صورة ابن رشد في الفكر الغربي المعاصر

صورة ابن رشد  في الفكر الغربي المعاصر

يظفر‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬بعناية‭ ‬لافتة‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬الفلسفية‭ ‬المغربية‭ ‬المعاصرة،‭ ‬فهو‭ ‬دائم‭ ‬الحضور‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدراسات‭ ‬منذ‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬وقتنا‭ ‬الراهن‭. ‬وقد‭ ‬بلغ‭ ‬الاهتمام‭ ‬المغربي‭ ‬بابن‭ ‬رشد‭ ‬أقصاه‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬‮«‬ندوة‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬ومدرسته‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬الإسلامي‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1978‭. ‬التي‭ ‬شارك‭ ‬فيها‭ ‬باحثون‭ ‬مغاربة‭ ‬من‭ ‬اتجاهات‭ ‬ونزعات‭ ‬فكرية‭ ‬مختلفة،‭ ‬مثل‭ ‬محمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري‭ ‬وطه‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬وعلي‭ ‬أومليل‭ ‬ومحمد‭ ‬المصباحي‭ ‬وسواهم‭.‬

في‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬نعرض‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬وعنوانه‭ ‬‮«‬صورة‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬المغربي‭ ‬المعاصر‮»‬‭ ‬للباحث‭ ‬المغربي‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالنبي‭ ‬الحري‭ (‬المركز‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬والدار‭ ‬البيضاء‭)‬،‭ ‬نجد‭ ‬صدى‭ ‬لهذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬الذي‭ ‬يستحقه‭ - ‬بلا‭ ‬شك‭ - ‬الفيلسوف‭ ‬الأندلسي‭ ‬الخالد،‭ ‬كما‭ ‬نجد‭ ‬اختلافات‭ ‬واسعة‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬الرشدية‭ ‬المغربية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬ترسم‭ ‬صورة‭ ‬موحّدة‭ ‬منسجمة‭ ‬لفيلسوف‭ ‬قرطبة،‭ ‬ولكنها‭ ‬رسمت‭ ‬له‭ ‬صوراً‭ ‬مختلفة‭ ‬ومتنوعة،‭ ‬بل‭ ‬متناقضة‭ ‬ومتضاربة‭. ‬ففي‭ ‬‮«‬ندوة‭ ‬ابن‭ ‬رشد‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أشرنا‭ ‬إليها،‭ ‬بلغت‭ ‬نزعة‭ ‬تمجيد‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬أوجها‭ ‬عند‭ ‬محمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري،‭ ‬الذي‭ ‬دافع‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أبحاثه‭ ‬عن‭ ‬أطروحة‭ ‬مركزية،‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الرشدية‮»‬‭ ‬شكّلت‭ ‬قطيعة‭ ‬إبستمولوجية‭ ‬مع‭ ‬الفلسفة‭ ‬الإسلامية‭ ‬المشرقية،‭ ‬السينوية‭ ‬والفارابية،‭ ‬على‭ ‬المستويات‭ ‬كافة،‭ ‬المنهجية‭ ‬والمفاهيمية‭ ‬والإشكالية،‭ ‬ما‭ ‬يجعلها،‭ ‬أي‭ ‬الرشدية،‭ ‬مفتاحاً‭ ‬لتحرّرنا‭ ‬وتقدمنا،‭ ‬الفكري‭ ‬والعلمي‭ ‬والسياسي،‭ ‬نظراً‭ ‬لما‭ ‬تميزت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬روح‭ ‬إصلاحية‭ ‬وتجديدية‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الحكمة‭ ‬وعلى‭ ‬مستوى‭ ‬الشريعة،‭ ‬لأن‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬أعاد‭ ‬ترتيب‭ ‬علاقة‭ ‬الحكمة‭ ‬بالشريعة،‭ ‬كما‭ ‬كشف‭ ‬‮«‬مناهج‭ ‬الأدلة‭ ‬في‭ ‬عقائد‭ ‬الملة‮»‬،‭ ‬ووضع‭ ‬قواعد‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬بداية‭ ‬المجتهد‭ ‬ونهاية‭ ‬المقتصد‮»‬،‭ ‬وبيّن‭ ‬تهافت‭ ‬الخطاب‭ ‬المناوئ‭ ‬للفلسفة،‭ ‬كم‭ ‬لم‭ ‬يفته‭ ‬تسطير‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ضروري‭ ‬في‭ ‬العلم‭ ‬المدني‭.‬

