جان بيير ملفيل... أزهار الشر

جان بيير ملفيل...  أزهار الشر

تبدو أفلام العصابات للمخرج الفرنسي جان بيير ملفيل، التي تجري أحداثها في فرنسا في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كما لو كانت أفلاماً للعصابات الأمريكية في سينما الثلاثينيات والأربعينيات: السيارات الأمريكية الفارهة، ديكورات مراكز الشرطة، أكشاك التليفون العامة، الملاهي الليلية، الراقصات بأزيائهن الأربعينية، عازفو البلوز السود، المسدسات سداسية الطلقات... وملابس رجال العصابات الأمريكية في الفترة نفسها: المعاطف الواقية من المطر، والقبعات عريضة الحواف.

هذا التشابه صحيح بلا شك، لكن المُشاهد البصير يلاحظ أيضاً تماهي أفلام ملفيل مع أفلام الويسترن ورعاة البقر، ليس فقط في ما يتعلق بالمواجهات الأخيرة بين البطل / المجرم وبين بقية أفراد العصابة، ولكن الأهم في روح الويسترن، وشخصية البطل، والقيم التي يحقنها ملفيل في أفلامه. إننا نلحظ تشابهاً كبيراً، على سبيل المثال، في السمات الشخصية لبطل ملفيل، مع بطل سيرجيو ليوني: راعي البقر الرحال، البارع، المعتزل، المتوحد مع نفسه. بل إن هناك تشابهاً نلحظه حتى في الخلفيات التي تبرز فوقها قسمات كل منهما، للدرجة التي يمكن أن ننزع أحدهما من سياق البيئة التي يتحرك فيها، ونضعه في سياق البيئة الأخرى، فنجده متوافقاً منسجماً: العزلة والوحدة نفساهما، المهارة والبراعة نفساهما، الثقة بالنفس نفسها، التعالي نفسه، المعرفة الفطرية المتشائمة نفسها حيال وضع الإنسان والوجود، التكتم والصمت نفساهما.
لكن، وعلى خلاف بطل ليوني، يبدو أن ما يحرك بطل ملفيل هو شيء آخر أكبر من المال. صحيح أن المال يظهر على السطح بوصفه الدافع الضروري، لكنه ليس الدافع الكافي. إن علاقة بطل ملفيل بالمال، وبفعل السرقة الكبرى التي سيقترفها في الفيلم، تبدو لنا وكأنها أشبه بعلاقة النار بالحطب؛ وعلى الرغم من أن النار لا تشتعل من دون الحطب، فإن الحطب ليس سبباً في النار. إن بطل ملفيل يتوق إلى شيء آخر أكبر من المال، ولذلك لا يندم حين يفقد غنائم السرقة، أو يضطر إلى التخلي عنها. إن ما وراء عملية السرقة أهم من السرقة نفسها بالنسبة إليه، والدليل على ذلك أنه لا يناقش الوسطاء الذين سيصرفون المجوهرات المسروقة؛ بل يقبل الثمن فوراً من دون مساومة، بالرغم من القيمة المجحفة التي يعرضونها عليه. الأكثر من ذلك، أن المال نفسه قد يصبح بلا قيمة بعد الحصول عليه. يتكرر في «الدائرة الحمراء»، على سبيل المثال، ذلك الأمر مرتين؛ أولاً في البداية، حين تتلوث بالدماء رزمة كبيرة من المال حصل عليها آلان ديلون من رئيس العصابة، فتصبح الأوراق النقدية الملوثة بالدماء بلا قيمة. والثانية في النهاية، حين يرفض الوسيط تصريف غنيمة المجوهرات، لأن السرقة كانت أكبر مما ينبغي، وصارت المجوهرات المسروقة أشهر مما ينبغي، مما يستحيل معه تصريفها.
