مكتبةُ قطر الوطنية بصائر المعرفة بوسائط الحداثة

مكتبةُ قطر الوطنية بصائر المعرفة بوسائط الحداثة

في قلبِ المنطقةِ التعليميةِ في دولةِ قطر ثمةَ بناءٌ على شكلِ ورقةٍ مطويةٍ؛ هائلةِ الحجمِ؛ مادتُها حجرٌ، وفِي فراغِ طيتها نوافذ عملاقةٌ تتيحُ لأشعةِ الشمسِ أن تقيمَ فيها، أما سطورُها فعقولٌ وأفكارٌ  وكلماتٌ. وهناك، في متنِ هذه الورقةِ وهامشِها، عالمُ الإنسانِ وهو في أبهى لحظاتِه؛ لحظة إبداعه وسموّه ومعرفته. إنها مكتبةُ قطر  الوطنية ذلك الصرحُ المعماري البديع الذي ينقلُ مفهومَ المكتبةِ من نطاقِ البحثِ العلمي والأكاديمي المحدود إلى آفاق المعرفةِ والثقافةِ، فالمعرفةُ حقٌ أصيلٌ للإنسان صغيراً كان أو كبيراً، غنياً أو فقيراً، كاتباً أو قارئاً. 

منذ القدم، كان للمكتبات دور حضاري غير مجهول في نهضة الأمم وتطورها علمياً، ورفعتها ورقيها حضارياً. من هنا، كانت الدول تحرص على إنشاء مكتبة وطنية تكون بمنزلة منتدى فكري وثقافي وإشعاع نور, بل ومركز تنويري ينظر إشكالات الواقع ويعمل على التفكير في اجتراح الحلول واستنطاق الممكنات واستكشاف السبل واستنهاض الهمم، فالمكتبة ليست معزولة عن السياق الاجتماعي كما قد يُتوهم، إذ إن وجودها جوهري من خلال اشتباكها بالواقع وبالحياة.
 وإذا نظرنا في لحظة أوج الحضارة العربية الإسلامية ثقافياً ومعرفياً وفنياً وفلسفياً إبان الدولة العباسية وفي عهد الخليفة أبي جعفر المنصور ومن بعده الخليفة المأمون تحديداً, لوجدنا أن ذلك يعود، لا نقول في جزء منه إنما في كثير من أجزائه، إلى الحراك الثقافي الذي شهدته هذه الحقبة من بروز للأدباء والشعراء وحضور لحركة التأليف والترجمة لأعظم العقول البشرية من مثل أفلاطون وأرسطو وأبقراط وجالينوس وغيرهم. ووراء ذلك وقبله وبعده بيت الحكمة، تلك المكتبة الشهيرة التي أنشأها المنصور - ثمة رأي آخر يرجع نشأتها إلى الخليفة هارون الرشيد - ضمن توطيده لدولة الخلافة في بغداد حتى بلغت مجدها إبان حكم المأمون. وهكذا كانت الحال في عصور متعاقبة وبقاع جغرافية مختلفة، كمكتبة قرطبة في الأندلس، ودار العلم في القاهرة، ومكتبة القرويين في فاس.
وسيراً على هذا الاتجاه واتّباعاً لهذه السنة الحسنة، ظهرت فكرة إنشاء مكتبة وطنية في قطر تزخر بمنتوج الفكر والعلم والثقافة، بل الثقافات على اختلاف أطرها الحضارية وسياقاتها التاريخية، وتكون مرجعاً للتراث العربي والإسلامي. لكنها فوق ذلك تراكم كل الإنجازات التقنية وفتوحات التكنولوجيا، حيث تضيف بعداً جديداً لمفهوم المكتبة. 
 
