د. عصام حمزة: اليابان لم تستفد من النهضة المصرية في عهد محمد علي

د. عصام حمزة: اليابان لم تستفد من النهضة المصرية في عهد محمد علي

يعد د. عصام رياض حمزة رائد الدراسات اليابانية في العالم العربي، فهو أستاذها بجامعة القاهرة، وقد تخصص في الفكر الياباني الحديث، إذ حصل على الدكتوراه في الأدب من جامعة أوساكا اليابانية، وهو عضو الجمعية اليابانية لدراسات الشرق الأوسط، وعضو المجمع العلمي لتاريخ الفكر الياباني، كما شغل وظيفة أستاذ كرسي «ماروبيني» للإنسانيات بكلية العلوم والآداب بجامعة قطر.
من أعمال د. حمزة باللغة العربية: «النمور الآسيوية... تجارب في هزيمة التخلف»، و«نظرية بناء الدولة الحديثة في يابان ما قبل التحديث»، و«الدراسات المصرية في اليابان في عصر ميجي»، و«قاطع الخيزران: من الأدب الياباني القديم»، و«القاموس الأساسي: ياباني / عربي»، و«الطبلة العجيبة»، وقصص أخرى.
ومن مؤلفاته باليابانية: «المحادثة في اللغة اليابانية»، و«نحن وتشومن».

• لماذا اخترت التخصص في الثقافة والفكر اليابانيين؟
- حتى نتمكن من الوقوف على بعض أسرار التقدم للشعب الياباني كان لابد من معرفة مميزاته الثقافية والفكرية، ولعل هذا كان الدافع وراء التحاقي بأول دفعة بقسم اللغة اليابانية وآدابها في جامعة القاهرة.
• لديك اهتمام كبير بالفكر الياباني على مر العصور... ما هي ثوابت هذا الفكر ومتغيراته؟
- يتميز الفكر الياباني بخاصية قبول الأفكار الواردة إليه، وانتقائه منها ما يضيف إلى تجربته الحضارية ومشروعه القومي في كل عصر، لكنه لا ينكر ما قبله ولا يسعى إلى تدميره، بل يتركه في جانب غير ظاهر، فربما احتاج إلى بعض منه في فترة لاحقة.
والثوابت بناء على ذلك، هي في تعدد مصادره للتراث، حتى في تجربة الحداثة نجد أن اليابانيين استفادوا من بعض هذا التراث، فاختاروا منه ما يمكنهم البناء عليه في العصر الحديث، وتركوا ما اعتقدوا أنه لن يفيدهم في صنع الحداثة، وكانوا صارمين في ذلك، مصرّين على النجاح، فلم يسمحوا بأي تراجع أو تردد، وأدخلوا كثيراً من الأفكار الغربية الجديدة، وعالجوها بطريقتهم، لتبدو الخصوصية الثقافية اليابانية في الدولة الحديثة، فلم تكن استنساخاً أو تقليداً لأي من التجارب الغربية، بل كانت تحمل الهوية اليابانية الخاصة.
• الطبيعة لها مكانة كبيرة في نفوس اليابانيين، ومنها يستمدون فلسفة الحياة والموت... فهل تسعى اليابان إلى البحث عن هوية مغايرة؟
- يستمدون منها فلسفة الحياة، والحياة في العالم الآخر أيضاً، فالموت ما هو إلا مرحلة انتقال إلى عالم الروح، وليس هناك من سبب أو دافع حتى تبحث اليابان عن هوية أخرى.
