لغة الأدب وتحديات المستقبل
«لغة الأدب» التي أودّ تناولها تتجاوز المفهوم التقليدي للغة من حيث هي مجموعة قواعد صرف ونحو لكلام حسن، إلى مفهوم أعم يشمل كل عملية إعادة إنتاج الحياة والكون وتحويلهما إلى خطاب ذي بنية دلالية أغنى من الجملة المفيدة الصحيحة التركيب.
تُثار، من حين لآخر، على صفحات الصحف والمجلات وفي ندوات متفرّقة، مسألةُ تدهور أحوال اللغة العربية وطرق استعمالها، مدى اقترابها من الفصحى أو ابتعادها عنها. ولكن لم تكن هذه المقاربات تتخطّى حدود الجملة وألفاظها، وحدود قواعد صيغت في مرحلة معيّنة في «كتاب» صار شبه منزلٍ. فاللغة والأدب معاً هما وجهان لمسألة واحدة هي «الكتابة»، وبخاصة «الكتابة الأدبية» في البلدان الناطقة بالضاد.
تنطلق إشكالية التقدّم والسير قدماً نحو المستقبل، من واقع التصاق اللغة بالأدب، لكن هناك مفارقة في علاقة كلٍّ من اللغة والأدب بالمرجعية المعتمدة. ففي حين أن مرجعية اللغة مستوحاة حصراً من الماضي بمعنى القياس الذي على أساسه يقوّم بعضهم تماسك اللغة أو تفكّكها، يدير الأدب ظهره للماضي ناظراً نحو مستقبل لايزال مبهماً وغير واضح المعالم بعد.
ما يعني أن الحالة الأدبية، لارتباطها بالإبداع، أكثر ديناميكية و«تقدمية»، وأقل تخوّفاً من بعض الغيورين على «سلامة» لغة لم تعد على صورة النقاوة السلفية الجامدة والمطلقة.
ما يشغل بال الأدب والأديب عامةً ليس بتاتاً تناسب الوسيلة اللغوية ومقاييس سلفية تقليدية، بل قدرتها على تخطّي نماذج عاشت عليها ردحاً من الزمن لبلوغ شكل إبداعي يحاكي مقتضيات الحاضر والمستقبل.
سأتطرّق إلى ثلاث إشكاليات يواجهها كل من أخذ قلماً وبدأ بالكتابة: 1 - إشكالية الفصحى والعامية، 2 - إشكاليات الأدب وأنواعه، 3 - إشكالية التكنولوجيا الزاحفة.
إشكالية الفصحى والعامية
علينا أن نخرج بل نتحرّر من ثنائية الفصحى/ العامية، ونذهب نحو تبنّي مبدأ «كتابةٍ» تعبّر عن عكس ما آلت إليه التجربة اللاتينية من توجّه حتمي نحو العامية. فتجربتنا الأدبية تكمن خصوصيتها في أنها تكوّنت في مسافة من العامية والفصحى، من المحكي والمكتوب. وذلك في لغة تطوّرت في جوار المحكيات والعاميات من دون الذوبان فيها، لغة احتفظت بعلاقتها بالفصحى، وشكّل استخدامها دوماً ظاهرة فنّْية صرفاً... من دون أن يعني هذا عدم الاعتبار لأدب عامي غني بالصور والخيال.
عندما نقول «الفصحى» تتبادر إلى أذهاننا مباشرة «العامية» وعلاقاتهما المتنافرة، الإلغائية والتكاملية في آن. راح بعضهم يُسقط التجربة اللاتينية على التجربة العربية. فاللغة اللاتينية أنتجت سبع لغات أخرى لسبعة شعوب مختلفة (الإيطالية، الإسبانية، البرتغالية، الرومانية، الفرنسية، الكاتالانية، والبروفانسال). وهذه اللغات كانت في الأساس لغات عامية تحوّلت فيما بعد إلى لغات رسمية.
فعلى غرار اللغة اللاتينية التي انسحبت من التداول واستقرّت لغة الليتورجيا الكاثوليكية ولغة التراث والتاريخ والنصوص القديمة، افترض بعضهم مساراً مشابهاً للغة العربية التي عليها - بالتالي - أن تنسحب من التداول وتصبح لغة الدين والتراث والتاريخ، وتفسح في المجال للعاميات أن تعتلي سدّة اللغة الرسمية للآداب والعلوم والتكنولوجيا والإعلام.
