العلاقات الأوربية - الأوربية ما بين الانقسام والتنسيق

العلاقات الأوربية - الأوربية ما بين الانقسام والتنسيق

حتى تكون قراءتنا دقيقة للانقسام المحتدم اليوم في أوربا حول مصير الاتحاد الأوربي، بعد بدء بريطانيا الخروج منه، لا غنى عن النظر في العلاقات الأوربية - الأوربية ما بين الانقسام والتنسيق ضمن سياقها التاريخي.

خلال القرن السادس عشر حصل تغيّر جذري، إذ اجتاحت أوربا موجة انقسام وصدام على مستويات، لكن قابلتها موجة تنسيق على مستويات أخرى. على الضفة الأولى، برز صراع على السيادة بين الملوك وأمراء المقاطعات والبابا والامبراطور. 
وسعى الأباطرة إلى الاستقلال حتى من التبعية الرمزية لكرسي البابا. كما سعى أمراء المقاطعات والملوك إلى الاستقلال عن البابا والامبراطور الروماني. 
ما سبق أدى إلى تآكل الامبراطورية الرومانية وبروز نسق جديد للاجتماع السياسي، وهو نسق دولة الأمة الوطنية. وقد تزامن ذلك مع انحسار النظرات الثقافية الكلية السائدة، وانتشار نظرات ثقافية جزئية متنافرة انتحلت صفة النظرة الكلية.
كان العنوان الأكبر للصدام هو حرب الثمانين عاماً (1568/1648م) التي اندلعت بين الامبراطورية العثمانية من جانب، وفرنسا وإسبانيا والولايات المكونة لما يعرف اليوم بهولندا من جانب آخر. 
على الضفة المقابلة، ازداد التنسيق بين عدد من بلدان أوربا لمواجهة تمدد السلطنة العثمانية في أوربا، التي استأنفت خلال عهد سليمان القانوني (1520/1566م) التوجه غرباً، فحاصرت فيينا وسيطرت على أجزاء من المجر. وقد استمر التجابُهُ بين العثمانيين وبلدان أوربا لنحو قرنين، وهو ما أسهم في نمو «الانتماء لأوربا». 
وخلال القرن السابع عشر، استفحل الصدام استفحالاً كبيراً، لكن التنسيق الجزئي استمر على مستويات مختلفة.
داخلياً، اندلعت حرب الثلاثين عاماً (1618/1648م) بين جبهتين؛ ضمت الأولى أسرة هابزورغ التي كانت جالسة على كرسي الامبراطورية الرومانية، وحلفاءَها، وعلى رأسهم الامبراطورية الإسبانية والدنمارك والمجر، بينما ضمت الجبهة الأخرى الحلف المناهض للامبراطورية الرومانية، وعلى رأسه السويد والجمهورية الهولندية وإنجلترا، وأسكتلندا، وعصبة هلبرون، وهي تحالف بين فرنسا والسويد وأمراء بروتستانتيين في غرب ألمانيا، والدنمارك- النرويج، وساكسوني، وبوهيميا، وبراندنبرج- بروسيا. 
وقد حصلت هذه الجبهة الأخيرة على دعم السلطنة العثمانية وروسيا القيصرية. وقُدر عدد قتلى هذه الحرب الرهيبة بثمانية ملايين، بينما قُدر عدد الجرحى بمئتين وثمانية وعشرين ألفاً، وهذه الأعداد غاية في الضخامة إذا نُسبت إلى إجمالي عدد سكان القارة آنذاك. 