 تطلع البطل إلى شيء أكبر من المال، ربما نجد أقوى تمثيل له في «الدائرة الحمراء» أيضاً، حين يقرر أحد أفراد العصابة الثلاثة (جانسن)، التخلي فجأة عن نصيبه من الغنيمة لرفيقيه الآخرين، بالرغم من أنه لم يتعرف عليهما إلا منذ وقت قصير. إن المال ليس مهماً لجانسن، الذي يقول لزميليه (آلان ديلون، وجيان فولونتيه): «بفضلكما، وبفضل العملية، استطعت التخلص من الوحوش التي كانت في الخزانة!».
إن جانسن نجح أخيراً، وبفضل عملية السرقة، في التخلص من الخوف الذي كان يلازمه، ومن الكوابيس التي كانت تجتاح أحلامه، التي كانت تجعل يديه مرتعشتين، للدرجة التي لا يستطيع معها إشعال عود ثقاب. لكنه بفضل عملية السرقة، عادت له ثقته بنفسه، وتخلص من خيالات الوحوش التي كانت تخرج من خزانة ملابسه، ليعود من جديد ليصبح المحترف الكبير؛ الشرطي السابق حائز  الجائزة الكبرى في الرماية؛ أمهر الرماة في تاريخ الشرطة الفرنسية. 
هذا هو المحرك الذي يحرك بطل ملفيل، هذه هي غايته الكبرى، إنها: البطولة؛ وما يحرك بطل ملفيل هو عاطفة البطولة، وظمأه هو ظمأ إلى البطولة.
حتى أن نهايات أفلام ملفيل تكون هي التجلي الأكبر لعاطفة البطولة تلك، ومعظم أبطاله يقررون في النهاية - وعلى نحو واع - الموت الإرادي؛ ليس بسبب الإنهاك، بل بوصفه الإنجاز البطولي الخاص بهم. إن إرادة التصميم البطولي لهم ترفض تقديم تنازلات للإرادات المعادية لها، فتقترف الموت الإرادي؛ ليس تسليماً وإذعاناً، ولا يأساً أو خوفاً، ولكن باعتباره فعلاً بطولياً خالياً من النفعية، وبطولته هي في لانفعيته (كما كان كيريلوف في رائعة دوستويفسكي «الشياطين»، يرغــــب في الانتحار، فقط ليؤكد لنفسه الحرية القصوى لإرادته)؛ فيحترق بطل ملفيل في النهاية، وهو يدرك أنه لن تنبعث من هذا الاحتراق أي عنقاء. 
ولذلك يصم «كوستلو» أذنيه عـــن سماع نصيحة عازفة البيانو السوداء في نهاية «الساموراي»، حين تنصحـــه بمــــغادرة الحانة لأن حياته مهددة، كما صم أدونيس، في الأسطورة، أذنيه عن سماع نصيحة فينوس، فلقي مصرعه وهو يصطاد الخنــــزير الوحشي.
هنا أيضاً يتــمايز بطل ملفيل عن بطل سيرجيو ليونــي، فالأخـــير يسعى إلى تجنب الموت، في حين يسعى بطل ملفــيل إلى الموت. حتى أن ملفيل يقدم لنا الموت الإرادي لبطله وكأنه عمل فنــي يدعو إلى الإعجــــاب والاحتـــرام. إن بطل ملفيل على استــــعداد لتـــقديم حياته ثمناً لصوغ مـــثل أعلى لتفوقه البطولي (الواشي، النفس الثاني، الساموراي، الدائرة الحمراء). 

التوق للبطولة
يبدو الموت الإرادي هنا وكأنه احتياج من احتياجات البطل، غريزة أساسية، وهي أقوى من غريزة الحفاظ على النفس؛ غريزة السعي إلى البطولة. فإذا كان كل رجل عظيم يعمل عملين في آن واحد: العمل الذي يقوم به في المجتمع، وعمله الروحي الخاص به، فإن بطل ملفيل يبدو كما لو كان عمله الروحي هو السعي إلى الموت.