افتتاحٌ ساحر 
ليست مكتبة قطر الوطنية مشروعاً وحيداً غريباً، بل إنها تعدّ وجهاً من وجوه النهضة التي تعيشها البلاد في مجالات مختلفة، لاسيما أن الدوحة باتت تولي اهتماماً كبيراً لاقتصاديات المعرفة. فقد عرفت قطر نهضة عمرانية وثقافية واقتصادية، يشهد على ذلك عديد من الإنجازات كالمتحف الإسلامي والحي الثقافي «كتارا»، بل ويمكن مدّ النظر إلى بعض الأمثلة الأخرى في الحقل الأكاديمي ومجال البحث العلمي، مثل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومعهد الدوحة للدراسات العليا، ومعجم الدوحة التاريخي للغة العربية، وكذلك استقطابها للجامعات الغربية المرموقة لأنْ تشيّد فروعاً لها في الدوحة. 
وقد جرى تدشين المكتبة في 16 من أبريل الماضي في حفل ساحر شهد حضور 700 شخصية مرموقة، منهم رؤساء دول وممثلون عن بعض الملوك والأمراء، بينهم الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي والرئيس التركي السابق عبدالله غول، وعدد من كبار المختصين بالمكتبات والمهتمين بالشأن الثقافي العربي وضيوف دُعوا من 52 دولة من حول العالم. ووضع فيه أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الكتاب المليون في المكتبة، وهو مخطوط نادر لصحيح البخاري يعود إلى عام 1175 ميلادية. 
وفي كلمتها الافتتاحية أكدت رئيسة مجلس إدارة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع الشيخة موزا بنت ناصر، أن هذا الإنجاز المعرفي إنما هو احتفاء «بالمعرفة المدونة ونموذجها الكتاب وفضائها المكتبة»، مشددة على عمق علاقة الإنسان بالتدوين والكتابة، حيث «الإنسان هو مؤلف الكتاب، هو موضوع الكتاب، هو منتجه، هو القارئ وهو الناقد».
 فكرةُ المكتبة ولدت عام 2012، وذلك لإكمال المنطقة التعليمية بمكتبةٍ مركزيةٍ، لكنّ المشروعَ ما لبث أن تحول إلى تشييد مكتبة وطنية شاملة لا تقف عند حدود خدمة الطلبة والباحثين، وإنما تتعدى ذلك إلى خدمة المجتمع بكافة أطيافه. وفِي عام 2016 وُضع أول كتاب على رفوف المكتبة، وهو مخطوط فاتن وفريد للقرآن الكريم. 
 ولعل ما ميز حفل الافتتاح تلك المعزوفة الرائعة «أصوات المكتبة» التي عزفتها أوركسترا قطر الفلهارمونية، وهي عبارة عن موسيقى استخدمت فيها أصوات الأدوات المكتبية، أبدعتها الفنانة القطرية دانة الفردان، كما تخلل الافتتاح عرض ضوئي جميل، وفيلم وثائقي يحكي تاريخ الكتاب والمعرفة في قطر.
يشار إلى أن المكتبة افتتحت تجريبياً منذ نوفمبر 2017، حيث استقبلت في الفترة بين الافتتاح التجريبي والافتتاح الرسمي ما يقارب المئتي ألف زائر وحصل واحد وخمسون ألف شخص على عضوية المكتبة.  

نورُ الشمسِ يعانقُ أنوارَ المعرفةِ
في اليوم الذي تلا الافتتاح الرسمي مباشرة، انطلقنا إلى المكتبة في الثامنة صباحاً، موعد فتح أبوابها للزائرين، قصد استثمار كل لحظة في الاطلاع على تفاصيل المكتبة، سواء من جهة البناء أو من جهة المحتوى المعرفي أو المقتنيات الفريدة، أو حتى المعارض والأنشطة والفعاليات التي تصحب افتتاح المكتبة. 
 كان الطريق متعرجاً وبه كثير من التحويلات نتيجة شبكة الطرق التي يتم تشييدها. ومع ذلك لم نستغرق كثيراً من الوقت في وصولنا إليها، وبدت المنطقة التعليمية حديثة الطراز وذات مبان بديعة وجريئة، فيما كانت المكتبة تبدو مترامية وضخمة. الازدحام شديد ومواقف السيارات مكتظة، لكن لحسن الحظ وجدنا موقفاً فعجلنا إليه وترجلنا مسرعين حاملين معنا حقيبة الكاميرا بمعداتها وعدساتها. 
 أما المدخل فعبارة عن ثقب أسفل طية الورقة الحجرية، وأما إضاءة المكان فإنّ ضوء الشمس يتخلل كل تفاصيل المكتبة، وفِي ذلك دلالة رمزية عميقة على التقاء نور الشمس بنور المعرفة. إنّ ما نراه من حضور الضوء الطبيعي للشمس لم يكن أبداً أمراً اعتباطياً، وإنما كان أحد أهداف المهندس المعماري الشهير رِم كولهاس حينما صمم هذا البناء الفاتن الذي لم يجعل له ستراً من الشمس منذ طلوعها وحتى مغيبها.

