التراث المتحفي والمجتمع الرقمي

التراث المتحفي والمجتمع الرقمي

إن المقارنة بين العمل الأصلي وتجسيده الرقمي الأول تبدو كما لو كانت «كلاً» غير قابل للتجزئة بفضل القوة الفريدة لكونه «موجوداً» بينما يبدو الآخر قابلاً للتجزئة، وإن شكله يسمح بالرجوع التحليلي لنموذجه، وهو لا يهدف إلى توفير نسخة من ذلك النـموذج أو أن يكون محاكاة ذليلة له، بل أن يكشف التفاصيل الدقيقة للأســس التي قام عليها ويبين آلياته المختفية، وبذلك فإن التجسد الرقمي يطرح كل مزايا الخطاب التفصيلي الذي ينبع من النموذج الأصلي بالكامل، وهو في الوقت ذاته يملك صفات تكون مفتقدة في المنطق اللاحدسي، وهي الصفات الجمالية للشكل الملموس،  وهذا هو السبب في أن التجسيد الرقمي لا يطرح خطاباً تمثيلياً للعمل، بل صورة من العمل ذاته، في منطقة تقع بين المفهوم والملموس. 

من الواضح أن المتاحف والآثار والمكتبات الوطنية لديها ثروات هائلة، وتنوع في المصادر لمجال شامل من التعلم،  بدءاً من التعليم الرسمي، وحتى تجديــد الذات الذي يتم اكتسابه من المواجهة، سواء مع اللوحات الفنية، أو القطع الأثرية، أو المخطوطات، أو غيرها. وتساعد تقنيات المعلومات والاتصالات علــى الكشف عن ذلك الثراء للجميع، مما يلهم قطاعات من المجتمع شهدت فشلاً في الأداء التقليدي، وما يحول غير المستخدمين إلى زوار منتظمين، سواء كانوا حقيقيين أو افتراضيين. إن المتاحف والآثار والمكتبات يجب أن تلقى الدعم والتشجيــع لكي تستفيد مما يمكن أن تقدمه تقنيات الاتصالات والإنترنت للإدارة ولتعزيز مجموعاتها، خاصة بالنسبة للتعليم على مدى الحياة، فالتعلم على جميع مراحل العمر هو قوة حاسمة من أجل  تحسين الأفراد والجماعات، ولايزال هناك الكثير الذي ينبغي عمله في مجال تحديد النماذج الناجحة والداعمة للأداء في البيئة الرقمية. 
  وإذا كانت الثقافة هي ذلك الكل المُرَكبْ الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والعرف، وكل المعتقدات والعادات التي يكتسبها الفرد من حيث هو عضو في المجتمع، فهي تعني أن الثقافة تحمل في طياتها الذاتي المجرَّد مثل المعتقدات والمعرفة، بجانب التقييمي مثل الأخلاق والسلوك والتقاليد، كما أنها مستقلة عن الفرد، أي تُكتسب بالممارسة الحياتية والتعلم، فهي ليست فطرية أو غريزية. 
إذن فالثقافة تتبدى من خلال شكلين:  الأول،  مادي: كالعمارة التي تتمثل في المواقع الأثرية، والمدن العتيقة والمتاحف الافتراضية أو المتاحف المفتوحة،  وأيضاً الفنون والآداب وهي ما يطلق عليه التراث الأدبي والفني وتتمثل في الموسيقى والملابس والحلي والمخطوطات والصناعات الحرفية واليدوية... إلخ.
أما الشكل الثاني للثقافة فهو اللامادي: السلوك والأفكار والمعتقدات والأمثال الشعبية مع جميع المأثورات الشعبية... إلخ.
لذا تعد خصوصية التراث الثقافي مهمة ومطلوبة أيضاً لكونها العمود الفقري للهوية.  
ويعتبر التراث أن الثقافة بحديها المادي وغير المادي إلى جانب الانتماء والوطنية هما جوهر الهوية، بل يتداخلان إلى حد صعوبة الفصل بينهما، فالوطنية ثقة بالأنا الجمعية لمجموعة تعيش على أرض مشتركة تشعر بالولاء والانتماء للأرض والالتزام بمجموعة المفاهيم الرابطة، مع استيعاب لذاكرة جمعية تتمثل في حضور رمزي للأجداد ومنجزاتهم يتمثل في التراث المادي مثل القلاع والحصون والمعابد والمواقع الأثرية المتنوعة، كما يتمثل في جوهر العادات والتقاليد والقيم العامة. والوطنية ليست التعصب ضد الآخر، ولا الغرور بالذات ولا الانغلاق على الذات، وهي ليست دعاوى باطلة للاعتداء على الآخر. الوطنية محور الارتكاز لاستيعاب الماضي والانطلاق إلى المستقبل ولا نتصورها ضد العولمة، بل هي انفتاح على العالم دون غرور ولا انبهار أو إحساس بالدونية، وبالتالي انفتاح على الإنسانية بكل مفاهيمها لأننا جزء من عالم أرحب.
