الأدب وتداعيات الواقع العربي

الأدب وتداعيات الواقع العربي

لم يمر العرب بأسوأ مما هم عليه في واقعهم الراهن من حيث التنافر والتباعد وتصحّر الوجدان والتنكر للمبادئ القومية الأصيلة.
فهل لذلك صلة بانقطاع هذا العربي عن ميراثه الأدبي الأصيل؟ وهل يمكن أن يكون لعودته لهذا الميراث أو توثيق ارتباطه به دور في تغيير واقعه، وفي خلاصه مما يواجه من إرهاب الداخل ورعب الخارج؟!

هل يمكن لهذا العربي أن يتعلم من أشعار الصعاليك العرب على الأقل ما يربي في نفسه النخوة والحمية والشمم الأصيل؟ وأن يستمد من أدبهم ومن جوانب عيشهم الكريم ما يحفزه على الاعتزاز بالذات وتوثيق الانتماء للأصل، ويجنبه مرارة الذل وشماتة الأعداء؟ 
وهل لساسة العرب وزعماء الطوائف والأحزاب فيهم أن يستلهموا من حكم أولئك الشعراء الثائرين الأحرار ما يروّض نفوسهم على المسالك الحرّة النبيلة في القيادة والزعامة، وفي حماية الديار والذمار والأهل، والسعي لكل ما يُشيع روح الألفة والمحبة والإخاء.
وأخيراً، هل للأديب العربي المعاصر أن يفك القيود وينزل إلى مسرح الواقع، ليشارك بإبداعه وبذاكرته الأدبية الحرة الكريمة في صنع واقع مشرق آمن جديد؟
الأدب جزءٌ مهم من نتاج الفكر البشري وروحه ووجدانه، وهو مرآة صادقة لحياة الإنسان بكل ما يرتبط بهذه الحياة من مُثُل وقيم ومبادئ وأفكار وتجارب أو عادات وتقاليد، ولا غنى لأي فرد ينشد الانسجام مع نفسه ومع من يواصل معهم مسيرة الحياة من أن ينظر عن كثب في هذه المرآة، ليطل من خلالها على ما يربطه بجذوره وأصوله الكريمة، وليحدد دوره ومستويات تعاملاته مع الآخرين.
ومهما بلغ شأو هذا الفرد في الاطلاع على أوجه الحياة المادية وآلياتها وتقنياتها، فلا غنى له عن معرفة أبعادها الروحية والمعنوية المتمثلة في الأدب الإنساني الخالص، لأن معرفة هذه الأبعاد هي التي تحفظ للأوجه الأخرى توازنها واستقرارها. إذ لا صلاح للمادة إلا بصلاح الجوهر، ولا صلاح للعقل إلا بصلاح الروح. 
وليتضح ذلك نجمل القول فيما يلي:
1 - إن للأدب دوره الكبير في تهذيب الطباع وتقويم الخلق وإزالة ما يعتري النفوس من قلق وحيرة وألم وحزن، وما قد ينطوي عليه بعضها من ضغائن وغوائل وأحقاد، وذلك بما يسنّه هذا الأدب عبر فنونه المختلفة من مناهج واضحة، ويرسمه من غايات نبيلة، ويجسده من مُثل ومبادئ سامية، ويسوقه من عِبَر وحِكَم بليغة، ويصوره من أطياف وأحلام جميلة، ويبعثه في النفوس من أمان وآمال مشرقة تفتح للساري طرق الحياة. 

