ملّ الدخان والدم وينادي بالسلام مراد عبداللاوي... جندي في ساحة الحرب

ملّ الدخان والدم وينادي بالسلام مراد عبداللاوي... جندي في ساحة الحرب

من أنا؟!
كيف أبدأ 
ولم تولد بعد في فمي تلك الكلمات؟
 لتستنشق أيامي...
 تنسج أمنيات اليوم
 تصوغ من وحدتي اسمي
 في عالم حيث الشمس تحاصرها الغيوم 
 بوجه ميت
جثوت على ركبتي...
تحسست دفتر أعمالي خال
 كلي ضاع في ضباب.
وجدت هذا النص الذي كتبته في ديواني «مد الظل» يمهد لي كتابة انطباعي عن سلسلة أعمال للفنان مراد عبداللاوي، وأبدأ خاصة بتلك الأعمال ذات اللون الرمادي القريبة من فكرة النص، وهي أكثر من 8 لوحات تتشارك في درجات اللون الدخاني، والذي يتكون من الأسود والرمادي، وهما لونان لهما حضور قوي وبارز.

كما ترون... فيها شيء من عتمة الضباب والغموض، والأجواء الباردة، بعضها تتخلله بقع سوداء واضحة وأخرى بلون أحمر اتخذت شكل خط عامودي سميك يتوسط اللوحة وهذا الدخان... ومساحة من بياض يختنق، جعلتني أستحضر خط جرينتش المؤشر على توقيت دموي حاضر غير وهمي!
ولوحات أخرى كأنها شظايا بركان ورماد، وبعضها بقع حمراء متوهجة كجرح غائر لا يندمل، أو عين يتفجر منها الدم... حتى أني استحضرت رائحة البارود ودخان المعارك التي تغزو حاضرنا بسبب حروب همجية... وثورات ما هي إلا ربيع كاذب ينزف جعلتني أنا أيضاً أختنق من هذا العالم! كأن الفنان يرصد هذا العالم الكئيب من نافذة الطائرة! حيث تحاصره الغيوم وتؤكد كثرة رحلاته إلى بلدان لا شمس فيها!، وهناك أكثر من عمل أوحى لي بهذه الفكرة... في أنه اعتاد أن يتأمل العالم من خلال نافذة الطائرة... فيها شيء من الحياة واللهو ومحطات ممتعة مضيئة ومفرحة، إلا أنها قليلة، بينما في لوحاته هذه هو يرسم ملامح مدينة تختفي أيضاً في اللون الرمادي، هذا اللون الذي بات غولاً يبتلع كل شيء جميل, حيث رسم الفنان بقايا أشكال هندسية تشير إلى ملامح عمرانية ربما، ونقاط أشبه بإضاءة النيون. وبقايا سكك حديدية وتلك الخربشات كأنها طرق أو شبكة تواصُل تحوك شباكها ليقع العالم في أسرها. فهو ابن المدينة ومهووس برصدها من أعلى! حيث تكبر كل الآثام من خوف وتلوث وحروب وتشويه للطبيعة. وفي الوقت نفسه يحلق فوق مواطن الألم، يتحرر من كل قيد ومن حياة عصرية روتينية قاتلة! في غياب ملامح الطبيعة الهادئة والجميلة... كأن الفنان يميل إلى الجغرافيا بتفاصيلها، والاحتواء الكوني يغريه. لهذا هو لا يغيب عن ألوانه... لون تقلبات الطقس والانصهارات الملتهبة... والجبال والغيوم والضباب...والبرد... بينما للصحراء وألوان الشمس حضور خجول جداً! كذلك البورتريه. هناك أعمال تميزت بمهارة فنية عالية إلا أنها لم تأت بشيء جديد! ولوحة قدمت البورتريه بتقنية قديمة، إلا أنها غير مستهلكة عما هو دارج لصعوبتها، والذي يسمى «بورتريه – بتقنية التهشير»، حيث لا تعتبر هذه الخربشات قوة في التعبير للانطلاق فحسب، إنما هي استحضار قسري لوجوه تعني للفنان أو يهتم بأن يرسمها، برغم التيه والتعب والانشغال والمسافات فإنهم في ذاكرته، تعبيراً منه عن الوفاء والإصرار في جعلهم جزءاً من عمل فني مميز... فهذا الأسلوب يحتاج إلى مجهود مكثف في مساحة ضيقة، ويبقى التجريدي مصدر قوة وجمال في أعمال الفنان مراد... وأرضاً خصبة للإلهام، لم يتجاهل الفنان الطبيعة، إلا أن الأحداث التي تحصل فرضت نفسها أمامه، حتى باتت من أولوياته رغماً عنه، كما أن الاهتمام بالطبيعة ورصد جمالها يدلان على السكينة والطمأنينة والاستقرار والأمان والإحساس بالانتعاش المالي وموسم حصاد وازدهار الحقول والعطاء، أما في ظل هذه الكآبة فأعتقد أن الفنان يعاني أموراً عديدة تنغص عليه المتعة في الحياة! وما يدعم رؤيتي هو هذه اللوحات الرمادية وأبعادها السلبية، بل حتى اللوحات المشربة بلون الدم! 
وكم جميلة هي الألوان الربيعية، ولو تبناها الفنان لخلق منها نقلة وتجدداً في أعماله. فقد شد انتباهي زخم الألوان في بعض اللوحات... كأن الفنان يرصد بقعاً جديدة وزاهية من العالم حتى باتت كقطعة حلوى تحمل تفاؤلاً وخيراً وسلاماً، وهذا حتماً سيكون على الصعيد الشخصي لا على الصعيد الخارجي أو العالمي، لأني أجد أنها لوحة فردية بلا تسلسل مشابه، فلو كان حدثاً خاصاً لرسم الفنان لوحة، لوحتين أو ثلاثاً متشابهة نوعاً ما لتوثيق مشاعره وللتعبير عن تجربته الخاصة، سواء كان عشقاً جنونياً، غدراً، فراقاً، وحدة، إنما جعل له هذا الامتداد أو النفس الطويل كعدوى تنتقل من لوحة إلى أخرى، حتى باتت أكثر من 8 أعمال تحمل الهموم نفسها، إنما تقدم من زاوية ومشهد مختلف حتى اكتملت ونضجت فيها شمولية الموضوع... كذلك حدث الأمر ذاته مع لوحات أسميتها ذات «الرداء الأحمر» أو لوحات مشربة بالدم، وعددها ما يقارب 6 أعمال أو أكثر! حيث صبغها الفنان بلون واحد، وأخرى النقاء فيها يضمحل!

