الأنثى الأخرى في سيرة ليلى العثمان الروائية

الأنثى الأخرى في سيرة ليلى العثمان الروائية

إن الأعمال الإبداعية التي تناولت معاناة المرأة من سلطة الذكورة الاجتماعية أكثر من أن تحصى، بينما الأعمال التي تناولت مكابدات المرأة من المرأة نفسها ليست بهذه الوفرة بكل تأكيد، برغم أن الخلافات بين أبناء الجنس الواحد أكثر من الخلافات بين الجنسين، كما يقول روبرت لوي تيفنسن. 

لقد ظلت أزمة العلاقة بين الرجل والمرأة في الواجهة، وبقي الرجل المتهم الأبرز في تأزم هذه العلاقة وفي كل ما أصاب المرأة من مآسٍ ومعاناة شملت تكوينها العقلي والنفسي، إذ أرجعت حتى سيمون دوبوفوار وربطت في كتابها «الجنس الثاني» عوامل تطويع المرأة بطبائع الاستكانة والامتثال إلى فعل ذكوري مرتكز على أناه الجمعية التي يتحدد منها، على نحوٍ مسبق، شكل السلوك الإنساني المراد له أن يكون متوافقاً مع الأعراف والتقاليد الاجتماعية، كما يرى كارل غوستاف يونغ. لكن ما الذي يمكن أن يحدث إذا استولت الأنوثة على مقاليد سلطة هذه الذكورة؟ وما الذي يمكن أن يحصل إذا استخدمت الأنوثة مقاليد هذه السلطة ضد بنات جنسها؟ وعلى أي شيء يمكن أن يسفر العداء حين يكون بين المرأة والمرأة؟! 
ثمَّة روايات قاربت هذا العداء الذي نشير إليه، وسعت من خلال رصدها له إلى تقديم ما يمكن أن يسفر عنه وخصوصاً على الصعيد الأسري؟ ونستطيع القول في هذا الصدد: إن الكاتبة الكويتية ليلى العثمان قد استولت على مكانة متقدمة في سبر أغوار هذا المجال، وذلك بعد أن أولت هذه المسألة اهتماماً متعاظماً منذ روايتها الأولى «المرأة والقطة» التي تُملي على أي دارس لها التوقف عندها، على نحوٍ يتسنّى من خلاله الإحاطة بمقاصد أطروحاتها والإلمام بما تتمخض عن تفاصيل مجرياتها، لأنها شكلت منعطفاً مفصلياً في مسيرة الكاتبة بعدما انتقلت عبرها من الكتابة القصصية إلى الكتابة الروائية، ولأن آثار مكوّنات هذه الرواية امتدت إلى محتوى رواياتها الأخرى (وسمية تخرج من البحر، حلم الليلة الأولى، صمت الفراشات...)، التي تابعت بسياقاتها سيرتها الروائية القائمة على رصد تلك العلاقة الضدية بين المرأة والمرأة، المبنية على ما يمكن أن يتمخض عنها من آثار مختلفة ليس على المرأة وحدها، بل على الرجل أيضاً. 