• «الشنتو» هي الديانة الأولى في اليابان، تليها البوذية... لماذا ترفض اليابان الديانات السماوية؟
- بناء على ما ينص عليه الدستور الياباني، لا توجد لليابان ديانة رسمية، وبالتالي لا توجد ديانة أولى أو ثانية، ولا توجد إحصاءات رسمية تحدد عدد المؤمنين بكل ديانة، ومن المفارقات الإحصائية أن عدد المؤمنين بالديانات المختلفة في اليابان أكثر من 260 مليوناً، بينما عدد سكانها أقل من 130 مليون نسمة، وهذا يعني أن الفرد يمكن أن يكون مؤمناً بأكثر من معتقد، ويتردد على المزارات الشنتوية والمعابد البوذية في الوقت نفسه، فالشنتو هي المعتقدات اليابانية القديمة التي تجد لها مرجعية في الأساطير عن خلق الكون، وهبوط الآلهة إلى الأرض وخلق البشر، والاعتقاد بأن كل ما على الأرض وفي السماء من بشر وشجر وحجر آيات الخالق الأعظم، ليس للإنسان عليها من سلطان، فعليه احترامها والحفاظ عليها.
أما البوذية، كما نعلم، فهي فلسفة تدعو إلى السمو بالروح والزهد في الماديات عن طريق تطويع النفس حتى تتخلص من رغائبها الدنيوية وحب التملك وترك الشهوات، وتحض على عمل الخير واحترام كل كائن حي، وتؤمن بالجنة والنار والثواب والعقاب. 
كما تجد المسيحية أيضاً مساحة لها على خريطة المعتقدات اليابانية، إذ يصل عدد المؤمنين بها إلى ما يزيد قليلاً على المليون نسمة، أي حوالي 1 في المئة من عدد السكان.
أما الإسلام فلم يعرفه اليابانيون إلا أخيراً، لذلك يصل عدد المسلمين اليابانيين إلى بضعة آلاف فقط؛ وبذلك نرى أن اليابان لا ترفض أي ديانات؛ سماوية كانت أم وضعية، والأمر يتوقف على مدى تقبّل اليابانيين كأفراد لما يدعون إليه أو رفضهم له.
• بدأت مصر مرحلة النهضة في عهد محمد علي قبل اليابان بأكثر من ستين عاماً، وأرسلت اليابان بعثة لدراسة الطب في مصر... برأيك لماذا تقدمت اليابان وتراجعت مصر؟
- ما يقال عن أن اليابان تعلمت من تجربة مصر في عهد محمد علي أو أي من حكام أسرته، وهي تبني دولتها الحديثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لا أساس له من الصحة، ولا أعرف وثائق تاريخية تذكر ذلك.
أما لماذا تراجعت مصر وتقدمت اليابان؟ فهذا سؤال يحتاج إلى دراسات مستفيضة للإجابة عنه، لكنني أستطيع هنا أن أشير إلى الخطوط الأساسية التي قد تقودنا إلى الإجابة، وهي:
1 - أن ينهض الإنسان من رقاده يعني أن يقوم بكل أعضاء جسمه، أما في مصر محمد علي، فقد تنبه الرأس دون الجسم، تنبهت النخبة لدواعي التحديث، ولم يشارك المصريون في ذلك، فظل الجسد المصري دون حراك.
أما اليابان، فقد كان الأمر فيها أكثر تنظيماً وتخطيطاً، فكان الحرص على أن يشمل التحديث كل المواطنين دون تفرقة.
2 - في اليابان تمت دراسة التراث وما لدى الأمة من معطيات ثقافية يمكن الاستفادة منها في العصر الجديد، وتمت تنحية ما دون ذلك، للبناء على قواعد سليمة؛ وهو ما لم يحدث في مصر عند النقل من النماذج الأوربية.
3 - هدفت اليابان إلى بناء دولة حديثة للشعب الياباني، بينما استهدف محمد علي بناء مُلك له ولأولاده، فانتهى بنهاية عهده.
• أنهت الحرب العالمية الثانية مرحلة الحداثة والتقدم الأولى التي بدأت في اليابان عام 1868 واستمرت 72 عاماً... لماذا رفضت اليابان الاعتراف بالهزيمة حتى اليوم، رغم الخسائر الفادحة التي مُنيت بها، وتدمير مدن طوكيو وهيروشيما ونجازاكي؟ 
- هناك اعتراف بالهزيمة العسكرية، لكن الحرب من وجهة نظر القيادة اليابانية قبل 1945 كانت تهدف إلى خلق تحالف في شرق آسيا يعمل على تحرير الإقليم من الاحتلال الأوربي، لتقود اليابان المنطقة نحو الازدهار الاقتصادي.
