في روايتيه «صمت يتمدد» و«الورد لك... الشوك لي» د. سليمان الشطي سطوة الماضي والاحتراق الداخلي

في روايتيه «صمت يتمدد» و«الورد لك... الشوك لي» د. سليمان الشطي سطوة الماضي والاحتراق الداخلي

بعد ثلاث مجموعات قصصية بدأت بـ «الصوت الخافت» عام 1970، ثم «رجال من الرف العالي» سنة 1982، فـ «أنا... الآخر» عام 1994، التفت الأديب والباحث الكويتي د. سليمان الشطي إلى الرواية، فأصدر «صمت يتمدد» عام 2009، وأتبعها بروايته الثانية «الورد لك... الشوك لي» عام 2014، وكان له أن أصدر خلال الفترات الطويلة الفاصلة بين مجموعة قصصية وأخرى، وبين الروايتين الأولى والثانية نحو عشرة كتب أخرى في مجالات النقد والبحث الأدبي، وهو ما لن نخوض فيه هنا، لاقتصار هذه المقالة على روايتيه فقط.

إن المتابع لنتاج الشطي السردي لا يحتاج إلى كبير جهد لإدراك أنه اختار أسلوباً خاصاً أقام عليه أبنية معظم نصوصه القصصية، إضافة إلى نصّي روايتيه لاحقاً.
إنه أسلوب المزاوجة بين الحاضر والماضي على طريقة المونتاج السينمائي في القطع والوصل، لتركيب كل أجزاء اللوحة المراد خلقها، مع الالتفات إلى فنية تقديم وتأخير هذا الجزء أو ذاك، بغية الاستحواذ على أكبر قدر من انتباه القارئ.
وقد ظهر هذا الأسلوب جلياً في مجموعاته القصصية الثلاث، حيث دأب على اتخاذ الحاضر باباً يلج من خلاله إلى رحابة الماضي، ولم يكن هذا الحاضر إلا مجرد نُتف حكائية تحيل إلى ماض حكائي مديد، فيتضافر الزمانان في توليفة واحدة بطريقة التعشيق التي تفضي باكتمالها إلى المنظر الجمالي الأخير.
الأسلوب ذاته يعتمده الكاتب للنهوض بروايتيه «صمت يتمدد» و«الورد لك... الشوك لي»، حيث يجدل خيطي الحاضر والماضي معاً، ويلقمهما سَمّ إبرة واحدة يحيك بها النسيج الروائي بأناة، فتتبدى قطعة نسيج موشاة بلوحة فنية نابضة بحياة تجذب عيني الناظر/القارئ إلى السباحة في بحر تفاصيلها.
وقد تمكن بهذا الأسلوب من تغطية وقائع ثمانية وثلاثين سنة من حياة «صالح» في روايته الأولى «صمت يتمدد» بدأت بعام 1948 وانتهت بعام 1986، معتمداً تكنيكاً مغايراً للتراتبية في تجميع أجزاء اللوحة، حيث يبدأ الرواية بعام 1984، ثم ينتقل إلى عام 1959، وما يلبث أن يعود إلى عام 1984، ثم ينزلق إلى عام 1948، ليعود بعدها إلى عام 1984، وهكذا إلى أن تنتهي الرواية بوقائع عام 1953.

