البروكار... النسيج الحريري الدمشقي التراثي اليدوي

البروكار...  النسيج الحريري الدمشقي التراثي اليدوي

ارتدت الملكة البريطانية إليزابيث ثوب زفافها منه أواخر أربعينيات القرن الماضي، وارتدته ملكة اسبانيا السابقة وملكة الأردن السابقة نور الحسين وملكة ماليزيا الحالية، البروكار... النسيج الحريري الدمشقي التراثي اليدوي، لباس الملكات والمشاهير، يتنازل عن عرشه قليلاً ويتحول إلى ربطات عنق للرجال وأغطية مزركشة للحقائب النسائية وأغطية وسائد.

اشتهر نساجو دمشق منذ مئات السنين بتقديم عديد من الأنسجة المحلية المحوكة بشكل يدوي متقن وبزخارف جميلة، ومن خلال الأنوال اليدوية، ولعلّ الأبرز هنا والأغلى ثمناً كان نسيج «البروكار» المحوك من الحرير الطبيعي والموشّى بخيوط الذهب, وقد تخصصت أسر دمشقية عدة بهذا النسيج ومنهم من عمل على تطويره والاستغناء عن النول اليدوي وتحويله إلى الأنوال الآلية, كما تخرّج العديد من أشهر العاملين فيه أواخر القرن التاسع عشر وفي النصف الأول من القرن العشرين من معمل النعسان للأرابيسك والشرقيات، الذي كان يضم مئات العاملين وله أقسام وتخصصات كالموزاييك والنحاسيات والثريات وغيرها, وتحكي الرواية أنّ ملكة بريطانيا الحالية إليزابيث الثانية ارتدت ثوب زفافها من البروكار الدمشقي الذي صنّعه أحد العاملين في معمل النعسان أواخر أربعينيات القرن الماضي، وأهدته لها الحكومة السورية آنذاك، حيث ابتكر هذا العامل زخرفة خاصة بالملكة ومازالت لليوم تحمل اسمها، أو يطلق عليها «نقشة العاشق والمعشوق»، أو «طيور الحب», ومن ثم تتالى المشاهير على ارتداء البروكار، ومنهم ملكات وشخصيات رسمية وفنية شهيرة.