أمثلة رائعة
في الأدب العربي نثره وشعره أمثلة كثيرة رائعة على كل ما سبق ذكره. في رسائل عبدالحميد الكاتب وكتب ابن المقفع وأدبيات الجاحظ ومؤانسات أبي حيان التوحيدي وأدبيات ابن خلدون، ثم مقالات المنفلوطي وقصص محمود تيمور وروايات نجيب محفوظ ومسرحيات سعدالله ونوس وغيرهم من الكتّاب والخطباء قديمهم وحديثهم. كما نقرأها في قصائد الشنفرى، وعروة بن الورد، وحطان بن المعلى، وزهير بن أبي سلمى، وطريف بن تميم العنبري، والمقنع الكندي، وأبي خراش الهذلي، والمتنبي والشريف الرضي وأبي العلاء المعري والطغرائي، ثم أحمد شوقي وإيليا أبي ماضي وعمر أبي ريشة وسليمان العيسى وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة، وغيرهم من عشرات الشعراء القدامى والمحدثين. دعك عما نطق أو تحدث به رجالات الإسلام في عهد الرسول الكريم [ 
من صنوف الأدب الرفيع. 
في أعمال هؤلاء الكتاب والشعراء والبلغاء الكثير مما يبشر بالألفة والمحبة والتصالح، ويدعو إلى الأخوة وصلة الرحم وتوثيق الأواصر ونبذ الفتن والأحقاد، كما أن فيها نماذج مماثلة تدعو إلى نشر العدالة والحرية ودفع الجور والظلم، ورفض التعدي على حقوق الآخرين، والترفع عن الفواحش والدنايا، والسعي إلى التقريب بين البشر وتعميم الخير على الناس، ونماذج أخرى تدعو إلى لزوم الأمانة والصدق وحفظ السر وحماية الجار ورعاية الأسرة وصيانة الحرمات والعطف على الضعفاء والفقراء، وفيها ما يحض على رفض الهوان والذل وعلى الدفاع عن الأعراض والأوطان والوقوف في مواجهة الطغاة والطامعين، وإلى غير ذلك من الفضائل الشريفة والصفات الخلقية الحميدة.

إشارات ذكية
2 - في الوقت الذي يعد فيه الأدب الحق مصدراً لغذاء العقل ويقظة الفكر، فإنه يعتبر بطبيعته وسيلة إلى صفاء الأذهان وإرهاف المشاعر وصقل القرائح وتهذيب الأذواق، لما يجتمع في نماذجه الإبداعية الراقية من الإيقاعات الجميلة، والأنغام الآسرة، والصور المترفة والأطياف الملونة الفاتنة، والمشاهد الحية الساحرة، وما يتلاقى فيها من غناء الروح ومناجاة النفس في أجوائها الشفافة الصافية النقية، هذا إضافة إلى ما قد تحتويه هذه النماذج الراقية من إشارات ذكية موحية تطوف بالعقل والشعور في عوالم مشرقة غامرة. 
3 - وكما أن للأدب أهميته في تبصيرنا «بعجائب الكون وغرائبه ومحاسنه ومفاتنه وإعانتنا على فهم الحياة وتذوقها والإحساس بها والاستمتاع بما فيها من فضاءات ساحرة جميلة، والعيش فيها بأمن وطمأنينة وسلام، فإن له أهميته البالغة في إيقاظ الأحاسيس واستنهاض الهمم للثورة على الاستبداد والطغيان والفساد والجهل، ونبذ كل ما يمكن أن يجلب الخراب والدمار للشعوب أفراداً وجماعات.
ليس هناك من ثورة سياسية أو نهضة اجتماعية أو فكرية أو ثقافية حدثت في ماضي الإنسانية وحاضرها إلا ومهّد الأدب لحدوثها وهيأ لانبثاقها، حيث يدرك الأدباء والشعراء ببصائرهم النافذة وأحاسيسهم المرهفة وقلوبهم الواعية ونظراتهم البعيدة جوانب الظلمة في حياة مجتمعهم، فينبهون عليها وعلى سبل الخلاص منها ومن آثارها وتبعاتها.