إشارات خاطفة
بهذا التقديم والتأخير، ضمن الشطي جذب القارئ وإلهاب شوقه للاستمتاع برؤية اللوحة كاملة، حيث تقصّد الابتعاد عن التسلسل الكرونولوجي للأحداث، واعتمد المداورة في تلقيم السرد إشارات خاطفة لمفاصل الحكاية، فراح القارئ يسرع الخطى خلف السرد للقبض على أسرار الحكاية، التي لن يتمكن منها إلا بعد الفراغ من قراءة الرواية كاملة.
ففي البداية تنفتح الرواية على الدبلوماسي الكويتي «صالح» في روما. رجل وحيد، يكره الظهور والأضواء، ويركن إلى العزلة. يتأمل الأبنية التاريخية القديمة في روما، فترتد به الذاكرة إلى صراخ أمه في ذلك المساء البعيد: «فعلتوها يا سفلة... لن أغفر لكما»، وسرعان ما تسحبه التداعيات إلى عام 1959 فيجهر: «في أذني صمم لا تريد أن تسمع المزيد، يكفي ما سمعته من عيسى فسمّم حياتي».
وحين يعود إلى عام 1948، حيث ذكرى وفاة والده، يتذكر نشيج أمه ويعلق: «النشيج بدأ، انتشرت فيه الحياة، وسيظل متواصلاً ليتصل بعد ذلك بحادثة مريم، همزات صوت متصل الترجيع سنوات في أذني، فلم أجرؤ يوماً على نسيانه أو تجاهله» (ص59).
ما الذي فعلوه؟ وماذا سمع من عيسى فسمم حياته؟ وما حكاية مريم؟ الإجابات ستبقى مؤجلة حتى الصفحات الأخيرة من الرواية، لأن الكاتب عمد إلى دس هذه الإشارات الملغزة عمداً في تضاعيف السرد، وبشكل تدريجي اضطر القارئ إلى ملاحقة تنامي السرد ليكتشف الإجابات أولاً فأولاً.

مداورة ومناورة
التقنية نفسها يتبعها الشطي في روايته الثانية «الورد لك... الشوك لي»، ولكن مع تكثيف أكبر لحضور الماضي الذي يتحول هنا إلى مجرد عتبة للنفاذ إلى الحاضر، الذي التهم بدوره جل مساحة النص، مع الالتفات إلى جزئية مهمة، وهي اعتماد التسلسل الكرونولوجي لوقائع الماضي، بخلاف تقنيتي المداورة والمناورة عبر التأخير والتقديم التي اشتغل عليها الشطي في روايته الأولى. 
ففي حين يطل الحاضر في الجزء الأول من أول فصول الرواية الثانية عبر تلقي البطلة «فوزية» استدعاء من النيابة للنظر في دعوى مرفوعة ضدها بشأن كتاب صدر لها، تتهمها بالإساءة للعقيدة والتطاول على تقاليد الأمة، يسرع الماضي للسيطرة على بقية الأجزاء من خلال تداعيات ذاكرة البطلة نحو طفولتها وواقعة طلاق أمها «شيخة»، واستذكار رواية أمها عن حيثيات زواجها بأبيها، ثم رصدها كيفية تنامي علاقة أبيها بخالتها «دانة».
ونبقى في الماضي في الفصول الثلاثة اللاحقة، إذ يتولى الراوي في الفصل الثاني مهمة سرد حكاية زواج الأب والأم وفقاً لأعراف المجتمع المحافظ، في حين تتولى البطلة زمام السرد في الفصلين الثالث والرابع، لتعود إلى ذكريات زواج أبيها بخالتها وانهيار أمها، وتعرج على علاقتها الطفولية بابن الجيران إسماعيل، وترصد الخطوات التي اتخذتها الأم للانتقام من زوجها السابق/ الأب.
وحين يبرز الحاضر في الفصل الخامس عبر بدء جلسة المحكمة، فإنه لا يستغرق إلا الجزء الأول منه، في الوقت الذي يتمدد فيه الماضي على الجزأين التاليين اللذين تولت فيهما ذاكرة فوزية استدعاء مرحلة دراستها الجامعية في القاهرة، وتعرّفها على ريمون اللبناني، ثم التقاءها بإسماعيل مجدداً، بعد أن أصبح طالباً يدرس العلوم السياسية في القاهرة، وهو ما سيمتد إلى الفصل السادس الذي تكشف فيه عن تنامي علاقتها بإسماعيل إلى درجة الاتفاق على الزواج، لولا ظهور معضلة المذاهب الدينية التي لم تكن في الحسبان.
ومع ولوجنا الفصل السابع يواجهنا حاضر المحكمة في جزئه الأول، بينما يسيطر الماضي على جزئه الثاني وعلى الفصل الذي يليه، فلا يظهر الحاضر/ المحكمة إلا في الجزء الأول من الفصل التاسع، ثم الحكم بالبراءة في الفصل العاشر والأخير، ورفضها طلب إسماعيل الزواج بها بعد وفاة زوجته، وإصرارها على التحدي ومواصلة مسيرتها قدماً: «سأبقى أنظر في المستقبل، ولن أكف عن رؤيته».