تنافس حاد
خارجياً، ظهر تنافس حاد بين القوى الأوربية فيما يتصل بتوسيع نطاق نفوذها الاستعماري.
وفي الجانب الآخر، استمرت بلدان أوربا تنسق لوضع حواجز تحول دون تجدد تمدد السلطنة العثمانية، ثم أخذت تنتقل إلى الإمساك بزمام المبادرة ووضع السلطنة في موقف رد الفعل، وركزت على السلاح الاقتصادي. أيضاً، أخذت القوى الاستعمارية الكبرى تنسق على مستوى تبادل المصالح الناتجة عن الاستيلاء على ثروات البلدان. 
وخلال القرن الثامن عشر، ارتفعت وتيرة الانقسام داخلياً وخارجياً، على أن التنسيق الجزئي لم يتوقف. وتطلعت بعض القوى التي راكمت مقومات القوة، وعلى رأسها النمسا وبروسيا وبريطانيا وفرنسا، لبسط نفوذها على معظم القارة. وكانت الاستراتيجية الشائعة لتحقيق ذلك الإمساك بوسط القارة. 
لاحقاً، اشتعل فتيل الحرب بين بريطانيا وفرنسا في أمريكا الشمالية خلال مرحلة الثورة الأمريكية (1778/1783م). ومع نهاية القرن وسّعت فرنسا النابليونية من نطاق نفوذها، وقد قوبل ذلك بإقدام معظم القوى الأوربية على التنسيق لإيقاف نابليون، فاندلعت «حروب الأحلاف» أو «الحروب النابليونية» (1792/1815م). 
على مستوى آخر، ضاعفت بلدان أوربا التنسيق لزيادة إضعاف العثمانيين. كما نسقت للحيلولة دون اتساع نطاق نفوذ روسيا في شرق أوربا. 

تنسيق جزئي
وخلال القرن التاسع عشر، ارتفعت وتيرةُ الانقسام والصدام داخلياً وخارجياً، لكن التنسيق الجزئي ظل قائماً. في 1806م، جرى حل الامبراطورية الرومانية عقب هزيمتها على يد نابليون. كما اصطدمت فرنسا بقيادة نابليون مع بريطانيا في المتوسط، واستمرت حروب الأحلاف التي انتهت إلى هزيمة نابليون.
على أنه سرعان ما ظهر أن جهة أخرى تسعى إلى توسيع نطاق هيمنتها القارية، وهي تحالف أغلب المُكَوِّنات الألمانية النمساوية التي تضاعفت قوتها بتأسيس الاتحاد الألماني الذي ضم بروسيا والإمبراطورية النمساوية وولايات ألمانية. 
وقد تضخّم نفوذ هذا الاتحاد في وسط أوربا. كما زادت حدة الاستقطاب على مستوى الشعور القومي الإقصائي. 
في المقابل، استمر التنسيق للضغط على السلطنة العثمانية لإحلال أنساق الاجتماع السياسي الأوربي وتوسيع نطاق النفوذ الأوربي داخلها. كما جرى التنسيق لنزع أنياب محمد علي حاكم مصر الذي تضخم نفوذُه. كما نسقت بريطانيا وفرنسا ومعهما قوى أخرى السياسات الاستلابية ضد الصين. 
ومع حلول القرن العشرين، بلغ الانقسام والصدام ذروتيهما، على أن التنسيق لم يتوقف.
واندلعت في عام 1914م الحرب العالمية الأولى، التي هي في جوهرها حرب أوربية، وقد ضمت الجبهة الأولى ألمانيا والنمسا والسلطنة العثمانية وبلغاريا، بينما ضمت الجبهة المضادة بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا وصربيا واليابان، ثم انضمت رومانيا والبرتغال واليونان والصين.
في المقابل، وبعد أن انقشع غبار الحرب، أسست القوى الأوربية الكبرى عصبة الأمم، لتكون قاطرة لحمل المسعى الاستعماري وتنسيق السيطرة على البلدان التي انسحبت منها السلطنة العثمانية، وتنسيق مواجهة المسعى الامبراطوري الياباني، وتنسيق الحيلولة بين ألمانيا وبين أن تنمو أنيابها مجدداً. 