وهكذا يضيئون الطرق ويفسحون الآمال للجماهير ببليغ أقوالهم وعميق رؤاهم وجميل إيحاءاتهم، وتظل خلاصة أفكارهم ومشاعرهم تتوهج في الصدور وتشع في النفوس وتسري في وجدان الشعوب، منتقلة إليها جيلاً بعد جيل. تخترق وتتفاعل وتهز وتتفجر ثورات عارمة وانتفاضات غامرة، تحمل معها التجديد والتغيير والإصلاح والتطوير والتطهير. 

محاسن ومساوئ
إذا رأينا الطغاة المتجبرين من ساسة البشر وحكامهم وسلاطينهم في غابر الزمان وحاضره يقمعون الأدباء الأحرار والشعراء المبدعين في بلدانهم ويضطهدونهم ويفرضون الحصار على نتاجاتهم، أو يسعون إلى استمالتهم واسترضائهم عندما لا ينفعهم القمع أو يفيدهم الاضطهاد، فذلك من أجل الأسباب التي سبق ذكرها، إنهم يخافون أن يخترق هؤلاء الأدباء والشعراء أسوارهم المحصنة، وأن يكشفوا أسرارهم وأسواءهم، وينبهون إلى جوانب ظلمهم ومواطن طغيانهم وجبروتهم. ويستثيرون وعي الأمة فتثور عليهم وتتمرد على سلطانهم.
يقال إن الحجاج بن يوسف الثقفي حرّم الشعر ومنع الشعراء في أول مقدمه إلى العراق، خوفاً من تنبيههم للرعية على ظلمه وجوره، ودعوتهم لإعلان الثورة عليه. فكتب إليه سيده عبدالملك بن مروان: «أجز الشعراء، فإنهم يجتبون مكارم الأخلاق، ويحرضون على البر والسخاء». وكان عبدالملك هذا يقول: «تعلموا الشعر، ففيه محاسن تبتغى ومساوئ تتقى»، وقوله هذا لا يبعد عنه تهمة الجور والظلم والطغيان، وإنما هي سياسة منه يسلكها مع الشعراء في محاولة منه لاستمالتهم واسترضائهم، بدلاً من إعلان الحرب عليهم، كما فعل صاحبه الحجاج، فيزيد من نقمتهم عليه وثورتهم ضده.
ولنا من واقع الحياة العربية في بدايات عصرنا الحاضر أمثلة على ما سبق ذكره من فاعلية الأدب في قيادة الحركات الفكرية وإذكائها وفي الدعوة إلى إصلاح المجتمع والثورة على الفساد السياسي والإداري فيه، وذلك فيما أنتجه الشعراء المبدعون من أمثال فؤاد الخطيب في لبنان وأبي القاسم الشابي في تونس، ومحمد رضا الشبيبي وأحمد الصافي النجفي والسيد صالح الحلي ومحمد مهدي الجواهري وأحمد مطر ومظفر النواب، في العراق.
ثم محمود سامي البارودي وصلاح عبدالصبور في مصر، وجبران خليل جبران وبدوي الجبل وسليمان العيسى في الشام، وعبدالله البردّوني في اليمن. دعك عن شعراء الجزائر الذين مهدوا الطريق واسعاً للثورة العارمة على أعتى استعمار في عصرنا الحديث.

نهضة فكرية
مهّد هؤلاء الشعراء لما حدث من ثورات وحروب على الفساد ومن دعوات للتوعية والإصلاح والتطوير في بلدانهم، كما فعل زملاؤهم من الكتّاب والخطباء والأدباء العرب الموهوبين عامة، بأفكارهم النيرة ونظراتهم البعيدة الثاقبة، ومشاعرهم الحية اليقظة، ومواقفهم الإنسانية النبيلة، معبّر عنها في خطب بليغة، أو في قصص وروايات ومسرحيات شيقة، أو مقالات سلسة جذابة. وهكذا شاركوا في عهودهم المتباينة في إحداث نهضة فكرية واجتماعية وسياسية شاملة ما زال واقعنا الراهن يشهد آثارها الإيجابية. 
