زكي نجيب محمود وفن المقالة

 زكي نجيب محمود وفن المقالة

«لو كنت نجاراً أو حداداً لتصورت أن ينقص العالم عدداً من النوافذ أو المفاتيح لو لم أصنعها أنا. لكن العالم لا ينقص شيئاً إذا نقص رأساً فيه خليط مما قال الفلاسفة.
لن تغلق نافذة كانت مفتوحة، ولن تفتح نافذة كانت مغلقة. لن يتهدم بناء كان قائماً أو يقوم بناء كان متهدماً... وإني لأعجب الآن كيف شكا إليّ زميل من الزملاء أنه لا يكسب ما يكسبه ممثل هزلي معيّن، مع أنه يعرف وهذا الممثل لا يعرف! وأنا الآن أعد الضحكات التي أضحكها هذا الممثل للناس. فأعلم كم ينتقص من بشر الناس لو زال عنهم. لكني لا أعرف – والله – ماذا أعد لأعلم مقدار خسارة الناس إذا زلت عنهم أو زال من هو مثلي في نوع ما يعلم وما يعمل».

  قد يدهش القارئ أو يصدم إذا عرف أن كاتب هذه العبارات لم يكن أحداً سوى الراحل زكي نجيب محمود. فهو هنا يبخس حق نفسه على نحو لا يكاد يصدق. وشبيه بذلك ما قال في تقديمه لمجموعة مقالاته المعنونة «جنة العبيط»: «لست أقيس قامتي إلى ذرة من وردزورث أو كولردج، الشاعرين الإنجليزيين اللذين أخرجا معاً ديوان «الحكايات الوجدانية المنظومة»... كلا ولا أقيس شيئاً في هذا الكتاب بشيء من ذلك الديوان...». لو أنه قال إنه لا يقيس قامته إلى الشاعرين الإنجليزيين، لكان قوله معقولاً. أما أن يقول إنه لا يستطيع أن يقيس نفسه إلى «ذرة» منهما، فإنه يظلم نفسه ظلماً كبيراً لا داعي له.  
ومن الغريب أن الذين عرفوا زكي نجيب عن قرب مثل كاتب هذه السطور يعلمون أنه كان رءوفاً في الحكم على طلابه، وحريصاً على التنويه بالنابه منهم، وتشجيعه ورعايته أثناء فترة الطلب وفيما بعدها فكأنه تبناه. وكان الرجل شديد الرفق بطلابه بقدر ما كان صارماً وقاسياً في الحكم على نفسه. فكيف نفسر هذه الظاهرة؟
كان الرجل ميالاً بصفة عامة إلى التشاؤم، ولم يكن يخفي ميله هذا لا في أحاديثه الخاصة ولا في آرائه المكتوبة. ولكن ذلك لا يبرر مغالاته في التقليل من شأن نفسه. ويبدو أن أحد أسباب هذه الظاهرة هو أنه لم يكن يشعر بالتضاؤل بالقياس إلى الشاعرين الإنجليزيين فقط، بل كان يرزح أيضاً تحت وطأة شعور بالضآلة أمام بعض أعلام الأدب المبدعين في وطنه. فهو لم يكن شاعراً (مثل العقاد والمازني)، ولا قاصاً (مثل المازني وطه حسين)، ولا كاتباً مسرحياً (مثل توفيق الحكيم). وأين هو منهم إذن؟ وكيف يبرز بينهم؟ 
وقد سمعته ذات يوم يشكو من أنه كتب سيرته الذاتية مرتين – مرة في «قصة نفس» ومرة في «قصة عقل» – ولكنه لم يستطع في المرتين أن ينشئ من قصة حياته عملاً أدبياً (مثل «أيام» طه حسين على سبيل المثال). ولقد عاش لفترة طويلة في ظل أولئك العماليق، وحجبته ظلالهم الوارفة وصرفت الأنظار عنه؛ فلم يشق طريقه إلى الشهرة إلا بعد جهد جهيد.   
ولا يتسع المقام هنا لإنصاف زكي نجيب من ذلك الظلم أو رد الاعتبار له كما ينبغي. ويكفي أن نطرق لذلك باباً فتحه هو نفسه، وهو باب المقالة الأدبية التي روّج لها وأبدع في كتابتها، واستطاع بذلك أن يشق لنفسه طريقاً يتميز فيه ويخالف به كبار معاصريه الطاغين عليه. يقول في تقديمه 
لـ «جنة العبيط»: 
«رأيت في المقالة رأياً أخالف به الذائع الشائع في أدبنا، وأوافق فيه رجال الأدب في الغرب، فقدمت للكتاب بفصل في شروط المقالة الأدبية وأوصافها، ثم عقبت على ذلك بمقالات 
هي – باستثناء عدد قليل منها في نهاية الكتاب – بمنزلة التطبيق لما بسطت من قواعد».
