نظرات في... «أثقل من رضوى»

 نظرات في... «أثقل من رضوى»

في أكثر حالات السرد الذاتي توهجاً وانسجاماً مع القيمة الاجتماعية لفن السيرة، تتخلى السيرة الذاتية النسائية عن اجترار الذات، وتنعتق من «الأنا» الضيقة، وتتحرك إلى الخارج لتكون شهادة على الآخرين، وعلى المجتمع في فترة من فترات حياته. 
وعند ذاك يمتزج الموضوعيّ بالشخصي، وتضحي قضايا الوطن، والتحرر والاستبداد السياسي، بل قضايا النساء عامة، جزءاً مشتبكاً بالذات، وتطلعاتها وهواجسها. وعند ذاك أيضاً، تتولّد الخصوصية والتمايز، فحين تجنح سير الرجال إلى معالجة مشكلات المجتمع، وقضاياه الكبرى من خلال تجاربهم، وليس العكس، تمضي سير النساء نحو التعبير عن قضاياهن، والكشف عن سرائرهن، في إطار من الهموم العامة، والمتاعب التي ترافق كل امرأة، وعبر حركة الإحساس الجمعي، ويحدث ذلك التناغم الخلاق بين الذات والآخر. 

في «أثقل من رضوى» لرضوى عاشور (1946-2014) - صدر في عام 2013م - تدافعت جملة من الآلام؛ لتجعل من السردية الذاتية الطويلة, ضرورة وجود, وحاجة ملحة للروح المفعمة بالأمل... موت الأخ الأكبر في ذكرى يوم ميلاده (عن سبعة وستين عاماً, واللافت أن رضوى أيضاً توفيت عن عمر قريب... ثمانية وستين عاماً), ثم موت الأم بعد الأخ بخمسة أسابيع, ثم ألم المرض الذي عاود الكاتبة شرساً عنيفاً, ثم هناك آلام مخاض الثورة المصرية (2011), وإن ظلت ضفيرة ألم المرض والوطن, المكون الرئيس لما سمته رضوى عاشور في عنوان فرعي «مقاطع من سيرة ذاتية».
تراءى العنوان الفرعي توجيهاً مقصوداً, وكسراً لأفق توقع المسرود له. لست  - أيها القارئ - إزاء سيرة ذاتية ذات نسق خطي، تتدرج من الميلاد إلى النشأة إلى الصبا والشباب,  إلى اللحظة الراهنة..., إنها «مقاطع» بينها فجوات زمنية, ومساحات سيرية مسكوت عنها, ولو إلى حين.
إن الانتقال بين المقاطع سيكون حراً, وسيكون الزمن السردي طليقا, فحيناً يكون زمن الحكاية المستعادة, وحيناً يكون زمن الكتابة, وحيناً ثالثاً يكون زمن القراءة غير المحدد, فالماضي يتقاطع مع الحاضر, ويذهب الحاضر إلى ذكرى بعيدة, ثم ما يلبث أن يعود حيث الآلام لاتزال في عنفوانها.
و«المقاطع» أشبه باليوميات أو المذكرات, تروي أحداث فترة زمنية محددة (ثلاث سنوات من 2010 - 2013)؛ لكنها ليست كذلك بالفعل, ربما لأنها لم تلتزم بصيغة المذكر أو إطارها الشكلي (التأريخ اليومي - التتابع). في حين تتوافر العلامات الدالة على النوع الأدبي:
العنوان الرئيس: أثقل من رضوى.
العنوان الفرعي: مقاطع من سيرة ذاتية.
التطابق: بين الكاتبة والساردة والشخصية الرئيسة.
المدخل: كلمة الناشر على الغلاف الأخير.
تصنيف النشر: سيرة ذاتية.
لم تمنع هذه الوفرة في العلامات من أن يأتي العنوان الرئيس حاملاً لأكثر من دلالة ووظيفة, فإضافة إلى وظيفة «التجنيس الأدبي», هناك الوظيفة الجمالية, فعنوان «أثقل من رضوى» يمكن عدّه ضرباً من التورية البلاغية, فصيغة أفعل التفضيل «أثقل» تتجه إلى معنى الثقل الشديد والحِمْل والعبء، بل ربما اتجهت إلى معنى تداولي يضاد معنى اللطف والخفة, فالثقيل بخلاف اللطيف, والضيف الخفيف أفضل من الضيف الثقيل, وهو في كل الأحوال ليس بعيداً عن ميل الكاتبة إلى السخرية وحس الفكاهة. إنه المعنى القريب -بتعبير البلاغيين - وبمزيد من التأمل يتحول الاتجاه إلى معنى الرزانة والرسوخ والرجحان, يقول الله تعالى {فأما من ثَقُلَتْ موازينه, فهو في عيشة راضية} (القارعة 6-7), ويتحرك الاسم «رضوى» أيضا, بالطريقة نفسها, ويتردد قرباً وبعداً بين اسم الجبل المعروف, واسم مؤلفة السيرة. ربما تخص هذه الوظيفة التلقـي اللغوي المنصرف عن كون العبارة في الأساس مثـلا من الأمثال العربية المعروفة.