وإذا كانت آثار تلك الحركات التنويرية والإصلاحية التي شارك في إحداثها أولئك الشعراء والكتاب قد خبت أو تراجعت في واقعنا الراهن، فذلك يعود إلى غياب هؤلاء الشعراء والكتّاب عن ساحة الحياة، وعدم وجود مَن يسد كامل الفراغ الذي تركوه نتيجة لعوامل القمع الفكري السائدة، كما يعود في الوقت نفسه إلى ما نلمسه لدى متلقي الأدب أنفسهم من تراجع عام في القدرة على إدراك قيمة الإبداع والفكر الناهض في تلك النتاجات التي تركها لنا نوابغ الشعراء والأدباء، وقصور في ملكة الفهم اللازمة للتفاعل مع العناصر الإيجابية فيها، كنتيجة عامة لما يعانيه مجتمعنا الحاضر من انحدار في المستوى المعرفي والثقافي واللغوي.
4 - وإضافة إلى ما للتراث الأدبي من دور كبير في علاج المشاكل المتعلقة بالفكر ونزواته وبالسلوك الاجتماعي وتفاعلاته، فإن له دوره المهم في تحسين أوضاع النفس البشرية ومعالجة نزعاتها وعُقدها واضطراباتها. وفي ترشيد المواقف الشعورية للأفراد والجماعات، وتهذيب الذائقة الإنسانية التي لها صلتها الوثيقة بسلوكيات المجتمع وتصرفاته وبناء العلاقات بين أفراده. 

تفكك وصراع
كان الأوائل وما زال كثير من الأواخر يعمدون إلى القصص والحكايات وأحاديث الأمم وأخبارها عندما تتكدر نفوسهم وتضيق صدورهم وتحيط بهم مشاكل الحياة وأزماتها، فيرون فيها ملاذاً رحباً ويجدون في قراءتها من العِبَر والتجارب والأسرار وطرق التطهير والخلاص ما يروّح عنهم وينعش أحاسيسهم، فتنشط أبدانهم للعمل وتستبشر نفوسهم بالحياة. وهل أن ما نجده من تلهّف لقراءة القصص والروايات لدى كثيرين من أبناء المجتمعات المتقدمة إلا مظهراً من مظاهر البحث عن حلول للعقد النفسية والمشاكل الاجتماعية التي يعانونها؟ ولاسيما في تلك الأوساط التي تعيش حالة من التفكك الأسري والصراع اللاهث على المادة، وحيث يجد المرء نفسه تسبح كالريشة في مهب الريح، أو تدور في دهاليز ملتوية وأنفاق مظلمة، فيأتي الأديب البارع أو القصاص والروائي المبدع ليفتح لها من خياله الرائع ووجدانه المتألق وفكره المتوهج منافذ تضيء لها طريقها، فتسير مفعمة بالأمل وحب الحياة. وليس ما يجنيه القارئ البصير من متعة النفس ولذة للفكر وفائدة العقل من قراءة النتاجات الأدبية النثرية الجميلة بأقل مما يحس به من نشوة حين يقرأ ديوان شعر رقيق، أو قصيدة رائقة بديعة سلسة المأخذ، يأنس إليها ويستشف معانيها وصورها على قدر ما أوتي من ملكات الفهم والاستيعاب، فتسافر به في عالم الخيال والجمال، وتتنقل به بين عالم الفكرة وعالم الصورة وعالم النغم، وتحتويه في أجواء ساحرة يعزف فيها على أوتار النفس، فتنتشي، وتحلم، أو تطير على جناح ضوء غامر مديد، وهكذا تحلو الحياة ويجمل العطاء وتحاط النفس بالأمان والسلام.