كولهاس وفلسفةُ العمارة
 الهولندي رم كولهاس (1944) معماري ترك بصمة لا يمكن تخطّيها في المعمار الحديث، وأعماله التي تسكن بقاعاً مختلفة ومتباعدة من هذا الكوكب تنم عن فلسفة خاصة ورؤية فريدة تستحث العادي من الأفكار وتنطلق من المعاني البسيطة لتنسج على منوالها بناء ذَا دلالة عميقة يتخذ الأشكال الهندسية الصارخة والمفاجئة انطلاقاً من المدرسة المعمارية التفكيكية التي يعتنقها. وهو الآن يعمل أستاذاً للعمارة والتصميم الحضري بكلية الدراسات العليا بجامعة هارفارد. وكان كولهاس أسس مكتبه الشهير للعمارة الحضرية OMA
 «Office for Metropolitan Architecture» في عام 1975. والجدير بالذكر هنا، أنَّ المعمارية العراقية العالمية الراحلة زها حديد قد بدأت حياتها في عالم المعمار بالعمل مع كولهاس في مكتبه قبل أن تنشئ مكتبها الخاص، ومن ذلك نتبين بوضوح أثر كولهاس عليها. 
 ومن أعمال كولهاس الرائعة نجد مبنى بورصة شنزهان وهيئة الإذاعة والتلفزيون في الصين، اللذين نالا استحساناً عالمياً، ومبنى المتحف الوطني للفنون ومتحف سامسونج في سيول، وكذلك تصميمه المكتبة المركزية في سياتل، فضلاً عن مسرح دي وتشارلي وايلي في تكساس ومركز روتردام الفني في أمستردام، وحديقة بارك دو لافييت الباريسية وآخرها المقر الرئيس لمؤسسة قطر الذي جرى افتتاحه في أوائل عام 2016 وليس ما ذكرنا سوى أمثلة وغيرها كثير.
  للهندسة المعمارية اتصال وثيق بالإنسان، إذ تمكنه من التعبير عن معانٍ وأفكار وتعينه على تجسيد قيم نبيلة. إنّ الفلسفة المعمارية التي يعتمدها كولهاس تنطلق من سعي نحو الممكنات، فالعمارة لها أنّ تُثقف وأن تُجسّد الإرادة الصلبة، وأن تتمثل قيماً ثقافية، كما لها أن تكون جسراً للتواصل بين الماضي والحاضر، وبين الحاضر والمستقبل، بل وقادرة أيضاً على تجاوز التناقضات وفي مكنتها تحقيق الأحلام. 
 وبهذه الفلسفة المعمارية الفذَّة استحق رم كولهاس عديدا من الجوائز، فقد حصد جائزة البريتزكر عام 2000 عن تصميم مبنى كاسا دي موزيكا في البرتغال، وتلك الجائزة الرفيعة تمنح سنوياً لألمع المعماريين الذين لايزالون على قيد الحياة، كما نال جائزة ريبا، الميدالية الذهبية الملكية للهندسة المعمارية عام 2004، حيث يمنحها سنوياً المعهد الملكي للمهندسين المعماريين البريطانيين نيابة عن ملكة بريطانيا. وربما تكون هذه النجاحات غير مستغربة إذا علمنا أن لكولهاس اهتمامات بل وإنجازات في مجالات متباينة، إذ عمل في حياته صحافياً ناجحاً وأديباً أريباً، وله عدد من المؤلفات منها كتاب «هذيان نيويورك» «Delirious New York»، وفيه يتناول الطابع المعماري لمدينة نيويورك، ويطرح رؤيته فيما يتعلق بالعلاقة بين الشكل والوظيفة في الهندسة المعمارية.
 فكرة مبنى المكتبة التي اختمرت في ذهن كولهاس إنما كانت تعكس رغبته في خلق فضاء يسع الجميع، محاولة لبث نمط الحياة الحضرية بداخل البناء، ولا يرى كولهاس في البناء مجرد قطعة معمارية بل جزءاً من حضرنة عمومية ونهضة عمرانية تشهدها الدوحة، نهضة تستشرف المستقبل وتتخذ أساليب عمرانية مذهلة تستلهم التراث القطري ولا تنقطع عنه. 

