من «امرأة في إناء» إلى «حكاية صفية» ليلى العثمان... جرأة التعرية وصلابة المواجهة

من «امرأة في إناء» إلى «حكاية صفية» ليلى العثمان... جرأة التعرية  وصلابة المواجهة

بين التواطؤ على طمس الأنساق الاجتماعية المختلة، والإصرار على تعريتها بغية تقويمها، انحازت الأديبة ليلى العثمان إلى الخيار الثاني، على الرغم من أخطاره التي اكتوت ببعضها لاحقاً. فمنذ بداياتها القصصية عمدت إلى مواجهة الواقع، والكشف عن دمامله الاجتماعية المتقيحة، محاولة تطهيرها ومداواتها للانتقال إلى واقع اجتماعي صحي. ولم تقصر اهتمامها في خضم ذلك على المرأة فقط، بل تجاوزتها إلى قضايا الإنسان عموماً. حاربت الهيمنة الذكورية، تماماً كما حاربت التسلط النسوي، ووقفت إلى جانب المرأة المضطهدة وقوفها إلى جانب الذكر المغبون.

ألحّت منذ بداياتها، وبدرجات متفاوتة الحدة، على تعرّية المنظومة الاجتماعية في مجتمع تقليدي متزمت، ووضعها تحت المجهر لفضح عيوبها وكشف المسكوت عنه. وقد عانت في سبيل ذلك عسفاً كبيراً أوصلها إلى قاعات المحاكم القضائية، لكنها أبداً لم تتخل عن رسالتها وهدفها.

دفاعاً عن الحقوق المسلوبة
 تدرجت العثمان في نكء ما التأم على خبث من جراح مجتمعها عبر عديد من المجموعات القصصية والروايات، وصولاً إلى رواية «حكاية صفية»، التي أعتبرها غرة التاج وبيضة القبان. ففي أولى مجموعاتها القصصية «امرأة في إناء» نراها تناصر الخادمة فتحية في قصة «طفولتي الأخرى»، فتظهر تعاطف ابنة ربة المنزل معها ضد تعنيف أمها لها: «كنت أشعر في كثير من الأحيان أنها تعاقب فتحية ليس لذات الذنب الذي اقترفته، بل لمجرد أنها مرهقة نفسيا... أو تعاني أزمة خاصة نتيجة مشكلة تحيرها... أو لأنها تغتاظ من تصرف من تصرفاتي فلا تستطيع أن تؤنبني... حتى تعطيها فتحية الشرارة الأولى حين تكسر صحناً أو... فتندفع إليها كالصاروخ وتفرغ كل محتويات داخلها من الغضب والتعب في تلك المسكينة».
وفي قصة «الفصل القادم» من المجموعة ذاتها ترثي لحال المرأة المستلبة «كوثر»، التي مات زوجها وهي في ريعان شبابها، فمنعها شقيقه من الزواج، مهدداً إياها باقتلاع فلذة كبدها «حنان» من صدرها، وهكذا يذوي جمالها وتدهمها الشيخوخة تحت وطأة التسلط الذكوري. كما تكشف قصة «حالة مستعجلة» النظرة المجتمعية المختلة لكل من تعشق وكل من يختلي بنفسه ليكتب، حيث تضعهما في خانة المجانين!
واصلت العثمان السير في الطريق ذاتها، لكنها راحت تنوّع في الطرح، وتراوح في درجات حدّته بين الملامسة السطحية والتركيز المجهري. في تقديمه لمجموعتها «في الليل تأتي العيون» يقول الروائي حنا مينه: «ليلى لا تصالح الواقع، لا تراه قدراً، لا تتعبده صنماً، لا تنوء تحت وطأته، لا تهرب منه إلى الأمام بل تواجهه، ترفضه، تقاومه، تستأنف ضده، وتومئ إلى واقع آخر، أحلى وأبهى». ففي قصة «الأورام» من المجموعة عينها تعجز الفتاة عن البوح بحبها... تشعر بوجود درنة بحجم حبة الجوز تقف في حلقها وتمنعها من البوح، وهو ما ينفيه الطبيب... وحين تقرر البوح كتابة بدلاً من الكلام سرعان ما تشعر بالأورام تنتقل إلى أصابعها وتحرمها من الكتابة... فيتمدد الصمت.