عملقة الماضي وتأجيج الداخل
كل ما سبق يُظهر تقصّد الكاتب تسييد الماضي في الروايتين كعملاق يظهر الحاضر أمامه كمجرد ظل، فلا يتعدى أي حدث في الحاضر كونه ردّ فعل على حدث الماضي. لا توجد في حاضر الشخصيات أحداث كفيلة بالنهوض بعمل درامي، بل ظلال لأحداث ماضية هي ما فجّر الحكاية والأبعاد الدرامية التي انتهت إليها الشخصيات. 
الحاضر في الروايتين مجرد أحداث عرضية تبرق لا لكي يبنى عليها، بل لتفتح كوى واسعة يتسلل منها البطلان إلى دهاليز الماضي حيث الحدث الأم، الذي وقع وانتهى منذ أمد بعيد، لكن عقابيله وتداعياته هي ما شكّلت وما زالت تشكّل حياة البطلين. 
هذا الاشتغال الروائي أدى إلى تراجع، مقصود أو غير مقصود، لسطوة الحكاية والدراما الخارجية لمصلحة الصراح الداخلي العاصف في دخيلة البطل. إننا أمام عدسة شعاعية تسلط الضوء على الداخل فتكشف المعارك الجوّانية المحتدمة، بما يفسر السيمياء الخارجية لحال الشخصية. ففي «صمت يتمدد» نواجه صالح المصفّد بقيد الماضي الذي يمنعه دائماً من الخوض في الحياة ويبقيه على الضفة. 
إنه صندوق مغلق، روح تائهة، وحيد ومعزول وبعيد عن الأضواء، يسمع ولا يتكلم إلا نادراً. إنه الصمت الذي تلبّسه منذ اشتراكه غير المدرك في حادث قتل أخته مريم وانفجار غضب الأم: «لن أغفر... لن أسامح».
هذا الصمت الذي تمدد ليغطي حياته الخارجية، ويتحول إلى ضجيج محتدم في داخله، يتجدد ويصطخب كلما تذكر أمه أو واجهها «يهرب من عيون ظل يشعر بها تطارده، لقد كان عدم الغفران يداً تدفعه بعيداً منذ أن استقر في عيني أمه ذلك الحكم الذي فشل كل الفشل في اختراقه (ص 7)».
وظل صدها واستمرارها في عدم الغفران يطحنه رغم توالي السنين «كل أم تتملى في وجه ابنها، إلا أمي التي يطحنني نظرها إلى الأرض وهي تتكلم» (ص 19).