نلاحظ أيضاً أن البطولة بالنسبة له تبدو كأنها إثبات شخصي داخلي، وليست نوعاً من التطلع للإعجاب والتصفيق، بالرغم من أن انتصاراته اليومية، لا تقل بحال من الأحول عما جلب للمصارع في العصور الغابرة من التصفيق والشهرة والإعجاب. إن بطل ملفيل لا يطمح إلا إلى أن يكون استثناءً من المجتمع؛ ولذلك فهو خارج عن القانون؛ الذي تتيح طاعته للفرد أن يدخل لعبة العالم وينخرط في الحياة الاجتماعية. ولكنه أيضاً يريد أن يكون استثناءً حتى من الاستثناء نفسه، فهو ليس خارجاً عن المجتمع فقط، بل خارج عن جماعة العصابة وشروطها أيضاً؛ أي إنه خارج عن الطاعة خروجاً مضاعفاً، وموقعه هو «خارج الخارج»، وتتحول المدينة بالنسبة إليه إلى حلبة يكون هو فيها المصارع والمبارز، وسلاحه هو البراعة والإتقان والثقة؛ أي الحرفية، وحرفيته هي مظهر من مظاهر بطولته، وتسير وراء تزمتها المعياري، كما سار موسى عليه السلام خلف العصا.
التوق للبطولة يتجسد كذلك في حرصه حرصاً جذرياً على التأنق؛ إن كوستلو في «الساموراي» يجد الوقت دائماً ليتأنق أمام مرآة بيته، حتى في ظل أحلك الظروف وأصعبها، وجانسن في «الدائرة الحمراء» لا ينسى أبداً أن يتأكد من أناقته حتى وهو يصعد سلم بناية متجر المجوهرات الذي سيعاينه للسرقة، بل حتى محقق الشرطة في «النفس الثاني» يلتفت وهو يسير في الشارع كي يلقي نظرة على القمصان في واجهات المحلات. إن بطل ملفيل يجد الوقت والطاقة دائماً كي يتأكد من أناقة ملبسه، وكأنها حاجة ملحة لا ينساها أبداً.  إن التأنق بالنسبة إليه هو أيضاً -كالحرفية- من آخر مظاهر البطولة في أزمنة الانحطاط، والتأنق يحول الخاص (أي الملابس) إلى أشياء تبعث على الانبهار، باعتبارها نزعة أسلوبية لرجل وحيد بشكل عميق، يحتفظ بمجهوليته وراء قناع التأنق، ويجمع بين ردود أفعال بارعة وبالغة السرعة، وتعبيرات وإيماءات هادئة وواثقة ومسترخية.
إن رداء بطل ملفيل هو مصدر من مصادر تنمية كبريائه البطولية، ومظهر من مظاهر إعجابه الذاتي بمزاياه الخاصة. ولكنه أيضاً يرمز إلى حالة تشبه حالة الحداد؛ هذا ما نلاحظه في تفضيله الألوان الرمادية والسوداء، والبزات والمعاطف الرسمية التي توحي ليس فقط بأنه على أهبة الاستعداد طوال الوقت، ولكن أيضاً بنوع من طقس الجنازة، حتى أن تغييرها بما يشابهها، هو البرهان على استمرار حالة الحداد تلك؛ حداد غامض سمته العامة الحزن على ما مضى وافتقاد الأمل في ما سيأتي؛ وكأنه يرتدي بزة اليأس.