 
ضرورة تطوير العرض المتحفي 
إن التفاعل بين المجالين: التراث الثقافي، والمجتمع الرقمي، لا يمكن حصره فقط في المحتوى وأداة الاحتواء، لأن هاتين الوسيلتين قامتا بتجديد القدرة الجاذبة للصور الثقافية، وإمكانات استخدامها، وانطلاقاً من الميل السياسي والثقافي الذي يمثل الماضي أمامه،  ولا سيما جوانبه التراثية، فإنهما تعدان مصدراً لا غنى عنه لخلق الحاضر وفهمه، ولأن صورة الماضي تتزامن مع أشد التوقعات تفاؤلاً بشأن ما يجري حالياً من تحولات في المجتمعات، وهذا التزامن يفسر لماذا لم تكشف دراسة استخدامات التراث الثقافي في مجتمع الإنترنت عن الاتجاهات الثقافية والاجتماعية للمجتمع الكوني، وتتبدى في عبارات مثل تراث رأس المال الرقمي، ومجتمع المعرفة، والخير العام المشترك، وغيرها الكثير. 
في المجال المتحفي نجد أن دور متحف الآثار، خاصة فيما يتعلق باحتياجات المجتمعات التي تتمثل فيها كدور متاحف الفنون أو الآثار في أوربا مثلاً،  شديد التحديد والوضوح، أما بالنسبة للمتاحف الآسيوية أو الإفريقية،  فالسؤال لايزال يطرح نفسه، بل زاد عليه: ألم يحن الوقت لمحو النموذج الغربي ودوره  لمتاحفنا حتى نتيح الفرصة لازدهار أساليب جديدة في الحفاظ على تراثنا الثقافي، وترويجه، بشكل يعبر عن هويتنا وحضارتنا، وتاريخنا بكل ما يمثله هذا التراث من واقـع معيش، بعـدما أصبحنا نعيش عصر المعلومات الذي أصبحت فيه الشبكة العنكبوتية تغطي بخيوطها الكرة الأرضية؟ 
عندما أُسست المتاحف في معظم بلدان العالم، خاصة الإفريقية والآسيوية خلال الحقبة الاستعمارية، كانت تؤسس على طرز المتاحف الغربية، وكان ذلك أمراً مفهوماً، حيث إن من أقاموها كانوا من المستعمرين أنفسهم، وكان عديد من تلك المتاحف يعرض مقتنيات من التراث الثقافي أو العرقي ونوعيات من التاريخ الطبيعي لجمهور الخاصة (الأثرياء)، وبعد ذلك بعقود، تغير المشهد، فأغلب البلدان، إن لم يكن كلها، لم يعد يحكمها المستعمرون، ولم تعد زيارة المتاحف مقصورة على النخبة في المجتمع، غير أن التغيرات الاجتماعية والسياسية، وظهور تقنيات المعلومات الحديثة، لم تنعكس بصورة لائقة بعد في مجال المتاحف، فكثير منها مازالت متشبثة بالأسلوب القديم في العرض (مقتنيات يعلوها التراب، محبوسة داخل صناديق زجاجية أو غير ذلك)، بالرغم من تغير احتياجات المجتمع الذي أصبحت تلك المتاحف تمثله الآن.   