مكتبةٌ وأكثر
ها قد اجتزنا المدخل بعد فحص الحقائب في الجهاز المخصص لذلك، فوجدنا أنفسنا على الفور في بهو المكتبة، فتوقفنا لبرهة نتفقد تصميها الداخلي حيث المساحات الواسعة المفتوحة. إذ بنظرة ذات اليمين وأخرى ذات الشمال تستطيع رؤية مكونات المكتبة وكتبها. وإذا أجلت النظر تارة بعد تارة بين الرفوف البيضاء والسقف الأبيض ورخام الأرضيات الأبيض أيضا، يعانقها نور الشمس المشتت في مشهد المكتبة، فستشعر بسكينة غريبة كما لو أن العقول التي تسكن الكتب تبث في المكان روح الإنسان التائق للمعرفة وتنشر الشغف في الأرجاء.  
 على يميننا، كان هناك مصحف ذو خط عربي فاتن، معروض بطريقة تقنية مبتكرة وتفاعلية، وهو أول كتاب وضع على رفوف المكتبة، كما أسلفنا، أما أمامنا مباشرة فسجل الزوار يحمل إمضاءات كبار زوار الأمس، وخلفه في ما يشبه المتاهة تحت الأرض تقع المكتبة التراثية. وإذا ما تقدمت قليلاً إلى يسار بهو المكتبة فستجد مكتب الاستعلامات الذي تجلس خلفه عاملات قطريات بزيهن الخليجي الجميل.
 المكتبة مصممة بشكل يخدم توزيع الأقسام التي تحويها عبر مدرجات للكتب تتعالى مع كل مستوى لتبدو كأنها سلم يوصل إلى أعلى هضبة، ولهذا دلالة لا تخفى على متأمل. فضلنا أن نبدأ الجولة من على يسار المدخل ونسير مع شكل الورقة المطوية، تصميم المبنى، بحيث نطوف بكل زواياها. فأصبحنا عند مدرج الكتب الذي يقابله من الجهة الأخرى مدرج يماثله تماما، وفي المنتصف كانت الساحة التي أقيم عليها الافتتاح، فهي ساحة مزودة بالمتطلبات اللازمة لإقامة مختلف الفعاليات، يتضح ذلك من الإضاءة المتحركة المعلقة في السقف، أما حالها وقت زيارتنا، وفِي الأوقات العادية، فهي مخصصة لأخذ قسط من الراحة على تلك الأرائك والزرابي الزرقاء والرمادية المريحة والمناضد البيضاء التي تضفي جواً من الحميمية في مكتبة يتعدى هدفها نماذج المكتبات التقليدية. أخذنا بارتقاء المدرج الذي يعلو المدخل وبين مستوياته مواقع للقراءة مزودة بأجهزة الكمبيوتر والأجهزة اللوحية وموصلات الكهرباء. تعديناها لنصل إلى الأعلى، فكنا عند كتاب ضخم ذي صفحات قابلة للطي مرسوم على صفحاته خرائط للعالم.
  وأما في الجناح الأيمن للمكتبة فهناك ركن اليافعين الذي يحتوي على كتب ومجلات وشرائط الفيديو وألعاب الفيديو أيضاً، ويستهدف الشباب من الفئة العمرية من 12 عاماً فصاعداً. وبجانبه بعض المعروضات التي تتحدث عن تاريخ البلاد، نحو بعض معدات الغوص وبعض الآلات الموسيقية التراثية.  
وعندما يممنا نحو الجانب الأيمن من المكتبة وجدنا به مكتبا لخدمات المستفيدين، وعلى طاولة هذا المكتب شريط طويل كشريط لعبة القطار تسير فوقه، أوتوماتيكياً، ألواح تعرض عليها أحدث الكتب التي تقتنيها المكتبة. وإلى جواره مقهى كان مغلقا، ومن بعد المقهى مسرح. ويعلو هذه المنطقة جسر يصل جناحي المكتبة؛ جسر واسع هو بمنزلة موقع لإقامة الفعاليات ويشرف على المسرح. وكان حينئذ يستقبل معرضاً تحت عنوان «حكايا عربية وألمانية» يروي تاريخ القص الشعبي العربي في علاقته مع نظيره الألماني. ومن بين معروضاته ورقة أصلية لتمرين الكتابة باللغة العربية الخاص بالشاعر الألماني الشهير غوته. 

