فتوحات الفضاء الأزرق... طفرة الوعي وجذوة السعي

فتوحات الفضاء الأزرق... طفرة الوعي وجذوة السعي

هل انتقلنا فعلاً من الأقليات المقيمة في موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» إلى «فيسبوك» المقيم العام في جميع أرجاء العالم؟
لقد كانت الأقلية الساخطة أو النخبة العالمة هي التي تلج مواقع التواصل الاجتماعي، لممارسة الاحتجاج والنقد والتبرم بالنسبة للأولى، أو لتعميق الكفاءة وترويج المنجزات بالنسبة للثانية، لكنه وفي وقت وجيز أضيفت إليهما صنوف من الجماهير التي وجدت في هذه الصفحات نفحات للفيء ولفحات للكي، وثمة أكثرية مكثِرة أقامت بشكل رسمي في جنبات المحيط الأزرق، باحثة عن كل ما يزجي الوقت ويرفع رتابة اليومي، ومنهم من أغرته زرقة المكان، فأطلق رجليه يسبح في كل اتجاه، مختاراً طيب العيش بين الصحب والخلان في العالم الافتراضي.

إن شعب «فيسبوك» مفعم بالحيوية ونبل العلاقات الاجتماعية، فقد انقلبت علاقات صلة الرحم والصداقة بين الجيران وزملاء العمل لتشمل أناساً اجتمعوا على «فيسبوك» وتفرقوا عليه، فتجد من ينفق على سبيله ويغدق أطنان المشاعر والأحاسيس، بين صداقة وحب ومغامرة وبحث عن ملاذ اجتماعي دافئ، بعيداً عن آصرة العشيرة والشعيرة.
والنتيجة أن الناس انسحبوا عن لقاءات المقاهي والأزقة والبيوت والمسارح والعمل، واندسوا جميعا في ركن ركين في زاوية «فيسبوك»، وانحشروا في ملاقاة القريب والغريب دون موعد لقاء مسبق، فتنادوا سِراعاً من مكان بعيد كأنهم إلى مصيرهم آيبون، منهمكين في طقس التدوين وتبادل المعلومات والأخبار، حتى إن بعض الأمور التي تدخل في صنف الأسرار والخصوصيات، شقت طريقاً للكشف ووجدت حائطا للنشر، إما عن طريق المشاركة الحِبية لجمهور المشتركين مع الناشر، وإما بهدف فضح شخصية أو مؤسسة بقصد ابتزازها أو النيل منها وهكذا.
فكم يقضي بعضنا مع كِتاب أو مع صديق، مقارنة مع ما يقضيه وهو يرفع عقيرته في تصفح دقيق لصفحات «فيسبوك» وتقليب النظر في آخر زفراته وخرجاته؟ ولعل الوقت اختفى في إيقاع الولوج إلى الفضاء الأزرق، وبات مرهوناً للتردد عليه من غير قدرة على الانفكاك والتحرر منه.
لقد أخطأ المتنبي موعده مع التاريخ لما أعلن في قصيدته المدوية: «السيف أصدق إنباء من الكتب، في حده الحد بين الجد واللعب»، فلو امتد به الزمن ليعيش لحظة انفجار التقنية، لأعلن تائبا ونادماً ومستدركاً: الـ «فيسبوك» أصدق إنباء من الكتب...!
ولو عاش شعراء المعلقات وفْرة المادة المعرفية والتكنولوجية، لأغدقوا حساباتهم ألوف المعلقات، فتغدو كل تغريدة يدونها شاعر «فيسبوكي» معلقة بمقدمة طللية لا تندُب فِراق خليلة أو حبيب ولا هجر مكان تليد، إنما حتما ستكون موضوعاً في أعطاب قلة سيولة الـ «واي فاي» Wi Fi والتواصل، أو عن أي شيء من منجزات التقنية الزاحفة.
أما شاشات التلفاز والصحف التي فتحت أعيننا على عالم الصورة والمقالة، فقد أصبحت في رتب متأخرة، بعد أن دخل «فيسبوك» على الخط، ليقدم نفسه كلقاء متجدد لنشرات الأخبار وغيرها، بل إن هذه الأخبار التي ترد في الفضاء الأزرق تنساب بشكل تلقائي، دونما حاجة إلى خط تحريري أو افتراض وجود سياسة مهنية للنشر، حيث تفترض وجود هيئات ومؤسسات مختصة للخبر، إذ كل حاسوب وكل حساب يتهيأ في صورة مركز لصناعة الرأي، يحتاج فقط إلى موعد خاص مع المصادفة، ليكون في طليعة العناوين الأكثر تداولاً في العالم.
ويكاد كل مستعمل حساب في هذا العالم الافتراضي يكون بنفسه رئيس نشرة ومدير محطة ورئيس تحرير صحيفة، وأحياناً يصبح حسابه مصدر خبر موثوق به تلجه مؤسسات الإعلام والصحافة والسياسة والأمن، وهو بهذا يصبح أقرب إلى مشروع تعميم الخبر وحق الوصول إلى المعلومة الذي فشلت الحكومات في تقريره على الواقع.