ولو قيل إن أقلام الأدباء في هذا الزمان قد وهنت وألسنة الشعراء احتبست وصارت الأفهام تعجز عن إدراك ما ينظم أو يكتب، أو قيل إن ما يكتسبه المرء من المعارف والخبرات والتجارب وجوانب المتعة من خلال قراءته للنصوص الأدبية يمكن أن يكتسبه من خلال مشاهدته للتلفاز وتجواله عبر قنواته المختلفة وشبكات (الإنترنت) وآليات التثقيف والتعليم الحديثة، فهذه الأجهزة تقرّب البعيد وتدني القاصي فتجعله حاضراً بين يديه متى شاء وبطرق أسرع وأسهل. إن كان ذلك جائزاً فإنه لا يخلص من دون مآخذ أو عيوب. 
فالتلفاز يختار لمن يشاهده ولا يدعه يختار ما يريد، وهو إن قدم لمشاهده شيئاً مما يمتع أو يفيد، فهو لا يقدمه له من دون ثمن، بل لا يقدمه له إلا وينغصه عليه بما يقحمه فيه من صراعات ونزاعات تكدر خاطره وتشد أعصابه، وتكرس في نفسه الشعور بالكآبة، كما هي عليه الحال بتلفازنا العربي في واقعه الراهن. 

آفاق ممتدة
أما في قراءة النتاجات الأدبية المدونة فالآفاق للمتعة والفائدة ممتدة واسعة، وهناك فرص للتذوق والاستئناس والاختبار والاختيار، وللقارئ أن ينتقي ما يروق له ويتناسب مع فهمه وذوقه من حديث النتاجات أو قديمها. 
أما فيما يتعلق بالأجهزة والآليات الأخرى المذكورة فهي كذلك لا تقدم لمستخدميها شيئاً مما يمتع أو يفيد، إلا وتغمسه بشحنات هائلة من التوتر، توتر النفس أو توتر الأعصاب، وأقلها توتر البصر واحتقانه وجفافه، حتى وإن كان من المقروء. فالدعايات والاختراقات، وأسواق اللحوم البيضاء، وقطّاع الطرق وخاطفو الأسرار والفوضى العارمة في التقديم والتأطير والطرح، هذا غير الإشعاع الذي يلهب أعصاب البصر وينخر في تجاويف الحس، كل هذه الأدوات تتنافس على زيادة اضطراب النفس وتصعيد التوتر. ولكل ذلك انعكاساته على ما نراه من تداعيات الصراع في واقعنا الراهن.
5 - الطبقات المثقفة الواعية في كل مجتمع متقدم تدرك دور الأدب في حياتها. وتدرك أن الأمة إذا حرمت من الاطلاع على ما ورثته من آداب وفنون وثقافات قطعت سياق تقاليدها القومية وروابطها الحضارية وفقدت خصائصها، وضلت نظام وحدتها، وسهُل انقيادها بعد ذلك إلى التبعية الفكرية، وأنها إذا فقدت القدرة على التفاعل مع العناصر الإيجابية في هذه الآداب والفنون والثقافات جفت لديها الينابيع التي تروي أحاسيسها وتغذي مشاعرها وتوثق عراها، فلا تبرح أجزاءها حينئذ حتى تتفكك ثم تتباعد وتتنافر. كما هي حال الأمة العربية في واقعها الراهن. 
 لم يمر العرب - كما سبق القول - بأسوأ مما هم عليه في واقعهم الراهن من حيث التباعد والجفاء وتصحّر الوجدان والتنكر لوحدة الدم واللغة والتاريخ والمنبت والأصيل، ونسيان ما جُبل عليه الآباء والأجداد من شيم وخصال حميدة.

واقع أليم
لقد تجزأت الأجزاء وتقطعت الأواصر وانفرطت عقود الجماعات، ولا يستبعد أن يكون من أسباب هذا الجفاء وهذا التصحر الوجداني السائد بين العرب في واقعهم الراهن عامة بُعدهم عن تراثهم الأدبي الأصيل، الذي يمكن أن يصقل أحاسيسهم ويصفّي طباعهم ويرقق مشاعرهم، ويعزز في نفوسهم روح الولاء الصادق للوطن والانتماء الخالص للأمة والوفاء الراسخ للأرض والارتباط الوثيق بالأصل، ويربي فيهم معاني النبل والعزة والكرامة والإباء والشعور السامي بوحدة الدم والمصير بين أفراد الأمة.