ومن هنا يؤدي العنوان الوظيفة الإيحائية أو التناصّية باقتدار, وتعني تلاقح النصوص عبر المحاورة والاستلهام والاستنساخ بطريقة مقصودة أو غير مقصودة, كما توصف عند كريستيفا وباختين (سعيد يقطين: انفتاح النص الروائي, ص96), والتناص في نص العنوان مباشر ومتطابق مع المثل العربي «أثقل من رضوى», أي إن نص العنوان ينهض بهذه الوظيفة التناصية, فالعرب تضرب المثل لدلالة الرسوخ, وقد كشفت الكاتبة عن قصدية اختيار الاسم مصحوباً بالدلالة التراثية, وهو اختيار جدّها لأمها؛ فالجبل «رضوى» واقع بالقرب من المدينة المنورة, ويضم سلسلة من الجبال الممتدة إلى الشرق من يَنْبع, وتتخذ الدلالتان اللسانية (للعنوان), والتاريخية (للمثل العربي) مرجعية عريضة في محتوى النص السير ذاتي نفسه, عندما ندرك أن الساردة/ الشخصية الرئيسة قد أثقلتها تبعات المرض, وصروف الأيام ثقلاً شديداً.
وقبل مغادرة العنوان, فإن إجراء حثيثاً لمبدأ «التأويل المضاعف» (إيكو: التأويل..., ت. سعيد بنكراد, ص 54), يمكننا من خلاله أن نلمح دلالة مستكنة فيه, وهي دلالة التقدير والإجلال لـ «رضوى» جبل المدينة المنورة الجليل, الذي يكتنز شهرة وتاريخاً وجمالاً, دعت الشعراء إلى استلهامه, ومنهم المتنبي في بيته الرثائي:
ما كنت آملُ قبل نعْشكِ أن أرى
«رضوى» على أيدي الرجال تسيرُ
وهي دلالة تنبع من قاعدة التذكر الجمعي, كما يمكن أن نلمح تلك المماثلة بين الإنسان ذلك الجِرْم الصغير «رضوى», والجبل المهيب «رضوى», من خلال التمازج بين الإنسان والطبيعة, وما ينطوي عليه كل منهما من عناصر الآخر.
أحسب أن تأويل العنوان المراوغ دلالة ووظيفة, كان مطلباً بحسبانه علامة كبرى, ومظلة ينطوي تحتها النص السيري كله, فالأحداث «مثقلة» فعلاً بالتفاصيل, ومترعة بالآلام, والخاص يشتبك مع العام بجدية وديمومة, والمرض لم يكن عابراً أبداً, لقد «كان ورماً خبيثاً وفي مرحلة متقدمة, وكان منتشراً حتى الهوامش التي استؤصلت من باب الحرص والتأمين». (أثقل من رضوى, ص49).
وكان على الذات الساردة/ الكاتبة المواجهة, جملة من الآلام التي اجتمعت على امرأة ستينية, يتوزع إبداعها على أكثر من صعيد (الرواية, النقد, المقال), وتشتبك مع أكثر من جبهة نضال, نضال العائلة، حيث يعيش كل فرد من أفرادها في بلد, ويتطلب كل لقاء ترتيبات مريرة مرهقة, ونضال العمل الأكاديمي, ونضال الهمّ الوطني والقومي:
«موعد الجراحة المؤجل إلى التاسع من فبراير, بدا لي فجأة من محاسن الأقدار والمصادفات. بإمكاني متابعة ما يحدث في مصر وأنا في كامل لياقتي, أتابعه من بيتي الذي هو بيت تميم, لا من سرير في مستشفى, بجسد معطوب ووعيٍ متقطع» (ص67).
«لم يرد تميم * طلب أبيه, لم يسافر, لكنه كان غاضباً, لم نكن بحاجة إلى تخمين مدى سخطه... لا أدري إن كان هذا السخط يرجع أساساً لأنه استكثر واستصعب أن يخذل أباه وهو يطلب العون منه, أم لأن موضوع السفر غدا جامعاً لكل منغصاته ومخاوفه: مرض أمه, غربته, ومنفاه, وهما يتأكدان ببعده عن حدث يخصه ويشارك فيه كل أصحابه, حتى أصحابه العاملون خارج مصر كانوا قد خلَّفوا أشغالهم وطاروا فعلاً لا مجازاً إلى ميدان التحرير»؟ (ص68).
«يقول مُريد *: إن أول ما نطقت به عندما أفقت من التخدير هو السؤال: ضربوا العيال؟ لا أذكر ذلك, لا أذكر متى أفقت, ولا متى أعادوني من غرفة العناية المركَّزة إلى مسرح العمليات لإجراء جراحة أخرى...» (ص73).
مثل هذه السرود المتتابعة, تقدمها المقاطع السيرية بطريقة تلقائية, تستحضر معها ملامح السرد الشفاهي, والسارد الموهوب الذي لا يتخلى أبدا عن جماليات الحكي, وعلى الرغم من وطأة تلك السرود العنيفة على النفس والجسم, فإن الرهافة والحس الجمعي لديها حملاها على الانشغال بالآخر في أدق الأحوال, وفي أوهن الحالات التي مرت بها, فلم تنس المسرود له:
«أجهدتُ القارئ والقارئة, وأثقلت عليهما...».
تتم المساواة بين الجنسين الذكر والأنثى في التوجه والخطاب, تقديراً لحضورهما الفاعل في مشهد يناير المهيب, وهو تقدير لا ينفصل بحال عن انشغال الساردة بالقضايا النسوية المعاصرة, عبر إسهاماتها الإبداعية, ومقارباتها النقدية, ثم تستعين بالسخرية تخفيفاً عن القارئ من «وجع القلب», ومقاومة نفسية ضد السقوط والانهيار, وهكذا تضافر الفصل الثامن الذي جاء بعنوان «استراحة» مع فصول الكتاب الثلاثة والثلاثين, ليُضْفي على السرد أُنْساً مضاعفاً ومتعة, غير مفتقدة آثارهما في جميع فصول السيرة.

* تميم برغوثي ابن الكاتبة, ومريد برغوثي زوجها (المحرر)