تأثير الإسلام في أوربا العصور الوسطى
صدر حديثاً (2016م) عن «جسور للترجمة والنشر» في بيروت كتاب «تأثير الإسلام في أوربا العصور الوسطى» للمستشرق الإنجليزي الشهير مونتجمري واط Montgomery Watt، وقد عمل واط راعياً لكنائس عدة في لندن وأدنبرة، كما عمل رئيساً لقسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بجامعة أدنبرة في الفترة من 1947-1979. نال درجة الأستاذية عام 1964م، ثم دعي للعمل أستاذاً زائراً في كل من الجامعات الآتية: جامعة تورنتو (1963و1978) وكلية فرنسا في باريس (1970)، وجامعة جورج تاون بواشنطن عام (1978-1979م).
اعترف واط في كتابه هذا بفضل العرب والإسلام على أوربا، وأكد أن مساهمات المسلمين في أوربا العصور الوسطى كانت متعددة، وأثرت على مجالات مختلفة كالفن والعمارة والطب والصيدلة والزراعة والموسيقى واللغة والتكنولوجيا. من القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر، نهلت أوربا المعرفة من الحضارة الإسلامية، عن طريق نقل الكلاسيكيات وبالأخص أعمال الفيلسوف الإغريقي أرسطو، بعد ترجمتها من العربية.
وقد فنّد واط في كتابه أسباب نظرة بعض مسيحيي أوربا العصور الوسطى العدائية إلى الإسلام، وبحث في تأثير علوم المسلمين في مجملها في أوربا، معترفاً بأهمية ما قدمته هذه العلوم لها.
ويعترف واط بأنه «بسبب وقوف أوربا ضد الإسلام، قلّلت من شأن التأثير الإسلامي، وبالغت في اعتمادها على تراث الإغريق والرومان. ولذلك، مهمتنا نحن أوربيي اليوم - حيث إننا ننتقل إلى عصر العالم الواحد - تصحيح الاعتقادات الخاطئة، والاعتراف بفضل العالمين العربي والإسلامي».
ويرى أنه على الرغم من محاولات الحطّ من شأن الحضارة الإسلامية، فإنه لا يمكن تجاهل حقيقة أن الإسلام أنتج حضارة متميزة وأصيلة استفادت من بعض العلوم في الحضارات المختلفة، وراكمت عليها، ثم كانت أساساً في تشكيل عصر النهضة في أوربا.
إن هذا الكتاب القيم يبحث في تأثير الإسلام في أوربا في العصور الوسطى، بدءاً من التوسع الإسلامي فيها والسمات المميزة لتأثير العرب، مروراً بالعلاقات التجارية والتقنية التي كانت تربط بين العالمين العربي والأوربي، وصولاً إلى إنجازات العرب في مجالات متنوعة.
والعنوان الأصلي للكتاب هو: The Influence Of Islam On Medieval Europe، ويمثل الكتاب دراسة معمقة لفضل الإسلام على الغرب. وتندرج الدراسة في إطار المباحث التي تهتم بالحضارة الإسلامية في فقهها وتاريخها، ويفتح الباحث زاوية نظر جديدة تنظر في تأثير الإسلام في المتخيل الجمعي الغربي.
جاء هيكل الكتاب مقسماً إلى ستة فصول؛ تناول الفصل الأول «الوجود الإسلامي في أوربا»، وتعرض واط إلى دوافع التوسع العربي ثم ناقش السمات المميزة لتأثير العرب على أوربا ورد الفعل الأوربي على الوجود الإسلامي هناك.
وتناول أيضاً الفتح الإسلامي لإسبانيا، وصقلية وإيطاليا، فبالنسبة إلى إسبانيا، فعلى مدى ما يقرب من سبعمائة سنة فيما بين القرنين الثامن والخامس عشر الميلاديين كانت إسبانيا موطن الحضارة الإسلامية. وقد نشرت الأندلس هذه الحضارة في جميع أرجاء أوربا، وذلك عن طريق التجارة والجامعات والأدب، وكان كثير من العلماء العرب في إسبانيا يقرأون اللاتينية ويكتبونها، كما كان الإسبان المسيحيون أو المستعربون الذين يعيشون تحت الحكم العربي للأندلس يعرفون العربية.
وامتازت حضارة العرب في الأندلس بميلها الشديد إلى العناية بالآداب والعلوم والفنون، فأنشأوا المدارس والمكتبات في كل ناحية وترجموا الكتب المختلفة، ودرسوا العلوم الرياضية والفلكية والطبيعية والكيميائية والطبية بنجاح ولم يكن نشاطهم في الصناعة والتجارة أقل من ذلك، فكانوا يصدرون منتجات المناجم ومعامل الأسلحة، ومصانع النسائج، والجلود والسكر، وبرعوا في الزراعة براعتهم في العلوم والصناعات، ولا يوجد في الأندلس من أعمال الري خلا ما أتمه العرب، وأدخلوا إلى حقول الأندلس زراعة قصب السكر والأرز والقطن والموز.