بعد ذلك نراها في مجموعة «حالة حب مجنونة» تلفت النظر إلى الظلم الذي تلحقه زوجة الأب بطفلته من زوجته الأولى في قصة «شيء غير الوجع» من دون أي مبرر يذكر. كما أن عدم اعتراف المجتمع المتزمت بالحب في قصة «حالة حب مجنونة» قاد «صويلح» إلى الانتحار، وقاد بطلة قصة «التهمة» إلى المحاكمة، لأنها كاتبة والكتابة ممنوعة:  «أنت متهمة باقتناء الأوراق الملونة والأقلام النابضة الجريئة، مما يثير الحواس ويحرك جمود الأفكار».

محاولات لتصحيح علاقات مأزومة
يتكاثف التركيز، وتتعاظم الحدة بعد ذلك حين تدخل العثمان فلك الرواية، ففي أولى رواياتها «المرأة والقطة» تقدم حالة معكوسة للتسلط المجتمعي، حيث تنعكس الأدوار، فتحتل المرأة موقع المتسلط، وينزل الذكر إلى موقع المقموع. وفي ظل التسلط والقمع تتشرخ العلاقات الأسرية، فتمارس العمة سلطتها على الأخ وابنه وزوجة ابنه، وتفرض رأيها على البيت بلا منازع، فيغيب صوت الذكر وتتلاشى إرادته. وتنفيذاً لأوامرها يتزوج الأخ ويطلّق ثلاث مرات، وتهتز شخصية ابنه وتسلب إرادته فلا يجد غير القطة أنيساً، لكن تسلط العمة يتفاقم أكثر، فتقتل القطة وتحرمه منها، ثم يتوسع الأمر لينتهي بقتل زوجته، التي اختارتها العمة نفسها، بعد تعاظم الشكوك حول حملها.
تزداد الحدة بعد ذلك في رواية «وسمية تخرج من البحر»، حيث تسجل العثمان فيها مرثية صارخة للمجتمع الأبوي المتزمت، وتخلخل يقينيات ذلك المجتمع الغارق في مواريث السلطة الذكورية، المجتمع (الأبوي) الموغل في مصادرة حرية المرأة ومنعها من الظهور والإصرار على كبت مشاعرها الإنسانية. فالناس في هذا المجتمع «الكويتي الخمسيني» طبقات، والأنثى عورة يجب سترها وإبعادها عن الأنظار، فكيف والحال هذه لعبدالله، الفقير ابن «مريوم الدلالة»، أن يحب وسمية ابنة التاجر الكبير والعائلة ذات الحسب والنسب؟ لكن كيف للأطفال أن يعوا مثل هذه المواضعات المصطنعة؟
لقد وفر عمل أمه كدلالة تساعد أم سارة على القيام بأعباء بيتها الكبير، تربة خصبة لتآلف الطفلين عبدالله وسارة من خلال قضاء وقتيهما في اللعب معاً، ومع نموهما معاً تطورت العلاقة بينهما إلى حب عذري صاف، أججه حين البلوغ منْعهما من الالتقاء. وفي غمرة جرأة متوثبة يتفقان على الالتقاء ليلاً عند البحر بعيداً عن العيون. وبينما كانا يبثان لبعضهما لواعج الحب والشوق والأمل ببلوغ علاقتهما محطة الزواج، يفاجئهما حارس الشاطئ، فلا تجد وسمية مخبأ يقيها الفضيحة إلا البحر. لكن، ما إن يغادر الحارس حتى يكتشف عبدالله الكارثة: سحب البحر وسمية وأغرقها ولم يبق منها إلا العباءة!
 وسمية تدرك أنها لا تجيد السباحة، فقد منعتها التقاليد ذلك، لكنها تدرك أيضاً أن اكتشاف الحارس لها مع عبدالله يمثل فضيحة أشد وأنكى من الموت، ما يجعل أمها تبارك خطة أم عبدالله، فتعلن أن البحر سحب وسمية بينما كانت تغسل شعرها فيه حين ذهبت إليه معها فجراً لغسل الملابس. الجميل في الرواية فسحة الأمل التي تمثلت في خروج «وسمية» من البحر في نهايتها على شكل طيف، كمؤشر على تمرد المرأة وتخلصها من قيود الاستبداد الاجتماعي وعسف السلطة الذكورية.