لامبالاة البطل
هذا اليأس يجعله لامبالياً تجاه العالم، وقادراً على الاستغناء عن أي شيء، فلا يوجد شيء لا يكون قادراً على الاستغناء عنه، وبطريقة فورية ومفاجئة (البيوت، السيارات، الرفاق، العشيقات، المال)، لذلك يتربى على «اللاارتباط»، والعلاقات المؤقتة، فحياته تعتمد على سرعته في التخلي، الذي يتحول ليصبح خبرة في حد ذاته، بحيث تقل تدريجياً المعاناة الناتجة عنه، ويتحول هو نفسه ليصبح كائناً يتوقع الأسوأ باستمرار؛ كائناً متشائماً. ولذلك نشهد برودة العلاقات الاجتماعية للبطل ببقية المجتمع الصغير المفكك المحيط به، فهو لا يعول كثيراً على البشر؛ لا على أعدائه، ولا على أصدقائه، ولا يسعى حتى إلى الانتقام من العشيقة الخائنة في «الدائرة الحمراء»؛ التي صارت عشيقة غريمه رئيس العصابة، فنظرته إليها هي نظرته إلى كائن بائس يستحق الاحتقار لا الانتقام. إن المفارقة في عزوف بطل ملفيل عن العلاقات البشرية، لا تبدو هروباً من عذابات تلك العلاقات، بقدر ما تبدو عزوفاً عن الإيغال في تجربة الشر: ذلك الامتياز البشري الأكبر؛ كالحيوان البري الذي يهرب من الإنسان لأنه لا يوحي له إلا بالخوف، ولذلك يبدو البطل/المجرم هنا وكأنه أكثر براءة من البشري العادي.
من الشائق أيضاً ملاحظة أن أسلوب عمل بطل ملفيل يشبه أسلوب ملفيل نفسه في صنع أفلامه؛ وكلاهما يشبه أسلوب آلة تعمل بنعومة تامة، نعومة تصل إلى حد الصمت التام، فبراعة البطل المجرم في إزالة آثار جريمته في صمت، يوازيها أسلوب ملفيل نفسه في استخدام العناصر الواقعية لمحو آثار الواقعية نفسها من أفلامه (كحالة ستانلي كوبريك الذي كان يؤمن بأن الإغراق في التفاصيل الواقعية أكثر وأكثر، يؤدي إلى جعل المادة خيالية أكثر وأكثر). إن الصمت في أفلام ملفيل مدهش في قوته وامتداده، وقد يصل أحياناً إلى ثلاثين دقيقة كاملة ومتصلة من الصمت التام؛ كمشاهد السرقة الكبرى في «الدائرة الحمراء»، ومشاهد سرقة القطار في «المال القذر»، أو خمس عشرة دقيقة في مشاهد سرقة عربة المال في «النفس الثاني»، في حين ينبسط الصمت على رقعة الأجزاء الباقية من أفلامه، ليصبح هو القاعدة، بينما الحوار هو الاستثناء الذي يأتي كرثاء للصمت؛ صمت الاحتراف، والثقة، والتعالي، المُغلف بنظرة تشاؤمية فطرية ترى أن كل شيء باطل. 
من ملامح تشابه الأسلوب بين ملفيل وبطله أيضاً؛ حرص ملفيل على إخفاء حبكة أفلامه، مثل حرص بطله على إخفاء مغزى أفعاله، التي تبدو لنا كأنها سلسلة متعاقبة من أفعال الأسرار الكهنوتية. إن كلاً من ملفيل وبطله يمارسان طقوساً وشعائر، والشعائر تُؤدى في صمت وتكتم. وبسبب هذا الصمت والتكتم، يشهد سلوك البطل في المدينة تفوقاً ملحوظاً لنشاط العين على نشاط اللسان.
الصمت بالنسبة إلى بطل ملفيل هو  بمنزلة الزيت الذي يُصلّد عضلات إرادته البطولية. وبالنسبة إلى ملفيل نفسه، يبدو التكتم وكأنه أسلوب عمل لإدارة الممثل، فما تعرفه الشخصية لا تبوح به، ولو حتى بالإيماءة، وقد يصل الأمر بهذا التحفظ الإيمائي إلى خداعنا نحن أنفسنا كمُشاهدين؛ كمشهد تسلل المجرم الهارب فوجيل إلى سيارة آلان ديلون في «الدائرة الحمراء»، من دون أن يقدم لنا ملفيل أي ملمح أو إشارة، أو حتى زاوية رؤية تمكننا من فهم أن ديلون قد لاحظ تسلله إلى صندوق سيارته في أثناء تناوله غداءه في المطعم على الطريق، ومن هنا تكون المفاجأة كاملة عندما نكتشف، فيما بعد، أنه كان يعرف، وكان يتصرف طوال زمن الرحلة على الطريق بناءً عن معرفة لا عن جهل.