صمت واحتراق
واستمرت حياته هكذا «صك أخوه عيسى بدايتها وثبتتها نظرات أمه الساخطة ودار بها دورات متتالية» (ص 73). وحتى حين التقاها بعد مضي ثلاثين سنة كان «كل شيء يدل على الاحتفاء إلا وجهها وحضنها» (ص 101).
كما يتبدى هذا الاصطخاب الداخلي بحدة في شخصية الأم، التي ابتليت بموت زوجها أولاً، ثم بمقتل ابنتها على أيادي ولديها، فامتد نشيجها وتواصل، وكان في حزنها «ضراوة الصمت حيث الاحتراق الداخلي، لا شرر يتطاير منه ولا يتحول إلى رماد... يبقى اللهب يأبى التلاشي» (ص 59). 
هذا الصمت الخارجي، الاحتراق الداخلي، الذي زعزع وشلّ كل من حولها، فأغرق صالح بالمنافي، وأبقاه مأزوماً يراوح على ضفاف الحياة، على الرغم من كونه صار دبلوماسياً. وكذا الحال مع عيسى الذي بقي يعيش محنة جوانية ويستجدي غفران الأم دون طائل.
ظل يصارع مارده الداخلي الساخط، على الرغم من أنه أصبح متنفذاً وبالغ الثراء، فحتى حين أصيب بالسرطان ودنا أجله رأيناه يقول لصالح: «خوي... أمي... لو سامحتني سينتهي كل شيء» (ص 222). هذا الصمت الممضّ والمهيمن والممتد هو ما أهّله، ليكون عنواناً للرواية «صمت يتمدد».
تتكرر هذه التركيبة التقنية والحكائية إلى درجة ما في «الورد لك... الشوك لي»، حيث يقوم البناء على مداميك حكائية ماضية شكلت حياة وشخصية البطلة فوزية.

تصفية حساب 
ولم يكن الحاضر في الرواية إلا قمة الهرم لتلك المداميك، بحيث لا نصادف من الحاضر إلا هذه القمة، ثم ينتقل بنا الكاتب إلى أسفل الهرم ليتدرج بنا صعوداً عبر تداعيات ذاكرة فوزية للوصول إلى القمة مجدداً. وكان من الطبيعي والحال هذه أن يتم تسخير الأحداث الخارجية لمصلحة الصراع الداخلي، لأن تلك الأحداث هي التي أوصلت فوزية إلى وضعها الحالي: مطلقة، وحيدة، ومتهمة في نظر المجتمع بالإساءة إلى العقيدة والأعراف الاجتماعية. 
إننا أمام تصفية حساب مع ماض شكّل الحاضر، ومازال يهيمن عليه إلى حد كبير، لكن كل ذلك يتم عبر مصفاة الذات، ذات فوزية. 
والملاحظ أن الصراع الداخلي هنا أقل حدة من الصراع العاصف الذي لمسناه في «صمت يتمدد»، لأن البطلة عمدت إلى تنفيسه عبر الكتاب الذي ألّفته، والذي شكل قمة الهرم/ الحاضر، وكان المتكأ الذي استعانت به للنكوص نحو الماضي. 
ذلك أن هذا الكتاب/ التهمة كان بمنزلة انتقام ذاتي ممن عصف بحياتها وآل بها إلى المعاناة والسخط والحزن، وهو هنا ليس شخصاً بعينه كما في «صمت يتمدد»، بل مفاهيم وأعراف وتقاليد مغلوطة شكلت المجتمع وباتت تنهش حيوات النساء.
إنها المعاناة المتأصلة التي تشرّبتها طفلة حين طلق أبوها أمها «لم أعد أنسى كلمة (بروة). ورقة الطلاق براءة أم إدانة؟» (ص 10).
وهو ما صبغ حياتها بالكآبة في مجتمع يدين ضحك النساء «لم أر أمي يوماً ضاحكة، كانت تكتفي بالابتسامة، وحينها كانت تحني رأسها وتضع كفها على فمها كمن يخفي شيئاً» (ص 49)، ويعادي الحرية «هل أستطيع أن أكون حرة؟ خرافة، ونحن نحب الخرافات والخرافة أم الفلسفة» (ص 67).