المرأة والقطة... والذكورة المصادرة
 على الرغم من عدم الإشارة إلى الرجل في عناوين ما صدر للكاتبة من روايات، فإن السياق الروائي جاء حافلاً بما يمسّ حياته على نحوٍ مباشر. وما رشح عن الحدث الروائي المركزي بكل تفصيلاته جاء منقولاً عنه من خلال شخصية «سالم» التي تعتبر الشخصية المحورية والأبرز في الرواية، فهو المتهم وهو الضحية... هو المفجوع بمقتل عروسه وهو المتهم بقتلها. فاقتيد إلى السجن، وإثر انهياره العصبي والنفسي تمّ نقله إلى المستشفى، وهناك كلما حاول المحقق والمحامي والطبيب حثه على الكلام وكشف الحقيقة علا صراخه رافضاً الاعتراف بجريمة القتل، فيحقن من جراء تجدد صراخه بإبر المهدئ المخدرة ويغيب عن وعيه وينفلت شعوره ولاشعوره من عقاله ويطفو على سطح السرد الروائي ما هو مخبوء في أعماقه. وتبدأ السيرة الروائية كاشفة لنا عبر تقنية الخطف خَلْفاً ملامح الشخصية المؤثرة في مسار الحدث الروائي، وفي المقدمة تأتي العمة التي تعتبر الخيط الرئيس في نسيج الفعل السردي والحكائي، نظراً لما تتمتع به شخصيتها من هيمنة واستبداد مكّناها من وراثة سلطة الذكورة في البيت بعد رحيل أبويها إثر حريق شبّ في غرفتهما، فتولت تربية أخيها الوحيد 
(أبو سالم) الذي يصغرها سناً وقامت بتزويجه ثلاث مرات، وما إن يمضي عدد من الشهور على كل زيجة حتى تدفعه إلى طلاق المرأة التي اختارتها له بعد أن توجه لها تهمة الخيانة تارة والعصيان تارة أخرى، وحين اعترض أخوها على طلاق زوجته الثالثة لأنه أنجب منها ابنه (سالم) ردّت عليه: «أنا أربيه كما ربيتك»، ويتم الطلاق من زوجته الثالثة بالفعل، دون سعي منه للارتباط بأي امرأة أخرى بعدها... ويبدو أن ذلك يأتي تحاشياً لسادية أخته التي انصبّت بعدئذٍ على ابنه سالم وعلى قطته دانة التي كانت سلوته بعد فقدانه أمه، فكان يشكو لها معاناته من عمته وكرهه لضعف أبيه أمامها، وكان على الدوام يسعى لطرد الخوف من داخله عند مخاطبتها كي ينجو من هذا الضعف، وحين تهدده بالضرب كما ضربت قطته، يقول في أعقاب ردّه عليها:
«لا أدري كيف جرؤت... كيف استطاع صوتي المخنوق أن يغادر حلقي؟ ويتأتئ بالكلمات؟».
 من خلال هذه الانطلاقة لصوت سالم تبدأ بالنمو نبرة مجابهة ذكورية متصاعدة ضد صوت العمة المفعم بسادية طالت كل من حولها، سواء كان رجلاً أو امرأة، وتراكم الكاتبة هذه النبرة المضادة في صوت سالم فتقدمها مرة جديدة بصوت آخر موازٍ لصوته وباسم موازٍ لاسمه أيضاً في روايتها «العصص» عبر شخصية «سلوم» ناقلة صوته من النبرة الفردية الكارهة (للعصص - الذيل) عند الحيوانات بالمعنى التشريحي، إلى النبرة الجماعية الرافضة (للشخصية - الذيل)، أي الشخصية الإمّعة التي لا مواقف ولا رأي لها بالمعنى النفسي والعقلي عند الإنسان.
وتقدم الكاتبة أيضاً في روايتها «صمت الفراشات» ما يوازي شخصية العمة المستبدة من خلال شخصية الأم القامعة التي دفعت ابنتها صغيرة السن إلى الزواج من رجل كهل طمعاً بماله. وتورد على لسان البنت نفسها مقدار القمع الأنثوي الذي تعرضت له، مضيفة عليه القمع الذكوري وهي تقول: 
«الأم تضغط بسبابتها على شفتيها وتقول: «اصمتي واسمعي»... أبي له طريقته الخاصة في إصدار الأمر بالصمت، مجرد أن يلمح إشارة الاعتراض على وجهي، يصفق بكفيه، فأفهم أن عليّ ابتلاع الكلام وصوتي... وأخي لم يكن أرحم، حتى المعلمة التي يفترض أنها المربية الفاضلة ضاقت بجدالي المتكرر، وعاقبتني بطرق شتى فتعلمت الصمت في حضرتها... كرهت صمتي لكنني واصلته...».