ومع الثورة المعلوماتية وإمكانات ثورة الاتصالات الجديدة، اكتشف الإنسان المأزق، وعرف أن زيادة السكان على الأرض تنمو بمتوالية هندسية، وأن المعرفة الإنسانية تتضاعف مرة كل 18 شهراً، وأن ثورة التكنولوجيا الجديدة تغزو جسده وترسم خريطة جينية تحدد مستقبله.  لذا فإنه في ظل المفاهيم الرئيسة المختلفة بإدراك طبيعة المجتمع الرقمي من وجهة النظر الثقافية، وفي ظل الابتعاد المتسارع عن الصورة المادية للأعمال والتعبيرات الإبداعية عن الثقافة، نجد أننا ملزمون بإعادة التفكير في معنى مادية تلك المعرفة، فالأعمال تفقد طابعها المادي بطريقتين من خلال تحويلها ونشرها عبر شبكات الاتصال الرقمية، وعن طريق توسيع معنى عناصر التراث الثقافي من خلال عمليات التخلي عن التجسيد، ونتيجة لذلك فإن التراث الرقمي ليس مجرد نقل الأشكال المختلفة للواقع إلى ثنائيات Bits، فالعصر المعلوماتي ينتج هيكله الخاص للفهم، ولاسيما سماته المعرفية، ويخلق استخدامات مستقلة تبتعد بنا عمّا نعرفه أو اعتدنا التعرف عليه في ميدان التراث الثقافي الأثري أو المتحفي.  
  وفي هذا الصدد، فإن تحليل ظروف ونتائج خلق المجال المسمى «متحف» – وهو مجال من المستوى العلوي - يبرز أهمية تقسيم الإنترنت إلى شبكات مترابطة، وشبكات فرعية، وتأثير ذلك على ظهور مجال ثقافي مرتفع النوعية، يعتبر مجالاً عاماً مشتركاً، يضمن فرصة الوصول إليه، فتبادل المعلومات والمعرفة يعكس صراع القوة الدائرة بين الدول وواقع الحال، وهو ليس خاصاً بعصر المعلومات في حد ذاته، لأنه ظل سائداً طوال آلاف السنين من التبادل بين الثقافات والشعوب، إلا أنه يصدق أيضاً على التراث الثقافي الرقمي، فإلى جانب الإمكانات التقنية (أي وجود بنية تحتية للاتصالات، وانتشار المعرفة الرقمية) فإن توافرها وكذلك تداولها عبر الشبكات يعكسان صراع القوة بين الدول وقدراتها الإبداعية في الماضي، لذا ينبغي أن تكون ماثلة في الأذهان ضرورة الاهتمام بالفوارق الرقمية، والعناية بالتحكم والسيطرة على صور التراث الرقمي، بما في ذلك السيطرة على وسائل التمثيل المتسمة بالخيال، كما ينبغي أن تكون القضايا الاقتصادية المسيطرة في مجتمع المعلومات جزءاً من أهداف التنمية الثقافية والتعليمية التي يسعى إليها مجتمع المعرفة الداعم لسبل الحياة.
ومن هنا فإن استخدام النماذج الاقتصادية النظرية التي سبق أن نجحت في تمويل برامج الحفاظ على التراث، ينبغي أن يساعد في فهم الوسائل المحددة التي تكتسب بها العمليات الاقتصادية أهمية في قطاع الثقافة الرقمية، بغية التأكد من أن هذه العمليات سوف تلبي التحديات الثقافية والاجتماعية المعنية.
  
بين الزيارة المباشرة والتخيلية 
لا يمكن للنوافذ الفنية على الشبكة العنكبوتية أن تحل محل الإحساس بالمكان، الذي غالباً ما يكون بالغ الأهمية بالنسبة لتجربة زيارة متحف أو منطقة أثرية أو مكتبة عامة. لكن الرؤية بالنسبة للمستقبل ينبغي أن تدرك أن الإنترنت تفتح المجال أمام الوصول، وتسمح للناس بأن يخططوا ويتوقعوا الزيارات وتقدم شرحاً تجسيدياً في أثناء الزيارة، ربما عن طريق الحاسب المحمول أو الهاتف الجوال،  لمنح أولئك الناس الفرصة للعيش بطريقة جديدة، والتعمق بصورة أكبر في تجارب الزيارة ولو مرة بعيداً عن المبنى. ويمكن لهذه التقنية أن تتيح لهم التعلم بقدر ما يرغبون وفقاً لسرعتهم قبل وفي أثناء وعقب الزيارة، وهذا يتطلب خلق مصادر رقمية عالية الجودة تلبي الاحتياجات الحقيقية، وفضلاً عن ذلك فإن مثل هذه التطورات ستساعد الفرد الذي ليس لديه وصول سهل إلى متحف أو أثـــر معين، فمثلاً الزيارة التخيلية للمعرض الوطني في لندن التي يقوم بها شخص ما،  غير قادر بسهولة على السفر من مرتفعات أسكتلندا، لا شك في أنها ستكون أفضل من عدم الزيارة،  تماماً مثل الوصول إلى المصادر التي يتم استحداثها من خلال برنامج رقمي، حيث يتيح لنا جميعاً فتحاً فريداً في التاريخ، بغض النظر عن المكان الذي يتصادف أن يكون فيه، حيث لا يوجد مكان مادي لكي نزوره، إذ يحشد المحتوى مصادر من نطاق واسع للأماكن والمتاحف والآثار والمكتبات ومنظمات القطاع التطوعي،  ويتم التجميع في نطاق واسع من الوسائط المتعددة، ويعد هذا النهج جوهرياً بالنسبة للاستخدام المستقبلي للإنترنت عن قطاع المتاحف، حيث سيتم قياس النجاح عن طريق اتساع وعمق المصادر الثقافية.  
