من أرجونا إلى غاندي ... إلى أروندوتي روي ماذا تقول أغنية الهند السماوية؟

من أرجونا إلى غاندي ... إلى أروندوتي روي  ماذا تقول أغنية الهند السماوية؟

بتأثير عقيدته الباكتية (التوحيدية)، أطلق المهاتما غاندي (1869-1948) على أبناء طبقة المنبوذين الشهيرة في الهند  لقب «أحباب الله»، في محاولة منه لاستكمال صراعه التحرري من أجل هند جديدة من رواسب القرون الماضية. وكان يمكن لهذه المحاولة أن تحرّر المخيلة الهندية، والبشرية بشكل عام، من استعمار للمخيلة والوعي ينبع مما يعتبر نصوصاً مقدسة في التراث الثقافي الهندي، ويكرّر طوفانه من عصر إلى آخر. 

لكن هذه الفكرة لم تتحول إلى عملة سائرة متداولة، وظلت الهند، في أثناء حياة غاندي وبعدها، عاكفة على تداول مسكوكاتها القديمة، وخاصة مسكوكة ذلك الجزء من ملحمة «المهابهاراتا» الشعرية الذي يقع في منتصفها، المسمى «باجافاد جيتا»  (الأغنية السماوية)، والذي يعتبره الباحث ناداماش د. مهيتا «توراة الهندوس المقدسة»، ويعتبر الشخصية المركزية فيه، شري كريشنا، تجسّداً كاملا للسماوي. ما نقصده بالمسكوكة القديمة هو النظام الطبقي الحديدي الذي قسم المجتمع الهندي مرة واحدة وإلى الأبد إلى طبقات كهنة ومحاربين وتجار ومنبوذين. هذا التراتب الطبقي يمنع التراشح والتناضح بين هذه المراتب، ويضع أفرادها في مكانة مقررة سلفاً وجاهزة بالميلاد، لا يستطيعون تجاوزها تحت طائلة عقوبات تصل إلى حد القتل. 
قبل ذلك، ومع وصول البريطانيين في القرن السابع عشر، وسيطرة «الراج البريطاني»، أي الحكم البريطاني، على الهند كاملة في منتصف القرن التاسع عشر، حاول أفراد الطبقة المنبوذة بمختلف مسمياتهم، الخلاص من قيد النبذ والاضطهاد باعتناق المسيحية، إلا أن هذه المحاولة كانت «قفزة من المقلاة إلى النار»، على حد تعبير الروائية الهندية أروندوتي روي، في روايتها «إله الأشياء الصغيرة» الصادرة بالإنجليزية في عام 1997، والمترجمة إلى العربية في عام 1999. وفي عام 2003، ومع صدور رواية «أزمنة الحصار» للروائية الهندية أيضاً، جيتا هاريهرن، بدا أن الهند بدأت تشهد موجة أصولية قمعية تستهدف ترسيخ ميول قيم تلك «التوراة المقدسة» في النظام التعليمي. وبدا الأمر بالنسبة إلى هذه الروائية، «كما لو أن هناك محاولة لحصر مشهد ثقافي معقد غني في زي واحد متماثل». وهو الأمر نفسه الذي تناولته في روايتها، ومحورها أستاذ جامعي تمنعه الأوساط الأكاديمية من إلقاء محاضرة عن باسافانا، الشاعر الباكتي من القرن الثاني عشر، المصلح والمنتقد للنظام الطبقي، بحجة أنه لا يأخذ في اعتباره الرؤية الهندوسية الموروثة، ويخدش تناوله لقصائد باسافانا المشاعر الدينية!  