سلطة الأنوثة وحراكها الاجتماعي 
عبر هذا البوح الأنثوي الشاكي تقدم ليلى العثمان قمعاً مركباً تشكو فيه الأنوثة من الأنوثة أولاً ثم من الذكورة تالياً... وإذا كانت بطلتها قد مالت إلى التكيف معه في رواية «صمت الفراشات»، فإن بطلها سالم المقموع أنثوياً أيضاً في روايتها «المرأة والقطة» يمضي إلى موقف مضاد ورافض لهذا القمع الأنثوي المتمثل بعمته، وذلك من خلال ما تُظهره الكاتبة بالاعتماد على تيار الوعي الذي يرتفع بوساطته منسوب الرفض بصوت سالم عند كل انتهاء لمفعول الإبر المخدرة له، حيث يعلو صوته في أعقابه، ليؤكد أن عمته هي من قتلت زوجته «حصة»، وبعد إعادة تخديره يصبح الاعتماد على تيار اللاوعي، وعبره تضيء الكاتبة مخبوء الحياة الماضية لشخصياتها، وذلك بعد انفلاتها من عقال الرقابة الشعورية، فتتداخل الأزمنة في قوام السرد الروائي بين حاضر جريمة القتل وماضيها المكفن بحادثة قتل أخرى للقطة «دانة» بطريقة مبتكرة ومروعة، وهو ما يكشف بعض ما يومئ إليه عنوان الرواية «المرأة والقطة» الذي لا يأتي اختياره لتعدد إيحاءاته كما يفضل أمبرتو إيكو، بقدر ما يكون مجيئه منصبّاً في خدمة الحدث الروائي وتفصيلاته التي أتى عليها السياق. فالمرأة تشمل القاتلة (العمة) والمقتولة (حصة) والقطة في مثولها بالسياق ذاته لا يمكن عزلها فيه عن اسم «دانة» الملقبة به، لأن أخطر ما تمارسه اللغة هو التسمية، فهي تأخذ المسمى إلى حال أخرى من التمايز كما يعبر رومان جاكبسون... والقطة «دانة» التي يضعها اسمها الذي أطلق عليها بمصاف اللؤلؤة يُكْسِبها صفة التغاير والاختلاف، فلم تعد كأي قطة أخرى، لذلك لم يستبدل بها سالم قطة ثانية بعد أن قتلتها العمة التي اندفعت للتخلص منها في أعقاب رؤيتها لها وهي مستسلمة لهر الجيران، الأمر الذي أيقظ عداءها المعهود للذكورة والأنوثة وكرهها لأي علاقة تنشأ بينهما على الألفة والحب، فكما أرغمت أخاها على الانفصال عن كل زوجة ارتبط بها، ترغم القطة «دانة» والهر على الانفصال بصورة تفيض بألوان الحقد والنقمة. تقول الكاتبة في وصفها له:  
«استدارت لدانة تهش الهر عنها، لكنه لم يبالِ. ثار غضبها. مدت يدها. أمسكت بهما شدتهما بعنف كلاً بيد، فانفصلا...».
وتتجاوز العمة لاحقاً هذا الانفصال إلى فعل أشد بشاعة وفظاعة، ممسكة بالقطة ثم زجها داخل فتحة بيت الخلاء إلى أسفل حفرته، ولم تكن توسلات ابن أخيها سالم تجدي نفعاً في التماس عفوها عن قطته كي لا تلقى هذا المصير الذي أفجعه وأعاد له - عبر الذاكرة - الأفعال البشعة الأخرى لعمته وجلافتها في طرد أمه التي جاءت بعد طلاقها من أبيه، متوسلة السماح لها برؤيته وكذلك قسوتها في معاملة زوجته «حصة»، برغم أنها هي التي اختارتها له كما كانت تختار زوجات أبيه من قبل، ومع ذلك كانت لا تطيق وجودهن في حياة العائلة، فيمتثل أبوه لرغبتها ويتخلّى عنهن، وحين رفض هو أن يذعن كأبيه وأصر على عدم التخلي عن عروسه (حصة) بدأ يعيش مُفْترقاً جديداً مع عمته وأبيه ومع عروسه حصة ذاتها، بعد أن انتابه الشك بالجنين الذي حملته في أحشائها، لأنه لم يتمكن من الدخول بها عدة أشهر، من جراء تراجع قدراته الجنسية بسبب ما كان يتعرض له من عمته من إحباطات مختلفة طوال السنوات السابقة لزواجه، وهو ما أفضى إلى العديد من المواقف التي يشوبها التناقضات والمفارقات الحادة التي أفضت إلى الشك عند سالم بأبوة الجنين، وهو الذي عجز عن التواصل مع حصة منذ ليلة الزواج، ويذهب الشك بعيداً ليحوم حول الأب.

