كامل زهيري ورءوف سالم

كامل زهيري ورءوف سالم

أهم الجوائز.. ثقة القراء

إن سبب ازدهار «العربي» منذ نشوئها أنها تمتعت بقدر من الحرية، بالمقارنة مع المجلات الأخرى في المنطقة علينا أن نأخذ من الماضي جذوته المشتعلة وألا نكتفي بالرماد إن انهيار أي نظام هو التجمد وادّعاء الاستقرار يحتل «كامل زهيري» مكانة أساسية في الصحافتين المصرية والعربية، من خلال عطائه الكبير والمستمر عبر مشواره الطويل، منذ الخمسينيات وحتى الآن. لقد مثل «كامل زهيري» تيارًا جديدًا في الكتابة الصحفية، وأدار وترأس تحرير أكثر من مجلة وجريدة ومؤسسة مصرية وعربية، وانتخب نقيبًا للصحفيين المصريين مرتين في 68 و 79، وشغل منصب الأمين العام لاتحاد الصحفيين العرب في «68».

ينتمي «كامل زهيري» لذلك الجيل من المثقفين المصريين في الأربعينيات والخمسينيات، ذلك الجيل الذي صاغ أسئلة النهضة الحديثة، وأرسى تقاليد ومناهج التفكير والإبداع بعد جيل الآباء الروّاد: «أحمد لطفي السيد وطه حسين والعقاد والحكيم والسنهوري ومصطفى وعلي عبدالرازق... وغيرهم. ينتمي لذلك الجيل النادر الذي قدم للثقافة العربية هذا العدد الوافر من الموهوبين الكبار بإنتاجهم المتنوع والغزير في مجالات الفكر والأدب والفن، جيل «جمال حمدان، وعبدالرحمن بدوي وعبدالوهاب المسيري والشيخ شلتوت ومحمد مندور ويوسف إدريس وفتحي غانم وسعد مكاوي وعبدالرحمن الشرقاوي ولويس عوض ومحمود أمين العالم وصلاح عبدالصبور ومحمود دياب والفريد فرج ونعمان عاشور ومحمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين وكمال الطويل ومحمد الموجي وصلاح جاهين وفؤاد حداد...» إلى آخر قوائم الموهبة المطولة، بالرغم من اختلاف التوجهات والمشارب، والتي صاغت وجداننا، وشكّلت الوعاء الفكري والثقافي للأجيال التالية.

ولقد عاصر «كامل زهيري» في شبابه قضايا الاستقلال والحرية قبل ثورة «52»، وسافر مبكرًا إلى الهند وفرنسا بحثًا عن المعرفة، وليدرس عن قرب طبيعة الحركات الفكرية والثقافية، والمدارس الفنية الجديدة، والتي كانت تموج بها أوربا ما بعد الحرب الثانية، ليقدم لنا بعد عودته خبراته الواسعة، ويسهم بشكل بارز في تأسيس المفاهيم الجديدة.

ولكامل زهيري عدد كبير من الكتب أثرى بها المكتبة العربية، منها: «حرية الصحافة»، «ممنوع الهمس»، «العالم من ثقب الباب»، «منازعات الاشتراكية»، «النيل في خطر»، «مزاعم بيجن»، «مائة امرأة وامرأة»، «أنا والنساء». كما حرر وأشرف على إصدار «الموسوعة الاشتراكية». ومازال عموده الأسبوعي الثابت في جريدة الجمهورية القاهرية يتابع ويتأمل ويحلل ليمهد المسار لهذا الجيل وللأجيال القادمة.

نال «كامل زهيري» العديد من الأوسمة والجوائز العربية والدولية، منها جائزة اتحاد الصحفيين الدولية سنة 1972، وسام الفاتح/ليبيا سنة 1975، مفتاح دمشق الذهبي سنة 1976، وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى/مصر 1987، جائزة الصحافة العربية/دبي 2002، جائزة البحر المتوسط لحوار الثقافات لدوره في الثقافة والصحافة/روما 2004، جائزة مبارك في العلوم الاجتماعية 2005، لكنه يضحك ويقول: «إن أهم جوائزه هي جائزة ثقة القرّاء».