أعمال معاصرة... 
تصف عالماً غريباً وحاضراً مقيتاً
تمنحك لوحات عبد اللاوي الشعور بأنها تشير إلى حاضرنا الذي نعيشه! بل هي أقرب اللوحات في مجموعة الفنان التي تحدثت عن لسان حالنا اليوم! هي لوحات مواكبة للأحداث إن جاز التعبير! بشكل عام قد يرى علماء النفس في فلسفة الألوان وكذلك المهتمون بالتفكير وقراءة الأحلام والحضارات القديمة، اللون الأحمر هو لون الطاقة، والحيوية، والإغراء، والعشق، والحماس، والموت، والحرب، والعيد، والشهوة، ومعان أخرى عديدة، فلكل ثقافة وشعب وحضارة نجد اللون الأحمر يشير إلى قوة ما، باختلاف المسميات، مثلاً: العشق القوي، الحماس الشديد... وهكذا... لون حار جداً... بحرارة شمس الصحارى العربية ولهيبها.
إلا أني أشعر في هذه اللوحة أنه لون الدم! ونزيف الألم... وعذاب الشوق والحب، والرغبة الشديدة والمعاناة... كذلك هو لون ثورة الدماء... وحمى الوطيس في أرض واسعة، كما نراها غطت اتساع اللوحة! كأن الفنان جندي في ساحة حرب... محاط بحدود ملتهبة وتلك الدوائر المتسلسلة المتفاوتة أوحت لي بتجلطات إنسانية وتجارب مؤلمة تنزف، سلط عليها الفنان الضوء، حيث تشكلت الجراح المثخنة من تكتلات اللون الأحمر في تلك اللوحة... أو كأنها خلايا مميتة رسم لها الفنان حدوداً وحاصرها... ووقف منها موقف المتفرج. فتلك البقعة السوداء كأنها عين إنسان جعلتني أشعر بحزنها، والتي عبرت عن إحساس اللوحة الحزينة! وأما اللون الأزرق فما هو إلا أفق يضيق وحياة تنضب...وعيون تبكي.