تناقضات اللاوعي
وانسياقاً وراء الحيرة والصرامة، يطالب الأب بقتل حصة أو تطليقها فيرفض سالم، وحين ينفضح السر ويصل إلى العمة يزداد عليه التهديد والوعيد إذا لم يقم بطلاقها، ويزداد هو عصياناً وتمرداً، وتغمره الأحاسيس بوجوب حماية عروسه من عمته ومن أبيه أيضاً، ويغرق بمشاعر ملأى بالتناقض، فهو برغم كل حمم الشك التي يكتوي بها يجد نفسه في ذرى حبها والتمسك بها والانشداد إليها، وما إن يخلو له البيت يتوج تمرده المستعر بالمتناقضات بامتلاك جسدها الذي لم يبلغه أيام زواجه الأولى، وكأن ذلك قد تمّ بعد تحرره الشعوري مما ألحقته به عمته من أسباب العجز التي كان من مؤداها انكسار فعله الذكوري، ليس الجنسي وحسب بل وغير الجنسي أيضاً، لذلك كانت تعيده الكاتبة من خلال سياق الأحداث إلى أيام طفولته وعدم تمكنه من الدفاع عن قطته (دانة) والشعور الغريب المفعم بالنشوة لعلاقتها مع الهر، وهو ما استرجعه إعادة علاقته بعروسه حصة بعد شهور من زواجهما، الأمر الذي جعله في حالة تماه مع الهر والقطة فتصبح في عينيه دانة... اللؤلؤة، هي حصة. وهو ما يعيد إلى الأذهان التماهي نفسه الذي دوّنته ليلى العثمان عبر مجموعتها «في الليل تأتي العيون»، الذي تأخذ من خلاله القطة وهرها بالعجوزين على جناح الذكرى إلى عمرهما الغارب والمفعم بأيام الحب والصبا والشعور بمرتبة الرضا الجسدي التي بلغها سالم في آخر لقاء مع عروسه قبل أن تطولها حادثة القتل. وبموجب هذا التماهي تصبح جميع العناصر المكوّنة له في كُلّ واحد، متواشج فيه، ومتداخل عبره، على نحوٍ تمثيلي، العضوي بالنفسي واللغوي، فتختلط من جرّائه أسماء الشخصيات لإنشاء التوحد الدلالي في أحوال كل منها، فتمحى الفوارق بين ذكورة سالم والهر، كما تنعدم الفواصل بين أنوثة حصة والقطة، ويأتي التعبير عن ذلك عبر مشهد يقول الراوي في وصفه: 
«انطرحت بجانبه كقطة... آهاتها تحرك سواكنه، حصة بين يديه هي دانته، وهو الهر القوي المشتاق... كل عذابات الماضي تغادر في لحظة. طبول عرس تدق، زغاريد أمه والنساء، ووجه حصة يتألق... يعتلي أسوار القلعة فارساً ويقتحم الباب. يخترق الدهليز المحصن. فتسيل الجدران بلون الورد... الجنة فتحت لهما الأبواب وأكلا من ثمرها الشهي... صارت حصة له وصار فارسها الشجاع».
بهذا الفرح المتوهج بمشاعر استعادة الذات المستلبة، يمضي سالم لإحضار طعام جاهز يليق بعروسين، ويمر على بيت أمه ليزف لها بشرى ابنها المسترد رجولته، ويأتيه منها حل لغز الحمل الذي يحدث أحياناً للعذارى، وتعمدت الكاتبة هذا الالتباس، مستثمرة جهل بطلها بهذه الأمور لتزيد نار الشك في صدره بحصة وبأبيه، وصولاً إلى عمته، ولكي تنمي فيه روح التمرد، وهي بذلك تتوافق مع مقولة لإيونل تريلنج بأن الرواية بحث مستمر في الميدان الاجتماعي، وهو ما جعل ليلى العثمان تدفع بطلها إلى ما يحقق مبتغى واقعها النصي، فجعلته يمضي إلى أبيه ليكاشفه بكل ما سبق، برغم أن أمه هي الأقرب إلى قلبه في هذه المكاشفة التي تأخر بلوغها إلى مسامعها، فكان الثمن مقتل حصة والانتقام منها من قبل العمة وكَيْل اتهام الجريمة لسالم، الذي لم يبق له من عسل حياته المريرة سوى السجن ومشفى العلاج من الانهيار العصبي الذي ابتدأت رواية المرأة والقطة بصراخه أمام الطبيب المعالج والمحامي، كما انتهت بالصراخ ذاته الذي يعلن به براءته واتهامه لعمته بقتل حصة، ثم عودته إلى الغياب والهذيان بفعل إبر التخدير، وهو ما يُكسب الرواية معمارية دائرية مغلقة وبنهاية مفتوحة على التحقيق بجريمة قتل لم يصدر فيها حكم القضاء بعد.

شخصيات تبحث عن خلاص
سعت الكاتبة ليلى العثمان بفعل تفاصيلها إلى الاستفادة من معطيات مدرسة التحليل النفسي في رصد العالم الداخلي الشعوري واللاشعوري لشخصياتها، وصاغت من هذا الرصد ومن معطياته في مجمل رواياتها سيرتها الروائية على نحو أظهرت فيه تشابه واختلاف سجايا الكائنات الحية، مستخلصة من هذا التباين السلوكي القائم، أنه كما في المخلوقات غير الإنسانية كائنات أليفة وغير أليفة، فإن الكائن الإنساني في سائر المشهد الحياتي متلوّن الطباع والسلوك أيضاً... فالمرأة في سياقاتها الروائية المُتَمثّلة في «أم سالم وزوجة ابنها في رواية المرأة والقطة» و«ناديا في رواية صمت الفراشات» ووسمية في رواية «وسمية تخرج من البحر» غير الأنثى الأخرى المستبدة المُتَمثّلة في عمة سالم وأم ناديا، وكُلّهن ضحايا قمعها بعدما تضافرت عليهن مع الأنا الذكورية العليا كتضافرها مع هذه الأنا ضد الرجل أيضاً، والمُتَمثّل في «سالم وأبيه وسلوم وعبدالله...»، ما جعل معاناة معظم الشخصيات عند العثمان متشابهة كما جاء مصيرها مشتركاً، بعد أن تقاطعت فيه بطلاتها مع أبطالها، وهي بذلك تؤكد أن الرجل ليس قاتلاً أو جلاداً دائماً، والمرأة ليست وديعة وضحية بلا مخالب كل مرة!.