التحفظ الإيمائي
من الأمثلة الرائعة أيضاً على توجيه ملفيل لممثليه بالتحفظ الإيمائي؛ المشهد الذي يدخل فيه جانسن في «الدائرة الحمراء» إلى محل المجوهرات لكي يعاين أجهزة الإنذار وكاميرات المراقبة. وحجته للتجول في المكان هي رغبته في شراء قطعة حلي لصديقته، وتردده في الاختيار هو ما يتيح له البقاء أطول وقت ومعاينة كل شيء، وتردده ذاك يجعل البائع يعرض عليه كل الحلي والمجوهرات في كل مكان بالمتجر، من دون أن يصل جانسن إلى حسم أمره وشراء أي منها. 
والبائع هنا يظل محتفظاً ببرودة رهيبة لأعصابه، بل وأكثر، بآداب اللياقة واللباقة، حتى أنه يرافق جانسن -الذي لم يشتر شيئاً في النهاية- إلى باب المتجر ويحييه مودعاً، لكن كل طاقة الاستياء والغضب التي بداخله تخرج أخيراً في شبه إيماءة جانبية؛ فنلمح بسرعة وبالكاد، وفي زاوية رؤية مخنوقة لا تسمح بالكشف الكامل، أنه يعض بأسنانه على طرف لسانه من الغيظ، قبل أن يختفي بسرعة من الكادر. 
إن ملفيل يبدو كمن يعمل بنصيحة أندريه تاركوفسكي التي سينصح بها ممثليه فيما بعد؛ بأن يعملوا على الإخفاء أكثر من الإظهار، بأن يعاملوا ما بداخلهم على أنه سر يستوجب الكتمان لا الإعلان؛ وهو التحفظ الإيمائي الشديد نفسه أيضاً لأبطال المخرج الياباني الكبير ياسوجيرو أوزو.
لذلك ربما ينتابنا الإحساس ونحن نشاهد أفلام العصابات لملفيل بأن هناك تماساً مع أسلوبية أوزو، وكـــــأن أوزو يصــنع فيلماً للعصابات، حتى أننا نستطيع اعتبار «الساموراي»، مثلاً، تحية لأوزو: الخواء والعدمية كقيم مبثوثة في الفيلم، كسر الآكس (المنظور الواحد في الرؤية)، الاحتفاء بالتكوين داخل الكادر، الاحتفاء بالشكل، الصمت، الثبات.
 إن ملفيل يعمل ضد الأسلوب التقليدي لأفلام التحري والجريمة، فهو يعمل من منطق الثبات، لا الحركة، والحركة تأتي عنده كرثاء للثبات، كما تأتي حركة الكاميرا رثاءً لثبات الصورة الفوتوغرافية، إنه يحاول - كأوزو، وتاركوفسكي - أن يعمل ضد الإنجاز العظيم للسينما؛ أي الحركة؛ ويُخلد جمالية الجريمة بالثبات.
هذا الاحتفاء بالثبات، وبالصمت، في أفلام يفترض أنها أفلام حركة، يجعله في مناقضة وتباين دائمين مع أسلوبية هيتشكوك، ليس فقط في ما يتعلق بطريقة هيتشكوك في كشف الفاعل للجمهور في الدقائق العشر الأولى من الفيلم، ومقابلة ملفيل لذلك بتفضيله الإخفاء والغموض والالتباس، ولا فقط في التقطيع والإيقاع السريع عند هيتشكوك، والمتمهل المتأمل عند ملفيل، ولكن في ما يبدو عموماً من أن ملفيل يحتفي بكل ما يلقيه هيتشكوك في القمامة، والعكس بالعكس. وربما يكون وجه التشابه الوحيد بينهما مقتصراً على اشتراكهما في تحديد هدف صنع أفلام شعبية تحقق أرباحاً جيدة، من دون التنازل عن القيمة الفنية، وعن الجماليات، وعن التجريب (الطليعية)؛ أي عن السينما التي يفضلانها.