مراد يرسم نزيف الدم
وهذا المتفرج البعيد في صمته، برغم أنه يتوسط الأحداث فإنه يتأمل مشهد الدم بلا حراك! وليست لديه ذراع، وهو دائماً يشير إلى العزيمة والعمل والاستعداد... ليست سوى ملامح لأصابع غير مكتملة... إلا أنها تكفي لرسم لوحة بهذا العمق! حيث لا رقابة على العمل التجريدي.
وتكرار اللوحات الحمراء وتلك التكتلات مؤشر يؤكد تأثر الفنان وإحساسه بالقهر والعجز بسبب ما يحدث في دولنا العربية وربيعها، ربيع الدم. كذلك جعلني هذا اللون أستشف منه شخصية الفنان الحماسية الثائرة والغاضبة التي لا يمكن السيطرة عليها! بل أشعر أنه حينما يتحدث كأن دماءه تغلي وتحترق عند طرح أي موضوع يهم الجميع، ولا يجد له إنصافاً أو صدى طيباً كما هو متوقع. شخص عصبي المزاج! وله فكر مشغول بالإنسان لا بشخص بعينه، هذا ما جعل أعمال مراد لها أبعاد وتطرح حوار الأبعاد! فمشاعره جياشة وعروبته مفعمة بالإنسانية. وحينما يطرح مثل هذه القضايا فإنه يؤكد أنه فنان محب للحياة متعطش للسلام وينادي به، بالرغم من أنه لا يرى الأمل، فاللونان الأحمر والرمادي يغطيان كل المساحة، ويبتلعان كل شيء! برغم أنه متحمس ومجتهد ويعمل للحياة ولا يريد أن يموت بدم بارد، بل يموت بطلاً!

مراد يخاطب العالم
قد يكون التكرار مأخذاً على فنان يعيش عصراً له تقلباته وتطوراته السريعة والمفاجئة كمادة غنية لاستنباط الأفكار الجديدة والمبتكرة! فهناك أعمال غربية سبق أن اطلعت عليها قريبة من فكرة صبغ اللوحة بأكملها وملئها بخطوط ورموز مختلفة، إلا أن أعمال مراد تختلف تماماً بالتفاصيل والموضوع، كما لم أجد ابتكاراً في الأفكار، بل هي إبداع ومستوى فني راق وناضج ومهارة عالية. فالبحث عن الأفكار يكلفه عناء دراسة ورصد هذه المتغيرات، وتكثيف ثقافة التغذية البصرية لاقتناص فكرة لا تشبه فكرة أخرى، فليس التكرار هنا مملاً! بل دليل على تشابه المشاهد وتقديمها من زوايا مختلفة، وفي لوحة دخانية أخرى يرصد لنا الفنان مشهداً غريباً، حيث يتقابل اللونان الرمادي الغامق والفاتح كأنه يقسم العالم ما بين سوداوي غامض وعالم ينزع عنه هذا السواد والخوف، لعله يبحث عن بياض ناصع، إلا أنه متاهة ضبابية أخرى. فهو يرى الأمور من سيئ إلى أسوأ في لونها الكئيب. فهذا اللون ليس من ألوان الفرح أو التفاؤل أو الدفء في شيء!
وأحجام هذه اللوحات بمقاسات متقاربة يريد الفنان من خلالها لفت الانتباه إلى أمر مهم، بل إنه بتكرارها كأنه يعي اختلاف مستويات الزائرين وجمهور المتلقي، فهو يريد تأكيد هذا الإحساس ونقل صوته إلى الجميع ليس إلى النخبة فحسب، بل إلى الجمهور... الفنان لا يستهين بعقل المشاهد أو المتلقي، أياً كان، برغم أن العمل التجريدي يسبب في الغالب حيرة لكثير من المشاهدين تجعلهم غير قادرين على قراءة العمل أو الوصول إلى المضمون أو الفكرة أو حتى الاقتراب منها، لهذا فإن الفنان المميز يسبق عصره، كما أنها ليست من مهام الفنان أن يشرح العمل أو يرسم بناء على ذوق ورأي الجمهور، إنما على الجمهور أن يتأمل ويقرأ أعمال الفنان، وأن يسعى جاهداً لتفكيك الرموز والخطوط المرسومة ومعاني الألوان للوصول إلى المغزى الفكري والعاطفي والفلسفي والإنساني، الذي قصده الفنان، وهذا يتم في حالة وجود جمهور واع ومثقف لديه مخزون ثقافي متنوع، وتعدد الرؤى يثري الفنان بالمقابل.

حوار الأبعاد
وهكذا، نجد أن أعمال الفنان مراد عبداللاوي ناضجة واعية مثقلة بالهموم, تدخلنا في صراعات مع الذات تتبنى قضايا تشغل مجموعة كبيرة من الناس، لهذا نستشعر حيرته وغموضه وقلقه ربما لما يراه الفنان من أحداث آنية تفاعل معها، فهو في هذه الأعمال يطرح ما هو أعمق وأبعد..