ويبدو‭ ‬أن‭ ‬الجابري‭ ‬ندب‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬لاجتراح‭ ‬كل‭ ‬المعجزات‭ ‬وفكّ‭ ‬جميع‭ ‬ألغاز‭ ‬واقعنا‭ ‬الفكرية‭ ‬والدينية‭ ‬والسياسية‭. ‬فقد‭ ‬بلغ‭ ‬الأمر‭ ‬بصاحب‭ ‬‮«‬نحن‭ ‬والتراث‮»‬‭ ‬حدّ‭ ‬اعتبار‭ ‬‮«‬أن‭ ‬بإمكان‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬أن‭ ‬ينوب‭ ‬عنا‭ ‬في‭ ‬نقد‭ ‬واقعنا‭ ‬السياسي‭ ‬المعاصر،‭ ‬بل‭ ‬وبإمكانه‭ ‬أن‭ ‬يلهمنا‭ ‬الحلول‭ ‬الملائمة‭ ‬لتحقيق‭ ‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي‭ ‬المطلوب‮»‬‭!‬

ولكن‭ ‬أطروحات‭ ‬الجابري‭ ‬حول‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬تعرّضت‭ ‬لانتقادات‭ ‬تباينت‭ ‬درجة‭ ‬حدّتها‭ ‬من‭ ‬مفكر‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭. ‬فعلي‭ ‬أومليل‭ ‬رفض‭ ‬بقوة‭ ‬القول‭ ‬بتحقيق‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬لقطيعة‭ ‬إبستمولوجية‭ ‬مع‭ ‬الفلسفة‭ ‬المشرقية‭ ‬السينيوية‭ ‬والفارابية،‭ ‬مادام‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬بقي‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬فلك‭ ‬الخطاب‭ ‬الإسلامي‭ ‬التقليدي،‭ ‬ولم‭ ‬يتجاوزه‭ ‬أو‭ ‬يحقق‭ ‬أي‭ ‬قطيعة‭ ‬معه‭. ‬وحجته‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬المفاهيم‭ ‬التي‭ ‬ارتكز‭ ‬عليها‭ ‬خطابه‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬القاموس‭ ‬التقليدي،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الأصل‮»‬‭ ‬و«البدعة‮»‬‭ ‬و«الأمة‮»‬‭ ‬و«التأويل‮»‬‭ ‬و«الاجتهاد‮»‬،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬التقليدية،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يُدخل‭ ‬عليها‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬إلا‭ ‬بعض‭ ‬التعديلات‭ ‬الطفيفة‭. ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬بقي‭ ‬تقليدياً‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬الموضوعات‭ ‬التي‭ ‬اشتغل‭ ‬عليها‭ ‬والتي‭ ‬لم‭ ‬تخرج‭ ‬عن‭ ‬اهتمامات‭ ‬سائر‭ ‬الفلاسفة‭ ‬المسلمين‭ ‬مثل‭ ‬الله،‭ ‬والعالم،‭ ‬والزمان،‭ ‬والنفس‭ ‬وسواها‭.‬

وسيصل‭ ‬النقد‭ ‬الجذري‭ ‬لأطروحات‭ ‬الجابري‭ ‬أقصاه‭ ‬عند‭ ‬باحث‭ ‬آخر‭ ‬هو‭ ‬طه‭ ‬عبدالرحمن،‭ ‬الذي‭ ‬وضع‭ ‬تصوّرات‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬والجابري‭ ‬في‭ ‬خانة‭ ‬واحدة‭ ‬سلّط‭ ‬عليها‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬استطاع‭ ‬إليه‭ ‬سبيلاً‭ ‬من‭ ‬معاول‭ ‬الهدم‭ ‬ووسائل‭ ‬التفويض،‭ ‬بلغت‭ ‬درجة‭ ‬الخروج‭ ‬عن‭ ‬قواعد‭ ‬الصناعة‭ ‬الفلسفية‭ ‬واللجوء‭ ‬إلى‭ ‬منطق‭ ‬الاتهام‭ ‬والتكفير‭!‬