خط فاصل
وهو المجتمع ذاته الذي حرمها الارتباط بحبيبها إسماعيل لاختلاف طائفتيهما «التقاليد وسلامة العلاقة في المجتمع وحتى يسود السلام والصداقة يجب ألا يتجاوز أي فرد الخط الفاصل بين الطائفتين، وبخاصة في الزواج، فهذه كارثة اجتماعية» (ص 94)، مما أدى إلى زواجها من ابن عمها نجيب «حلاوة الثوب رقعته منه وفيه»، ثم طلاقها منه بعد أن تزوج عليها بذريعة أنها لم تنجب له أطفالاً، وأن الشرع حلل له ذلك، لتتكرر بذلك معضلة أمها، ولكن لأسباب مختلفة «آه يا أمي. كلانا يكرر قصة منسوجة بيد شيطانية، ولكنها بالنسبة لي، في هذه المرة كانت الحجة دينية» (ص 134)، والنتيجة كره الزواج والحب وشراك المجتمع ومفاهيمه بخصوص المرأة «تجربتي جعلتني ومثل هذا الزواج متعاكسان، أحفر في داخلي أجد الارتباط جمرة تنتظر، أفعى متكورة تتحرك فينتشر السم في الجسد، الحب خدعة الشهوة، وشباك صيد نصبتها مفاهيم المجتمع، المرأة للبيت والزواج والأولاد» (ص 164).
ولابد هنا من الالتفات إلى حيلة الكتاب موضوع المحاكمة، التي سخّرها المؤلف لإدانة الأعراف والمفاهيم المجتمعية الخاطئة، والتي جرّت كثيراً من الكوارث على أفراد المجتمع، والنساء منهم في الصدارة.
لقد كان الكتاب وثيقة إدانة ومرثية لهذا المجتمع الذي حطم بأعرافه الكثيرين في الماضي، ومازال يمارس سطوته التدميرية في الحاضر، حيث العادات والتقاليد أقوى من النصوص الدينية التي تم تفسيرها بشكل مغلوط في سبيل تكريس الطبقية والطائفية، والتقليل من شأن المرأة وسلب حقوقها وتسويق تعدد الزوجات.

المرأة
التركيز على اضطهاد المجتمع للمرأة كان جلياً في الروايتين، فهي عورة لا يغتفر ذكر اسمها على ألسن الرجال، ولابد من الخلاص من عارها حتى لو كان مجرد شبهة، ما كلّف الطفلة مريم في «صمت يتمدد» حياتها لمجرد أن أحدهم ذكر اسمها في حالة سُكر، وهي التي لم تكن تعرف ما يوجد ويدور في الخارج إلا عبر النظر من سطح البيت في بعض الأحيان! وهو بالتالي ما دمّر الأسرة بأكملها، وحرم الأم وابنيها صالح وعيسى من العيش السوي، بل رماهم في أتون مجمر داخلي من لهب السخط والغضب والندم تلظوا به طوال حياتهم.
المجتمع ذاته، والمرأة نفسها في رواية «الورد لك... الشوك لي»، فكل الأعراف والتفسيرات تصب في خانة كبحها وحجبها وإقصائها.
إنها تتساوى في مفاهيم المجتمع مع الحيوان «ما يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة» (ص 63)، على الرغم من أن القرآن الكريم أعلنها صريحة {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}. (سورة الإسراء - من الآية 70).
كما أنها موضوع دائم للضرب والإهانة «اكسر للبنت ضلع يطلع لها ألف ضلع» (ص 71)، وهي ذات عقل صغير «المرأة عاطفية، عقلها الصغير لا يستوعب القضايا الكلية» (ص 78)، و«ليس للمرأة إلا بيتها وزوجها، والزواج الثاني شرع» (ص 124).
وبالتالي من الطبيعي أن تصبح حياتها سلسلة متصلة من الخيبات «خيبات الأمل عند النساء خرزات تتوالى لتصنع حبات مسبحة نحوقل بها تسعاً وتسعين مرة» (ص 159).
هكذا هو، مجتمع ذكوري خالص يشكّله ويدوزنه الرجل على هواه في سبيل إقصاء المرأة وتقييد حركتها وفكرها، والتعاطي معها كجسد منزوع الأحاسيس وعقل صغير يجب ألا يدور إلا في فلك الزوج والبيت والأولاد. ولا يتورع للوصول إلى مبتغاه في تهميشها وتكبيلها حتى عن ليّ أعناق الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، لاستنباط ما يناسبه من تفاسير ويعينه على ذلك. وليس مهمّاً بعد ذلك أن تتقلب المرأة على الشوك طوال حياتها، بينما ينعم الرجل بالورد كله، وهو ما يفسر العنوان الذي تربع على صدر الغلاف الرئيس للرواية «الورد لك... الشوك لي».