البروكار... سحر الحرير المطعّم بالذهب
 يعتبر البروكار الدمشقي من أجمل وأعرق الأنسجة الحريرية، وتعرفّه الموسوعات العالمية ومنها «ويكيبيديا» على أنه أشهر وأفخر أنواع الأقمشة والمنسوجات في العالم, حيث يتم تصنيعه من خيوط الحرير الطبيعية التي تنتجها دودة القز, وتتم زخرفته برسوم مبتكرة تضاف إليها خيوط الذهب، لتعطي البروكار رونقاً أجمل ولتحافظ على ألوانه، ويمكن أن يُصَمَّمْ من البروكار أشياء كثيرة من الأزياء النسائية والرجالية حتى المفروشات المنزلية والإكسسوارات، وغير ذلك.
ويعود ابتكار «البروكار» إلى حوالي 250 سنة فائتة، وانطلق العمل به بشكل واسع في القرن التاسع عشر من خلال مصنع النعسان اليدوي الشهير في منطقة باب شرقي بدمشق، ومن ثم من خلال أسر دمشقية عملت به بشكل يدوي وحولته فيما بعد إلى صناعة آلية كعائلة مزنر وشكاكي والأصيل وغيرها. 
بينما استمر الحرفي الدمشقي إبراهيم أيوبي في هذه المهنة، التي ورثها عن والده قاسم أيوبي، وكان والده هو من صمم رسمة ونقشة فستان زفاف الملكة إليزابيث في مصنع النعسان حيث كان يعمل, وأهدته الحكومة السورية آنذاك للأميرة إليزابيث بمناسبة زفافها من الأمير فيليب دوق أدنبره في عام  1947، والقصة كما يرويها الحرفي الابن إبراهيم: جاء وفد من الحكومة البريطانية برفقة وفد من وزارة الخارجية السورية إلى معمل النعسان، وطلبوا أن يصنّع المعمل ثوب زفاف الأميرة إليزابيث (لم تكن قد تزوجت بعد), ويؤكد أن والده من خلال وثائق موجودة لديه، ومنها حوار أجرته معه مجلة دمشقية تدعى مجلة الإذاعة كانت تصدر في خمسينيات القرن الماضي، (والحوار موجود في عدد المجلة رقم 11 لعام 1954)، هو من فعله وقدّمه، حيث صمم ثوب الملكة البريطانية اليزابيث الثانية، وابتكر الزخارف والنقشة الخاصة بالثوب، التي أطلق عليها نقشة «إليزابيث» ومن ثم أطلق عليها اسم «طيور الحب أو العاشق والمعشوق»، والثوب محوك بالبروكار الحريري وبخيط الذهب عيار 21.
وهناك شخصيات معروفة ارتدت البروكار أيضاً - يوضح الحرفي إبراهيم - مثل: ملكة إسبانيا السابقة صوفيا وملكة ماليزيا الحالية (حاجة حمينة)، وملكة الأردن السابقة (نور)، حيث ارتدين فساتين سهرة صممت من البروكار الدمشقي.
 < وماذا عن بدايات عملك في البروكار والأسلوب الذي تتبعه؟ 
يشرح إبراهيم: حالياً لا يوجد غيري - يؤكد أيوبي - في دمشق يصمم البروكار ويصنعه بشكل يدوي من خلال نول قديم ورثته عن والدي، بينما البقية يصنعونه آلياً، وبداياتي في النسيج اليدوي كانت منذ كان عمري 12 سنة، أي قبل حوالي 48 عاماً، حيث تعلمت تصميم البروكار الدمشقي من والدي في مشغله بعد تركه لمعمل النعسان. ويضيف: ويعتمد أسلوبي في التصميم على توظيف البروكار كنسيج حريري تراثي بشكل معاصر وبما يتناسب مع العصر الحالي والموضة وأذواق الناس، ولذلك معظم منتجاتي للنساء وهي كالتالي: حقائب للسهرة وأخرى لمشاوير التسوق وشالات للرقبة وفساتين ومرايا للماكياج، وللرجل هناك ربطات العنق وأغطية للوسائد، ومن مشاريعي القريبة القادمة تصميم علب مجوهرات خشبية مغلفة بالبروكار من الخارج، بحيث يعطي جمالية خاصة لصندوق المجوهرات في المنزل أو حتى في المحلات، وكذلك هناك علب الخناجر المصنّعة من الموزاييك وسأعمل على تغليفها بالبروكار بشكل جميل، واستفدت من الزخارف الإسلامية في العصر الأموي، حيث وظفت الزخارف الهندسية المسماة الخيط العربي كالمثمن والعشرية والاثنى عشرية على البروكار، وهذا عمل صعب.
 بالطبع يبدأ تنفيذ النموذج - يتابع أيوبي - بابتكار رسومات من خيالي أو من التراث، لتبدأ بعدها مرحلة الورق الهندسي المليمتري، حيث أرسم بدقة الزخارف والعمل الذي سأنقله للبروكار، مع تلوينه بالألوان نفسها التي ستكون موجودة في البروكار، وبعد ذلك أنقل الرسمة بعد إنجازها على الورق إلى قطعة صلبة من الكرتون، حيث أثقبها بشكل دقيق جداً بالمليمتر الواحد، ومن ثم أنقلها إلى آلة الجاكار لتوضع بشكلها النهائي على البروكار.
 ويتابع: التجديد بالرسومات والنقشات وتلبية جميع أذواق الناس هو ما أعمل عليه حالياً، كما ترى شكلاً لمشربية أرسمها بشكل زخرفي لأستخدمها على البروكار الخاص بالمفروشات والستائر, وأتذكر هنا أن شخصاً أبيض من جنوب إفريقيا ويقيم في إسطنبول، وهو مصمم أزياء جاءني وطلب مني إن كنت أستطيع وضع الرسومات الموجودة على العملات في دولة جنوب إفريقيا، وهي رسوم لحيوانات كزخارف على البروكار ليصمم هو ملابس منها، فقلت له يمكنني ذلك، ولكن كانت الأحداث قد اشتعلت في سورية فلم يرجع إليّ.
 