أبجدية جديدة
مناصرو هذا التوجّه، وعلى رأسهم الشاعر سعيد عقل، بنوا عمارة متكاملة للغة العامية ورسموا لها أبجدية جديدة مستوحاة من الأبجدية اللاتينية. إلاّ أن هؤلاء نسوا شيئاً مهماً، وهو أن انتشار العربية لم ينتج، على غرار ما حصل في أوربا، مجتمعات ودولاً وبالتالي لغات مستقلّة. فالفوارق بين عاميات المشرق العربي ومغربه هي فوارق «لفظية» وليست نحوية. إذاً على الصعيد الرسمي سقط مشروع استبدال اللغات العامية العربية باللغة الفصحى.
ولكن على صعيد الإعلام يبدو أن العامية، المفصّحة بشكل خاص، قد هيمنت على كل البرامج الإذاعية والتلفزيونية ما عدا نشرات الأخبار والصحافة المكتوبة. كما أن وسائل التواصل الاجتماعي قد فرضت أبجدية جديدة قريبة لما كان قد ابتدعه سعيد عقل في ستينيات القرن الماضي.
أما على الصعيد الإبداعي والبحثي، أي على صُعُد الأدب والعلوم الإنسانية وحتى العلوم الصحيحة، فبقيت الفصحى هي اللغة المعتمدة.
في مؤتمر فرانكوفوني عقد في بيروت سنة 1999 تحت عنوان «حب اللغة»، قال الأديب الفرنسي الكبير، آلان روب - غرييه، «نكتب دائماً بلغة أجنبية».. وتعميماً لهذه المقولة، يمكننا القول إن لغة الكتابة ليست بالضرورة اللغة المحكية الأم.
تبادل وإبداع
وإذا ما أخذنا اللغة الفرنسية نموذجاً، وعلى الرغم من تقارب المكتوب فيها من المحكي، فإن هناك فارقاً بين الكتابة والكلام: أي لا نكتب مثلما نحكي. فبمجرّد الانتقال إلى الكتابة نتجاوز حدود المحكي لندخل مساحة الفن والإبداع، كذلك بالنسبة إلى كل اللغات.
عندما لا يكون الفارق بين المحكي والمكتوب كبيراً، يشعر بعضهم بأننا نستخدم المستوى اللغوي نفسه. وهذا ليس صحيحاً. كذلك عندما يكون الفارق بين المحكي والمكتوب كبيراً – كما هي الحال في العربية – يعتقد بعضهم أننا بصدد استخدام لغتين، وهذا غير صحيح أيضاً، إذ نستخدم مستويين من اللغة: مستوى التبادل، ومستوى الإبداع.
في اللغة العربية يشكّل الانتقال من الحالة التبادلية إلى الحالة الإبداعية انقطاعاً واضحاً، إذ ندخل مباشرة في الحالة الإبداعية، بينما في اللغات الأخرى تظلّ هذه المحطّة ملتبسة بعض الوقت. إذاً لا بأس من المحافظة على هذا التمايز بين المحكي والفصحى في العربية، وليس ضرورياً أن يُفرض على العربية نموذجٌ حضاريٌ له خصوصيته.
إشكاليات الأدب وأنواعه
علينا أن نخرج من دوامة التراث/ الحداثة، لأن التراث يُبنى بما تنتجه الحداثة لا بتقليد الماضي، وأن نخرجَ أيضاً من دوامة الأصالة/ التبعية، إذ إن الأصالة اليوم هي أصالة مبنية على التكامل مع الآخرين والاتصال بهم، لا بالانقطاع عنهم حفاظاً على نقاوة مزعومة. فنعطي الكتابة وظيفة استكمال روح التراث المتحوّل لا شكله الثابت، جوهره الحي لا مبناه الميت.
وفي الوقت الذي كان فيه الأدب الغربي يستكمل مروحة أنواعه المختلفة في الشعر والسرد والمسرح، أفقنا مع النهضة على تراث أدبي عربي لا أنواع فيه ولا أشكال. فالكتلة الضخمة من الكتابات استُجْمعت ووُضعت في خانتين كبيرتين قوامهما الشعر والنثر، وتوزّعت على حقبات تاريخية غلب عليها طابع التصنيف التاريخي - السياسي لا الأدبي: ما قبل الإسلام (أو الجاهلية)، الإسلام، العصر الأموي، العصور العبّاسية، عصر الانحطاط، العصر المملوكي، العصر الأندلسي... إلخ.