نسب راسخ
نتيجة لهذا البعد ـــ كما يظن ـــ ضعف لديهم الدافع القومي الذي يعمل على لمّ شملهم وتوحيد كلمتهم. كما تراجع لديهم الوازع الديني أيضاً، حيث ارتبط الأدب العربي بالإسلام منذ بزوغه، فتضافرت القيم الدينية والقومية الأصيلة في كثير من نماذجه وفنونه. وصار له دوره الكبير في تهذيب الخلق ونزع الضغائن وكبح الشرور وتعزيز القيم والمبادئ الإنسانية السامية عامة.   
لقد كان الصعاليك في جاهليتهم من أكثر طوائف العرب جفاء وغلظة. وكانوا غزاة أشداء، متمردين على سلطات قبائلهم, يغيرون ويغزون وينهبون ويسرقون. ولكنهم كانوا مع ذلك كله أباة أعزاء كرماء، أصحاب نخوة وشهامة ومروءة، بارّين بأرحامهم، متضامنين متعاونين فيما بينهم، رحماء بذوي قرباهم، أوفياء لبني جلدتهم. يحامون عنهم ويحمون ذمارهم ويدفعون الضيم عنهم ويأبون أن يشمت بهم عدو. 
وكان الصعاليك فقراء معدمين، دفعهم الحرمان والشعور بالظلم في توزيع الثروة إلى السطو والنهب، واضطرتهم الحياة المرة القاسية إلى السرقة. ولكنهم كانوا لا يسرقون الأغنياء الشرفاء، ولا ينهبون الناس الضعفاء، وإنما كانوا يسرقون الأغنياء الأشحاء اللؤماء ليطعموا الفقراء والبؤساء. ويوزعون ما يحصلون عليه على المرضى والمحتاجين من أهليهم وذوي قرباهم. وكان الأدب يعمل على تنمية نزعات الخير في نفوسهم أو يبرزها ويحثهم على الارتباط بها، كما يحرس عواطفهم أو يمنعها من أن تجمح إلى فعل ما يخالف شرف الأصل. 
كان بين الصعاليك العرب وبين الأدب نسب راسخ قوي، فكان معظمهم شعراء ناصعي البيان، ذوي قرائح صافية وخيال خصب وفطرة نقية. في أشعارهم ثورة عارمة على احتكار الثروة، وفيها احتفاء واحتفال بالقيم الإنسانية السامية. واعتزاز بما نشأوا عليه من الأخلاق الحميدة والشيم العربية الأصيلة. الكرم والشجاعة والأنفة وعزة النفس والنخوة والشهامة والإيثار وإباء الضيم والغيرة على الجار وعلى العرض والنسب والدم.

 واقع أفضل
ربما كان للأدب كذلك دور في التقليل مما كان يصيب المسلمين في ماضيهم من شرور الخوارج وعنتهم وبطشهم. فقد كان في الخوارج أدباء وشعراء رقق الفن - كما يبدو - بعضاً من طباعهم، وليّن قلوبهم، فابتعدوا عما انزلق فيه حلفاؤهم من سماجة الخلق والطيش وسوء الفعال.
إن الصفات أو الأخلاق النبيلة التي تمثلت في حياة الصعاليك العرب وفي شعرهم لا نكاد نجدها بين العرب في واقعنا الراهن. بل لا نجد بينهم إلا ما يناقضها ويعارضها. كما تبين ذلك من قبل، فلا أقل من أن يتعلموا من أشعار أولئك الصعاليك ومن جوانب عيشهم الكريم ما يرتقي بحياتهم إلى مستوى الشمم الأصيل. وأن يستمدوا من آدابهم ما يحفزهم على الاعتزاز بالذات وتقوية الانتماء للأصل. وتوثيق الصلة بالرحم، وإسداء الرعاية للجار، والعمل على كل ما يصون الأعراض ويحقن الدماء ويجنب الأمة الهوان والذل وشماتة الأعداء.
