الإضاءة الاصطناعية والصحة البدنية
أظهرت دراسات طبية حديثة خطورة دوريات العمل الليلية، فقد أكدت أبحاث مؤتمر السرطان الكندي أن الرجال الذين يقضون أوقاتهم فى نوبات العمل الليلية عرضة للإصابة بسرطان البروستاتا بثلاث مرات، مقارنة بمن يعملون بنوبات العمل النهارية، كمـا أشار الباحثون إلى أنهم عرضة لخطر الإصابة بأنواع أخرى من السرطان، بالإضافة إلى زيادة معدلات الإصابة بأورام في المثانة والأمعاء والرئتين، أما بالنسبة إلى النساء فـقـد تـزيـد نسبــة تعرضهـن للإصابة بسرطان الثدي، الأمر الذي دعا إلى تطوير جديد لتحليل الدم يمكنه اكتشاف سرطان الثدي قبل حدوثه بعشرين عاماً، وأيضاً تـــم ابتكار حمالة صدر قادرة على كشف هذا المرض الخطير مبكراً.
كما استعرض المؤتمر عدداً من الأبحاث حول سرطان المثانة الذي يصيب الرجال بنسبة ثلاثة أضعاف إصابات النساء، خاصة المدخنين والعاملين في الصناعات الكيماوية، والذين يعملون في دوريات ليلية متكرر بصفة مستمرة أو متقاربة.
يقول رئيس فريق الباحثين فى جامعة كيبيك الكندية د. جيليو ترند إن الرجال الذين يقضون معظم أوقاتهم في نوبات العمل الليلية عرضة لخطر الإصابة بعدد من أنواع من السرطان، بالإضافة إلى زيادة معدلات الإصابة بأورام في المثانة والأمعاء والرئتين، وتظهر الإصابة بأنواع متعددة من الأورام السرطانية باختلاف أوقات نوبات العمل.
ويعتقد الباحثون أن نوبات العمل الليلية تعمل على إيذاء الجسم عن طريق توقف عمل هرمون الميلاتونين، وهو الهرمون الذي تنتجه الغدة الصنوبرية في المخ، والذي يساعد على تنظيم فترات النوم والاستيقاظ عند الإنسان.
جاءت هذه النتائج في الوقت الذي يجري فيه نشر أكبر توعية على نطاق واسع من أي وقت مضى في المملكة المتحدة، حيث أكدت الإحصاءات أن 6.3 ملايين شخص أو حوالي 14 في المائة من السكان يعملون بنظام النوبات التي تختلف أوقاتها بشكل منتظم. وقد خضع للدراسة التي نشرت في الدورية الأمريكية لعلم الأوبئة حوالي 3 آلاف و137 رجلاً تم تشخيص حالتهم بالإصابة بالسرطان وتمت مقارنتهم بما يقرب من 500 شخص من الأصحاء، فوجد الباحثون أن نوبات العمل الليلية تضاعف الإصابة بسرطان البروستاتا إلى ثلاثة أضعاف، وسرطان الأمعاء بمعدل الضعف وفقاً لإدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FAD)
Food And Drug Administration.
أضرار التلوث الضوئي
تتعدد تأثيرات «التلوث الضوئي» على صحة الإنسان، ومن أخطرها الأورام السرطانية، إذ يؤكد العلماء أن التعرض للضوء الاصطناعي بشكل مستمر في أثناء السهر يعمل على تقليل إفراز الغدة الصنوبرية لهرمون الميلاتونين، المضاد القوي لأكسـدة الخلايا ومنع تكويــن الخلايا السرطانية، كما أن التعـرض المستمر للضـوء الاصطناعي في أثناء الليــل أو حتى النهار - حيث نرى في مكاتبنا المكيفة، والمغلقة غالباً، الاعتماد الكامل على الضوء الكهربائي طوال الوقت - يعمل على حدوث استقلابات للدهون في بلازما الدم، مما يزيد من معــدلات السمنة لدى الإنسان، وكذلك تزداد معدلات الاكتئاب لـدى الموظفين المناوبين ليلاً وغيرهم ممن يتعرضون للضوء الكهربائي نتيجــة لتأثر «فسلجة» (فسيولوجيا) الدماغ.
ومع التطور المذهل والمتسارع في وقتنا الحاضر، ومع تزايد التقنيات الحديثة، استبدل الإنسان بمصادره الضوئية الطبيعية المحددة والقليلة التوهج مصادر ضوئية هائلة شديدة التوهج، مما أدى إلى فوضى ضوئية قلبت ليله إلى نهار، فكان لهذا الأمر تأثيرات عدة على حياة الإنسان، حتى أصبح العدو الأول له.
ومن أكثر أضرار الضوء الكهربائي تأثيره المدمر على إفراز الغدة الصنوبرية Pineal Gland لهرمون الميلاتونين Melatonin.