ومع أن كثيراً من سكان العالم قد يكون لهم اتصال بالإنترنت، فإن هذا لا يعني أن لسكان إفريقيا مثلاً  تلك  الإمكانية نفسها وهي قارة يعيش 80 في المائة من سكان معظم بلدانها في مناطق ريفية من دون ماء جارٍ أو كهرباء، حيث لا يبدو الاتصال بالإنترنت إلا مجرد حلم حتى بالنسبة لأولئك الذين يسكنون المدن ولهم اتصال بتقنيات مركز المعلومات الحديثة، فاتصالهم بالإنترنت مازالت فيه عقبات، وبالرغم من صعوبة تلك العقبات، فإنها ليست كلها تقنية، فهناك أيضاً العائق النفسي أمام تقنيات المعلومات والاتصالات، إذ مازال كثير من أعضاء «الحرس القديم» في قطاع التراث يرفضون أن يتبنوا هذه التكنولوجيا الجديدة لمجرد الخوف من التغيير، ولا شك في أن الفوائد المنتظرة من تلك التقنيات الحديثة ليست مفهومة في الغالب بالنسبة إليهم، وبالنسبة إلى صلتها بقطاع التراث والمتاحف. لذا مازالت المشاهدة العينية المباشرة للمكان المادي هي الأساس في المعرفة والزيارة  من بين بعض التقنيات التي تؤثر في العمليات المتحفية بشكل عام (الوسائط المتعددة)، فهناك عديد من المتاحف والجمعيات المتحفية حول العالم حتى في إفريقيا متصلة بالإنترنت، وهو ما جعل مشاركة وتبادل الأفكار والمعلومات أكثر يسراً وسهولة. 
ومع تطوير المتاحف الإفريقية لبرامج تعليمية تستهدف المجتمع الحضري بشكل أكبر وتراعي احتياجاته, وسعيها إلى إيصال تلك البرامج للناس, يتزايد إمكان الوصول إلى المجتمعات الريفية المحرومة, وقد طورت برامج التعليم الديناميكي والتفاعلي لتعلم الأطفال من خلال الزيارات المتحفية عبر الإنترنت, لتشجيعهم على التفكير بشكل نقدي وتحليلي، ولتساعدهم على التعرف على واقع الكوكبية،  ومثل تلك الجهود تسير بالفعل في طريق عبور الفجوة الرقمية وتقريب إتاحة التراث الرقمي بشكل أكبر من الناس.
وعلى الرغم من أن شاشة الحاسوب لا تعوض زيارة المتاحف، فإن النوافذ الفنية بالإنترنت تعطي صورة شاملة عن القطع الأثرية المجمعة والأروقة والمعارض الحديثة بامتياز.
وبفضل هذه الروابط يكتشف الإنسان حقائق تراثه وتراث العالم، الذي ينتقل من جيل إلى جيل ويصبح ميراثاً يعتز به، سواء على شكله المادي أو غير المادي. ومن المعروف أن كلمة تراث هي أصلاً من الفعل ورث يرث ميراثاً، أي انتقل إليه ما كان لأبويه من قبله، وصار ميراثاً له. 

الاهتمام بمعالم التراث ليس ترفاً
لم يعد الاهتمام بالآثار والحفاظ عليها – باعتبارها من أبرز معالم التراث المادي – ترفاً أو إسرافاً، كما قال محمد المويلحي في عام 1905م، حيث طالب بتوفير الأموال التي تنفق على الآثار وتوجيهها إلى ما يفيد.
