في أسواق مدينة دمشق القديمة ... التسوّق بين التاريخ والتراث
عندما تُذْكَر مدينة دمشق, عاصمة الجمهورية العربية السورية, يتّجه خيالنا نحو المدينة القديمة ومعالمها وأبنيتها المعمارية التاريخية والتراثية الكثيرة جدًا, إلا أنّ الأسواق التراثية هي أبرز ما يتذكّره زوّار وسوّاح دمشق القديمة.
هذه الأسواق يا أصدقائي بُنيَت على مراحل تاريخية مختلفة, حيث يعود عمر بعضها إلى أكثر من 300 سنة, ويبلغ عددها خمسين سوقًا, تمّ بناؤها على شكل شبكة معمارية منتظمة, والعديد منها مغطّى ومسقوف بمعدن التوتياء أو بالسقف الحجري لحماية المتسوّقين من حرّ الصيف ومن أمطار الشتاء.
وما يميّز هذه الأسواق أنّ كل سوق منها تخصصّ ببيع مواد استهلاكية واحدة فقط, أو تصنيعها في حوانيت الأسواق من قِبل حرفيّين دمشقيّين تخصّصوا بتصنيع المواد التراثية, كالأدوات الخشبية, والمصوغات الذهبية والفضية, والأنسجة, والزجاجيات, والنحاسيات, وغيرها(حيث يكون هناك جزء من الحانوت مخصّص للحِرَفي, والجزء الأخر لِعرض ما ينتجه وبيعه للمتسوّقين). وبسبب تخصّصها منذ تأسيسها, أخذت الأسواق أسماء المواد التي تخصّصت بها, ولكن مع التطوّر الذي حصل في السنوات الأخيرة فقد تخلّت العديد من هذه الأسواق عن تخصّصاتها, وصارت تبيع منتجات عصرية إلى جانب المنتجات التراثية.
سوق الحميدية هو الأشهر بين هذه الأسواق, لأنه أطول وأكبر الأسواق القديمة, وأكثرها تنوّعًا في بيع المنتجات التراثية والعصرية, كالألبسة, والأدوات التراثية, والسجّاد الثمين اليدوي, والآلات الموسيقية, والسيوف, واللوحات الفنية, وغيرها. وهذا السوق بُنِيَ قبل 130سنة, ويبلغ طوله (600) مترًا وعرضه (15) مترًا, ويرتفع بطابقين, وهو مسقوف بالكامل بمعدن التوتياء, ويتفرع عنه العديد من الأسواق الأصغر منه, مثل: سوق الحرير المتخصّص ببيع المنتجات الحريرية, كالألبسة وغيرها, وسوق النسوان وحوانيته التي تبيع كل ما تطلبه النساء من مواد تجميل وغير ذلك. والطريف هنا أن هذا السوق ومنذ عشرات السنين صار اسمه بين الناس (سوق تفضّلي يا ستّ), لأن أصحاب الحوانيت يتنافسون بين بعضهم بالنداء على المتسوّقات لِيشترين من عندهم, وبشكل لطيف ومؤدّب.
أما السوق الثاني الكبير, وهو سوق مدحت باشا, المسقوف بالتوتياء, فقد بُني قبل 170سنة, والسوق حاليًا متخصّص ببيع الألبسة التراثية الرجالية, كالعباءات وغطاء الرأس (الشماخ والعُقُل), وهناك حوانيت منه تبيع المناشف والبشاكير التي تُصَنَّع من قِبَل الحِرَفيّين الدمشقيين. وفي جولتنا زرنا سوق الصوف (متخصّص بالمنتجات الصوفية), وسوق البرغل (مختصّ بتصنيع وبيع البرغل, تلك المادة المنتَجة من حبّات القمح بعد تجفيفها وجرشها), أما الآن فقد صارت حوانيته تبيع الألبسة العصرية الخاصّة بالشباب, حيث نشاهد به وكالات لألبسة رياضية عالمية مشهورة.
ومن الأسواق القديمة سوق المناخلية, وهو سوق كبير أيضًا, وكان يتخصّص ببيع المناخل, وحاليًا تغيّر تخصّصه, فصار يبيع مواد البناء المعدنية, وتصنيع المفاتيح. وسوق البزورية, وفيه سنشمّ روائح البهارات تفوح من حوانيته, وسنرى المواد الغذائية والضيافة, كالشوكولا, والراحة, والمربّيات, والأعشاب الطبية, والمكسّرات (كالجوز والصنوبر واللوز والفستق الحلبي) معروضة في الحوانيت , وللأطفال هنا أيضًا حصّة من المعروضات, كالحلوى الدمشقية التراثية مثل, (شطّي مطّي والقباقيب السكرية وغيرها). وهناك أيضًا سوق الصاغة (متخصّص بتصنيع وبيع المصوغات الذهبية والفضية), وسوق القباقبية (مختصّ ببيع القباقيب الخشبية), وحاليًا تبيع حوانيته العملات النادرة, والطوابع, والأدوات التراثية (الأنتيكة), وسوق الخياطين, وسوق السروجية, وهو أقدم هذه الأسواق, وكان متخصّصًا بتصنيع سروج الخيل وزينتها وهوادج الإبل, ومازالت بعض حوانيته ووُرَشه تصنعها.
وستسألون يا أصدقائي: ألا يوجد سوق خاص بالأطفال وألعابهم? بالتأكيد هناك سوق كبير قديم مجاور لسوق الحميدية, وهو سوق العصرونية, وله عدّة تفرّعات, وفي أحد أفرعه الكبيرة, توجد حوانيت تبيع ألعاب الأطفال ومواد التسلية, كذلك له فرع آخر حوانيته متخصّصة ببيع مستلزمات تلاميذ وطلاب المدارس, وقد سُمِّي بالعصرونية, لأن معظم زبائنه من النساء اللواتي يأتين مع أطفالهن بعد الظهر, أي في فترة العصر, ليتسوّقن منه, بعد أن تكون المرأة قد انتهت من أعمال البيت, وأعدّت وجبة الغذاء لزوجها وأولادها.