لحظاتٌ مع القهوة
 مررنا على هذه الأقسام فاجتزنا ساحة بها أجهزة الكمبيوتر وشاشات تفاعلية كثيرة متتالية وكذلك تتوسطها أماكن جلوس. ولأن المقهى كان مغلقا، ولأن التعب كان قد بدأ يظهر علينا، ولأن القهوة خير معين في مثل هذه الأحوال، وبكل الأحوال في الحقيقة، فقد سألنا العاملين عن مكان بديل لتناول المشروبات والأطعمة الخفيفة، فأرشدونا إلى مطعم يقبع وراء المسرح فعجلنا نحوه، فإذا نحن ندلف في ممر يفضي إلى عدد من المواقع التي شغلتنا عن مقصدنا/ المطعم، لقد كانت منطقة تفاعلية تضم مكتبة للأطفال وبعض الغرف التفاعلية. وأخيراً جلسنا في المطعم نطالع كتباً التقطناها من المكتبة مع احتساء القهوة الأمريكية الداكنة وتناول بعض قطع الحلوى اللذيذة التي كانت كفيلة بعودة التوقد الذهني ومد الجسم بالطاقة اللازمة لمواصلة التجوال.
  يا لها من مكتبة ضخمة، كيف لها أن تضم هذا العدد الهائل من الكتب؟ إنها تحتوي على أكثر من مليون كتاب مطبوع و500 ألف كتاب إلكتروني و151 ألف عمل للأطفال واليافعين، وتسع رفوفها عرض مليون ومئتي ألف كتاب، تغطي مختلف فروع المعرفة في 25 لغة. وتبلغ مساحتها 45 ألف متر مربع، منها أماكن مخصصة للقراءة وللتعليم الفردي، والجماعي. والمكتبة مزودة بكافة المستلزمات والخدمات التعليمية ومركز تقنيات مساعدة لذوي الاحتياجات الخاصة وغرفتين للوسائط المتعددة وقاعة محاضرات تحتوي على 120 مقعداً ومطعم ومقهى ومنطقة للفعاليات. ومن عجائب مكتبة قطر الوطنية تلك المبتكرات التقنية التي تميزها عن غيرها من المكتبات التقليدية، كالنظام الآلي لفرز الكتب والنظام الذكي للاستعارة عبر الأجهزة الإلكترونية المخصصة للاستعارة والإعادة التلقائية الموزعة في نواحي المكتبة. غير أن ما يميز المبنى كونه مصمما بكيفية متطورة ليتوافق مع متطلبات ذوي الاحتياجات الخاصة.
 وعلى الرغم من أن المكتبة عامة، فضلاً عن كونها مكتبة وطنية، فإنها تحفل بمصادر أكاديمية عالية المستوى، مما يجعلها بالتالي مكتبة أكاديمية بامتياز تخدم الباحث العربي المقيم في قطر بل وخارجها أيضاً، فالمكتبة بما تحتويه من مصادر معرفية وما تتوسّله من تقنيات رقمية متيسرةٌ للجميع عبر الشبكة العنكبوتية. 