الهند تركيبة هائلة من عقائد ولغات وشعوب، وربما لا يعرف سوى قلة من الباحثين، من المعنيين بالشأن الثقافي لا السياسي، أن المهاتما غاندي، بمذهبه الباكتي، كان أحد الموحدين الذين يقفون خارج بنية الهند التقليدية، طبقياً ودينياً، وينتمون إلى طائفة قديمة كانت من أوائل الطوائف المبشرة بالأخوة الإنسانية، وقيمة العمل، وإمكان الخلاص الديني لكل إنسان بصرف النظر عن مكانته الطبقية. من هؤلاء كان الشاعر الهندي رابندرانات طاغور، وعدد من قادة الفكر في الهند. يذكر أن أول من ذكر أن الهنود أناسٌ موحدون يؤمنون بإله واحد، على عكس ما هو شائع قديماً وحديثاً، هو الفيلسوف والفلكي والجغرافي والمؤرخ أبوالريحان البيروني (953-1048) في مقدمة كتابه «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة»،  وكان مرجعه في ذلك كتاب الجيتا الذي أشرنا إليه، وكتب أخرى اطلع عليها في لغتها الأصلية (السنسكريتية).  ولكن برغم هذه اللمحات التوحيدية والإنسانية، فقد ظلت المأساة الخاصة بالشخصية الهندية، مع غنى وتنوع منجزاتها الحضارية، كامنة، حسب تعبير كاتب هندي يعيش في بريطانيا، في جذور ثقافة الهند الآرية الوافدة، الثقافة التي تجمدت في نص الملحمتين: المهابهاراتا والرامايانا. هذه الثقافة أسست منذ البداية لمبدأ من أخطر المبادئ: انتفاء معيار التمييز بين الصواب والخطأ في هذا العالم، مع أن شري كريشنا، الآنف الذكر، يقول إنه يعود إلى العالم بين فترة وأخرى، ويتجسد على هيئة بشرية، كلما غابت العدالة وساد الظلم، حتى يصحح الخلل. 
يتضح المبدأ الخطر في الفصل المسمى «الأغنية السماوية» الذي هو حوار بين المحارب أرجونا وشري كريشنا المتخفّي على شكل سائق عربته. تقول هذه الأغنية إن أرجونا حين صعد إلى «الفردوس» بعد موته (حسب رواية أسطورته)، لاحظ أن عدوه الشرير، الذي قاتله باستماتة خلال حياتهما الأرضية، يشاركه العيش في «الفردوس»، فيسأل كريشنا عن سر هذا التناقض؛ أن يلتقي الأخيار والأشرار في الفردوس، فيأتي جواب كريشنا المذهل: «لقد استحق عدوه الفردوس لأنه حارب كرجل شجاع، كآري حقيقي»! 
إلا أن الحوار بين أرجونا وكريشنا وهما على الأرض بين الجيشين المتحاربين، وهو حوار يشكل نص الجيتا كله، ذو دلالة أوقع. فقبل أن تبدأ المعركة يطلب أرجونا من سائق عربته في السطرين 21 و22 من القسم المعنون «كآبة أرجونا» أن يتقدم ويقف بها بين الجيشين حتى ينظر إلى كلا الطرفين التائقين إلى القتال، وحتى يعرف من يجب أن يقاتل حين تبدأ المعركة، وهناك يرى في كلا الجانبين الأجداد والآباء والأخوال والأساتذة والإخوة والأبناء والأحفاد والأصدقاء أيضاً (السطران 26 و 27)، فيقول عندئذ مخاطباً سائق عربته «وأنا أرى يا كريشنا أقاربي هؤلاء متجمعين لقتال بعضهم بعضاً، تخذلني أطرافي، ويجف فمي، ويرتعش جسدي، ويقفّ شعر رأسي، ويفلتُ قوسي من يدي، ويشتعل جسدي؛ لستُ قادراً حتى على الوقوف، ويضطرب فكري، إنني أرى نذر الشر،  لا أرى خيراً في قتل أقاربي في المعركة» (السطور 28 إلى 31).
ويعلل إحجامه هذا بالقول «لأنني لست راغباً، لا في النصر ولا في اللذائذ ولا في الممالك؛ فبماذا تنفعنا الهيمنة يا كريشنا، أو اللذائذ أو الحياة حتى؟ الذين نرغب من أجلهم بالممالك واللذائذ والمتع يقفون متخلين في المعركة عن الحياة والثراء، لا أريد قتل المعلمين والآباء والأبناء، ولا الأجداد والأحفاد وآباء الزوجات والأخوال وإخوة الزوجات والأقارب، حتى لو قتلوني يا كريشنا، حتى في سبيل السيطرة على العوالم الثلاثة، أو قتلهم من أجل الأرض» (السطور 32 إلى 35).