وفي بيته - على النيل الذي طالما أحبه - استقبلنا مبتسمًا كملك طيب، ولأنه واحد من الحكائين العظام، كان علينا أن نستمع له باهتمام.

وأجرى معه الحوار رءوف سالم وهو صحفي مصري.

  • همت بالقاهرة، وعرفتها كراحة يدك أيام عزها القديم، كلمنا عن النشأة الأولى، الطفولة والصبا وسنوات التكوين، عنك وعن الأماكن، عن الوطن والناس والأحلام، وعن القاهرة في الثلاثينيات؟

- بعد دستور 23، ومع وجود أحزاب قوية، وأقواها كان حزب الوفد، طلعنا في جو الصراع الشديد الذي كان دائرًا مع الاحتلال، المدارس الثانوية في قاهرة الثلاثينيات، كان لها دور كبير في الحركة الوطنية، المدرسة الخديوية، السعيدية، وكانت الأناشيد، وكانت الأغاني - ومنذ ثورة «19» - مازالت تتردد، وقد كان هناك تقارب شديد بين الناس، بين الحياة سواء في الأحياء الشعبية كالحسين والسيدة زينب، أو في الأحياء الروحية في العباسية والحلمية. في هذه الفترة تيقظت على القاهرة والمواقع المؤثرة، المساجد، المدارس، والمقاهي، والمحلات التجارية. وكانت القاهرة في تلك الفترة واضحة المعالم، القاهرة الروحية، قاهرة الخديو إسماعيل الأوربية - حديقة الأزبكية، والشوارع الواسعة، المحلات الحديثة الضخمة - والقاهرة الإسلامية.. الفاطمية والمملوكية، وكان لكل منهما شخصيتها وطابعها وتقاليدها. وترى الآن أنه حدث نوع من التداخل، وما أسميه بظاهرة «أريفة» المدينة. لقد ذابت الفوارق بين القاهرة القديمة وقاهرة وسط البلد. زمان، كانت القاهرة في «الحسين» - مثلاً - ترش بماء الورد، المكتبات نظيفة، كنت تدخلها وكأنك تدخل صيدلية، المحلات التي كانت تكتفي بوضع نماذج صغيرة لبضاعتها في «فاترينات» أنيقة، الآن يضعون أكبر كمية من البضاعة أمام المحل. إنه عقل وأسلوب الريفي الذي نقل «الفرشة» التي كان يعرضها في السوق على الأرض، إنه الآن يضعها في «الفاترينة».

علّمني أبي

  • في الثلاثينيات والأربعينيات، وفي ظل الاحتلال البريطاني لمصر، وهذا الوجود السافر للجندي الإنجليزي في شوارع القاهرة، وهذه التظاهرات والصدامات، وحتى التحرّشات والاحتكاكات الفردية، كما رأيناها في كتب التاريخ، وفي الأدب والفن وفي حكايا الآباء، كيف أسهم ذلك في إنبات بذور الوعي الأول لدى كامل زهيري الشاب؟

- كان للإنجليز مواقع ثابتة في «البدرشين» و«القلعة» و«جاردن سيتي» و«العتبة» و«قصر النيل». وكانوا ينزلون في الإجازات «شارع فؤاد» و«عماد الدين» يلهون ويسكرون، وبالطبع تحدث أشكال من التحرش بالمواطنين الذين كانوا يضيقون بهم كمحتلين، حدث هذا - مثلاً - مع «عبدالناصر» ومع «نجيب محفوظ»، ومع كثيرين من هذا الجيل. وكنا نرى الجنود الآتين مع الإنجليز من جنسيات أخرى، من أستراليا ونيوزيلندا أو الهند، وكانت قوات الاحتلال في ازدياد مستمر. لقد كان الإحساس السائد لدى الناس أن جنود الاحتلال يستأثرون بالمواد الغذائية وخيرات البلد الزراعية، كانت المظاهرات شعبية، وعنيفة دائمًا.