يبقى هذا التمرد مجرد طيف ولا يتحول إلى واقع في رواية العثمان التالية «صمت الفراشات». إن الصمت الذي تبدى كأورام متخيلة في حنجرة وأصابع بطلة قصة «الأورام» من مجموعة «في الليل تأتي العيون»، وحال دون بوحها بمشاعرها، يتحول في «صمت الفراشات» إلى أورام واقعية تتجرع بطلة الرواية ويلاتها، إذ يتم إجبارها في سن التاسعة عشرة على الزواج برجل ثري داعر في الستين، طمعاً في أن تؤول ثروته بعد موته إلى عائلتها فتخلصها من الفقر. وحين تبدي امتعاضها من هذا الزواج، وتعلن رغبتها في الالتحاق بالجامعة، يتصدى لها الأب بالضرب، فتخضع مرغمة.

حكاية صفية
كل ما سلف، وبكل ما فيه من جرأة وحدة، لا يعدو كونه بروفات وتمارين أولية إذا ما قورن برواية العثمان «حكاية صفية»، التي مثلت ذروة الجرأة، وأقصى درجات الحدة. لقد تمكنت الكاتبة في هذه الرواية من فضح ما لا يجرؤ أبناء المجتمع الحالي على مجرد التطرق إليه، كما استطاعت أن تفتح العيون على حقيقة طالما أدركوها وتظاهروا بعدم وجودها. نجحت في نبش موضوعة الجنس دون فضائحية، وأجادت في تسليط الضوء على المسألة المذهبية دون تحيز أو إقصاء، وتمكنت من تشريح الهيمنة والتسلط الذكوري في مجتمع أبوي لا يتورع عن سحق الآراء والمشاعر والأحاسيس في سبيل سيادة العادات والتقاليد، وأجادت، قبل هذا وذاك، في تقديم نسيج فني جمالي محكم. كل هذا جعلنا نقف عند هذه الرواية ملياً لنقاربها بدقة ونعطيها حقها من الاهتمام.
  على النقيض من مواضعات اللاوعي الجمعي والنسق القيمي في شرقنا العتيد، يتعملق تعاطفنا مع «صفية» كلما أبحرنا في الرواية، على الرغم من تفريطها بعفافها، وجلبها العار لأهلها باستسلامها لمطالب جسدها الجامحة. والأكثر من ذلك عدم تعاطفنا مع الأب الذي حاول مرات عديدة التخلص من عار «صفية» بقتلها، وفشل، فاستسلم لفكرة تسليمها للحكومة وإيداعها السجن، وهو ما حصل وجرّع صفية مرارات السجن لمدة ثلاثين سنة.
لكن، كيف استطاعت ليلى العثمان إيصالنا إلى هذه الحال؟ وكيف تمكنت من قلب الموازين، وتعرية النسق القيمي، وخلخلة المفاهيم الاجتماعية؟ بل كيف تجرأت على الخوض في محظورة الجسد، ثم محظورة كشف المسكوت عنه، أو الممنوع نبشه والاقتراب منه في المجتمع الكويتي، من دون أن تقع في المصيدة؟
منذ العتبة الأولى للرواية يطالعنا العنوان «حكاية صفية»، فما الحكاية؟ ومن هي صفية هذه التي استحقت حكايتها نسج رواية كاملة عنها؟ إنها أنثى أولاً، وصفية من الصفاء والاصطفاء ثانياً. هذه بعض الجوانب الأولى التي تهيئها عتبة العنوان، ثم تأتي العتبة الثانية لتستثير مكامن الجذب والتشويق أكثر. إنها عتبة الإهداء التي توحي بحقيقة الحكاية: «إلى التي وعدتها قبل موتها، أن أروي حكايتها ذات يوم»، وتشــير أيضاً  - بشكل غير مباشر - إلى أهميتها وخطورتها في آن واحد، ذلك أنها حوصرت بالكتمان ولم تُروَ في حياة صاحبتها، وما كان بالإمكان إفشاؤها إلا بعد موت صاحبتها.