وقد‭ ‬ذكر‭ ‬طه‭ ‬عبدالرحمن‭: ‬‮«‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أنظر‭ ‬هل‭ ‬يستحق‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الضجة؟‭ ‬وحسبي‭ ‬أنه‭ ‬مقلّد،‭ ‬والمقلد‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعوِّل‭ ‬عليه‭ ‬مَن‭ ‬يطمح‭ ‬إلى‭ ‬تجديد‭ ‬الفكر‭ ‬الفلسفي‭ ‬الإسلامي‭ ‬العربي‮»‬‭. ‬وأضاف‭ ‬متحدثاً‭ ‬عن‭ ‬منهجه‭ ‬في‭ ‬تقويم‭ ‬التراث‭: ‬لقد‭ ‬نحونا‭ ‬في‭ ‬تقويم‭ ‬التراث‭ ‬منحى‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬ولا‭ ‬مألوف؛‭ ‬فهو‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬لأننا‭ ‬نقول‭ ‬بالنظرة‭ ‬التكاملية،‭ ‬حيث‭ ‬يقول‭ ‬غيرنا‭ ‬بالنظرة‭ ‬التفاضلية‭. ‬وهو‭ ‬غير‭ ‬مألوف‭ ‬لأننا‭ ‬توسلنا‭ ‬فيه‭ ‬بأدوات‭ ‬‮«‬مأصولة‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬توصل‭ ‬غيرنا‭ ‬بأدوات‭ ‬‮«‬منقولة‮»‬‭!‬

أما‭ ‬لماذا‭ ‬انقطعت‭ ‬الرشدية‭ ‬عن‭ ‬فضائها‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي،‭ ‬فيرجع‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬طه‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬‮«‬لم‭ ‬يكتب‭ ‬حرفاً‭ ‬واحداً‭ ‬لنا،‭ ‬بل‭ ‬كتب‭ ‬لغيرنا‭ ‬بلغتنا‮»‬‭ ‬أي‭ ‬إن‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬كتب‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬للأوربيين‭ ‬ولكن‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭!‬