كما تأثرت جدًا بتجربة أبي - رحمه الله - الذي كانت أمه من عائلة ثرية وشبه إقطاعية، وكان والده عالمًا أزهريًا من عامة الناس تزوجها صدفة. ولذلك كان أولاد أخوال أبي يتعاملون معه بتعال-ٍ حتى في اللعب وهم صغار- بصفتهم من أصول إقطاعية، وهو ليس كذلك - كان يحكي لنا - ولما بلغ التاسعة عشرة غادر قريته «الجمالية» بمحافظة الدقهلية في شمال الدلتا ورحل وحده إلى القاهرة، وقد شارك في ثورة «19»، وكانت حكاياته ورواياته وفكاهاته عن الثورة ما جعلني أحب التاريخ. يحكي لي أنهم كانوا يتجمعون في «الأزهر»، بحيث يكون جامع «أحمد بن طولون» مكان التجمع البديل، أو الاحتياطي إذا تعذر الاجتماع في الجامع الأزهر، مموهين على الإنجليز مكان التجمع لخروج المظاهرة، حتى لا تدري قوات الاحتلال مكان التجمع بالضبط، أهو في «الحسين» أو في «السيدة زينب» أو في غيرهما من المساجد؟ وعندما يتجمعون لا يخرجون إلا في مجموعات صغيرة تتسرب من «السكة الجديدة» أو «الباطلية» حتى يصلوا إلى «العتبة الخضراء» من ميدان «الملكة فريدة»، وحين يصل عددهم إلى ألفين أو ثلاثة آلاف، عندها يبدأون في الزحف إلى ميدان الأوبرا.

لقد كانت رؤية جندي إنجليزي عاري الصدر من الحر في الثكنات واثقًا ومتعاليًا، وأنا في طريقي إلى الجامعة، كافية لأن تعطي جيلي شعورًا بالتحدي، بأنه يجب أن نتعلم، حتى نثبت أننا جديرون بالحرية، جديرون بتاريخنا. لقد كنت وأنا صغير أستطيع أن أجمع خمسة آلاف سنة في رحلة واحدة ودون توقف بالترام، أذهب إلى «القلعة» ثم الهرم مرورًا بوسط البلد والنيل، إن هذا التاريخ لم يأت من فراغ، حدث هذا للجيل الذي سبقنا، جيل الروّاد «عبدالعزيز فهمي» يترجم «جوستنيان»، و«السنهوري» والمثلث الذهبي في الأدب «طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم، ومن معهم هيكل والمازني... والأخيران، رواد درسوا في الخارج ورجعوا ليثبتوا أن المصري لديه من القدرة ومن الذكاء الكثير، وأن لديه تاريخًا لم يأت من فراغ.

الدفاع عن الحق الأكبر

  • درست الحقوق، ولكنك توجهت - بكل اهتمام - بعيدًا عن المحاكم، توجهت إلى الكتابة والصحافة، شأن كثيرين (الدكتور «محمد مندور»، الناقد الأدبي الكبير، على سبيل المثال). ما الذي غير ذلك المسار؟ أكان حبك للأدب؟ أم هو البحث عن دور أكبر؟ وكيف كان حال الصحافة في تلك الأيام؟

- كثيرًا ما كنت أقول إن المحاماة هي الدفاع عن العدل الصغير، كل ما ترجوه لموكلك أن تأخذ له حقه. الصحافة هي الدفاع عن العدل الأكبر، مهمة الصحافة هي الدفاع عن حق الوطن، الدفاع عن البلد، كل البلد. دخلت الحقوق بالرغم من ميولي الأدبية. منذ الصغر، كان والدي يقرأ لنا الشعر، وأنا في الثانوية كنت أقرأ لطه حسين والعقاد، كنت أجد متعة وأنا أقرأ في «شهرزاد» يحيى حقي، كنت أجيد اللغة الفرنسية، فقرأت «بودليير» و«رامبو»، كنت أتردد على «دار الكتب»، ولكني لم ألتحق بكلية الآداب، لم أشأ أن أكون مدرسًا، وأحببت الرسم، فأنا في داخلي رسام نائم، ذاكرتي البصرية أقوى من السمعية، واختلطت بالحركة الفنية والرسامين. أثناء الحرب كانت هناك محاولة لإنشاء مدرسة مصرية في الرسم، طلع منها «كامل التلمساني»، وارتبطت بالحركة السريالية، وكنت أميل إلى «التروتسكيين»، الذين كان لهم علاقة كبيرة بالفنانين «أندريه بريتون» وآخرين، وتعرفت على «ألبير قصيري» و«جورج حنين». وأقمت معرضًا سنة 1947م.