وأطلق العلماء على الغدة الصنوبرية اسم «العين الثالثة»، لأنها تتفاعل مع الضوء الذي يصل إليها من العينين، حيث يتوقف عملها وإفرازها بوجود الضوء، وينشط بغيابه، وبالطبع يجري ذلك تدريجياً. فالضوء الخافت يبطئ إفراز الغدة الصنوبرية للميلاتونين، وكلما اشتد الضوء تراجعت كمية الإفراز حتى بلوغها التوقف التام، ويحدث ذلك ضمن مجال من 460-480 لمعة Lumen (وحدة قياس شدة الضوء).
وتتولى مستقبلات حساسة للضوء موجودة في العين، مسؤولية نقل الإشارة الضوئية تدريجياً لحزمة عصبية في الدماغ وتحديداً في منطقة المهاد الدماغي Hypothalamus تسمى النواة فوق التَّصالُبَة Suprachiasmatic Nucleus، وتشكل هذه الحزمة العصبية ما يسمى بالساعة البيولوجية Biological Clock التي تضبط وتنظم مختلف إيقاعات الحياة، مثل النوم والاستيقاظ والخمول والنشاط، والشعور بالجوع والعطش والرغبة الجنسية.
ولما كان هرمون الميلاتونين يفرز وينشط بغياب الضوء، فقد سمي بهرمون الظلام، وكان يعتقد لحقبة زمنية طويلة وحتى السنوات القليلة الماضية أن دور ووظيفة الميلاتونين يتعلقان بشكل رئيس بالنوم والاستيقاظ فقط، لكن الأبحاث العلمية الحديثة اكتشفت أن له أدواراً ووظائف كثيرة على درجة عالية من الأهمية تتعلق بسلوك الكائنات الحية جميعاً وبالصحة والمرض.
هورمون الشباب
كشفت الأبحاث الحديثة وظائف غير متوقعة للميلاتونين، إذ بينت الأبحاث المتعلقة بتأثير الضوء الاصطناعي على الصحة، أن أجسامنا تعمل أفضل خلال ساعات النوم المعتمة. وأكد باحثون من جامعة نسل في فيينا، أن الأطفال دون السنتين الذين ينامون في وجود الضوء القادم من الشوارع المضاءة ليلاً يتعرضون لقصر النظر خلال فترة الطفولة وسن المراهقة. كما أكدت مئات الأبحاث العلمية التي أجريت في المختبرات In Vitro وأيضاً على المرضى، أهمية الميلاتونين في حفظ الصحة وعلاج الأمراض أو الوقاية منها، ومن بين أهم نتائج هذه الدراسات والأبحاث ما يلى:
< يعمل الميلاتونين على استنهاض الخلايا المناعية المقاتلة للسرطان التي تسمى الخلايا القاتلة Suppressor T–Cells والخلايا البلعمية Macrophages.
< يمنع الميلاتونين ارتباط هرمون الإستروجين بالخلايا التي تتدخل الهرمونات الجنسية في عملها، مثل خلايا البروستاتا والثدي والمبيضين، وقد بينت تجارب عملية أن السيدات المصابات بسرطان الثدي ويُعالجن بالدواء المسمى الثاموكسيفين، قد تراجع حجم السرطان عندهن بنسبة 28 في المائة بعد تناولهن الميلاتونين بشكله الدوائي.
وفي تجربة أخرى جرت في المختبر أظهرت قدرة الميلاتونين على خفض نمو الخلايا السرطانية المأخوذة من الثدي بمقدار 75 في المائة، وخلايا سرطان البروستاتا بنسبة 50 في المائة، أي إنه عندما يهبط مستوى الميلاتونين في الدم تتهيأ الظروف المواتية لنمو وتكاثر الخلايا السرطانية، كما يعمل الميلاتونين على حماية المادة الوراثية DNA الموجودة في نواة الخلية، وتلك الموجودة في الميتاكوندريا من تأثير المواد السامة والشوارد الحرة Free Radicals.
وقد وجد أن قوة الميلاتونين المضادة للأكسدة تتفوق على قوة الإنزيم المشهور المسمى سوبر أكسيد دِيسموتاز Superoxide Dismutase بخمس مرات، كما تتفوق بمرتين على قوة فيتامين «هـ» المضاد للأكسدة. كما بينت إحدى الدراسات أن جسم الإنسان يتخلص من 80 في المائة من السموم والشوارد الحرة إذا ذهب إلى النوم قبل منتصف الليل، حيث يكون الميلاتونين في الجسم قد بلغ ذروته، ولكن لا يتخلص الجسم إلا من 20 في المائة فقط من هذه السموم، وذلك لارتباط إفراز الميلاتونين بمدة الظلام من ناحية، وبالساعة البيولوجية من ناحية أخرى، فإذا قلت ساعات التعرض للظلام لفترة زمنية طويلة، فإن كثيراً من السموم والشوارد الحرة تتراكم في الجسم لتعيث فيه فساداً.
