10 سنوات مرّت على الرحيل محمود درويش... فارس الشعر المترجل عشقاً

10 سنوات مرّت على الرحيل محمود درويش... فارس الشعر المترجل عشقاً

كثيرة هي مدارات اللغة وأحوالها، وعجيبة هي في تقمصاتها وصورها، لها من الموسيقى ما تألفه الآذان، ومن العاطفة ما يهز الوجدان، ومن التأثير ما يبعث على الألفة والرهبة، والخشية والتروي، والتململ والتأفف، والتحاجج والتواد، والتقارب والتباعد، والتماثل والتفاعل، ومن الأثر الحزن والفرح، والأمل والعمل، والسحر والاندهاش، والحب والكراهية.

اللغة في حسنها المضني أنشودة الشعراء المغرية بكل تفاصيلها وعنفوانها المتفجر، ليس من السهل القبض عليها وهي وردة الألماس النادرة خلف الحصن المنيع في بلاد شق إليها السندباد ألف رحلة ورحلة، ليعود فيخبرنا عن شدة ضراوتها وعِظَم أهوالها.
هكذا إذاً يخطف لنا الشاعر صوره بين نوبة وأخرى، وفي دوار القصيدة يرسم لنا تفاصيل رحلة وصوله إلى الوردة، تماماً كالسندباد، بطل تلك القصة عظيمة الأهوال. المطر خفيف، قد ينمو عشب على تراب القصيدة، وقد يظهر فارسها في جبّته البيضاء، يحمل قلماً بدل السيف، وباقة ورد ماسية، يحدثنا الفارس عن نفسه:
أرى السماء هناك في متناولِ الأيدي
ويحملني جناح حمامة بيضاء صوْب
طفولة أخرى 
ولم أحلمْ بأني كنت أحلم
 كل شيء واقعيٌ
 كنْت أعلم أنني ألْقي بنفسي جانباً وأطير
سوف أكون ما سأصير 
في الفلك الأخيرِ
يرسم محمود درويش مسار قصيدته «جدارية»، وكأنه يوحّد ذاته بها حين يفصلها عنها ويلقي بنفسه جانباً، فهو إذاً يرى ما نرى، أو بالكاد يريد لنا أن نرى ما يراه، حين يلتقي بنفسه على جانب الضفة الأخرى من مسار جداريته اللولبي، يقول أيضاً:
لم أسمع هتاف الطيبين، ولا
أنين الخاطئين، أنا وحيد في البياض
أنا وحيد 
إنها الوحدة في اللامكان واللازمان، لا إحساس بثقل الأشياء أو خفتها ولا عواطف، كل شيء أبيض في أبدية بيضاء، غير أن درويش يعلم أنه واقف على باب القيامة، لكنه لا يستطيع أن يحدد مكانه، يعلم أنه قد جاء قبل ميعاده، لكنه لا يعلم في أي زمان هو، يشكك بموته قبل تلك اللحظة، ويسأل أين مدينة الموتى؟ يعلم تمام العلم أنه ماض إلى ما ليس له به علم، لكنه يعود إلى السؤال، ربما ما زلت حياً في مكان ما.
يفصل درويش بين زمنين ومكانين هو فيهما، فهو في زمن القصيدة المتقدم جداً بعد رحلة الموت، وهو أيضاً في اللحظة التي يعيشها ليشاهد الأشياء في مداها الأخير وصيرورتها بعد ذلك، وكأنه يعود بنا في خط عكسي إلى الزمن الأول، وهو ما قد يشكّل - من ناحية أخرى - جواباً عن صيرورته الميتافيزيقية، وكيف يمكنه البقاء حياً كفكرة وكطائر وكَرْمة ورسالة.

برزخ 
في غربة الأسماء ينتفي القديم والجديد وتسقط الأزمنة، وتغيب الجدوى إلا من الهدف الذي يريد الشاعر أن يصيره. فلا الرحلة ابتدأت فعلاً ولا الدرب انتهى، غير أن أرض القصيدة خضراء ممتدة في الأعلى، حيث تسمو الجداريات، وحيث يصبح الزمن معلوماً عند الفجر، حيث كلام الله.
الجدارية إذاً برزخ الشعر الفاصل بين الحياة الدنيا، عندما يوجد الشاعر في الهاوية السحيقة، كما يرمز لها أو الأرض المريضة كما يقول، بعيداً عن الحياة الأخرى العليا الموسومة بالبياض اللامتناهي، حيث يصبح الانفصال عن الجسد حتمية للوصول والطيران سبيلاً لذلك، حتى أننا لا نكاد نفرق هنا بين غيبوبته المرضية وولوجه عالم القصيدة المحموم بدوار يشبه الحلم حيناً والسقم أحياناً كثيرة، إذ يتعدى درويش بذلك ما هو واقعي إلى ما هو خيالي، حين يطرق باب القيامة في انتظار شيء ما، فهو لا يعلم حقاً إن كان حياً أم ميتاً، لكنه يعلم تماماً أنه ما بينهما، روح تنساب في جسد القصيدة وتكونها حيناً وحيناً في ضمير الشاعر الذي يشبه كلماته، ويتحد معها في المطلق الأبدي، وحيناً آخر روحاً بلا جسد وبلا قرار.
جلست خلف الباب أنظر:
هل أنا هو؟
هذه لغتي
وهذا الصوت وخْز دمي
ولكن المؤلف آخر