  • أثناء الحرب، ومصر تحت الاحتلال، كانت البلد تمور بالحركات والتيارات السياسية، وتعددت الأحزاب والمنظمات العلنية والسرية، الإصلاحية والراديكالية، ونشطت الجمعيات والنقابات والاتحادات، ولكنك لم تنخرط في أي من التنظيمات السياسية، على الرغم من تعاطفك - باستمرار - مع الأفكار الاشتراكية بشكل عام؟

- أنا بطبيعتي لست ثوريًا - ولكنني متمرد - وأضيق بالسيطرة، وأضيق بجمود النظريات، حتى أنني أرى أن سر انهيار الاتحاد السوفييتي هو جمود النظريات، بل إن انهيار أي نظام هو التجمد وادّعاء الاستقرار. تأتيه مشكلات جديدة، فيحاول أن يحلها بالأساليب القديمة.

إسرائيل تزوِّر

  • نعود إلى الصحافة... وتجربتك مع «روز اليوسف»؟

- لا توجد مجلة أو جريدة في العالم بدأت برأسمال قدره 17.5 جنيه لتصبح أقوى مجلة في المنطقة العربية والأكثر انتشارًا، ولم يكن لدينا إعلانات. في سنة «56» - وكنت أعمل مديرًا للتحرير في «روز اليوسف» - كانت «إسرائيل» تزوِّر غلاف المجلة لتضع منشوراتها. توزيعنا في العالم العربي كان قدر توزيعنا في الداخل. خمسة آلاف نسخة في السودان ومثلها في سورية ومثلها في العراق. كانت مدرسة الرأي، وكان «إحسان عبدالقدوس» الكاتب والصحفي الكبير رئيس التحرير لا يتعامل مع الصحفيين بصفته صاحب الجريدة، كنا جميعًا أخوة - كما كانت تقول - دائمًا - السيدة «روز اليوسف» أم الأستاذ «إحسان». ولأنه كان موهوبًا وواثقًا من نفسه لم يخش أن يكبر عليه أحد، كان كرئيس تحرير ناجح، يعمل على أن يكبر معه الآخرون. يسمع - مثلاً - أن «يوسف إدريس» ينتقده ويهاجمه، فيأتي به ليعمل معنا، ولذلك ضمت روز اليوسف في تلك الفترة مجموعة ممتازة من الصحفيين الموهوبين والذين آثروا الصحافة المصرية، كان ينصحني فيقول يجب أن تتعلم كيف تصل للقرّاء ببساطة. لذلك أنا أتعجب - الآن - تجد صحفيًا أو كاتبًا يرمي الكلمة المفهومة ويجهد نفسه في البحث عن الكلمة أو المصطلح الصعب، حتى يبدو عميقًا، ولا يفهمه الناس... (يجب علينا أن نعمل جمعية للرفق بالقرّاء).

كانت روز اليوسف تصنع صحافة، مقالات جديدة وجريئة وجادة، وكاريكاتيرًا ذكيًا. أسست مدرسة صحفية، والآخرون الذين بدأوا معها مثل «الكاشكول» وغيره، الذين اكتفوا بالصياح والسباب، توقفوا. كانت السيدة «روزا» تقول سوف تنفد شتائمهم، وبعد ذلك لن يجدوا ما يقولونه وسوف يذهبون. لكن «روز اليوسف» استمرت، أسست مدرستها واستمرت. ولذلك أذكر أنني حين عارضت «السادات» لم أورط نفسي في اتهامه بالخيانة مثلاً، ماذا كنت أريد من رئيس الدولة؟ ألا يمد «إسرائيل» بماء النيل، لم يكن هدفي أن أهاجمه. فقط أن أعلن رأيي في هذه المسألة. وكان «السادات» يقول: «هو الولد كامل ده بيحب النيل أكثر مني؟!».