من ملامح سينما العصابات عند ملفـــيل أيضاً؛ تقســــيم المجرميـــــن إلى نوعيـــــن، هما: «مجرمون مؤقتون» يقومون بالجريمة، إضافة إلى عملهم الآخر: مثل حارس السجن، والشرطي المتقاعد بطل الرماية في «الدائرة الحمراء»، وعازفة البيانو، والنادل في «الساموراي»، وصديقة البطل صاحبة الملهى في «النفس الثاني»، ومجموعة العصابة في «المال القذر». والنوع الثاني من المجرمين هم «المجرمون المحترفون»؛ أولئك الذين يكرسون مجمل نشاطهم للإجرام. لكن العالم بأكمله بالنسبة إلى ملفيل يظل عالم مجرمين؛ سواء كانوا مؤقتين، أو محترفين. يعبر عن ذلك بصورة مباشرة المفتش الكبير في «الدائرة الحمراء»، حين يقول لمحقق الشرطة الذي يلاحق العصــــابة: «كل الرجــــال مذنبون... قد يولد الرجل بريئاً، لكن ذلك لا يســتمر طويلاً!». 
المفتش الكبير لا يستثني حتى الشرطة نفسها من دائرة الإجرام. ومقولتـــه تلك لا تصدر عن نزق، أو انسياق وراء إغواء بلاغي، بل تصدر عن خبرة ووعي؛ فطبيــــعة عمله ككبير مفتشي الشرطة، لا تجعله فقــــــط يرى المدينة كلها بنظرة واحدة، بل هو مضطر أيضاً لإرسال نظرته داخل عمله ذاته، لأنه هو «الشرطة التي تحقق في جرائم الشرطة»؛ يرى المفتش الكبير إذن الغابة كلهـــا، ويلـــمس الأشجار بيـــده شجـــــرة شجرة. ويكرر قوله في النهاية مرة أخرى، لتصبح كلماته هي آخر ما يرد بالفيلم: «تذكر، كل الرجال مذنبون... كلهم يا سيد ماتي!».

المجرم المحترف
إن بطل ملفيل ينتمي في أغلب أفلامه إلى فئة المجرمين المحترفين، ووضعه الاجتماعي ذاك يحدد سمات حياته وطابعها العام؛ فحياته غير المنتظمة تتكون محطاتها الثابتة من الحانات والملاهي والمقاهي، وتتيح له اللقاء بكل أنواع المشبوهين، وتفصله في دائرة ما يُطلق عليه «الخارجون عن المجتمع»؛ وهو المجتمع ذو الجمهور المفكك، المتأرجح، غير المحدد من كل أنواع اللصوص، والقتلة، وبائعات الهوى، والنصابين، والأفاقين، وجواسيس الشرطة. ولهذا يتكرر عند ملفيل (الواشي، النفس الثاني، الساموراي، الدائرة الحمراء، المال القذر)، أن يكون مكان التجمع هو الملهى الليلي، الذي يقع عادة في السرداب، ويلزم النزول إليه ببضعة سلالم، وكأنه قبو العالم السفلي لطبقة المشبوهين في المدينة. إن سراديب المدينة تتحول لتصبح هي المكان الحيوي للحركة وللحياة الأنيقة لمجتمع المجرمين ذاك.