نحن أمام مفارقة: غنى الأنواع والأشكال الأدبية في الغرب (فضلاً عن المدارس والتيارات) مقابل تراث أدبي عربي يفتقر إلى أدنى مقوّمات التصنيف. فالتصنيف المتّبع بين مدح وهجاء ورثاء وفخر، أو ذلك الذي ينطلق من رويّ واحد (سينيات، ميميات... إلخ)، هو تصنيف يرتكز على معطيات من خارج البنية الشعرية شكلاً ومعنىً، وبالتالي لا يُبيّن تكوّن بنية المعنى في عمارة شعرية. أمام مفارقة كهذه، كان لا بدّ لأدباء النهضة أن ينقسموا بين مؤيّد أعمى للتراث ومناصر بلا شروط لتجارب الغرب وإنجازاته.
تناقض ظاهري
سواء أكان بعضنا شديد الالتحام بالأشكال التراثية الموروثة (محمود سامي البارودي، حافظ إبراهيم) أم شديد الانفتاح على تجارب العالم والتأثّر بها، يبدو أن مسارنا الأدبي قد اتّخذ طريقاً مختلفاً. فبين إحياء الأشكال التراثية من ناحية، والتأثّر الصريح بالمدارس الغربية وإنجازاتها من ناحية أخرى، رسا التناقض الظاهري على تشابه عميق في صلب توجّهنا الأدبي الحديث. إذ في الحالين كان أدباؤنا يؤسّسون، بعد انقطاع دام قروناً، لمرحلة أدبية جديدة. فإذا كان منطق الإحياء الصرف للتراث قد سقط لعدم مجاراته مستلزمات المعاصرة وتخلّفه عنها، فإن المنطق الآخر، التوّاق لمسايرة العالم، والذي عرف نجاحاً جزئياً ونسبياً، قد حمل في طيّاته بذور الأزمة والمفارقة.
ففي النصف الأول من القرن العشرين، ازدهرت عندنا أشكالٌ من الرومنطيقية والرمزية والبارناسية والكلاسيكية، في حين كانت هذه المدارس والتيارات تلفظ أنفاسها في الغرب تحت ضربات الدادائية والسريالية. وقد استمرّت إزالة هذه الأشكال التقليدية الموروثة في الشعر والرواية إلغاءً للحواجز والحدود بين الأنواع المختلفة وإرساءً «للكتابة» نوعاً موحِّداً. أما المسرح، فألغيت القوانين منه وغاب الفصل بين الخشبة والصالة، بين الممثّلين والمشاهدين.
وفي خضمّ هذه العملية التأسيسية، أتت «الحداثة» مع المثلّث العراقي (السيّاب – نازك الملائكة – البيّاتي) عبر ما سمّي بالثورة الشعرية آنذاك، لتُحرز بداية محاولة انفلات من القيود. فكان العمود الشعري أول الأهداف في مسار الانعتاق من البنى الشكلية الموروثة. في هذا المسار، حيث ترافق التأسيس والإلغاء، برز بوضوح أن إشكالية الحداثة مسألة شكل، وأن بناء القصيدة العربية الجديدة بمضامينها المعاصرة يتطلّب تدميراً منهجياً للبنى التقليدية بغية ابتداع أشكالٍ جديدة. في سياق البحث عن هذه الأشكال، لا يقدّم التراث سوى إسهامات ضئيلة، لكنها معبّرة، كالتجربة الأندلسية (الموشّحات) وتجارب عصر الانحطاط، حيث وعى العرب أهمية الشكل واللغة في بناء القصيدة، إلاّ أن هذه الإسهامات لم تحظَ بالعناية المطلوبة.
قطيعة مع التراث
يظهر جلياً لكلّ متتبّع للنتاج الأدبي العربي الحديث أن هذا الأخير هو وليد قطيعة مع التراث وارتباطٍ بالتجارب العالمية. إذ هناك وريثُ الرومنطيقيين (جبران، مطران، العقّاد، المازني)، ووريث الرمزيين والبارناسيين (سعيد عقل، صلاح عبدالصبور)، ووريث السورياليين والدادائيين (شوقي أبي شقرا، أنسي الحاج)، وريث سان جون برس (أدونيس)، ووريث إليوت وبروتون (يوسف الخال، خليل حاوي).
ولا ذكر لمن يمكن اعتباره وريثَ امرئ القيس أو جرير أو أبي تمام أو المتنبّي، إلى ما هنالك من شعراء أمضينا سنوات نحفظ أبياتهم عن ظهر قلب في المدرسة ثم في الجامعة. ليس في هذا القول نقدٌ لمعاصرينا ولا انتقاص من قيمة قدامانا، بل محاولة لاستقراء واقع الأدب العربي الراهن.