بالطبع هذه حجة المستعمرين في كل وقت، لكن حاجة اليابان الدائمة إلى الإقليم الشرق آسيوي تجعلها تسعى دوما إلى الترابط مع شعوبه، وقد قامت  بدور كبير  في ظهور ما عرف بـ «النمور الآسيوية» التي أفادت من التكنولوجيا اليابانية في الصناعة، وأسلوب ومناهج التعليم الياباني، وترجم كل ذلك في رابطة «الآسيان»؛ فإذا نظرنا إلى الأمور بما آلت إليه من نتائج لوجدنا أن تعبير «نهاية الحرب» الذي تستعمله اليابان بديلاً من كلمة «الهزيمة» هو كلمة السر التي جعلتها لا تنزوي في ظل الهزيمة، وعقدة الذنب، بل تستمر في دورها الإقليمي حتى لا ينقطع شريان الحياة الاقتصادي والثقافي.
• برأيك، لماذا لم تعتذر أمريكا لليابان حتى اليوم؟ ولماذا استخدمت أمريكا السلاح النووي في اليابان ولم تستخدمه ضد فيتنام مثلاً؟
- إن اعتذرت أمريكا لليابان عن الدمار النووي، فسوف لا تكف عن الاعتذار لدول كثيرة، وستعترف بأنها لم تكن على حق، بل أنها أجرمت في حق البشرية، وسوف تتوقف عن تأييد بعض الكيانات التي تمتلك أسلحة نووية في العالم، كما ستتوقف أمريكا نفسها عن التسلح النووي، وهذا إن حدث سيهدد وجودها كقوة عالمية.
لقد كانت ذريعة استخدام القنابل الذرية ضد اليابان أنه كان السبيل الوحيد لإجبارها على الاستسلام، أما في فيتنام، فقد جربت أمريكا أسلحة جديدة تناسب طبيعة البيئة هناك، وأرخص كثيراً من القنابل الذرية، كما أن العالم كان قد تغيّر، فحرب فيتنام كانت في ظل الحرب الباردة وسباق التسلح النووي بين الاتحاد السوفييتي آنذاك وأمريكا، وأي استخدام للسلاح النووي من جانب كان سيقابله استخدام للسلاح نفسه من الجانب الآخر.
• كان المفكر الراحل أنور عبدالملك ينادي بضرورة الاتجاه شرقاً وتوثيق التعاون مع دول الشرق الأقصى، خاصة الصين واليابان، لأن الحضارة الغربية في مرحلة أفول وغروب... ماذا تقول في ذلك؟
- «الاتجاه شرقاً» كان شعاراً سائداً في ثمانينيات القرن الماضي على ألسنة قادة ومفكرين مختلفين، ربما كان أشهرهم مهاتير محمد في ماليزيا.
أما الآن، فما يهمني هو دراسة أسباب الحضارة في الشرق والغرب دون تفرقة أو نظرة منحازة لأي من الحضارتين، وأن نعمل نحن على أن نكون مساهمين في الحضارة الإنسانية، لابد  أن يكون لنا رافد يصب في نهر الحضارة الإنسانية الجاري أمامنا، لابد أن نعكف على دراسة أوضاعنا وخصوصياتنا الثقافية، في الوقت نفسه الذي نطّلع فيه على تجارب الآخرين في الشرق والغرب وندرس أسبابها جيداً، لنرى ما يمكننا أن نفيد منها، حتى نكون معهم في ركاب العصر، مساهمين في صناعة الحضارة الإنسانية، ولا نكون مجرد مستهلكين عشوائيين لما تنتجه حضارات الآخرين، إخوتنا في الإنسانية.
• برأيك، هل هـــناك قـــــواســـم مشـــتركة بيــــن الثـــــقافتين الــــيابـــانـــــــيـــة والعربية؟
- الثقافة هي نتاج إنساني يعبّر كل شعب من خلالها عن معتقداته وأفكاره ونظرته للكون وموقعه منه، وموقفه من الحياة والموت، يترجمها في مظاهر فنية مختلفة، لذلك فإن حجم الجانب الإنساني فيها - الذي لا يخضع تماماً للخصوصية الثقافية - سيكون قاسماً مشتركاً بين كل الثقافات.