أما بيوت زعماء العصابات، فتبدو ديكوراتها الداخلية وكأنها لبرجوازية تحاول تعويض حياتها التافهة في المدينة الكبيرة بالسعي إلى منح الديمومة لوجودها الأرضي داخل الجدران الأربعة لمسكنها، ولذلك نلاحظ طابع «الحشد» لأعمال فنية من اتجاهات ومدارس مختلفة، بل ومتعارضة، ومن حقب زمانية شتى ومتنوعة (الساموراي، الدائرة الحمراء، المال القذر)؛ وكأنها مخزونات متراكمة من الآثار المتخلفة عن كارثة مناخية أو اجتماعية. وهذا على عكس المسكن الذي يشغله البطل، الذي نلحظ فيه التقشف الشديد (وليس الفقر البصري). إن مسكن بطل ملفيل دائماً ما يكون مسكناً مؤقتاً، ويحرص ملفيل على أن ينقل إلينا الشعور بأنه مخبأ ضيق، يطمر فيه البطل كل متعلقاته، بل ونفسه كذلك، ويبعدها عن عيون الآخرين. ويصبح المسكن بالنسبة إليه مكان الراحة المؤقتة بين الحين والآخر، مكاناً للتوقف وأخذ النفس، لكن من دون أن يحق له النوم فيه، فمن النادر أن نعثر على لقطة للبطل نائماً في بيته عند ملفيل، اللهم إلا إذا كان مصاباً أو في غيبوية. ويفقد المسكن أهميته، عندما يفقد وظيفته كجراب شخصي آمن، فينبذه البطل بالطريقة وبالسهولة نفسيهما، اللتين ينبذ بهما كيس النفاية الذي يلقيه على قارعة الطريق وهو يغادر المسكن / المؤقت. 

ازدواجية فنية
وكثيراً ما يتكرر إلقاء البطل للقمامة بجوار الرصيف؛ وكأن الفضاء العــــام ومجتـــمع المدينة لا يعنيان بالنسبة إليه إلا مكاناً لإلقاء المخـــلفات.
يصبح كيس النفاية الذي يلقيه البطل على قارعة الطريق، هو نفسه وسيلة محقق الشرطة في تتبع آثار بطلنا (النفس الثاني، الساموراي). إن رجل الشرطة عند ملفيل هو مقتفي أثر، ولهذا السبب فهو جامع نفايات في الوقت نفسه (وتشمل النفايات الجثث، وفوارغ الطلقات التي يخلفها المجرم وراءه). والمحقق يمضي يجوب المدينة بحثاً عن غنيمة من النفايات، ويتوقف في طريقه ليلتقط نفايات المشبوهين التي يلقونها، ويفقدونها، وينبذونها، ويحتقرونها، ويسحقونها تحت أقدامهم، ويعود إلى وكره/مكتبه ليعمل على مضاهاتها، وفرزها بحكمة وتبصر، حيث ستتخذ بين يديه شكل الأدلة والبراهين النافعة. اقتفاء الأثر يضفي نوعاً من التشابه بين البطل / المجرم ومحقق الشرطة؛ تشابهات وتماثلات في المظهر والسلوك والحرفية، تتيح لهما الانخراط في لعبة تبادل الأدوار داخل الفيلم، كما يتبادل الممثــــل نفسه في أفلام ملفيل لعب دوري المجرم والشرطي من فيلم لآخر.
هذا التبادل ليس هو الملمح الوحيد للازدواجية في سينما ملفيل، فهو في الحقيقة يُخضع كل شيء للازدواجية؛ فالشيء ليس كما يبدو عليه من النظرة الأولى: يبدو الفيلم كأنه ينتمي لنوع أفلام العصابات، لكنه أيضاً ينتمي لأفلام الويسترن. البطل يتحرك في باريس، لكن الديكورات الخارجية والداخلية هي لنيويورك وشيكاغو. زمن الفيلم هو الستينيات والسبعينيات، لكن الأجواء هي أجواء أمريكا الثلاثينيات والأربعينيات. البطل يواجه الشرطة، ويواجه العصابة في الوقت نفسه، وربما لذلك يحمل مسدسين معاً. 
السير في الشوارع يبدو كما لو كان للتريض، لكنه في الحقيقة للاختباء. المرأة المخلصة، هي بائعة هوى في الوقت نفسه، وفتاة الليل قد تكون رجلاً في الحقيقة. الفيلم هو عن مطاردات، لكن بدلاً من أن يسوده منطق الحركة، يسوده منطق الثبات. أفلام ملفيل نفسها قد تحمل عنوانين لا عنواناً واحداً. ملفيل نفسه يحمل اسمين؛ اسمه الحقيقي ليس ملفيل، بل جرومبا.