وهنا نرى الكاتب الذي يشعر بالتضاؤل أمام الغير يرفع رأسه ليتحدث بلغة التحدي. فالذائع الشائع في الأدب المصري أن الكتّاب فيما يقول لا يكتبون إلا مقالات، ولكنهم مع ذلك لا يعرفون ما هي المقالة الأدبية. وهو يرى أنه يعرف، وأن باستطاعته أن يقدم الدليل على ذلك نظرياً وعملياً. وزكي نجيب في هذه الحالة كاتب صاعد يشق الصفوف ليقول: «أنا هنا، أفسحوا لي الطريق».
وهو يرى في فصل نظري خصصه لبسط شروط المقالة الأدبية وفقاً للقواعد التي أرساها النقاد من أدباء الإنجليز أن «المقالة يجب أن تصدر عن قلق يحسه الأديب مما يحيط به من صور الحياة وأوضاع المجتمع، على شرط أن يجيء السخط في نغمة هادئة خفيفة، هي أقرب إلى الأنين الخافت منها إلى العويل الصارخ...»، ويقول أيضاً: «شرط المقالة الأدبية أن يكون الأديب ناقماً، وأن تكون النقمة خفيفة يشيع فيها لون باهت من التفكه الجميل...»، وينبغي للمقالة الأدبية - وفقاً لمن كتب تلك السطور - أن يكون لقارئه محدثاً لا معلماً، حيث يجد القارئ نفسه إلى جانب صديق يسامره، لا أمام معلم يعنفه...».  
وهنا نلاحظ أن صفات المقالة الأدبية كما استقاها زكي نجيب من النقاد الإنجليز ليست مجهولة في الأدب العربي. فالمقالة الأدبية هي تقريباً ما نسميه «النثر الفني». 
ونحن نجد ما يشبه التطبيق لفكرة كاتب المقالة بوصفه صديقاً مسامراً في كتاب أبو حيان التوحيدي «الإمتاع والمؤانسة». بل إن بعض معاصري زكي نجيب من كتاب المقالات مثل المازني يستوفون كل أو بعض شروط المقالة الأدبية كما وضعها الإنجليز. انظر مثلاً ما كتبه المازني عن «السّخر» (أي السخرية أو ما يرادف مفهوم 
الـ Irony الإنجليزي) وما طبّقه في مقالاته الممتازة. ولنا أن نقطع بأن كبار كتّاب النثر 
العرب – مثل التوحيدي والجاحظ – ما كانوا ليعترضوا على مؤلف «جنة العبيط»، فيما رأى بشأن المقالة الأدبية مستلهماً في ذلك مصادر أجنبية. 
  ومن الجدير بالذكر أن زكي نجيب تخلى في وقت لاحق عن آرائه كما عرضها في «جنة العبيط ووصفها بأنها «غرور عابث». (انظر مقالة «العقاد كما عرفته» في كتاب مع الشعراء).
وأعتقد أنه كان قاسياً مرة أخرى في الحكم على نفسه. فمما يحمد له أنه عني كما لم يَعن أحد غيره بالتأكيد على أهمية المقالة وإرساء شروطها وقواعدها بوصفها نوعاً أدبياً يقف على قدم المساواة مع القصيدة والقصة والمسرحية. وكان في ذلك رائداً، وإن اختلف معه البعض في بعض التفاصيل. يضاف إلى ذلك أن اختياره للمقالة الأدبية بوصفها عملاً إبداعياً كان وسيلة مشروعة لشق طريقه نحو النور واحتلال مكان بارز بين الأدباء المبدعين.
يذكر أيضاً أن زكي نجيب كان متسقاً مع جهوده المبكرة في الترويج لمفهوم المقالة الأدبية عندما قدّم في وقت لاحق ما يعد تمهيداً منطقياً للفكرة. حدث ذلك في جدله مع د. محمد مندور حول ما إذا كان النقد علماً أم فناً. فرأى أن النقد علم أو ينبغي أن يكون كذلك، لأنه يتناول النص أو العمل الفني بطريقة موضوعية صرف.
والناقد الأصيل لا يعبّر عن انطباعات خلفها العمل الأدبي في نفسه، وإلا لكان أديباً من الدرجة الثانية. وهو بالأحرى عالم يعلل سر إعجابه بالعمل المنقود بناء على ملاحظة الخصائص والسمات العامة. فالعلم يعنى بما هو عام في الظاهرة موضوع النظر، في حين أن الفن يعنى بما هو فريد فيها. والفنان الذي يقنع من الظاهرة بما هو عام فيها يكون أقرب إلى العالم منه إلى الشاعر أو الرسام.
والشاعر الذي يقول «والظلم من شيم النفوس» ليس فناناً لأنه يبحث عما هو مشترك بين النفوس. وهو إذن لا يختلف عن العالم الذي يقول: «التمدد بالحرارة من شيم الحديد».  