على هامش مسار الشعر هذا، كانت الأنواع الأخرى تخطو خطواتها البطيئة ولكن السديدة في جو من عدم الاكتراث التام. فالرواية، التي عرفت نمواً أكيداً في خمسينيات القرن العشرين وستينياته، لم تتمكّن من فرض نفسها نوعاً أدبياً ذا قيمة إلاّ في ثمانينيات القرن الماضي. أما المسرح، فبقي متوغّلاً في الترجمات ولم يعرف من الأسماء البارزة سوى القليل القليل (سعد الله ونّوس مثلاً هو اسم نادرٌ في عالم النصّ المسرحي العربي الفصيح). ففي ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي، عرف المسرح ازدهاراً واضحاً في لبنان لينتقل من ثم إلى بلدان المغرب العربي. غير أن هذا الازدهار لم يُنتج حتى الآن النصّ المسرحي العتيد لا هنا ولا هناك، وذلك لتعارضٍ بين اللغة التي اعتمدها هذا النص والنموذج اللغوي الرسمي المعترف به، مما يعني أن النصّ المسرحي سيظّل خارج سرب الأدب.
وإذا كان الشاعر العربي اليوم هو ثمرة تأثّره بتيارات الغرب. وإذا كان الروائي يغرف تقنياته السردية من بستان الغرب. وإذا كان المسرح الطليعي يستوحي من المسرح الغربي بنية مشاهده على الخشبة... فأين موقع التراث من كل الذي يحصل؟
نظرة مجتزأة
غير أن المشكلة لا تكمن في التراث، بل في نظرتنا المجتزأة لتراث غني أُسقطت منه أجزاءٌ بالغة الأهمية والــقيمة، وأُبقيت منه كتلته الشعرية فقط. كان الشعر العربي، المفكّك شكلاً والمجمّعة أبياته في قافية واحدة، على صورة النظام السياسي - الاجتماعي، حيث الدولة مجموعة دويلات متناقضة المصالح والاتّجاهات. وهذا ما يعلّل لجوء شعرائنا لاحقاً إلى النتاج الشعري العالمي، حيث تُنظّم الصورة والفكرة والمشاعر في بوتقة تتخطّى شكلانية القافية والنظم الإيقاعي المفروض من خارج الفضاء الشعري.
إلاّ أن تراثنا لا يحمل الشعر نوعاً أدبياً فقط. فما كُتب نثراً كان أغنى بكثير شكلاً ومضموناً عمّا قيل بحراً وقافية. ولكن بسبب إسقاطه من التراث وعدم الاهتمام به بالجدية المطلوبة، أدّى بالروائيين إلى اتخاذ منحى التأثّر بالإنجازات الغربية.
فهناك تراث عربي سردي ضخم لا ينحصر في حدود ما يُذكر منه. بل حتى الذي يُذكر يُدرس سطحياً. فأعمال ابن المقفّع والجاحظ والهمذاني والحريري وغيرهم، تؤسّس لأشكال من النوع السردي لم يعرفه الغرب. إن أهمية هذه الأعمال لا تكمن فقط في مضامينها، بل في أشكالها. فابن المقفّع لم يترجم قصصاً فارسية، بل أعاد كتابتها وزاد عليها وربط الواحدة بالأخرى في حبكة سردية واحدة، مما أعطى العمل (كليلة ودمنة) بُعداً سياسياً ليس موجوداً في أمثال لافونتين. أما أهمية «البخلاء» و«المقامات»، فتكمن في هذا العقل التفصيلي الذي امتاز به كلٌّ من الجاحظ والهمذاني والحريري؛ الذين جعلوا من كلّ حالة قصّة.
وإذا زدنا إلى هذه الأعمال المجموعات الكبيرة من السّيَر الشعبية الملفوظة من التراث بسبب لغتها، لتكوّن لدينا تراثٌ خيالي وشعبي من أغنى تراث العالم. فالغرب اليوم منكبٌ منذ زمن على دراسة الأشكال السردية وهندستها في «ألف ليلة وليلة» وعديد من السير العربية الأخرى كـ (سيرة «الملك الظاهر بيبرس»)، وتؤكّد الدراسات أن هذه السّيَر تملك من التقنيات السردية ما لم يُستعمل بعد في الروايات الغربية ذات البنى المعقّدة.
