رياض الصالح الحسين وشِعريّة التفاصيل
أصاب رياض الصالح الحسين ( -1954 1982م) مرض مفاجئ، وهو في الثالثة عشرة يرجّحُ أنه عبارة عن قصور كلوي جعله يوقف دراسته، ويقترن على مدى سنواته التالية بإعاقةٍ سمعيةٍ ونطقية، مرفقاً بضعف في العلاقات الأسرية والعائلية، حيث كان ابناً لزوجة ثانية لأبيه، شكّلا سرّه الخفي، جاعلين إيّاه آلةً لتصدير الفرح بينما الانكسارات وجعه الدفين، إنه الشاعر رياض الصالح الحسين الذي ولدَ في بلدة مارع شمال حلب، ثم انتقل إلى حلب المدينة، وبدأ العمل لكسب عيشه في معمل للغزل، ثم في مؤسسة جامعية تعرف فيها إلى أول الأشخاص المهتمين بالأدب (علي كتخدا ونذير جعفر وبشير البكر)، ومن بعدهم مجموعة مهمة من الكتّاب (نبيل سليمان ونجم السمان، وحامد بدر خان).
نشر أولى قصائده في عام 1976، وكانت مزيجاً من النثر الذي تغزوه القافية والوزن كغالبية القصائد البكر للشعراء الجدد، ثم في عام 1977، صار النثر رفيق قصائده، وبدأت مرحلة الإنجاز الحقيقي حالما تبلورت الصورة وانتقل الشاعر إلى دمشق العاصمة التي غذّت هذا النتاج باللقاءات والعلاقات المباشرة مع روّاد هذه القصيدة حينها، ومنهم محمد الماغوط وبندر عبدالحميد وجميل حتمل وفرج بيرقدار وخالد درويش ووائل السواح وخليل صويلح. ثم مشاركته مع ثلة من الكتّاب في إصدار «الكراس الأدبي» وهي عبارة عن نشرة أدبية استمرت حتى عددها التاسع حين تم اعتقال واستجواب أغلب المشاركين فيها، ومن بينهم رياض ذو النفحة الثورية والحدس الإبداعي الذي جعل مادته صالحة لكل وقت، بل لعلّه الوقت ذاته يبقى صالحاً للمادة:
«يا سورية الجميلة السعيدة/ كمدفأة في كانون/ يا سورية التعيسة / يا سورية القاسية/ كمشرط في يد جرّاح/ نحن أبناؤك الطيبون/ الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك/ أبداً سنقودك إلى الينابيع/ أبداً سنجفف دمك بأصابعنا الخضراء/ ودموعك بشفاهنا اليابسة/ أبداً سنشق أمامك الدروب/ ولن نتركك تضيعين يا سورية/ كأغنية في صحراء».
في عامين متتاليين (1979-1980) أصدرت وزارة الثقافة مجموعتين شعريتين، الأولى «خراب الدورة الدموية» والثانية «أساطير يومية» للشاعر الحسين، ثم قبل وفاته بخمسة أشهر (1982) تم إصدار مجموعته الثالثة «بسيط كالماء.. واضح كطلقة مسدس» عن دار الجرمق الفلسطينية، دمشق. وبعد وفاته بنحو عام (1983) صدرت له المجموعة الرابعة بعنوان «وعل في غابة»، وكانت عبارة عن مخطوط أخذه الشاعر العراقي الراحل محمد مهدي علي من أحد أدراج تلك الغرفة البائسة التي مات فيها رياض، خاصة أن علاقته بالشعراء العراقيين المقيمين في دمشق في السنة الأخيرة كانت قوية وشبه يومية ومنهم هاشم شفيق، وكريم كاصد، ومحمد مهدي علي.
«أنا الرَّجل السيئ/ كان عليَّ أن أموت صغيراً/ قبل أن أعرف المناجم الحارّة والدروب/ المرأة التي تغسل يديها بالعطور/ والملك الذي يزيّن رأسه بالجماجم/ الولد الخبيث ذا اللثة الطرية الذي يُقشِّر/ الحليب من البكتريا والحروب من الانتصارات».
اليَوميّ في الحضور الشِّعري
بإشكالياتٍ شكّلت تفاصيل حياةٍ كاملة لكنها قصيرة، استطاع رياض الحسين أن يترك إرثاً يحقن الواقع الأدبي بالجدل الدائم، وبمرجعيةٍ مهمة رغم قلّة محتواها، نظراً لكيانها الخاص.
هذه الإشكاليات بمنحييها الحياتي والأدبي المتوازيين اللذين يشكّل أحدهما ظلّ الآخر اللصيق، جعلت من يومياته شعراً ينقلُ حالات البؤساء والمقهورين والمخذولين كأبطال، كاسراً من خلالهم مفهوم البطولة المألوفة والسعي إثرها.
تصدّر المشهد الشعري مع مجموعة من شعراء النثر، رغم السنوات القليلة التي عاشها، متأثّراً في بداية الأمر بالشعر العالمي المترجم الذي كان بوابة لولوج النثر الساحة الأدبية العربية، وبكتّابها الذين سبقوه، ليغدو بعد فترة مؤثِّراً فيه وعلامة فارقة في تاريخ النثر، متجاوزاً أقرانه حيناً، وأسلافه حيناً آخر.