هذا‭ ‬النقاش‭ ‬وما‭ ‬أفرزه‭ ‬من‭ ‬تنافس‭ ‬فكري‭ ‬بين‭ ‬الباحثين‭ ‬المغاربة‭ ‬لم‭ ‬ينتهِ‭ ‬بانتهاء‭ ‬ندوة‭ ‬1978‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبارها‭ ‬‮«‬بياناً‭ ‬مغربياً‮»‬‭ ‬للعودة‭ ‬إلى‭ ‬ابن‭ ‬رشد،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬مقدمة‭ ‬لبحوث‭ ‬ودراسات‭ ‬لاحقة‭ ‬ستُغني‭ ‬البحث‭ ‬الفلسفي‭ ‬المغربي‭ ‬والعربي‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الباحث‭ ‬المغربي‭ ‬عبدالله‭ ‬العروي‭ ‬لم‭ ‬يخصّص‭ ‬دراسة‭ ‬مستقلة‭ ‬لابن‭ ‬رشد،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬زملائه‭ ‬المغاربة،‭ ‬فقد‭ ‬أورد‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬مفهوم‭ ‬التاريخ‮»‬‭ ‬رأياً‭ ‬حول‭ ‬ابن‭ ‬رشد،‭ ‬إذ‭ ‬اعتبره‭ ‬‮«‬دعامة‭ ‬من‭ ‬دعائم‭ ‬الفكر‭ ‬الكوني‭ ‬الإنساني‮»‬‭. ‬كما‭ ‬قال‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الآخر‭ ‬‮«‬مفهوم‭ ‬العقل‮»‬‭: ‬‮«‬إن‭ ‬فكر‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬ما‭ ‬وصلت‭ ‬إليه‭ ‬البشرية‭ ‬المفكرة‭ ‬آنذاك‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬المحيطة‭ ‬به،‭ ‬والتي‭ ‬لاتزال‭ ‬تحيط‭ ‬بنا‭. ‬فلم‭ ‬يذهب‭ ‬أحد‭ ‬أبعد‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬سبر‭ ‬المعضلات‭ ‬التي‭ ‬تطرّق‭ ‬إليها،‭ ‬ولهذا‭ ‬انجذب‭ ‬إليه‭ ‬كبار‭ ‬اليهود‭ ‬والنصارى‭. ‬إن‭ ‬المادة‭ ‬التي‭ ‬اعتمدها‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬كانت‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬متاحاً‭ ‬للبشرية‭ ‬في‭ ‬عهده‭. ‬وهذه‭ ‬قضية‭ ‬موضوعية‭ ‬غير‭ ‬متعلقة‭ ‬بشخص‭ ‬ابن‭ ‬رشد،‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬فيها‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬استعداداته‭ ‬الذاتية،‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬اطلاعه‭ ‬الفعلي‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬قبل‭ ‬وفي‭ ‬أثناء‭ ‬حياته‭. ‬نرى‭ ‬اليوم،‭ ‬نحن‭ ‬القرّاء،‭ ‬أنه‭ ‬فكّر‭ ‬فعلاً‭ ‬في‭ ‬نطاق‭ ‬المتاح‭ ‬للبشرية‭ ‬جمعاء‮»‬‭.‬

ولكن‭ ‬العروي‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬طرحها‭ ‬عصر‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬عليه‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬أسئلة‭ ‬عصرنا‭. ‬ولذلك‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬للدعوات‭ ‬المختلفة‭ ‬الداعية‭ ‬إلى‭ ‬استلهام‭ ‬فكره‭ ‬لمواجهة‭ ‬ما‭ ‬يواجهه‭ ‬المفكر‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ ‬من‭ ‬تحديات‭ ‬فكرية‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬تناول‭ ‬بالدراسة‭ ‬والتحليل‭ ‬القراءة‭ ‬السلفية‭ ‬لفيلسوف‭ ‬قرطبة‭ ‬عند‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭. ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬قد‭ ‬نطق‭ ‬‮«‬بما‭ ‬نطق‭ ‬به‭ ‬ابن‭ ‬رشد‮»‬،‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يواجه‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬العروي‭ ‬‮«‬خصوم‭ ‬ابن‭ ‬رشد،‭ ‬بل‭ ‬يواجه‭ ‬خصوماً‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬جديد،‭ ‬نصارى‭ ‬ويهوداً‭ ‬ودهريين‭ ‬مرّوا‭ ‬بتجارب‭ ‬متعددة‭ ‬وأوّلوا‭ ‬ما‭ ‬لديهم‭ ‬من‭ ‬نصوص‭ ‬تأويلات‭ ‬لا‭ ‬تكاد‭ ‬تشبه‭ ‬في‭ ‬شيء‭ ‬التأويلات‭ ‬القديمة‮»‬‭. ‬هنا‭ ‬يقف‭ ‬العروي‭ ‬ليتساءل‭: ‬‮«‬مع‭ ‬مَن‭ ‬يكون‭ ‬الكلام؟‭ ‬مع‭ ‬الأحياء‭ ‬أم‭ ‬مع‭ ‬الأموات؟‭ ‬قد‭ ‬تبدو‭ ‬المسألة‭ ‬واحدة،‭ ‬فيتبادر‭ ‬إلى‭ ‬الذهن‭ ‬أن‭ ‬الجواب‭ ‬القديم‭ ‬كافٍ‭ ‬لحلّها،‭ ‬ظنّاً‭ ‬أنها‭ ‬مازالت‭ ‬تطرح‭ ‬في‭ ‬الإطار‭ ‬ذاته‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬قد‭ ‬تغيّر‭ ‬فأصبحت‭ ‬المسألة‭ ‬تشير‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬إلى‭ ‬تجربة‭ ‬جديدة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تتطلّب‭ ‬جواباً‭ ‬يختلف‭ ‬تماماً‭ ‬عن‭ ‬القديم‮»‬‭.‬