ويعبر أرجونا عن أسفه، ويرى  أننا كما يقول «منخرطون في خطيئة عظمى، لأن الطمع بمتع مملكة يدفعنا لقتل أقربائنا» (السطر 45)، وهنا يلقي بقوسه وسهمه جانباً، ويجلس على مقعد العربة مكتئباً مثقلاً بالأسى (السطر 47). 
في الجزء الثاني المعنون «سنيكيا يوجا» (تعاليم الفهم السليم)، يرد شري كريشنا، محاولا «تنوير» عقل أرجونا المضطرب الذي نسي واجبه، ويفلسف له شرعة القتل، محاولاً دفعه إلى خوض المعركة، ويقدم تفسيراً عجيباً: «أنت لا تقتل إذ تقتل على وجه الحقيقة، بل تقتل أشباحاً، لأن الأرواح خالدة لا تموت، وبالتالي فإن الشكوك التي تنتابك لا محل لها ولا موجب، لهذا حارب يا أرجونا» (السطور 14/16/17/18/19). 
هذا الفصل من الجيتا، مكرسٌ لتعليم أرجونا كيفية «إصلاح» عقله المكتئب الذي يراه كريشنا مختلاً خللاً لا يليق بالآري الشجاع، وذلك بالكشف عن أسباب الخلل والاضطراب، وإعادة التناغم بين أجزاء العقل مجدداً، وهو ما دعا الباحث د. فاسنت ريلي في كتابه  «الباجافات جيتا... تفسير على أسس التحليل النفسي والفلسفة النفسية» الصادر في بومبي في عام 1959، إلى تشبيه تعاليم كريشنا بالتحليل والعلاج النفسي المعاصر من بعض جوانبه. أما في جانبه الأكثر أهمية فهو تركيب نفسي، لأن تحليل كريشنا مختلف عن تحليل سيجموند فرويد. الخلل العقلي هنا لا ينشأ، كما رأى فرويد، عن كبت الغريزة الجنسية والرغبات، بل ينشأ عن فصام بين خصائص النفس السماوية والعقل اللاواعي بحوافزه غير السماوية. وهكذا، حسب هذا التحليل، فإن موقف أرجونا الممتنع عن قتال أبناء عمومته ومعلميه وأخواله...إلخ، تعبير عن اختلال عقلي. يقول له سائق العربة الفيلسوف: «يا أرجونا... من أين ألمّ بك هذا الضيق الخطر، هذا الاكتئاب الذي لا يليق بك كآري، والذي سيغلق دونك أبواب السماء؟» (السطر 2). 
فلسفة القتل وتشريعه على الأرض، وزوال فكرة الجزاء والحساب على الأعمال، هما لب تعاليم هذه الملحمة القديمة التي تخللت الثقافة الهندية بكل مستوياتها، العامة والخاصة، ووصلت إلى ثقافات أخرى غير هندية، وتسببت في نهاية المطاف بتقبل البؤس والشقاء الإنسانيين، وتقبل أكثر الأفعال عنفاً: الاستهانة بالحياة البشرية، وتأبيد التمييز الطبقي الحاد، مترافقاً مع إنشاد هذه الأغنية المنسوبة إلى السماء، وخاصة حين نعرف في السطور اللاحقة سبباً آخر وراء امتناع أرجونا وكآبته؛ إنه خشيته من أن يؤدي قتل الأزواج والآباء إلى خلل اجتماعي يؤدي من جانبه إلى اختلال النظام الطبقي المقدس! 
وهذا هو ما تخطته رواية «أروندوتي روي» تحديداً، فأثارت نقمة لم يفهمها في وقتها كثيرون. فبالإضافة إلى الشفافية والبساطة اللتين كشفت بهما الراوية عن هشاشة وتهافت السياسيين في ولاية «كيرالا» في خمسينيات القرن الماضي، ونفاق رجال الدين، أقامت محور روايتها على عرض مأساة الهند المبتلاة بروح أغنية الجيتا تلك.