باستثنائية الحضور الشعري اليومي، وببعد واحد خاص متفرد وبسحرية نقل الكلام المتداول إلى خانة الشعرية المفرطة الإحساس بعيداً عن الخطابية والحكائية، وبجماليةٍ تقنصُ الوجع لتفرده مسطّحاً كلوحة رائقة، استطاع منجزه الشعري أن يتخلص من الموروث المقدس، وأن يخلق أساطيره الخاصة بمرجعية المثقف العارف برؤية ترتبط في جلّها بالحياة بعيداً عن الجدالات والتأويلات الملتبسة الصورة، والغوص في الذات الكلّية، بعيداً عن فخ الزخرفات اللغوية، والاشتغال المبالغ فيه، جاءت ماهية قصيدة النثر واعيةً غير غارقةً باللغو، منحازةً لليوميات العادية، وغير العادلة، معطوفةً على شكل يخدم الفكرة، فإما هي قصيدة النثر ذات النّفس الطويل، وإما هي المقاطع التي تبدو كتعريف جماليّ لكنه فلسفي لعنوان هو كلمة واحدة لتغدو معجمه الخاص، معجونةً بموسيقى صافية داخلية لكأنَّها النَّفَس تارة وصريحةً تارةً أخرى بعبور خجول لشعر التفعيلة في نهر النثر المتدفق.
«العدالة هي أن أركض مع حبيبتي/ في أزقّة العالم/ دون أن يسألني الحراس عن رقم هاتفي/ أو هويتي الضائعة... أن أقبّل حبيبتي بهدوء وأموت بلا ضجة».
الكائن الشعري وأيديولوجيا الإنسان
ببنية نصيّة ناضجة نسجها التمرد الإنساني الذهني، وتفاصيل الزوايا بجزيئاتها لتركيب كيان خاص وحماسي لكنه مرن، وبحضور الحواس بكامل تدفقها، مؤرشفةً الخراب النفسي والعام، بنفسٍ رومانسي، يقودنا إلى الدهشة التلقائية ورغم فكره اليساري، لم تعتره الأدلجة في الكتابة، بل الجنوح للإنسان نفسه، ومنحى الخلاص مستنفزاً كل حالات الألم، عبر تدفقٍ أقرب للتراجيديا ولكنه أبعد عن البكائية والقناعة.
رياض الحسين، الكائن الشعري الذي كان يرفض نفسه ناقصاً، بسبب مرضه، ووحيداً بسبب غياب العائلة والأصدقاء، متلذذاً بقوته أمام الكل، يعيش الحب كما كل البديهيات الأخرى، في حالة هوس حقيقي وغرق، رافضاً أن يخرج منهما، بلا ارتياب أو شكوك، حتى لكان الحب والهجران عنوان نهايته التي استهلكته جسدياً، لكنها لم تضف عليه صفة الغياب.
مرتكباً في حق الشعر العربي حالة انعدام جديدة، تاركاً مرجعيةً عصيةَ العطب، تضفي أخلاقياته الثابتة، في زمن المادة الفضفاضة، يجاوره قلةٌ من الكتاب المعاصرين، الذين لا يتحكّم بهم سوى الصدق في تقديم أنفسهم بلا عدائية وبلا مغالاة.
هكذا ببداية مؤلمة ونهاية أشدّ إيلاماً وتحت سقف العمر المحدود، استطاع رياض الحسين أن يحيك سماءً لا محدودة، وبرحيلٍ وجوديّ مبكر ذاك الذي ساهم بتكريس حضوره الشعري اللامنتهي، إضافة إلى مجموعة الأصدقاء الذين إما رافقوا أيامه الأخيرة، وإما حرّكتهم يد الندم على غيابهم عنه حينها، ولكنهم بلا ارتياب عرفوه عن قرب، وهذا ما دفعهم لكي يخطوا ما تحمله الذاكرة عنه وعن نتاجه، مقدِّماً له الشاعر منذر مصري وابن أخت الشاعر رياض عماد نجار، مرفقاً بدواوينه شهادات الكتاب والأصدقاء في كتاب واحد هو الأعمال الكاملة للشاعر رياض الصالح الحسين (منشورات المتوسط - ميلانو- إيطاليا- 2016).
«وأصدقائي كثيرون/ الذين يحبونني لا يتركون لي فرصةً للموت/ والذين يكرهونني لا يتركون لي فرصةً للحياة/ في غرفةٍ صغيرة وضيّقة صالحة للكتابة/ لم أستطع إلا كتابة وصيتي الأخيرة/ الغرفة الصغيرة الصغيرة الضيقة/ الممددة كجثة فوق سرير الأرض/ قابلة مثلي للتشريح/ ومثلي قابلة للإبادة/ .. أنا في الغرفة الصغيرة الضيقة:/ نهر مكسور/ وأحياناً أمة مضطهدة».