حسابات تتجاوز السلطات
إن السلطة الرابعة التي لطالما درّسها علم القانون وأنشأ لها موقعاً في هرم الدولة، لم تظهر كليا فيما باشرته الإذاعة والتلفزة والصحف من سلطة على الدولة والمؤسسات، لكنها اندفعت بقوة لتركب قطار مواقع التواصل الاجتماعي، لتضمن لنفسها مقعداً مريحاً في النفوذ الثقافي والسياسي والاجتماعي، لتمارس الشغب على بقية السلطات وتفرض عليها نوعاً من الرقابة الذاتية، لئلا تصل قضاياها إلى محاكم التفتيش الـ «فيسبوكي»، وحينها تجبر على الترافع أمام العالم المفتوح بوجه مكشوف.
لقد كانت الأرصدة مصدر قوة ونفوذ اجتماعي وسياسي واقتصادي، توجه أموالها إلى الخارج لاكتناز ما أدركه حصاد السنين، لكن عموم الناس قد لا يملكون هذه الأرصدة، وبالكاد يملكون حسابات خاصة في «فيسبوك» ممتلئة بالمشاعر والتدوينات والسجلات، التي لا تحتاج إلى تذكرة ذهاب وإياب إلى سويسرا، لحجزها وحجبها عن الأنظار والمراقبة، فقط تحتاج إلى إدراج جملة من المعلومات الشخصية أو الوهمية تنم عن الالتزام بإرادة فتح حساب شخصي أو وهمي، ثم يبدأ في استقبال وتمرير الرسائل والأفكار التي تشكل رأسمال صاحبه. بهذه السياسة الذكية استطاع هذا الركن الاجتماعي أن يضم ملايين الناس، ويحوي ملايين وملايين الوثائق والحسابات، وكأنه بنك مركزي للمعلومات يحفظ ذاكرة العالم من النسيان، إذ تتحول التقنية إلى دماغ يفكر به العالم ويفكر فيه، ويتحول المشارك فيه إلى مواطن جديد بمواصفات جديدة، يرتبط بالعالم مسافراً وهو قار في مكانه، يشارك بإبداعاته وتدويناته، كما لا يبخل بتعاطفاته وتضامناته عبر النقر على «جيم» أو «لايك»، كتعبير عن روح التواصل وإرادة العبور إلى الجغرافيا الافتراضية.
تعمقت الصلة بهذا الفضاء الجديد إذن، فكل حساب يغدو بطاقةَ هوية جديدة تُمنح للمنخرط في هذه الشبكة، بها ينتمي إلى العالم ويسافر عبر حدوده خارج مسقط رأسه، لتمتد هويته المحدودة في هوية منفتحة مترامية الأطراف، وينفتح حسابه كعنوان مكشوف لعموم المستعملين بعد إذنه، ليتحول إلى إنسان معولَم تحت وقع التقنية المتقدمة، ظافراً بالملاذ الأخير بعد رحلة البحث عن تموقع لذات متقلبة.

انتصار القوة الناعمة
ففكرة الملاذ انكفأت في مؤسسات تاريخية تأوي صاحب المَظلمة وطالب الحق ومنبوذ المجتمع، لكنها انبلجت فجأة في عالم الافتراض لما تضعضعت في عالم الواقع، فارتقت الحسابات على «فيسبوك» إلى ملجأ للبوح والشكيمة والعرض والإفصاح.
كانت الشكاوى في الأصل ترفع إلى الأجهزة الأمنية والقضائية لتحصيل حق مغصوب أو لإثارة قضية ما، فأصبح العالم الرقمي الوجهة المفضلة لشعوب العالم، لأنها أقصر الطرق إلى التدوين والتدويل، ولا تحتاج في حَلها إلى تنصيب محام يتكفل ويتكلف بالقضية المرفوعة، كما لا تحتاج إلى دفوعات شكلية معينة، ولا إلى اكتساب صفة التقاضي لرفع الشكوى، فهي بذلك بعيدة عن منطق الإدارة البيروقراطية في مركزيتها ورتابة إجراءاتها. لقد بلغت انتصارات «فيسبوك» ما لم تبلغه الحربان العالميتان في جسامة وسائلهما وقتامة نتائجهما، فنقرة ثم تدوينة أبلغ عملاً من طلقة رصاص أو دوي صاروخ في أرجاء المعمورة، فساحة الوغى التي تحسم فيها القرارات السياسية لتؤوب الجيوش إلى مخابئها، تمخضت عن ساحة جديدة ومتنقلة يطبعها التآلف والتوادّ أو التنافر والتدابر في المواقف، لكنها تحتكم إلى رمي الكلمات والإغارة الحرفية على الأشخاص والمؤسسات بل وحتى الدول، وكأنها ترنو إلى صوغ نظام دولي جديد ينبني على العولمة والانفتاح وإسقاط جدار الخوف.
ولم لا؟ فصناعة الرأي أصبحت تتم بوسائل رقمية، ومن داخل شعب وهمية تنقل المعلومات والأسماء والحوادث والمواقف في الأثير، عبر تغريدات وفيديوهات وصور تتناقلها الحسابات على «فيسبوك»، في زمن مكثف يقفز على حدود الجغرافيا، ويتنقل بين القارات والدول والأعراق والملل واللغات، دونما حاجة إلى أذونات جمركية ولا حقوق نشر إدارية.
إنه القوة الناعمة التي تقود الناس كأرقام ومؤشرات بشكل رهيب، دون عراقيل السياسة والاجتماع، طائعين غير مرغمين لتبني آراء ومواقف معلنة أو مضمرة، في الكائن والممكن في الحياة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. إنه يشكل نقلة نوعية في الوعي من المجتمعات الصلبة إلى مجتمعات رقمية مرنة، تنداح كالضوء في مسار التغيير، لتعبر أنفاق الإثنية والعرقية من دون تكاليف اجتماعية وسياسية وثقافية، لترسو على علاقات شبكية ميسرة، تهيم في ظل قيم كونية سريعة الانطلاق نحو الآفاق.