وأن يتعلم ساستهم وزعماء العصب والكتل والطوائف والأحزاب فيهم من حِكَم الشنفرى، وعروة بن الورد، وأبي خراش الهذلي، وتأبط شراً، ومالك بن الريب، وغيرهم من أولئك الشعراء الثائرين الأحرار، ما يروض طباعهم على المسلك الحر النبيل الشريف في القيادة والزعامة، وفي حماية الديار والذمار والأهل، وفي العمل الدائم على كل ما يشيع روح الألفة والمحبة والإخاء بين أفراد الأمة. فهذا هو الطريق الأمثل إلى تحقيق واقع اجتماعي وسياسي وحضاري أفضل.

أدب الواقع
إن الأدب الراقي الأصيل في كل أمة ينبع من الواقع ويعبّر عن هذا الواقع ويصنعه من جديد في صورة أسمى وأرقى، شريطة أن يأخذ هذا الأدب طريقه إلى الجمهور وأن يحتضنه هذا الجمهور، ويقبل عليه، ويحتفي به، ويستنطقه، ويتفاعل مع مكوناته، وينفعل بعناصره، وإلا كان مآله إلى الانزواء أو الانحسار.
صحيح أن الأدب النابض الحي يستثير الجمهور ويقتحم أسواره ويحتل ساحاته عنوة ليفرض نفسه بنفسه. غير أن ذلك لا يتحقق إلا عندما تتسق الموازين في تقديره لهذا الأدب وتقييمه، ولا يكون لسياسات التجهيل وحملات التعتيم وموجات الجهل المركب طريق إلى حجب رؤية الجمهور عنه. 
إن القصور في إدراك مكانة الأدب وضعف الإقبال على نتاجات المبدعين من أدباء الأمة وشعرائها لا ينسجم في الواقع مع الطبيعة العربية في تكوينها الوجداني والفكري، ولا مع سننها الحضارية الموروثة.
فقد اشتهر العرب في ماضيهم بحبهم للأدب وعشقهم للشعر وتذوقهم لسحر الكلمة وجمال العبارة وبلاغة القول. كما عرفوا على مر العصور بولعهم بالبحث عن كل ما يرتقي بذائقتهم الفنية في وزن الكلام وصياغته وروعة الخطاب وحسن أدائه، وما نراه من شاعرية اللغة العربية وجمال إيقاعاتها وأصواتها يعتبر دليلاً على ذلك؛ فهي نتاج أفكارهم ومرآة لأذواقهم. 
ولكن توالي القمع والكبت والحرمان وسياسات التجهيل والتغريب والغزو الفكري الجامح وتقبيح صورة الذات العربية من جانب، وفرض الحصار المستمر على الكلمة الحرة وتضييق الخناق على انطلاقة الفكر وملاحقة الأدباء المبدعين والتعتيم على النتاجات الفكرية الرفيعة وعلى أصحاب الأقلام الحرة من جانب آخر، هذه كلها تراكمت في هذا العصر فساعدت على تشويش فكر الإنسان العربي وتجفيف ذائقته وتصحير وجدانه، ومن ثَم على تزهيده في تراثه الأدبي أو إقصائه عن هذا التراث أو عزله عنه. كما ساعدت على تضييق دائرة الإبداع الأدبي الرفيع الذي يمكن أن يوسع من آفاق الفكر وينعش الذائقة الأصيلة.