هكذا‭ ‬يستنتج‭ ‬العروي‭ ‬محدودية‭ ‬الفكر‭ ‬الرشدي،‭ ‬ومحدودية‭ ‬كل‭ ‬فكر‭ ‬معاصر‭ ‬‮«‬سلفي‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬حداثي‮»‬،‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬ضرورات‭ ‬العقل‮»‬‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬التجربة‭ ‬الذاتية‮»‬،‭ ‬وهذه‭ ‬بالضبط‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تغيّرت‭ ‬في‭ ‬القرون‭ ‬الأخيرة،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬يبدو‭ ‬بديهياً‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬الحاضر‭ ‬فيكون‭ ‬قد‭ ‬فقد‭ ‬كل‭ ‬قوة‭ ‬إقناعية‭.‬

يتبين‭ ‬مما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬العروي‭ ‬يتفق‭ ‬تمام‭ ‬الاتفاق‭ ‬مع‭ ‬علي‭ ‬أومليل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬حوار‭ ‬مع‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تجاوز‭ ‬فكره‭ ‬والقطيعة‭ ‬مع‭ ‬فلسفته،‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬المحاولات‭ ‬التي‭ ‬ترمي‭ ‬إلى‭ ‬توظيف‭ ‬التراث‭ ‬في‭ ‬قضايانا‭ ‬الفكرية‭ ‬الراهنة‭ ‬ستقدم‭ ‬إجابات‭ ‬زائفة‭ ‬لمشاكلنا‭ ‬الحقيقية،‭ ‬وستحكم‭ ‬علينا‭ ‬بالانحباس‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬الفكر‭ ‬التقليدي‭ ‬الذي‭ ‬يتناقض‭ ‬كلياً‭ ‬مع‭ ‬الفكر‭ ‬الحديث‭. ‬وبالتالي‭ ‬فكل‭ ‬محاولة‭ ‬عربية‭ ‬للحاق‭ ‬بركب‭ ‬الحداثة‭ ‬لابد‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تقطع‭ ‬كلياً‭ ‬مع‭ ‬الفكر‭ ‬التراثي،‭ ‬غزالياً‭ ‬كان‭ ‬أو‭ ‬رشدياً‭.‬

ويتبين‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬كتاب‭ ‬الباحث‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالنبي‭ ‬الحري،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬أطروحة‭ ‬لنيل‭ ‬الدكتوراه‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬محمد‭ ‬الخامس‭ ‬بالرباط،‭ ‬أن‭ ‬أروقة‭ ‬الفكر‭ ‬المغربي‭ ‬المعاصر‭ ‬قد‭ ‬عرفت‭ ‬نقاشاً‭ ‬مثيراً‭ ‬بين‭ ‬نزعة‭ ‬الانتصار‭ ‬لابن‭ ‬رشد‭ ‬وفلسفته،‭ ‬ونزعة‭ ‬الانتصار‭ ‬على‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬والرشدية،‭ ‬ولكنه‭ ‬نقاش‭ ‬لم‭ ‬يتقيد‭ ‬في‭ ‬غالب‭ ‬الأحيان‭ ‬بقواعد‭ ‬الصناعة‭ ‬الفلسفية،‭ ‬نظراً‭ ‬للهواجس‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬التي‭ ‬تحكمت‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬مراحله‭ ‬وفصوله‭.‬