النماذج والرسومات وتاريخ البروكار
وحول الرسومات الأشهر في البروكار والنقشات التي يقال إنّ عددها يتجاوز
الـ 200 نقشة يسهب إبراهيم بالشرح: لابد من معرفة أن للبروكار سبعة ألوان أو خمسة، والاختلاف هنا بكثافة الخيوط، حيث تكون كثافة الخيوط في الأولى 150 خيطاً في كل سنتيمتر واحد، بينما في الألوان الخمسة تكون الكثافة مائة خيط في السنتيمتر الواحد، وبالتأكيد الأولى تحتاج إلى كمية أكثر من الحرير. وأصمم من البروكار حالياً حقائب سهر للسيدات، وهي مصممة من خمسة ألوان أو سبعة، وكلما زادت الألوان زادت كثافة خيوط الحرير بالسنتيمتر الواحد وجزادين صغيرة توضع في الحقيبة الأكبر أو تحمل باليد لوضع المال فيها، وهناك مرايا خاصة بماكياج السيدات وربطات شعر وشالات توضع حول عنق المرأة، وربطات عنق للرجال، ووسائد لغرف الجلوس والصالونات ووسائد للنوم.
وحالياً في كل كيلوجرام من البروكار يوجد خمسة قراريط من الذهب حتى لا يتغير لونه, لكن سابقاً كان يستخدم خيط الذهب بعياري 18 أو 21.
ويبيّن أيوبي الفرق بين اليدوي والآلي قائلاً: في ثماني ساعات نصنّع 30 سنتيمتر بروكار مصمم من سبعة ألوان بالنول اليدوي، أما على النول الآلي فيتم تصنيع أربعة أمتار خلال ثماني ساعات.
أما الرسومات والنقشات المشهورة فهناك: «طيور الحب أو إليزابيث» و«معارك صلاح الدين» و«الصياد»، وهي عبارة عن رجل يحمل قوساً بيده ويصطاد والكلب يتجه نحو الفريسة ليثبتها, و«عنقود العنب»، وهناك رسمة «البوب»، وتسمى أحياناً «الفراشة»، وسبب تسميتها أن رجلاً أمريكياً اسمه بوب جاء لمعمل مزنر الدمشقي للبروكار قبل حوالي مائة عام، وطلب نقشة جديدة، فكانت أول قطعة من البروكار تباع له عليها هذه النقشة الجديدة، فأطلقوا عليها اسمه، ومن ثم درجت تسميتها بالفراشة و«وردة عمر الخيام»، حيث أخذها من رسم زخرفي فارسي, ولدينا رسومات من التراث العالمي، مثل رسمة الكشمير من الهند التي أضفناها للبروكار.
 ووفق المعلومات التاريخية فإن شخصاً كردياً ابتكره وأطلق عليه «برو»، وهي اختصار لاسم إبراهيم باللغة الكردية و«كار» تعني مهنة، وصارت تعرف فيما بعد مهنة إبراهيم، أي «بروكار»، وهناك من يقول إن أصل الكلمة فرنسي وتعني: النسيج المقضّب بخيوط الحرير والذهب.
< وهل يمكن غش البروكار؟
يجيب عن السؤال طوني مزنّر الذي تعمل عائلته بالبروكار منذ أكثر من قرن من الزمن قائلاً: من الممكن غشه بإضافة خيوط بوليستر أو قطن أو نايلون له، وبالتالي لا يكون هنا حريراً طبيعياً. ويبين لنا طوني طريقة كشف البروكار المغشوش من غيره من خلال حرق خيط الروب، فإذا كان الحرير طبيعياً تماماً فسيعطي الحرق هنا رائحة مثل رائحة حرق شعرة من شعر الإنسان، وفي نهاية مرحلة الحرق يتجمع الخيط وينكمش, أما القطن فيحترق مثل الورق تماماً، والفيسكوز وهو حرير نباتي يحترق مثل القطن والورق، ونميز بين الفيسكوز والقطن بأن نأتي بخيط الفيسكوز ونبرمه بعكس الاتجاه العادي، فيتحول عندها لقطع صغيرة.