ثم يقول:
تنحلّ الضمائر كلٌها
هو في أنا في أنت
لا كلٌ ولا جزْء
ولا حيٌ يقول لميّتي: كنّي

هكذا إذاً يلتقي درويش بنفسه ويسأل ذاته ويجيب عنها في مونولوج سخي، يشبه إلى حد كبير هذيان المريض والمتيّم بالعشق، والقابض على النار في حضور ما هو أشد لهيباً، وإلا كيف تصبح قبضة العشب قياساً للزمن؟ وكيف تدون القصيدة على وزن النوارس في كتاب الماء، وعلى نثر السنابل في كتاب الحقل؟ وكيف يتيه المرء في غبش التشابه بين بابي الخروج والدخول، حتى أنه لا يجد موتاً ليقتنص الحياة؟
فلا شك إذاً في أن اللغة الشعرية العميقة والنافذة في عمق الرؤية، ليست لغة هذيان وهيام فحسب، بل هي في الأصل تذكّرنا بحكمة الغرباء وغربة الحكماء، على حد تعبير الشاعر، الذي يرسل قصيدته حكمة أبدية عن الحياة وعن الموت وما وراءه، وتخليداً للشعر الذي يرقى إلى مصاف الجداريات الخضراء ما بين السماء والأرض كتنزُّل الملائكة في ليلة القدر، حتى لأنه يعود في كل مرة، ليسأل نفسه عنها، عن جسده وروحه، وعن الإنسان في ذاته والشاعر في قصيدته، وعن صورته التي قد تتعدد في صيرورته الأخرى:
منْ أنت، يا أنا؟ في الطريقِ
اثنانِ نحْن، وفي القيامة واحد
خذْني إلى ضوء التلاشي كي أرى
صيْرورتي في صورتي الأخرى
فمنْ سأكون بعدك، يا أنا؟ 
جسدي ورائي أم أمامك؟
منْ أنا يا أنت؟ كوني كما كونْتك

رحلة الوداع الأخير
هنا يتشبث الشاعر أيضاً باسمه، بكل أحرفه التي تعنيه تماماً، وبكل ما له من اشتهاءات الطبيعة والحياة، وفطرته المفطومة على البراءة في تباشيرها الأولى في كل ما هو قدسي ووجداني، وكأنها رحلة الوداع الأخير، حيث يرمي الشاعر بوردته الوسطى، فهو يعلم أن الرحلة ستبدأ، ولو بعد حين، تماماً كما رآها حالماً أو شبه واع بالحقيقة.
واسمي، إن أخطأت لفْظ اسمي
بخمسة أحْرفي أفقيّةِ التكوين لي:
ميم / المتيّم والميتّم والمتمّم ما مضى
حاء / الحديقة والحبيبة، حيرتانِ وحسرتان
ميم / المغامِر والمعدّ المسْتعدّ لموته
الموعود منفياً، مريض المشْتهى
واو / الوداع، الوردة الوسطى،
ولاء للولادة أينما وجدتْ، ووعْد الوالدين
دال / الدليل، الدرب، دمعة
دارةٍ درستْ، ودوريّ يدلّلني ويدْميني /
وهذا الاسم لي 
ولأصدقائي، أينما كانوا، ولي
جسدي المؤقّت، حاضراً أم غائباً 
يدرك محمود درويش أن اسمه هو أناه الأولى، وبدونها لن يكون، إلا أنه حين ينفصل عن جسده المؤقت كلياً، يقرر منحها للذين سيأتون بعده، وبذلك ينهي الشاعر جداريته بسخاء باذخ، فإذا ما دق ناقوس الرحيل فهو ليس له، وإنما للذين يستظلون بشعره، فاليوم الذي كان يرجوه هو يوم مفتوح غير مرتبط بالجسد، وهو في عالم ما بعد الموت كما أراد لأن يكون عنباً وكرماً، ورسالة وطيراً وبحراً ودرباً وسهلاً، وحديقة غناء في رياض الشعر.
أما أنا - وقد امتلأتُ
بكل أسباب الر حيل -
فلستُ لي
أنا لستُ لي
أنا لست لي■