وحاول‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬المغاربة‭ ‬تجاوز‭ ‬المقاربات‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتهم‭ ‬محمد‭ ‬المصباحي،‭ ‬الذي‭ ‬سلك‭ ‬منهجاً‭ ‬علمياً‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬الاستنطاق‭ ‬الفلسفي‭ ‬للنصوص‭ ‬الرشدية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬‮«‬قراءة‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬بابن‭ ‬رشد‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬ابن‭ ‬رشد‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬سمّي‭ ‬هذا‭ ‬المنهج‭ ‬بـ«الدلالي‭ ‬الإشكالي‮»‬،‭  ‬لتقريب‭ ‬الفلسفة‭ ‬الرشدية،‭ ‬وبخاصة‭ ‬جانبها‭ ‬المتعلق‭ ‬بشروحاته‭ ‬الأرسطية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الدراسات‭ ‬المغربية‭ ‬قد‭ ‬طرقت‭ ‬بابها‭ ‬بعد‭. ‬وبفضل‭ ‬هذا‭ ‬المنهج‭ ‬وقف‭ ‬المصباحي‭ ‬موقفاً‭ ‬فلسفياً‭ ‬وسطاً‭ ‬من‭ ‬الحكمة‭ ‬الرشدية،‭ ‬حيث‭ ‬نظر‭ ‬إليها‭ ‬كأرض‭ ‬للمصالحة‭ ‬بين‭ ‬الجدل‭ ‬والبرهان،‭ ‬وكفضاء‭ ‬للمشترك‭ ‬الإنساني‭ ‬نظراً‭ ‬لما‭ ‬جسّده‭ ‬الفكر‭ ‬الرشدي‭ ‬من‭ ‬جسر‭ ‬للتلاقي‭ ‬والحوار‭ ‬بين‭ ‬مختلف‭ ‬الحضارات،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يفيدنا‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬كل‭ ‬مقولات‭ ‬الصراع‭ ‬الحضاري‭ ‬وأيديولوجيات‭ ‬النبذ‭ ‬والإقصاء‭ ‬التي‭ ‬ترفع‭ ‬أصواتها‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬قارات‭ ‬عالمنا‭ ‬المعاصر‭, ‬داعية‭ ‬لمختلف‭ ‬أشكال‭ ‬العنصرية‭ ‬والعنف‭.‬

أمران‭ ‬جوهريان‭ ‬يتصلان‭ ‬بابن‭ ‬رشد‭ ‬يأخذان‭ ‬حيّزاً‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬الباحث‭ ‬المغربي،‭ ‬أولهما‭ ‬سبب‭ ‬انحسار‭ ‬فكره‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬الإسلامي‭ ‬مباشرة‭ ‬بعد‭ ‬وفاته،‭ ‬وثانيهما‭ ‬سؤال‭ ‬يتعلق‭ ‬بإحياء‭ ‬الرشدية،‭ ‬فهل‭ ‬من‭ ‬سبيل‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الإحياء؟

عبدالنبي‭ ‬الحري‭ ‬يلاحظ‭ ‬أن‭ ‬قدر‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬هو‭ ‬انحسار‭ ‬فكره‭ ‬مباشرة‭ ‬بعد‭ ‬وفاته،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬أقرب‭  ‬تلامذته‭ ‬إليه،‭ ‬وهو‭ ‬ابن‭ ‬طملوس،‭ ‬لم‭ ‬يتردّد‭ ‬في‭ ‬رفض‭ ‬فلسفته‭ ‬والتنكّر‭ ‬لها‭. ‬فما‭ ‬هي‭ ‬يا‭ ‬ترى‭ ‬العوامل‭ ‬التي‭ ‬لعبت‭ ‬دورها‭ ‬في‭ ‬موت‭ ‬الفلسفة‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬الإسلامي‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬توفرها‭ ‬على‭ ‬مُدافع‭ ‬قوي‭ ‬كابن‭ ‬رشد،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬استمرت‭ ‬في‭ ‬المشرق‭ ‬الإسلامي‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬مهاجمة‭ ‬الغزالي‭ ‬لها؟‭ ‬وهل‭ ‬يحق‭ ‬لنا‭ ‬اختزالها‭ ‬في‭ ‬عامل‭ ‬واحد‭ ‬هو‭ ‬عامل‭ ‬المحنة‭ ‬التي‭ ‬تعرّض‭ ‬لها‭ ‬فيلسوف‭ ‬قرطبة‭ ‬ومراكش؟