ليس هذا فحسب، بل تتكثف المغريات أكثر من خلال عتبة المقطع الشعري الذي اختارته العثمان، وسبق الولوج المباشر إلى نص الرواية. إنه مقطع للشاعر دخيل الخليفة يومئ من خلاله إلى الحرية المقموعة التي تفضي محاولة القبض عليها إلى الموت:
من جناح الموت الرابع
حاولت أن تقلد العصافير
في رقصتها الأخيرة
فخانها الهواء
إذن، هي حكاية خطيرة، ولأنثى ذات صفاء واصطفاء، وتتعلق بحرية يكلف السعي لامتلاكها الموت. تلك بعض عناصر التشويق التي اصطفتها الكاتبة لجذب القارئ وإغرائه بالدخول إلى نص الرواية ، فضلاً عن المحفز الأكبر وهو اسم الكاتبة ليلى العثمان الذي تلازم في ذهن القارئ مع الإجادة والجرأة، استناداً إلى نصوص كثيرة سابقة.
منذ الصفحة الأولى للرواية يصفعنا الأب بعقاب قاس لطفلته «صفية» ذات الأحد عشر ربيعاً، لمجرد أنها خرجت من البيت إلى الشارع ولعبت مع الصبيان «حملها وهي تعافر بين يديه، وبقلب انقشعت منه الرحمة ألصق قدميها على «التاوة» المستعرة بنارها حتى فاحت رائحة شوائها وصراخ أختي يستعر». ونقف على حقيقة أنها لم تكن المرة الأولى التي تعاقب فيها «كم مرة رفع قدميها، وجحشها بالعصا حتى تورمتا». لكن الحقيقة التي تفاجئنا هي «ما إن تبرأ جراحها حتى تلبي نداء الشارع»، و«رغم طفولتي كنت أستغرب، ما الذي يجعلها تحب اللعب مع الصبيان». 
خيط عناد صفية ما يلبث أن يتطاول أكثر فأكثر حتى يتحول إلى كتلة لعنة، لكن الرواية تكشف شيئاً فشيئاً أنه  لا ذنب مباشراً، لصفية أوردها هذه اللعنة، وهو ما تلعب عليه ليلى العثمان ببراعة. إنه مسألة خَلْقية لم يكن لصفية يد فيها، إذ كان جسد البنت طافحاً بعوامل الاستجابة الحسيّة، وظهر لديها ميل لا يقاوم إلى اللعب مع الصبيان، والتعافر معهم في الشارع كلما سنح لها الظرف، دون خوف من العقاب الذي ستناله. 
وحتى بعد أن قيدها أبوها بعمود الليوان من الظهر حتى صلاة المغرب، وحرم عليها الخروج إلى الشارع/الحرية، نجدها تجلس خلف النافذة المطلة عليه، وتراقب الشباب حين يتصارعون.
وسرعان ما تتسع نافذة الحرية حين ينوب سطح المنزل عن الشارع، وتجد صفية مرادها عند حسين ابن الجيران، فلا تتورع عن زيارته في بيت الحمام، وذلك بعد صراع داخلي بين الرفض والقبول، «لكن روحها التائقة تحرضها على مقاومة خوفها. أغمضت عينيها وقررت: سوف أصعد». هذا الصعود كلفها عذريتها، فقررت بعدها: لن أصعد، لكن ما إن مضى أسبوع حتى استكانت لنداء جسدها، وعاودت سيرتها مع حسين. وحين شك الأب، راقبهما، فاكتشف اللعنة، وراح يحيك لها موتاً غير القتل المباشر، فسجنها في غرفة السطح «أربعين يوماً تجوع فيها وتعطش حتى تفارق روحها جسدها». وحين لم تمت، دبر لها ميتة أخرى، حيث ملأ أرض الحوش بالحديد والصخر والجندل والطابوق، ثم أصعدها إلى غرفة السطح وأجبرها على رمي نفسها، لكنها لم تمت أيضاً!
وعلى الرغم من كل ذلك عاودت صفية، بعد شفائها ومغادرة أبيها إلى الحج، سيرتها الأولى، ومن الباب الأوسع.
وحتى حين عاد أبوها من الحج وعلم بما كان من انحرافها، وأودعها السجن لمدة ثلاثين سنة، نجدها تجهر بالحقيقة لأخيها هلال، الذي أخرجها من السجن بعد موت الأب وسألها عن ظلمه وندمها: «ظلمني جسدي... ليش أندم؟ لن أستحي منك»، كانت صفية ضحية لنداءات تكوينها الجسدي المتطلّب. 