الحوار
كان بادياً تمكّن الكاتب من مطابقة الشخصية الروائية مع صوتها، فواءم ما بين مستواها الاجتماعي والمعرفي، وبين لسانها، لتنطق في أغلب الأحيان بمستوى من اللغة والمعرفة عكس وضعها وقدرها وحظها الفكري، ما حدا به إلى التقيد باللهجة المحلية في مرات، وتبسيط الفصحى إلى مستوى يقارب العامية في مرات أخرى خلال حوار الشخصيات غير المتعلمة، والغارقة في مستنقع مجتمع مغلق وبسيط ومؤطر بعادات وتقاليد ضاغطة عليها، مثل شخصية أم عباس في رواية «صمت يتمدد»، وشخصية شيخة في «الورد لك... الشوك لي»، كأن نقرأ قول أم عباس «عيسوه... حسبي الله عليك يا الظالم»، أو «إلى البيت... لا أحد يفتحها.. سامع؟»، أو «بو سعد متردد... ما أعطاني رأي... أحس أنه غير راض».
وعلى الرغم من ذلك، لاحظنا سهو الكاتب في بعض المواقع عن المطابقة سالفة الذكر، إذ فوجئنا بأم عيسى وقد استعارت لسان غيرها، وتغيّر خطابها الذي نعرفه، وراحت تخاطب ابنها صالح «عليك أن تترك هذه الوظيفة... لن تبقى في هذه الوظيفة التي ليس وراءها إلا الخراب... ستدمرك»، وتواصل بعد ذلك «لم أسمع ردك... ستترك هذه الوظيفة وتستعد لإكمال تعليمك»، و«هذا يكفي... إذن ستلتحق بها»!
مثل هذا ما نقع عليه في حال شخصية شيخة في الرواية الثانية، إذ نسمعها تخاطب أختها دانة قائلة: «دانوه.. يوزي.. يوزي من هذه الحركات»، وتضيف بفصحى مبسطة: «أختي وأعرفك، هذه الألاعيب ما تفوت عليّ»، لكن الكاتب يسهو في مواقع أخرى فينطقها بمستوى لغوي أكبر منها، كأن تقول لابنتها فوزية بخصوص ترك إسماعيل لها بسبب مذهبها: «لو ترك الأمر لنا لما كانت مشكلة، ولكن منذ متى كان لنا أي اعتبار؟»، ثم تعلّق مبدية رأيها في الرجال: «هم لا غيرهم خُلقوا ليعذبونا، على الأقل لم يفضل عليك أخرى».
الأمر ذاته نلمسه في شخصية سالم، الفتى البسيط الحالم بالمال والزوجة الجميلة (يا رب، مليون روبية، وبنت بيضة، قطنة، قطنة، معبوجة بحمرة السمار)، وهو الذي ينهر أخته التي تدلك ظهره «رجلك صخرة... هذه رجل امرأة؟ الله يعين اللي ياخذك».
هذا السالم يتحول فجأة ودون سابق إنذار إلى شاعر وفيلسوف في حواره مع صاحبته خيرية «أتذكرك دائماً حلماً أتشوق إليه، أنتظره بلهفة... الحلم يسبقه التفكير، ويحتاج إلى وسادة، الآباء يفكرون عن الأبناء. يعلمونهم كيف يتصرفون، عندما نبتعد نتحرر، نصبح شياطين... ننطلق»! ■