  • السؤال الذي يطل علينا الآن، ما سر تدهور الصحافة إذن؟ هذا على الرغم من اتساع قاعدتها المادية (المباني والمطابع والفنيين)، والميزانيات الضخمة، ووجود المعاهد المتخصصة، وهذه الطفرة التقنية الهائلة في الطباعة والاتصال، وسهولة تبادل الخبر والمعلومة، ما المشكلة بالتحديد؟

- إنها مشكلة الحرية. أذكر أنني شاركت مرة في عيد مجلة «العربي» وقدمت بحثًا. كانت فكرتي الأساسية هي أن سبب ازدهار «العربي»، ومنذ نشوئها أنها تمتعت بقدر من الحرية بالمقارنة مع المجلات الأخرى في المنطقة. في مصر - مثلاً - والتي تمتعت بقدر من الحرية بالمقارنة مع تركيا العثمانية، تجد أن هذا القدر من الحرية هو الذي استدعى المؤسسين الشوام أن يعملوا «المقطم» و«الأهرام» في مصر. إنها الحرية مرة أخرى. فالحرية هي الأكسجين بالنسبة للصحافة.

عبدالناصر كان قارئًا محترفًا

  • ولكن في الحقبة الناصرية كانت الصحافة مملوكة للدولة بالكامل، وموجهة لخدمة سياسات النظام، وكان ظل الزعيم حاضرًا أبدًا، ومع ذلك كانت هناك صحافة. وكان هناك صحفيون كبار... «محمد حسنين هيكل» و«أحمد بهاء الدين» وغيرهما. أم أن الجسم كان قد تكوّن بالفعل قبل 1952؟

- أود أن أشير إلى أن فهم موقف عبدالناصر من الصحافة يكون خاضعا - في معظم الوقت - لعداء سياسي أو تأييد سياسي، ولكنني كنت أحس أن عبدالناصر كان لديه تجربة سياسية كبيرة قبل ثورة أو حركة أو انقلاب 52، سمها ما شئت. كان لديه إحساس بفضل الصحافة على الثورة، ولولا مقالات أحمد أبوالفتح أو مقالات إحسان عبدالقدوس وآخرين ما نجحت الثورة. وكان عبدالناصر يشارك بنفسه بمد الصحافة بالأخبار، كان يعرف أن لها دورًا كبيرًا جدًا، فالصحافة مهدت للثورة والجيش حقق الثورة. لذلك، كان يسهر للثانية صباحًا حتى يعرف نتيجة انتخابات النقابة، كان يقرأ يوميًا كل الصحف، والمحاضر السرية للاتحاد الاشتراكي والمنشورة أخيرًا متاحة للجميع. لقد كان قارئًا محترفًا. أنا زرت بيته واطلعت على الكتب التي كان يقرؤها. جورج فوشيه مراسل سويسري أقام بمصر اثنين وعشرين عامًا، وكتب كتابًا عن عبدالناصر، زار الكلية الحربية وحصد قائمة بالكتب التي استعارها عبدالناصر، وأنا نشرت هذه القوائم، لا يوجد في مكتبة الكلية أي كتاب لأي استراتيجي ولا أي كتاب عن فلسطين بالإضافة لمؤلفات القادة في الحرب الثانية تشرشل... وغيره لم يستعره عبدالناصر. ولذلك لم يقع في الخطأ الذي وقعت فيه بعد ذلك بعض الأحزاب العربية، حين تسلمت السلطة في بلدانها باعتبارها المرحلة التي سبقتها (جاهلية)، كان له أفق أوسع، يرى أنه من الأفضل أن يستفيد من محمد التابعي أو من عبدالوهاب إن كان سيؤيده، لذلك كانت تجربته مختلفة.

ثانيا كان ذكيًا، كان يعرف أن الثورة لا تقوم من مسرح أو أن الرواية تصنع ثورة. لقد كان همه التنظيم السري. ليكتب نجيب محفوظ ما يريد أو ثروت أباظة، حتى عندما قرأ رواية عبدالرحمن الشرقاوي، وكانت تنتقد حرب اليمن، غضب قليلاً ولم يصنع شيئًا، إنما لو أن غانية عملت جمعية سرية لاهتم عبدالناصر. لقد وعى تجربته، إن الانقلاب يأتي من الجيش كسب توفيق الحكيم وكان يحبه، وكسب طه حسين ولم يخسر العقاد، أنا بنفسي رأيت العقاد وهو يتسلم جائزته من عبدالناصر في الجامعة. وقف العقاد يلقي خطابه بكل أنفة وعظمة، ولم يشكر عبدالناصر ولا حتى أشار إليه في الخطاب. وحين انتهى سلم عليه عبدالناصر وأعطاه الجائزة، ولم يبد أي اهتمام.