إشكالية التكنولوجيا الزاحفة
عرفت الإنسانية منذ الربع الأخير من القرن الماضي تغيّرات بالغة الأهمية طاولت أسس الحياة والاجتماع. فتطوّر التكنولوجيا الهائل أتى بتحوّلات لم تخطر ببال أحد ممّن عايشوا مرحلة ما قبل الثورة التكنولوجية. إذ بات من الممكن الإمساك بدورة الكرة الأرضية، واقتحام أقصى نقطة من نقاطها ببضعة أقمار اصطناعية تربط أطرافها المتباعدة. فألغيت المسافات، وصارت الأرض «قرية كونية» تزداد صغراً في حين أن الفضاء الكوني يزداد توسّعاً إلى ما لا نهاية. غير أنه بقدر ما تمكّن الإنسان من السيطرة على المسافات وتقليص مداها، بالقدر نفسه تفلّت منه الزمن.
يقول بعضهم إن الثورة التكنولوجية قد وحّدت العالم. ولكن هذا التوحيد الذي نعيشه افتراضياً، عبر الصور والأقمار الاصطناعية، بدلاً من أن يدفع إلى تبلور وعي كوني مع كل ما يدّعيه هذا الوعي من معرفة للآخر وتضامن معه وقبول للاختلاف، إذا به ينتهي إلى غلبة التفكّك وانفراط العقد وتباعد الناس بعضهم عن بعض.
فهذه القرية ليست «كونية» في شيء، إذ تحتضن في الوقت نفسه عناصر التوحيد الوهمي المفتعل من ناحية وعناصر التفكّك المطّرد من ناحية أخرى. فالعالم يتفكّك بالمقدار نفسه الذي يتوحّد فيه، وبقدر ما يتجانس فهو «يتبلقن».
فقد باتت التغيّرات سريعة وعنيفة إلى حدّ أن لا شيء يصمد أمامها. انهارت الشيوعية وتصدّع الاتحاد السوفييتي، وتراجع مفهوم «الدولة القومية» وحلّت مكانها الإثنيات والطوائف والقبائل، وخرج العالم الثالث مجدّداً من تاريخ عجز الدخول إليه طوال قرن، واستقرّ الغرب متماسكاً - أو هكذا يظهر - فارضاً نموذجه الأوحد في الثقافة كما في الأخلاق، في الاجتماع كما في الاقتصاد الذي عاد إلى وحشيته السابقة.
مستقبل الأدب
في هذا المشهد المتلبّد نسأل الأدب عن مستقبله! وهل بقي للأدب – كما اعتدنا على تصوّره – مكانٌ أو دورٌ يؤدّيه كي يُسأل عن مصيره؟ هل ما زال الأدب ينفع لشيء؟
في الماضي، كان للأدب والثقافة بعامة دور قول الحقيقة وخدمتها. أما زال الأدب والثقافة يملكان الفعالية المرجوة لقول الحقيقة؟!
في كلّ الأحوال، يتوجّه الأدب إلى الذين يقرأون. ولكن هذا الصنف من البشر آخذ بالتضاؤل منذ مدّة، إذ تحوّلت الأكثرية إلى الوسائل السمعية - البصرية ولم يعد المثقّف أو الأديب مالكاً لوسائل إيصال أفكاره إلى الناس، لأن الأجهزة الثقافية، من إذاعات وقنوات تلفزيون ومجلات، فضلاً عن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، انتقلت إلى سلطة القوى المالية والاقتصادية المتحكّمة بها، وصار المثقّف - على حدّ قول ريجيس دوبري - كائناً منقرضاً لا يصلح إلّا للإقامة في «متحف للإنتلجنسيا».
في هذا الجو المفعم بالتكنولوجيا لم يعد للكلمة والكتابة دور يذكر. لغة الإنترنت والرسائل الإلكترونية أنهت الكتابة وقواعدها، وفرضت أبجدية هجينة مكوّنة من أحرف وأرقام. وشبكات الاتصال (فيسبوك، تويتر، إنستغرام) أنهت دور الكتابة كفنّ، إلاّ عند قلّة حاولت نقل لذّة الكتابة إلى «فيسبوك». أما «تويتر» فقد حوّل الكتابة إلى تغريدة تفرض عدداً قليلاً من الكلمات. والإنستغرام اكتفى بالصور والفيديوهات مستبعداً الكلام. الإيجاز هنا لم يعد فنًّا بلاغياً، بل مدخل لقتل الفقرة والفصل... فالكتاب.
إذاً كيف ندخل هذا العالم الموصدة أبوابه أمامنا؟
كيف نعيش في عالم لم يعد يتحمّل الإطالة في الوصف والتحليل والتعبير عن المشاعر ودراسة المجتمعات والنفسيات؟
إننا من دون شك، نتّجه نحو مجتمع أبكم، قليل الكلام وكثير العنف! ■