• اعتمدت اليابان في نهضتها على العنصر البشري وتطويره، رغم افتقارها للثروات الطبيعية والمواد الخام، فضلاً عن موجات الزلازل والبراكين التي تحدث باستمرار... في رأيك، كيف حققت هذه المعادلة الصعبة؟
- نجحت اليابان في تفعيل الدور الذي خُلق البشر على الأرض من أجله، ألا وهو إعمار الكون. فالإنسان هو الذي يتعامل مع الطبيعة والمعطيات البيئية من حوله، كما أنه هو الذي يحدد طبيعة التعامل مع المجتمع البشري على أرض الواقع، لذلك كان لابد من الاستثمار في الثروة الطبيعية الوحيدة الدائمة التي لا تنضب، ألا وهي الإنسان الياباني، فكان التعليم المتميز بكل أنواعه، والعمل الجماعي وتفضيل مصلحة الجماعة على مصالح الأفراد، ثم العدالة المطلقة في تطبيق القانون، والرعاية الصحية، والنظام والانضباط في كل ما يتعلق بالحياة اليومية للمواطن، وهو ما يحترم آدميته ويحافظ على كرامته، وبذلك يتم تعزيز المواطنة والانتماء.
• عقب هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، رفضت السلطات تكوين جيش قومي في منطقة تمور بالصراعات في كوريا، وأكبر جيش في الصين، واحتلال روسيا لجزر الكوريل... ما هي الضمانة الأمنية لليابان؟
- تجربة الحرب كانت كافية لكيلا يكررها اليابانيون ويتجرعون ويلاتها مرة ثانية، حتى لو كانت نتائجها في مصلحتهم، فعملوا على أن يكرسوا جهودهم في تحقيق الرفاهية لبلادهم، واعتمدت اليابان في تحقيق الضمانات الأمنية على ثلاثة محاور:
1 - علاقات صداقة وسلام مع كل شعوب العالم، حتى لا تكون طرفاً في أي صراع دولي محتمل.
2 - اتفاقية دفاع مشترك مع الولايات المتحدة تكفل لها مظلة دفاعية إن حدث وتعرضت لأي تهديد، وإن كانت هذه الاتفاقية تلقى اعتراضات من بعض التيارات السياسية في الداخل.
3 - قوات دفاع ذاتي محدودة العدد والعتاد، (وإن كانت هناك بعض الأصوات اليمينية في الداخل تنادي أخيراً بتحويلها إلى جيش نظامي قوي يعيد أمجاد الإمبراطورية القديمة، وهو ما لم يؤخذ على محمل الجد بشكل كاف حتى الآن).
• بماذا تنصح من يفكر في تعلُّم اللغة اليابانية؟
- اللغة، أي لغة كائن حي يعبّر عن ثقافة متحدثيه، واليابانية واحدة من تلك اللغات، فمن يريد تعلُّم اليابانية عليه أن يعطي اهتماماً كبيراً للثقافة اليابانية، وأن يطلع على جوانب الحياة اليومية لليابانيين من خلال وسائل التواصل الحديثة، بجانب الدراسة اللغوية التقليدية.
• عملت محاضراً وأستاذ كرسي «ماروبيني» للإنسانيات بكلية الآداب والعلوم بجامعة قطر... حدّثنا عن هذه التجربة.
- شركة ماروبيني إحدى الشركات اليابانية العملاقة، التي لها علاقات اقتصادية قوية مع دول الخليج العربي، وحتى تدعم تلك العلاقات كان من الضروري إقامة جسور من التواصل الثقافي، فقدمت منحة لجامعة قطر لإنشاء «كرسي ماروبيني للإنسانيات» يقدم برامج عن اليابان في الثقافة والفكر والتاريخ واللغة، وتم اختياري لأكون أستاذاً لهذا الكرسي حتى نهاية مدة المنحة اليابانية في يونيو 2017 ■