الصحافة رسالة

  • قد كان لك تجربة مهمة في صحافة (قطر)، كيف ترى حال الصحافة الخليجية الآن؟ وهل أنت مع من يقولون إن دور مصر الريادي بدأ في التراجع؟ وإن كان، هل هناك عاصمة عربية أو عواصم مرشحة لاحتلال مكانة القاهرة؟

- مصر مهمة جدًا من حيث الموقع والمكانة والتاريخ، وهذا ليس حماسًا رومانسيًا وهي ضرورة، هنا أو في الخليج، أو في أي مكان آخر، أنت بالحرية تحول المواطن من متفرج إلى مشارك. إن كنوز الأرض لا تستطيع أن تعوضك عن نهضة علمية، أن يكون لديك أديب، أو فنان. لابد من خدمة القارئ، ليست المسألة أن أنشئ (سوبر ماركت) به كل شيء ومعروض جيدًا. أنا قلت هذا الكلام أمام الرئيس الراحل حافظ الأسد في احتفالات اتحاد الصحفيين العرب، وكتبته هنا. المسألة ليست مجرد مبان أنيقة ومطابع حديثة وإعلانات وكذا وكذا، المهم في الوقت نفسه أن تكون الصحافة رسالة.

  • هناك أيام حاسمة مرّت بالوطن والمنطقة العربية في سنوات «52 ، 56 ، 58 ، 67 ، 70م»، وقد كنت قريبًا - في معظمها - من صانع القرار، كيف نظرت إليها في حينها؟ وكيف تقيمها الآن بعد مرور السنين؟

- في البداية لم أؤيد الثورة في 52، وظل موقفي كذلك، وأذكر أنني مشيت في المظاهرات التي خرجت في عابدين لتأييد محمد نجيب في خلافه مع مجلس قيادة الثورة - شأن عدد كبير من المثقفين المصريين آنذاك - دفاعًا عن الديمقراطية، ولكن من سنة 55 وبعد مؤتمر عدم الانحياز من «باندونج» بدأت أغير موقفي. وحين أمم عبدالناصر قناة السويس في 56 بدأت أؤيده. وأنا دائمًا ما أقول إن تاريخ مصر سلسلة من الحلقات، فعبدالناصر لم يكن صاحب فكرة التأميم، هناك كتاب صدر سنة 51 ينادي بضرورة تأميم القناة، بل إن الزعيم الوطني محمد فريد طالب في جريدة «اللواء» بتأميم قناة السويس، وكان ذلك سنة 1910. المهندس اليوناني المصري «دانينوس» ابن دانينوس باشا أنفق 170 (مائة وسبعين) فدانا من ثروته الخاصة على دراسة فكرة بناء سد على النيل، وليس خزانًا مثل الذي بناه الإنجليز في «أسوان»، بل سد يحتجز الماء في بحيرة صناعية خلف جسم السد ويولد الكهرباء.وقتها اعتبره البعض مجنونًا. وفي سنة 1950، عرض دراسته على وزارة الوفد التي اختلفت على جدوى المشروع. «عبدالمقصود أحمد»، وكان وزيرًا للأشغال تبنّى المشروع على أن يبنى السد خارج مصر، و«عثمان أحمد»، وكان رجلاً عبقريًا، أيده، ولما سقطت الوزارة توقفت الفكرة، ويمكننا أن نرجع لأكثر من ذلك حتى «ابن الهيثم». فكرة عمل خزان لادخار الماء وتوفيره لأيام الجفاف، مسألة السبع سنوات العجاف، والتي وردت في القرآن الكريم في سورة يوسف. كل هذا مرتبط بواقع مصر.