مسعى جديد
جرى التنسيق بين بريطانيا وفرنسا فيما يتصل باقتسام النفوذ الاستعماري، وهو ما تجلى في اتفاق سايكس بيكو. على أنه لم تكد شعوب أوربا تلتقط أنفاسها، حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية (1939/1945م)، وكان البر الأوربي هو ساحة القتال الأهم فيها.  
وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، برز مسعى استراتيجي جديد لتكريس الانقسام الأوربي، وفي مواجهته برز مسعى تنسيقي توحيدي. أما المسعى الأول فقد نتج عن إقدام الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة على فرض نفوذهما على أوربا التي أثخنتها الحرب. وانقسمت أوربا إلى أوربا شرقية يقودها الاتحاد السوفييتي الممسك بمقود قاطرة حلف وارسو، وإلى أوربا غربية تقودها الولايات المتحدة الممسكة بمقود قاطرة حلف ناتو.
أما المسعى التنسيقي التوحيدي فقد تمثّل في وضع أسس ما عرف لاحقاً باسم «الاتحاد الأوربي». كانت ألمانيا وفرنسا هما البَلَدان اللذان لهما السهم الأكبر في وضع البنية التحتية لهذا الاتحاد، وقد أُبرمت معاهدةُ لاهاي عام 1948 التي أدت إلى إنشاء الحركة الدولية الأوربية وكلية أوربا، ومعاهدة روما (1957م) التي انصبت على تنظيم الاعتماد الاقتصادي المتبادل وإنشاء الاتحاد الجمركي. 
كما أبرمت معاهدة الدمج (1967م) التي انصبت على تنظيم دمج السلطات القضائية والتشريعية والإدارية، واتفاق شنغن (1985م) الذي أنشأ منطقة شنغن التي أزيلت منها نقاط التفتيش، ووضع نظام التأشيرة الموحدة.
وشهدت المرحلة التي أعقبت تفكك الاتحاد السوفييتي (تقريباً حتى 2015) تحولاً فارقاً، وهو تقدم التنسيق على الانقسام والصدام، تقدماً كبيراً.
فقد شهدت توقيع التشريع الأوربي الموحد (1992م) الذي أنشأ سوقاً اقتصادية واحدة وأَطَّرَ التعاون السياسي، ووضع لبنة التعاون الأمني والخارجي المشترك.
كما أبرمت معاهدة ماستريخت (1992م) التي أنشأت عملة «اليورو»، ومعاهدة أمستردام (1997م) التي أعطت مزيداً من الصلاحيات للبرلمان الأوربي.

موجة انقسام
في 2001م أُبرمت معاهدة نيس التي انصبت على تطوير هيكلة الاتحاد واستيعاب المزيد من بلدان شرق أوربا. وقد تمخضت مسيرة التنسيق والتوحيد عن إنشاء شبكة مؤسسات على رأسها البرلمان الأوربي، والمجلس الأوربي، ومجلس الاتحاد الأوربي، والمفوضية الأوربية، ومحكمة العدل الأوربية، والبنك المركزي الأوربي، وديوان المحاسبة.
على أنه في اللحظة التي سادت فيها التوقعات أن يكتمل توحيد أوربا، إذا بالقارة تشهد موجة انقسام ظهرت بوضوح قبل سنوات، فقد فوجئ الجميع بصعود اليمين في عدد من بلدانها وبإلحاحها على وجوب الانكفاء على الذات والخروج من الاتحاد الأوربي، وهو ما تجلى في شروع بريطانيا في الخروج بعد استفتاء في 2016م. وقد أعلنت قوى اليمين أن على رأس بواعث نهجها إيقاف الهجرة إلى أوربا.
ما الذي نخلصُ إليه؟ أولاً، أن العلاقات الأوربية - الأوربية منذ خمسمئة عام تتجاذبها وجهتان؛ وجهة الانقسام والصدام، ووجهة التنسيق والتوحيد. 
ثانياً، أن كفة الانقسام والصدام ظلت أرجح باستثناء المرحلة التي أعقبت تفكك الاتحاد السوفييتي.
ثالثاً، أن أحد أسباب رغبة بريطانيا في الخروج أن تأثير كل من القرار الألماني والقرار الفرنسي في تسيير «الاتحاد الأوربي» أكبر، وأن جهودَ كلٍ منهما في وضع البنية التحتية للاتحاد ورفعِ قواعدِ بُنيانهِ قد وضعتهُ على عتبة تحقيق كثير مما ظل يتطلع إلى تحقيقه عبر ثلاثة قرون، وهو توسيع نطاق نفوذه القاري. 
يبقى سؤال عريض يحتاج إلى تأمل أعمق قبل الإجابة عنه، وهو: تُرى، هل يَصح أن يُرجعَ رُجْحانُ كِفَّةِ الانقسام والصدام على كِفَّةِ التنسيق والتوحيد، جزئياً، إلى ما حصل منذ بدء موجة الانقسام الكبرى خلال القرن السادس عشر من انحلال كثير من العُرى الثقافية الجامعة، نتيجة انحسار كثير من النظرات الثقافية الكلية، وانتشار نظرات ثقافية جزئية متنافرة؟! ■