ويستطيع الميلاتونين اختراق الأغشية الخلوية الدماغية وجدران الأوعية الدموية، فيصل إلى عمق الخلايا وينظفها تماماً من الشوارد الحرة الخطرة، مثل أول أكسيد النيتروجين No2، الأكسجين O2 والهيدروكسيد Oh، وبهذه الطريقة يعمل الميلاتونين على حماية الخلايا الدماغية من عوامل الأكسدة، مما يمنع الإصابة بالخرف أو تأخير ظهوره على الأقل، وقد بينت تجربة على الفئران أن إضافة الميلاتونين إلى الماء الذي تشربه، تطيل مَدَى عمرها، وتزيد في حيويتها ونشاطها حتى المراحل الأخيرة من عمرها. وبسـبب ارتباط هرمون الميلاتونين بالمظاهر الحيوية والنشاط فقد سمي بهرمون الشباب.
وللميلاتونين سيطرة على عمل الغدد الأخرى وإفرازاتها من الهرمونات مثل الغدة الدرقية التي تسهم إفرازاتها في ترسيب الكالسيوم والعناصر المعدنية الأخرى (معدنة العظام)، وبالتالي منع الإصابة بهشاشة العظام، ولهذا لم تسجل حالات هشاشة عظام كثيرة عند الأجيال السالفة، وذلك بسبب عدم تعرضهم للإضاءة الاصطناعية مدة طويلة، وذهاب الناس للنوم في وقت مبكر من الليل، وفي حالة اضطراب هرمون الميلاتونين في الجسم يختل نظام إفراز الغدد الصماء بالكامل، ونتيجة لذلك يظهر عدد من الأمراض، من بينها أمراض غير محددة السبب (المتلازمات)، فعند الأطفال على سبيل المثال، يؤدي تدني نسبة الميلاتونين إلى نقصان الوزن وضمور الكتلة العضلية وبطء النمو العقلي، وتزيد لديهم أعراض انفصام الشخصية والصرع.
ويسهم الميلاتونين في تعزيز الأداء الجنسي عند الرجل من حيث إثارة الرغبة الجنسية، كما يحسن وينظم إفراز المبيضين للهرمونات الجنسية، ويؤخر ظهور أعراض الشيخوخة، مثل اضطرابات النوم، الخرف، الالتهابات، تصلب الشرايين Atherosclerosis، تجاعيد الوجه، الكآبة، وغيرها. ويساعد الإنسان على التكيف مع فرق التوقيت الناتج عن السفر من منطقة جغرافية إلى أخرى بعيدة.
ولعل تردي مستوى تحصيل الطلاب في دروسهم وعدم ظهور مبدعين بينهم، مع توافر جميع الوسائل التعليمية والمراجع وتطور أساليب التعليم، هما بسبب طول مدة تعرضهم للإضاءة الكهربائية والسهر المفرط الذي يسبب نقص مستوى الميلاتونين لديهم.
التلوث الضوئي واختفاء النجوم
يقول أستاذ علم الجهاز العصبي والدماغ من معهد جيفرسون الطبي د. جورج برنيارد: ليس هناك شك في أن الضوء منظم قوي للعمليات الحيوية في جسم الإنسان، وأن التعرض للضوء الباهر يؤثر سلباً في كثير من وظائف الجسم الفسيولوجية، وذلك من خلال التشويش على الساعة البيولوجية.
ويقول د.روبرت هان من مركز السيطرة على الأمراض في أمريكا، إن النوم في غرفة غير مضاءة ولكنها معرضة لأضواء الشوارع يؤدي إلى أمراض سرطانية متعلقة بالخلل الهرموني، من بينها سرطان الثدي، فالضوء يؤثر بفعالية على إفراز الميلاتونين وهو هرمون يتعلق بوظيفة النوم والاستيقاظ وتعديل حرارة الجسم، وبالتالي فإن الذين يتعرضون للضوء الاصطناعي يصابون بمرض الحرمان من النوم المزمن.
أما فيما يتعلق بالكائنات الحية، فيظهر تأثير الضوء عليها في فترة المساء على الوجه الأخص، وذلك حينما تخلد بعض الكائنات إلى الراحة وتستعد أخرى لممارسة نشاطها ليلاً. فمثلاً نجد أن صغار السلاحف التي يفقس بيضها على سواحل البحار، تتجه إلى المدن حيث مصادر الضوء الاصطناعي بدلاً من أن تتجه إلى مياه البحر حيث مكانها الطبيعي، وهذا بلا شك يؤدي إلى هلاك عدد كبير منها. كذلك يمتد تأثيره إلى الطيور، خصوصاً التي تهاجر عبر الدول، إذ يسبب اختلالاً في البوصلة المغناطيسية لهذه الطيور، مما يجعلها تصطدم بالمبانى وأعمدة الكهرباء. وفي عام 1954 قتل نحو 50 ألف طائر بوساطة أجهزة الكيلومترات ذات الإضاءة القوية بقاعدة الدفاع الجوي في ولاية جورجيا الأمريكية.