 إن الحفاظ على الآثار حفاظ على ذاكرة الأمة وتأكيد لشخصيتها، فضلاً عن كونها تجلب مزيداً من عدد السائحين مع خطة دعائية ناجحة تتابع كل إنجاز جديد. وتلك الملامح التي وظفت جميع المنجزات العلمية التكنولوجية المعاصرة، جعلت هيئة اليونسكو التابعة لمنظمة الأمم المتحدة تبحث عن البدائل للحفاظ على التراث المادي وغير المادي على مستوى العالم كله، فقامت بإنشاء «مجلس التراث العالمي» الذي يهدف إلى حماية التراث بكل أشكاله وفي أي مكان في العالم. ولذا أصدرت «اليونسكو» قرارها بالعمل على إعداد معاهدة منظمة وملزمة للدول بضرورة الحفاظ على التراث في مؤتمر الدول الموقعة على معاهدة حماية التراث الثقافي غير المادي الذي عقد في باريس، وقد اقترح المؤتمر الآتي:  
1 - الحفاظ على التراث الإنساني العالمي بكل أشكاله.  
2 - احترام تراث الفئات الاجتماعية المهشمة أو الصغيرة، باعتباره تراثاً إنسانياً.  
3 - العمل على رفع درجات الوعي والتثقيف نحو ثقافة حماية التراث.  
4 – يتم ما سبق من توصيات في إطار من التعاون الدولي، ومساعدة الدول الكبرى للصغرى.  
  وبالفعل تم انتخاب 18 دولة وتشكل من مندوبيها مجلس لمتابعة تنفيذ التوصيات المختلفة التي تصدر عن الهيئات والمنظمات العالمية في هذا الخصوص لحماية التراث. وقد أدى ذلك إلى اهتمام الدول بالنظر إلى أشكال التراث للحفاظ عليها والعمل على تأصيلها وتنقيحها والتنقيب عن مزيد من المادي منها، وقد انبثق عديد من الهيئات والمؤسسات الراعية للتراث، مثل: مراكز التسجيل والرصد، ومراكز البحوث والدراسات، ومراكز تحقيق التراث، بالإضافة إلى المطبوعات والدوريات المتابعة لكل جديد، ولعل مدينة البتراء بالمملكة الأردنية الهاشمية، وهي مدينة حجرية للنباتيين العرب، كانت من أولى المدن العربية التي اختارتها «اليونسكو» كموقع من مواقع التراث العالمي، إذ إن مدينة البتراء تعد مدينة الخيال والرومانسية بما تحويه من جبال نادرة، وطبيعة خلابة، وآثار لا تعوض، وأصبح على شبكة الإنترنت الآن عديد من المواقع التي تسعى لتنشيط الوعي بأهمية التراث مع عرض كثير من الأخبار والدراسات حوله. بل لقد اهتمت بعض الدول إلى حد إنشاء وزارة خاصة بالتراث تضم تحت إشرافها كل ما يتعلق بالتراث من جديد وقـديم، داخلياً وعالمياً.  
لهذا كان من الطبيعي أن تروج للمعارض التراثية سواء الخاصة بالمتاحف والآثار والفنون والموسيقى الشعبية أو الصناعات الحرفية واليدوية التي كادت تندثر بفعل التقدم التكنولوجي، أو للمخطوطات التراثية في الفكر أو الأدب أو للملابس الشعبية وتاريخها، وغيرها من المعارض المتخصصة في كل فروع التراث المتاحة. 
ونظراً لأهمية المتاحف فلم تعد قاصرة على بلدانها حتى يأتي الزائر إليها، بل تحولت الفكرة إلى المتاحف المتنقلة سواء في الآثار أو غيرها، بحيث تنتقل إلى بلدان العالم المختلفة كمتحف الآثار المصري الذي سافر إلى بلدة ناشفيل عاصمة ولاية تنيسي الأمريكية. ويمكن الإشارة إلى أن اهتمام الحكومات والمؤسسات بكل ما يتعلق بإبراز التراث في هذه الدولة أو تلك، بات من أولوياتها ليس فقط لكونها متعلقة بالوطنية والثقافة والهوية بل لارتباطها بالسياحة والاقتصاد وزيادة موارد الدول. 