هناك‭ ‬مَن‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬لم‭ ‬يوجه‭ ‬خطابه‭ ‬الفلسفي‭ ‬إلى‭ ‬المسلمين‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬الأوربيين‭ ‬الذين‭ ‬أقبلوا‭ ‬بعد‭ ‬غيابه‭ ‬بقليل‭ ‬على‭ ‬فلسفته‭ ‬وانبهروا‭ ‬بها‭ ‬أيما‭ ‬انبهار،‭ ‬وانتفعوا‭ ‬بها‭ ‬ودرّسوها‭ ‬في‭ ‬جامعاتهم‭ ‬حوالي‭ ‬مائتي‭ ‬سنة‭. ‬وهناك‭ ‬مَن‭ ‬يرى‭ ‬أنه‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬وجاهة‭ ‬هذا‭ ‬التفسير،‭ ‬فإنه‭ ‬يتعين‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬جوانب‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الضعف‭ ‬والنقص‭ ‬في‭ ‬المنهج‭ ‬الرشدي،‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬خصوم‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬ومعاصروه‭ ‬اكتشفوا‭ ‬أبعادها‭ ‬اللاعقلية،‭ ‬واستغلّوها‭ ‬في‭ ‬اتهامهم‭ ‬له‭ ‬ورفضهم‭ ‬لمشروعه‭ ‬الفكري‭. ‬

ويورد‭ ‬الكتاب‭ ‬رأياً‭ ‬للباحث‭ ‬الفرنسي‭ ‬دومينيك‭ ‬أورفوا،‭ ‬فهو‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أسباب‭ ‬غياب‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬ما‭ ‬يرتبط‭ ‬بالتشويه‭ ‬الذي‭ ‬تعرض‭ ‬له‭ ‬بسبب‭ ‬إعجابه‭ ‬بأرسطو‭ ‬طاليس،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬موقفه‭ ‬من‭ ‬العامة‭ ‬يُعدّ‭ ‬أحد‭ ‬العوامل‭ ‬التي‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬انحسار‭ ‬فكره‭.‬

أما‭ ‬‮«‬إحياء‭ ‬الرشدية‮»‬‭ ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتحقّق‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬محمد‭ ‬المصباحي‭ ‬إلا‭ ‬بتعدّد‭ ‬وتنوّع‭ ‬محبي‭ ‬ابن‭ ‬رشد،‭ ‬ولكن‭ ‬أيضاً‭ ‬بتعدّد‭ ‬وتنوّع‭ ‬منتقديه،‭ ‬وبالإيمان‭ ‬بأن‭ ‬كل‭ ‬قراءة‭ ‬له‭ ‬هي‭ ‬قراءة‭ ‬مشروعة‭ ‬بشرط‭ ‬أن‭ ‬تلتزم‭ ‬بالحدّ‭ ‬الأدنى‭ ‬من‭ ‬قواعد‭ ‬الصناعة‭ ‬الفلسفية‭.‬

يقدّم‭ ‬الكتاب‭ ‬صورة‭ ‬وافية‭ ‬لابن‭ ‬رشد‭ ‬‮«‬المغربي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يُنعت‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬فيلسوف‭ ‬قرطبة‮»‬‭ ‬و«فيلسوف‭ ‬مراكش‮»‬‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬عينه،‭ ‬ومراكش‭ ‬هي‭ ‬المدينة‭ ‬المغربية‭ ‬التي‭ ‬أُبعد‭ ‬إليها‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬ومات‭ ‬فيها،‭ ‬ومنها‭ ‬نقلوا‭ ‬رفاته‭ ‬إلى‭ ‬قرطبة‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬ولكن‭ ‬لتنتقل‭ ‬فلسفته‭ ‬لاحقاً‭ ‬إلى‭ ‬أوربا‭ ‬العصر‭ ‬الوسيط،‭ ‬ولتشكّل‭ ‬لبنة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬وفي‭ ‬بناء‭ ‬الحضارة‭ ‬الإنسانية‭ ‬المعاصرة‭ .