في سنة 56 أيدت عبدالناصر، وزاد تأييدي له في 67 - وقد تندهش - لأنني قلت ومن يأتي بدلاً منه؟ إنهم الأمريكان وإسرائيل، عمومًا أنا «أؤيد» عبدالناصر، وأعارضه في موضوع الحريات، والنقابات. كنت أرى أن تكون النقابة مستقلة، وناديت بعدم جواز عزل الصحفي، واختلفت في ذلك كثيرًا.

أخوة وطنية وحلم عام

  • سافرت إلى الهند، وعشت - عن قرب - تراثها المشرقي الكبير في الأدب والحكمة والفنون، ثم إلى فرنسا لتطلِّع على المدارس الفكرية والفنية، وما أنتجه العقل الأوربي والثقافة الغربية. والرحلتان أغنتا - بالتأكيد - تجربتك الإنسانية، وفتحتا آفاقًا واسعة ومتنوعة لمشروعك الثقافي؟

- توجهت إلى الهند، وكان ذلك بعد تخرجي مباشرة، وكانت الهند في السنة الأولى بعد الاستقلال. كان كل الشعب في الهند وبعد تضحياته الطويلة يحلم بالمساواة. «نهرو» البرهماني الأرستقراطي لا فرق بينه وبين أي «منبوذ» أمام معبد هندوكي. كانت حال من الأخوة الوطنية والحلم العام، ورأيت لأول مرة المرأة وزيرة «السيدة سيراجن نايدو»، وأخت «نهرو» سفيرة في الأمم المتحدة وفي موسكو، وبعد ذلك قابلت «أنديرا غاندي». كانت تجربتي في الهند ممتعة، لقد كشفت لي أيضًا عن الثقافة الفارسية، فحاولت أن أتعلم اللغة الفارسية، ولم يكن الأمر صعبًا، فإن أربعين في المائة من مفردات اللغة الفارسية مفردات عربية، ولكن نطقها مختلف، وتركيبة الجملة كاللغة الألمانية، حيث يأتي الفعل في آخرها.

وأنا صغير كانت الرسوم الجميلة الملونة على ورق اللعب تخلبني، كان عليها بخط جميل أشعار «للفردوسي» وشعراء آخرين. وفي الهند اكتشفت أن فارس كالصين والهند حضارات قديمة ومنسجمة مع الطبيعة أو الكون. أذكر أنني كنت في كوريا مع وفد رسمي، وكنا مسافرين إلى بكين في الصين والمسافة كبيرة جدا، نمنا في القطار واستيقظنا في الفجر على توقف القطار، نزلنا متصوّرين أننا وصلنا بكين، وجدنا الناس واقفين على رصيف محطة القطار يلعبون رياضة، رياضة مختلفة عن تمرينات «السويدي»، التي نعرفها، فهي نوع من الاتحاد مع الطبيعة، يقلد أحدهم بحركة ذراعه غصن شجرة مثلاً، اكتشفت أن الرياضة عندهم شكل من التمرينات أو التدريبات الروحية مثل اليوجا، وتعلمت أن لكل حضارة منطقها.

أما تجربتي المبكرة في فرنسا، فقد كانت ممتعة أيضًا، زرت المتاحف والمسارح والمعارض والمكتبات، وتعرفت كتّابًا ومثقفين وفنانين، ففي «باريس» ترى بجانب المكتبة مكتبة، وبين كل مقهى ومقهى مقهى آخر.

قتل الأدب

  • عبر قرن من الزمان، ونحن كمن يبحث عن رأسه. هذا الصراع المحتدم بين التراث والمعاصرة، القديم والحديث، الماضي والحاضر، وذلك التيه، والذي تجلى في أحد وجوهه بالوجود المشبوب بالعنف للفكر السلفي وبروز قيادات التكفير، التي وضعت نفسها مكان الذات الإلهية. تفتش في الضمائر وتضع الحدود، كما تجلى في وجه آخر في تلك النزعة «العالمية» التي تبرأ من التاريخ، وتبرأ من الجغرافيا، وتبرأ من أي اعتقاد، والتي تدعونا لـ«قتل الأدب»، وهي لا تعي - أو تعي - أنه بعد أن نبيع «روحنا» سوف يفضحنا لون الجلد واللسان، وسنظل بنظر الآخرين لقطاء ومسوخًا، لن يتبنانا أحد، ولن يقبلونا بينهم، مجرد بدو يرتدون الجينز، سوف ينظرون لنا وكأننا قرود تقبع تحت القبعات،. كمفكر - برأيك - كيف نكسر الدائرة؟ كيف نصنع سبيكتنا؟