لم تكن جريمتها كما ظنّ بعض ممن انتصر لها كتابة مشاهد جنسية، فهذه المشاهد، بل وأكثرها صراحة، مكتوب ومرسوم في أكثر كتب الجنس الهندية ذيوعاً، نعني كتاب «كاما سوترا»، أي كتاب الرغبة، الكلاسيكي المتوارث من القرن الخامس الميلادي، والذي لا يعدم أي سائح فرصة شرائه من البقالات هناك ليحتفظ بذكرى سياحته. بالإضافة إلى أن هذه المشاهد ذاتها تعرضها منحوتات معابد «كاجوراو» (النخلة) في ولاية ماديا برادش، جنوب شرق نيودلهي، على جدرانها الخارجية. وهي ذاتها المعابد التي زارها الشاعر عمر أبوريشة ونظم قصيدة «معبد كاجوراو» في وصفها (1957) ومر بها ابن بطوطة (1304-1368) خلال رحلته الشهيرة، وتحدث عنها البيروني حين رافق محمود الغزنوي في غزواته.  جريمة روي كانت أنها رسمت علاقة بين امرأة  من طبقة التجار وعامل يدوي من طبقة المنبوذين. مثل هذا اللقاء هو الذي عُدّ اختراقاً لإحدى المحرمات الهندية العريقة: التناضح بين الطبقات، أو امتزاج أفراد طبقة عليا بأفراد طبقة دنيا.  في واحدة من أساطير المذهب الباكتي التوحيدي الذي انتشر بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر، وكان من أبرز شعرائه، باسافانا وبرابهو وديسمايا وماها ديفي آكا، أن رجلاً من طبقة البراهمة قتل امرأته بسبب غيرته. وخلال تنفيذ حكم الإعدام قطع سيف الجلاد رأس خادمتها المنبوذة التي تعاطفت معها وعانقتها في لحظاتها الأخيرة، وبعد زمن ندم البرهمي، وقرر إعادة زوجه وخادمتها إلى الحياة، فأجرى طقوساً معينة اقتضت تقديم أضحيتين؛ شاة وجدي، ولكن زوجه عادت إلى الحياة بجسد برهمية ورأس منبوذة، وعادت خادمتها بجسد منبوذة ورأس برهمية. هذا التبادل يفسر أحياناً على أنه يرمز إلى الاختلاط الثقافي الذي حدث بين ثقافة الغزاة الآريين وبين ثقافة سكان الهند الأصليين، إلا أنه من الممكن تفسيره بطريقة أخرى؛ أنه سخرية من طبقة البراهمة وطقوسها ومن النظام الطبقي الحديدي الذي تسبب في إظهار تهافته خطأ بسيط في تقديم الأضاحي. 
فهل أحدثت رواية روي انقلاباً من هذا النوع، لم يستطع إحداثه المهاتما غاندي، رغم نياته الطيبة، فخلطت بين الطبقات؟ هي لم تستبدل رأساً برأس؛ رأس زوج التاجر برأس منبوذ، ولكنها ساوت بين الرأسين والجسدين، بأن أعادتهما إلى الحقيقة الإنسانية الواحدة التي تؤاخي بينهما. هذا الفعل في نظر نظام الطبقات ربما يفوق في «بشاعته» ما فعله البرهمي؛ فهو أخطأ سهواً ولم يقدم الأضاحي والطقوس بطريقة ملائمة، أما هي فقد تعمدت - عن سابق ترصد وتصميم - أن تكون «خاطئة» في نظر من أقاموا عليها دعاوى أمام المحاكم، وطالبوا بمحو الفصل الجوهري في روايتها، الذي تبدأ وتنتهي به. وربما لا يقل عن ذلك «بشاعة» إقدام الأستاذ في رواية جيتا على إيقاظ الشاعر باسافانا في الأروقة الجامعية، وهو المعروف جيداً بعدائه لنظام الطبقات، وتعدد الآلهة، وسخريته من طقوس الكهنة الذين شبههم بالببغاوات. أما بالنسبة إلى العقول المستنيرة، فهذا الشاعر، وبعده المهاتما غاندي، والروائيتان: أروندوتي وجيتا، يمثلون روح الهند الجديدة المتحررة من موروثات أغنية الجيتا المسماة سماوية، وكل الأغاني الإضافية التي تمجد القتل والتمييز بين خلق الله.