المكتبةُ التراثيةُ
بعد هذه الاستراحة القصيرة، كانت غايتنا الأخيرة ومسك الختام هي أعجوبة هذا الصرح، أعني المكتبة التراثية التي تقع في قاعة محفورة وسط المكتبة، تبدو على صورة المواقع الأثرية، في متاهة تحت الأرض مفتوحة السقف، ليتمكن الزوار من النظر إليها من مختلف مواقع المكتبة وزواياها، فهي أشبه بكنز مدفون، يضم كنوزاً معرفية وعلمية ومخطوطات ووثائق نادرة وفريدة، بل إنها، في تصميمها، بمنزلة الجذور العميقة والعتيقة التي أثمرت تلك الفروع المعرفية الوارفة المتربعة على رفوف متطاولة في أرجاء المكتبة.
 جذور من كتب، هكذا إذن يمكن وصف المكتبة التراثية، ويمكن للزائر أن يصل إليها إما من خلال السلم أو المصعد الكهربائي، كما أن لها مدخلاً ومخرجاً خاصاً بها من الأسفل لمن يقصد زيارتها فقط من دون الحاجة إلى المرور على المدخل الرئيس للمكتبة. هبطنا إلى القاعة فخلْنا أنفسنا ندخل عمق التاريخ ونطوف في فجاجه.
 تحفل المكتبة التراثية بالكثير من المقتنيات التي لا مثيل لها في أي مكان آخر. ويصل عدد المواد التاريخية إلى 50 ألف مادة، وتشتمل على أكثر من 4 آلاف مخطوط، منها مخطوطات نادرة تتعلق بتاريخ الحضارة العربية والإسلامية ووثائق وخرائط تاريخية تربو على 1400 خريطة، ومجسمات للكرة الأرضية وأدوات ومعدات وصور فوتوغرافية قديمة للمنطقة تكشف عن عادات شعوبها، فضلاً عن كتابات الرحالة الذين زاروا المنطقة في سالف العصور. 
 وكان في المكتبة التراثية أقسام متعددة، وكل قسم منها يختص بموضوع معين ويحتل حجرة من حجرات المتاهة. فهناك قسم المواد الأرشيفية، وقسم الكتب باللغات الأوربية، وقسم المطبوعات العربية القديمة، وقسم مجسمات الكرة الأرضية، وقسم الصور التاريخية، وقسم المخطوطات، وقسم الخرائط والأطالس، وقسم أدوات ومعدات الرحلة، فضلاً عن ممر مخصص لتاريخ المرأة الشرقية. 
 ومن المقتنيات الفريدة مخطوطات نادرة للقرآن الكريم ومخطوطات تعود لألمع الكتَّاب في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية من مختلف العصور وفي شتى المجالات مثل أعمال الزمخشري، والجرجاني، والتفتازاني، والحريري، والثعالبي، والأبشيهي، وابن سينا، والرازي، وعلي بن عيسى، وابن الهائم، وأبي معشر البلخي، وغيرهم. ولعل من أبرز المقتنيات «الخريطة السادسة لآسيا» وهي أول خريطة يذكر فيها اسم قطر وتعود طباعتها إلى القرن الخامس عشر، ويشار فيها إلى قطر باسم «كتارا» باللغة اللاتينية.
  ونحن نسير بين أروقة المكتبة شدتنا تلك الأدوات الكتابية القديمة المحفوظة، وهي المقلمة والمحبرة وأدوات فن الخط. ويبدو هناك مخطوط نادر للقرآن الكريم بخط مغربي جميل إنه مخطوط يعود إلى عام 600 هـ وقادم من الأندلس، بينما في ناحية أخرى نجد كتاباً بديعاً اقتربنا منه فإذا هو كتاب «القانون في الطب» للشيخ الرئيس ابن سينا، ذلك الكتاب الذي كان يعتبر المرجع الرئيس لتدريس الطب في جامعات العالم. ليس هذا سوى غيض من فيض هذه المكتبة التي تضم الكثير والكثير مما لا يسمح السياق بالاستطراد فيه.
 