وهذه الآراء التي أبداها زكي نجيب بعد زمن طويل من صدور «جنة العبيط» تدعم آراءه في هذا الكتاب عن شروط المقالة الأدبية. فهذه المقالة عمل فني لأنها تعبّر عن نفس الكاتب، وتسجل ما هو فريد في الظاهرة موضوع الاهتمام. وهي من هذه الناحية لا تختلف عن القصيدة.

كاتب مقالات أدبية
فلنقل إذن إن زكي نجيب لم يبتدع مذهباً جديداً في الفلسفة، ولم يكن شاعراً ولا قاصاً ولا كاتباً مسرحياً. ولكنه قدّم نفسه في مرحلة من المراحل بوصفه كاتب مقالات أدبية.
ولكن ينبغي أن نفهم فكرة المقالة على النحو الصحيح. فقد تناولنا فيما تقدم المقالة من حيث هي عمل إبداعي. ويمكننا هنا أن نقول إن زكي 
نجيب - كاتب المقالة الأدبية - كان أديباً مبدعاً، مثله مثل المازني، وأحمد أمين (في «فيض الخاطر»)، وأحمد حسن الزيات (في «من وحي الرسالة»)، وزكي مبارك (في «الحديث ذو شجون»).
إلا أن مفهوم «المقالة» لا يقتصر على ذلك النوع الأدبي الذي حدده زكي نجيب ونبغ فيه. فلكلمة المقالة باللغة العربية معنى واسع، وهي هنا تعني ما قيل أو القول أو الرأي. فالمعنى المقصود عندما يقال مثلاً «مقالات الأشعرية» هو أقوال الأشعرية أو آراؤهم. والمقالة بهذا المعنى قد يعبّر عنها في جملة واحدة، أو في فصل من كتاب، أو في كتاب كامل. 
ومن الواضح أن زكي نجيب كان من كتّاب المقالات بهذا المعنى الواسع، وأنه كانت له آراء ومواقف بسطها في مؤلفات عديدة تتراوح قصراً وطولاً. فهل هناك في هذا المجال شيء «يعد» و«يقاس» للتحقق من منجزات الرجل؟ 
ينبغي أن يقال - إحقاقاً للحق - إن زكي نجيب في مقالاته – بالمعنيين الضيق والواسع – أسهم إسهاماً كبيراً في الثقافة العربية في القرن العشرين. ولا مجال هنا للتوسع في إثبات هذا الرأي. ويكفي أن نشيد بدوره كمعلّم من الطراز الأول. وليس صحيحاً أن أقواله في هذا المجال كانت «خليطاً من الأفكار» كما ادعى، فقد كان قادراً على نحو مثير للإعجاب على استيعاب وتمثّل ما قرأ وإعادة صياغته على نحو متسق، حيث يمكن إيصاله إلى الطلاب أو القراء.
وما دمنا قد أشرنا إلى التمثل والاستيعاب، فلا بد أن ننوه بدوره كمترجم لا يشق له غبار. وإنتاجه في مجال الترجمة عن الإنجليزية لا يبارى. فكان يجيد فهم هذه اللغة الأخيرة والتوصل إلى دقائقها، وكانت العربية في النقل عنها طوع بنانه. 
وأستطيع أن أشهد على ذلك، لأنني رأيته وهو يعمل مترجماً. كان يراجع ما ترجمت، وكان يملي عليّ الترجمة الصحيحة إذا كان هناك مجال للتصحيح، فلا يتردد ولا يتلعثم، بل يحل ما أُشكل عليّ بسهولة فائقة ولغة سلسة رصينة. وقد اطلعت على ما خط بقلمه، فرأيت أنه قلما يشطب كلمة، فكأنه كان يملى عليه.
ومن جوانب امتيازه كمعلّم أنه كان ديمقراطياً، فلا يستبد برأيه ولا يحاول أن يفرضه على طلابه. وكان - كما قلت في البداية - يدعم طلابه ويسعد بنبوغ النابه منهم، ويقف إلى جانبه مدى الحياة، فكأنه تبناه. 
ولقد كان أديباً حتى في مقالاته التي تتصف بطابع التعليم والطابع العلمي وفقاً لتعريفه. فرغم أنها كانت تعنى بما هو عام ومشترك، فإنها كتبت بأسلوب جميل بفضل شفافيته وسلاسته. وباستطاعة القارئ الذي يريد أن يتأكد من ذلك أن يرجع مثلاً إلى كتاب زكي نجيب عن المنطق الوضعي. فهنالك لغة ممتعة متعة الأعمال الأدبية. 
وأرجو في الختام أن يكون من المناسب في الوقت الحاضر التأكيد على أهمية أدب المقالة والتنويه بكبار كتّابها، ومن بينهم زكي نجبب محمود. فقد ينبهنا ذلك إلى تردي أوضاع اللغة العربية، وإلى أن معظم المقالات التي نقرأها في الصحف أو في الكتب أصبحت عملية منفعية في أفضل الحالات، وركيكة رثة في أسوئها ■