- أنا مؤمن بما كتبه المفكر الاشتراكي «جان جوريس» ويأخذ عنه «جارودي: (علينا أن نأخذ من الماضي جذوته المشتعلة وألا نكتفي بالرماد...)، لا أذهب إلى القديم لأفتش عن الجن مثلا، على أن أرى كيف أن العرب شيّدوا هذه العمارة الرائعة، كيف نقلوا وأضافوا وطوّروا علوم اليونان؟ ماذا أقاموا في الأندلس؟ لماذا في اليمن بنوا هذه البيوت المدهشة؟ الجميع، إما قديم نهائيًا، ويعتبر كل ما هو عصري كفرًا، وإما جديد مقطوع الصلة مع هذا الماضي، ومن أجل أن نهرب من البحث، نقول هذا أفضل أم ذلك أفضل؟ هذا السلفي العنيف المطمئن إلى جهله عليه أن يتعلم أولاً وأن يعرف. إنهم في الغرب يتعلمون اللغتين العربية والفارسية، يدرسون عاداتنا وتاريخنا وأحوالنا. عندما زار القاهرة المفكر الفرنسي «مكسيم رودنسون» في سنة 25م طلب مني أن يرى «الزار»، كان يعمل دراسة عن الزار، وذهبت به إلى حي «الحسين»، وارتدى «الجلباب»، ووضع يده في الدم، انظر إلى حرص الرجل على أن يرى زارًا بنفسه، وعشرات الأمثلة.

كلا الحلين خطر، «المغلق» والآخر «المفتوح»، لابد من إنقاذ الذاكرة الوطنية. إن من عادة المفكر الكسول أن يحوّل المناقشة إلى مناظرة. بمناسبة مرور 75 سنة على إصدار مجلة «الهلال» عمدت إلى أن أنشر ملفًا عن «خناقة» كانت قد حدثت واستمرت فترة طويلة بين المفكرين والمثقفين. «د.محمود عزمي» و«سلامة موسى» و«المنفلوطي» وآخرين. «القبعة أم الطربوش؟» وكانت قضية ساخنة جدًا وقتها، كانت القبعة رمزًا للغرب، والطربوش رمزًا للشرق، خلعناهما معًا. وكان «توفيق الحكيم» أمكر منهم جميًعا، كان قد ارتدى «البيريه».

  • بعد رحلة طويلة مع الفكر والفلسفة، يقول الراحل الكبير «زكي نجيب محمود» إنه ضيّع حياته في نقل وترجمة الفكر الغربي، دون أن يدرك عظمة وثراء التراث العربي والإسلامي. بعد ستين سنة من الكتب والذكريات والرسم والصحافة والأسفار والعمل العام، أي الشطآن، رسا عليها قارب المفكر الكبير «كامل زهيري»؟

- الفكرة الجوهرية الموجودة في الديانة الإسلامية، اعتبار أن هناك مساواة بين البشر، وأنه لا فرق بين عربي وأعجمي، ولا أسود ولا أبيض. هذه الهالة الإنسانية في الحضارة الإسلامية سبقت - من قديم - الكلام عن حقوق الإنسان، سبقت النزعات الأممية. ولولا هذه الروح الإنسانية بأن المُلكَ مِلكُ الله، والملكية خدمة عامة، وأن العلاقة بينك وبين الله متجددة، ما خرج الإسلام من الصحراء العربية وانتشر بهذه السرعة في وجود «فارس» و«بيزنطة» حتى وصل إلى إسبانيا، ذلك لأنه يتوجه إلى الإنسان دون تفرقة. لأن هذا هو الحق الطبيعي، فقد كرّم الله الإنسان عمومًا.





كامل زهيري ورءوف سالم





 





كامل زهيري أمام مقتنياته الفنية: أنا في داخلي رسامٌ نائمٌ