متاحف ذهنيــة تجسدها مواقع رقمية
تجدر الإشارة إلى أن المبادرات التي قامت بها مصر المتمثلة في مبادرة «نوادي تقنية المعلومات»، ومبادرة «حاسب لكل منزل»، ثم إنشاء موقع «مصر الخالدة»، قد عملت على زيادة معدلات استخدام الإنترنت بين المواطنين، وقد أدت هذه المبادرات وما صاحبها من انخفاض في تكلفة الحصول على خدمات الإنترنت، إلى تزايد أعداد المتحدثين باللغة العربية على شبكة الإنترنت، سواء كانوا من المصريين الذين يستكشفون ماضيهم الثري ويتعرفون عليه، أو من العرب الذين تراودهم فكرة القيام بزيارة لمصر. ويتميز الموقع المذكور بأنه ثلاثي اللغة، لذا يمكن تصفحه بالكامل باللغتين الإنجليزية والفرنسية فضلاً عن العربية، كما تتوافر فيه خاصية الاستماع لملفات صوتية تسرد الوقائع التاريخية بأي لغة يتم اختيارها من بين هذه اللغات الثلاث.
إن مصممي الموقع قد وضعوا نصب أعينهم أن يكون الموقع بمنزلة سجل تاريخي للفترة الماضية التي تمتد إلى خمسة آلاف عام خلت، وأن «يغطي كل الثقافات في مصر»، وأن يقدم كماً هائلاً من المعلومات لتكون في متناول المستخدم، كما روعي أيضاً ضرورة أن يتيح الموقع آليات بحث قياسية، ويوفر جولات افتراضية مفيدة للزائر الذي يتصفح الموقع لأول مرة، تأخذه في رحلة عبر الحضارات الفرعونية واليونانية والرومانية والقبطية والإسلامية في مصر. 
ولعل من أهم مزايا هذا الموقع تلك الخريطة المتشعبة المليئة بالروابط التاريخية التي تربط بين مختلف الآثار والمواقع التاريخية،  فضلاً عن الشخصيات التاريخية وما يصاحب ذلك كله من سرد للتاريخ. 
فمثلاً عند الضغط على صورة القناع الذهبي للملك توت عنخ آمون، يظهر سبعة عشر اختياراً تتنوع ما بين «المملكة الحديثة»، أي الفترة الزمنية التي تعود إليها القطعة الأثرية، و«الجعران المجنح»، وهو قطعة أثرية فريدة تم العثور عليها في مقبرة توت عنخ آمون، و«وادي الملوك» وهو موقع المقبرة، و«صخور من الكوارتز/الكريستال»، وهي عبارة عن بعض المواد الموجودة في المقبرة... كل من هذه الخيارات تفتح بدورها عديداً من وسائل الربط مع غيرها. كما أن هناك وسائل أخرى لسبر أغوار التاريخ المصري من خلال الموقع، مثل تتبع الخريطة التفاعلية والخط الزمني لمراحل التاريخ المصري القديم، الأمر الذي يتيح للزائر إمكان تتبع تاريخ هذه الدولة العريقة. 
كذلك يعد برنامج إعادة التركيب الافتراضي تطبيقاً تقنياً مبتكراً، فمع عرض صور ثلاثية الأبعاد للقطع الأثرية والمواقع التاريخية في حالتها الحالية، التي تكون أحياناً متأثرة بعوامل الزمن، يتيسر للمستخدم أيضاً التمتع بتركيب صور افتراضية عالية الدقة تحاكي الواقع الفعلي. 
ويقدم هذا الجزء من المشروع صوراً كاملة للكنوز الأثرية الوطنية مثل أبي الهول بعد إخضاعه لعملية ترميم استخدمت فيها أحدث ما تم الوصول إليه من تقنيات، أو فنار الإسكندرية مثلما كان في حالته القديمة، قبل أن يصبح مستوياً بالأرض بفعل زلزال مدمر تعرض له منذ ما يزيد على 700 سنة. 
إن التقنية الجديدة جعلت بمقدورنا مشاهدة التاريخ المصري بصورة لم تكن تدور في مخيلتنا أي إننا نرى بلادنا بالشكل الذي كانت عليه منذ آلاف السنين،  كما يقدم الموقع عرضاً لأشهر الأماكن السياحية في مصر في حالتها الحالية، لأنه يحتوي على كاميرات حية يمكن التحكم فيها من خلال الموقع.
وتسمح هذه الكاميرات لمرتادي الموقع بمشاهدة مصر في الوقت الحاضر، وهي موجودة في قلعة قايتباي بالإسكندرية، وفي منطقة الجيزة بجوار الأهرام، وفي مساجد القاهرة، وفي معبد الكرنك بالأقصر, وغيرها من الأماكن الأثرية.

المتاحف الجديدة في العالم بدأت تغييراً منهجياً في فلسفة العرض المتحفي

تحررت أغلب المتاحف من تقاليد العرض المتحفية التقليدية