رسائلُ المكتبة
لسائل أن يسأل؛ أثمة حاجة اليوم لبناء مكتبة في عصر الإنترنت، حيث الكتب الإلكترونية والمصادر المعرفية متاحة في كل مكان؟ فما الذي يعنيه بناء مثل هذا الصرح؟ لا جرم أن المكتبات دائماً ما كانت لاعباً أساسياً لتقدم كل حضارة، وهذه مكتبة لا مثيل لها في المنطقة. ومن ثم فإنّ لمكتبة قطر الوطنية رسائل كثيرة ومقاصد أثيرة وتتخذ لذلك وسائل مستنيرة. فأما الرسالة الأولى فتتعلق بالحفاظ على تاريخ الأمة من خلال العمل على رقمنة مخطوطات ووثائق تمتد إلى مئات السنين، وإيصالها إلى كل راغب بالاطلاع وطامع في المعرفة ومتعطش لماض زاخر ومستشرف لمستقبل باهر. 
وأما الرسالة الثانية، فهي أنّ المعرفة حق للجميع بصرف النظر عن السن والجنس والعرق. ومن ذلك، المنصة الإلكترونية لمكتبة قطر الرقمية التي تمكن مستخدميها، في أي مكان في العالم، من الاطلاع على مواد أرشيفية مهمة حصلت عليها المكتبة عبر الاتفاقات التي أبرمتها مع المكتبة البريطانية ومكتبة الفاتيكان، مثل سجلات مكتب حكومة المملكة المتحدة في الهند. والرسالة الثالثة، تكمن في تحقيق التنوير عبر أنشطة مستمرة طوال العام تتنوع بين المحاضرات وورش العمل وتنظيم الملتقيات والفعاليات التي تساعد على تعزيز الحراك الثقافي. 
 وأما الرسالة الرابعة، فالتشديد على دور المكتبة في الفضاء العام والعودة بها إلى ما كانت تمثله في الأجيال السابقة، سيما في ظل طغيان المرئي الذي، في الغالب، ينحو نحو التسطيح والمباشرة دون الغوص في عمق الكامن المحرك لمختلف المظاهر التي قد تبدو عابرة، ولم تكتف المكتبة بذلك وإنما عملت على تطويع معظم التقنيات الحديثة والوسائط الجديدة في خدمة رسالتها الأساس التي بنيت عليها هذه الرسائل، وغيرها، ألا وهي تحقيق النهضة المأمولة. 
 ما كان لزائر مكتبة قطر أن يخرج منها كما كان قد دخل، إنها تجربة فريدة تغري بجعل زيارة المكتبة أمراً معتاداً. يقول المفكر والأديب ميخائيل نعيمة: «عندما تصبح المكتبة ضرورة كالطاولة والسرير والكرسي والمطبخ؛ عندئذ يمكن القول بأننا أصبحنا قوما متحضرين». هذا هو مرام مكتبة قطر الوطنية؛ تسلّم مشعل الحضارة، وإحياء أمجاد هذه الأمة، وبعث لدور الحضارة العربية الإسلامية، ولعله أمر غير بعيد■

وسط المنطقة التعليمية حيث توجد مكتبة قطر الوطنية

مخطوط للقرآن الكريم وضع في المكتبة عام 2016

شاشة تفاعلية تتيح تصفح وقراءة القرآن الكريم المعروض بها

المعرفة حق للجميع بصرف النظر عن السن والجنس والعرق