةٍ أنت؟ قلتُ: أنا واحد من مريديك، تركتُ القبيلة ورائي، طاردتني صرخاتُ الثكالى، وجثثُ الأطفال تحت وطأة البراميل المتفجرة، طاردتني دموع العجائز، ودماء الشبيبة من ميازيب المنازل، تركت ورائي امرأةً عربيةً تبكي في الصحارى. 
بردُ الملاجئ أشقاني وعلّمني 
أنّ القبيلة تذروها الطواحينُ
تشرينُ علّمني أنـي أغازله 
فكيف يقتلني في البرد تشرينُ؟

ضحك امرؤ القيس ساخراً وقال: تاريخٌ عربيٌ طويل، مخضبٌ بالدماء التي لا ولن تجف، لقد أفنيتُ عمري في مطاردة بني أسد، وأعملت فيهم السيف، وطاشت فيهم رماحُ كندة، والآن علمتُ الحقيقة أن الدماءُ تجلبُ المزيد من الدماء.
سأذهبُ إلى السموأل؛ لأستردّ منه بعض ما تركتُه هناك من مالٍ وعيال، قلــــت يا أميرنا، لن أخفي عليك ما حلّ، فقد رحل السموأل واندثرت بطونُ طيء وكنانة وبكر وبني أسد، رحلوا ولم يتركوا لنا إلا الدماء ورثناها كابراً عن كابر.
والأجملُ أن نتناسى تلك الدماء التي تملأ الصحارى العربية ونعود إلى عالمك السحري الذي كسرت به نمطية التقليد في الشعرية العربية، فكنت بحق أشعر الشعراء، كما روى الأصمعي أن أبا عبيد لما سُئل في خير الشعراء قال: «امرؤ القيس إذا ركب، والأعشى إذا طرب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب»، كيف استطعت يا أميرنا أن تُشكّل تلك الصور الأخاذة وتخرج لنا من بين صحارى كنْدة هذا البيت الشفيف؟
فجئتُ وقد نضّت لنومٍ ثيابها
لدى الستر إلا لبْسة المتفضل

قال امرؤ القيس: أما الدماءُ فكنتُ أكثر الناس بُعداً عنها ونفوراً منها، ولو عاد بي الدهرُ لاستمعت إلى وفد بني أسد من حكمائهم الذين أُوفدوا إليّ بعد قتلهم لأبي ملك كندة، حيث عرضوا السلام وطلبوا الصفح، على أن يسوقوا إليَّ من بني أسد مــن هـــم أشرفــــهم بـــيتاً وأعلاهم في بناء المكرمات صوتاً، فيكون دماً بدم، ولكن الثارات العربية هي التي غلبت، لو عاد الدهر بنا لاخترت ما كنت عليه قبل مقتل أبي، وظللت كما أنا الآن محلقاً في هضاب نجد.
تخرجُ من خيمة الملك الضليل جاريةٌ عذبةُ الصوت تغني:
تعلّق قلبي طفلةً عـــربيةً 
تنعّمُ بالديبــاج والحلي والحُلل
ألا رب يوم قد لهوت بذلّـها
إذا ما أبوها ليلةً غــاب أو غفل
فقالتْ لأترابٍ لها قد رميـتُهُ 
فكيف به إن مـات أو كيف يُحْتبل
أيخفى لنا إن كان في الليل دفنُه 
فقلنْ: وهل يخفى الهلالُ إذا أفل؟
قتلت الفتى الكنْدي ّ والشاعر الذي
تدانتْ له الأشعارُ طُرّاً فيا لعل
قتيلٌ بوادي الحبّ من غير قاتلٍ 
ولا ميتٍ يُعْزى هناك ولا زُمل
ولي ولها في الناس قولٌ وسمعةٌ 
ولي ولها في كلّ ناحيةٍ مثل
حجازيةُ العينين مكيةُ الحشــا 
عـراقيةُ الأطراف روميةُ الكفل
تهاميةُ الأبــدان عبسيةُ اللمى 
خــزاعيةُ الأسنان دريةُ القُبل

كانت السيارةُ في طريقها إلى الرياض، وأنا أنظرُ إلى طيف امرئ القيس في هضاب نجد الشاسعة.