 اشتغلت ليلى العثمان على المتقابلات الضدية لتبئير الحالة، فجمال صفية بدا جلياً منذ ولدت، بل إنها فاقت جمال أمها بجاذبية ساحرة لكل عين تراها، لكن المفارقة أن والدها أخذ حين انبهر بجمالها يستغفر ربه ويتعوذ من الشيطان، ويهمس: «اللهم استرنا من هذا الجمال، يبدو أنها ستشقينا به». وهكذا كان الجمال في عرف الأب، والمجتمع عموماً، موجباً للاستغفار والتعوذ من الشيطان، ومنذراً بالويل والثبور.
المفارقة الأخرى هي جنوح صفية المتواصل نحو الحرية عبر الخروج إلى الشارع، أو استدعاء الخارج إلى الداخل من خلال النافذة، أو عبر السطح، وصولاً إلى سطح الجيران، وهو ما قابله الأب، الذي تعمدت الكاتبة اختيار مهنة «القفاص» له، بما أفضى إلى تحويله البيت إلى قفص حاول سجن صفية وجسدها فيه، لكنه حين اكتشف خلل قفصه وعجزه عن أداء المهمة لجأ إلى القفص الأكبر وهو السجن الذي سلخ ثلاثين سنة من عمر صفية.
ولا ننسى التمايز الصارخ الذي رسخه اللاوعي الجمعي في المجتمع لتكريس دونية الأنثى، والرفع من منزلة الذكر. فعندما ولدت صفية رفض الأب تسميتها «لو كان ولداً لسميته... سميها أنتِ». بينما عندما ولد أخوها هلال «أشرق في قلب الأب كالبدر، فسماه هلال». وحين كان يحرض هلالَ على صفية لضبط تصرفاتها، كان هلال يحتج بأنه الأصغر، فينهره الأب قائلاً: «حتى لو هي الأكبر، أنت الولد وهي البنت». 
الجرأة في الطرح ليست جديدة على ليلى العثمان، خصوصاً انتقادها الدائم لتحامل المجتمع على الأنثى، كما وقفنا على ذلك آنفا، فإن «حكاية صفية» ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير. لقد تمركزت حول موضوعة الجسد، بكل ما فيها من أشواك مجتمعية يحرص الجميع على النجاة من وخزها إيثاراً للسلامة. لكن ليلى العثمان وباقتدار فني بارع، تمكنت من تشريح هذا الجسد كجسد، بعيداً عن مشاعر الحب، كما حدث مع «وسمية» في «وسمية تخرج من البحر»، ذلك أن صفية مجرد طفلة لم تجرب مشاعر الحب، ولم تنطلق في التعامل مع جسدها من تلك المشاعر، بل من حاجات الجسد الخلقية المفرطة.
الأجرأ من موضوعة الجسد هو تناول المسألة العقدية بالنقد، ذلك أنها تتربع على رأس ثالوث المحرمات، وتورد من يقترب منها المهالك، والعثمان لم تمايز أو تفاضل في الرواية بين دين وآخر، بل ألقت اللوم على التمايز بين مذهبين في الدين الواحد. فعندما ذهب عيسى إلى جاره السماك، بغية الستر على ابنته صفية، بعد أن عابها ابنه حسين، اصطدم بمنطق السماك المذهبي. «وعندما أراد عيسى إذابة الفوارق وقال: «وما الفرق؟ كلنا مسلمون»، رد أبوحسين: «الفرق عندكم وعندنا، وأنت تعرف هذا الشيء». وهنا يسأله عيسى أن يكونا البادئين بكسر الفوارق، فيرد السماك: ما شاء الله!» ولا يسمح الجدل بينـــهما بتجاوز الفوارق. 
لا شك في أننا سنشعر بغصة مؤلمة حين نتذكر أن ما تناولته الكاتبة في هذه الرواية يعود إلى الربع الأول من القرن العشرين، لكن سرعان ما تتضاعف هذه الغصة، ونحن نلمس تجذّر هذا الموقف واستفحال الفوارق بين المذهبين ونحن في الربع الأول من القــرن الحادي والعشرين!.