قيود وأسوار
الأدباء المبدعون كالأنهار لا توقف جريانها الزوابع مهما اشتدت، ولكن قد تصيبها بالكدر أو تبعثر ما حولها. ويختلط الأخضر القليل باليابس الكثير، فلا يرى فتبقى تنتظر الصحو والصفاء. والأدباء المبدعون كذلك كالطيور الشادية المغردة، لا تخرسها العواصف مهما قست، لأنها بطبيعتها شادية مغردة. ولكن العواصف الشديدة القاسية تصيبها بالذبول، وتؤدي بها إلى الانكماش والانزواء، فتخفت أصواتها وتهفت أجنحتها، وقد يدخل بعضها في سبات أشبه بالموت، غير أنها مع ذلك تبقى متحركة حية من الداخل، مفعمة بالأمل، مستعدة للبعث والخلق من جديد. وعندما تهدأ العواصف وتنقشع الغيوم ويسكن الضجيج تنتفض تلك الأجنحة البيضاء، وتمتد في الأفق الواسع لتنشر ضوء الشمس وتزف البشائر للخلق. وتملأ الكون بجميل ألحانها. 
وقد يصاب الأديب المبدع بالإحباط عندما لا يجد لصوته صدى ولا لندائه رجعاً. أو يشعر بأن الحجب التي ضربت بينه وبين الجمهور أقسى من أن تخترق أو تستباح. فيقوده هذا الشعور إلى الانعزال أو التراجع كتعبير عن خيبة الأمل. ولكنه سرعان ما يرفض الانهزام ويسعى إلى التحرر والانطلاق، لأنه يشعر بأن الواقع المحيط به لا يمكن أن يتغير ويستعيد عافيته وحيويته ما لم تحطم القيود وتقتحم الأسوار وتسبر أغوار هذا الواقع وتشخص أدواءه وتبعث العناصر الميتة أو الخاملة فيه من جديد. وهذه هي مهمة الأديب المبدع الحر، ولابد أن يقوم بها وإلا لم يكن لوجوده معنى. 
اعتزل الشاعر الإيرلندي وليام بتلر ييتس (ت: 1939) الحياة، معبّراً عن رفضه للقيم المادية التي طغت في نظم الحياة الجديدة فأفقدت الإنسان إنسانيته وروحانيته وأصابته بجفاف الروح واضطرابها. وتوجه في شعره إلى الطبيعة البكر والأساطير الشعبية التي اعتقد بأنها ستنقله من عالمه الفعلي إلى عالم الفطرة والنقاء وإلى لغة الأحلام الأثيرية التي تكرس في نفسه الانفصال والوحدة، واستبدل التعبير عن أحاسيس الجمهور وانعكاسات الحياة المباشرة من حوله بالتعبير عن إيحاءات عقله الباطن وتهويماته الغامضة. 
ولكنه وجد فيما بعد أن ما سلكه لم يكن إلا سراباً وهروباً من الذات نفسها، كما وجد أن فيه مخالفة بيّنة لما يعتقده هو في قرارة نفسه من مهمة الأدب ووظيفة الأديب. 
لقد اكتشف ييتس أن الأديب الفنان الذي يريد أن يخدم أدبه وفنه خدمة خالصة هو ذلك الذي يخدم شعبه وجمهوره وعالمه من خلال هذا الأدب والفن. وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بأن ينزل الأديب الفنان إلى مسرح الواقع وساحات الشعب وأرض الجمهور، ليحيا حياته ويتحسس آلامه ومشاكله فيعالجها ويتحداها وجهاً لوجه. ولذلك انتقل ييتس من صومعته إلى ساحة الصراع وأرض الواقع وحياة الشعب وتخلى عن فلسفة الانعزال إلى فلسفة اللقاء بالحياة والأحياء واحتضان الجماعة والذوبان فيها. 
فهل للأديب العربي المعاصر أن يفكر في مثل ذلك، ليشارك في تحدي الواقع الراهن وصنع الواقع المنشود أو الوصول إليه؟ ■