وكان المسيحيون الإسبان الذين هاجروا إلى كثير من بلاد أوربا قد أشادوا بالعرب وشرائعهم، وحضارتهم، وثقافتهم، وبالعمران الذي عم البلاد الإسبانية على أيديهم؛ فنشروا بذلك - من حيث لا يقصدون - دعاية طيبة للمسلمين في أوربا، ونبهوا أذهان أهلها إلى النهضة الحضارية التي قام بها المسلمون في إسبانيا.
أما بالنسبة إلى صقلية Sicilian، فتعد مركزاً رائعاً من مراكز التبادل الثقافي ومن أهم مراكز الترجمة التي أثرت في أوربا تأثيراً بالغاً. فقد حكم العرب هذه الجزيرة أكثر من قرنين ونصف القرن من الزمان (212-484 هـ/828 إلى 1078م) ونشروا في ربوعها حضارة مزدهرة كانت لها انعكاساتها الإيجابية على نهضة أوربا، وتطور الحياة العلمية فيها.
كما استمرت مؤثرات العرب الحضارية في الجزيرة أكثر من مائتي سنة أخرى، وكان التفاعل الحضارى بين العرب والصقليين والأوربيين طوال خمسة قرون في أوسع مدى حضاري، خاصة أن سكان صقلية في فترة الحكم العربي قاربوا مليوناً وستمائة ألف نسمة، بينهم ستمائة ألف مسلم، وهي كثافة سكانية مرتفعة إذا ما قيست بالنسبة للفترة التاريخية في العصور الوسطى.
لقد كانت أوربا تتتلمذ على أيدي العرب، وكانت تتعلم لغتهم، وتترجم علمهم، وتنشئ المدارس على غرار مدارسهم، وتضع لها المناهج الدراسية المنقولة عن المناهج العربية، ومن ثم لم يكن للعلماء الأوربيين في تلك الحقبة إنتاج علمي خاص، لاعتمادها كلياً على التراث العربي، وكل ما ظهر من مؤلفات لاتينية لا تعدو أن تكون ترجمات لمؤلفات إسلامية أو نقلاً عنها.
وبصفة عامة كانت هناك تأثيرات عربية واضحة في العقلية الأوربية تمثلت في شعر المناجاة، والشعر الشعبي، والحكم والأمثال كما هو واضح في «الكوميديا الإلهية» Divina Commedia للشاعر الفلورنسي الشهير دانتي الليجيري، ومازال موضوع تأثر دانتي بالآداب الإسلامية فكرة جذابة تأثر الكثيرين.
ثم جاء الفصل الثاني للدراسة بعنوان: «التجارة والتقنية»، وفي هذا الفصل رصد واط مكانة التجارة عند المسلمين، والتجارة بين غرب أوربا والعالم الإسلامي، والتقنيات المتعلقة بالسفر بحراً، والمنتجات الزراعية والمعادن، وفن «العيش برفاهية»، وتناول كذلك امتزاج الثقافات في إسبانيا الموريسكية، وانتشار الثقافة الإسلامية في أوربا.
ويرى واط أن الوجود العربي الإسلامي في إسبانيا وصقلية والوجود الأوربي في بلاد الشرق خلال الحروب الصليبية أديا إلى تبادل الثقافات أو إلى تبني الأوربيين سمات ثقافية إسلامية عدة. كانت مهارات العرب في البيع والتجارة من العوامل التي شجعت هذا الانتشار للثقافة الإسلامية من دون شك، فلم تكن الثقافات متوافقة في ظل الحكم الإسلامي فحسب، بل صُدِّرت البضائع التي أنتجها المسلمون إلى خارج حدود الدولة الإسلامية.
أما الفصل الثالث، فقد خُصِّص لدراسة إنجازات العرب في العلوم والفلسفة، وبين فضلهم في مجال الرياضيات، وعلم الفلك، والطب، والمنطق، والميتافيزيقا. ويؤكد واط أن العرب قدموا إنجازات علمية رفيعة المستوى، وأنهم أول من استخدموا علم الأصفار، وأسسوا علم الحساب والجبر، وحساب المثلثات والهندسة التحليلية.
كما نبغ العرب في الطب ووضعوا فيه المؤلفات القيمة كما نبغوا في الخيمياء (الكيمياء) وتتصدّر أعمال جابر بن حيان طليعة الأعمال العربية في الكيمياء. كما ألّف العرب أعمالاً في النبات والحيوان والمعادن، ونبغوا كذلك في علوم المنطق والميتافيزيقا.
وجاء الفصل الرابع تحت عنوان «الحروب الصليبية وحروب الاسترداد»، وتناول فيه واط حروب الاسترداد في إسبانيا، كما تعرض لتطور فكرة الحملات الصليبية وانطلاقها ومسارها، وأهمية الحملات الصليبية لأوربا.
لقد أثبت كثير من المؤرخين أن الحروب الصليبية لم تكن حروباً متصلة، وإنما تخللتها فترات سلم كثيرة، وقد ساعدت على نقل عديد من الألفاظ العربية قد تعدّ بالآلاف إلى اللغات الأوربية؛ وتعلم كثير من الإفرنج القادمين اللغة العربية ليتمكنوا من التخاطب مع السكان في المتاجر والمناسبات المختلفة، ويذكر ابن شداد أن أرناط كان يستعين بأحد المسلمين لكي «يقرأ له ويفهمه»، وكان ريموند الثالث أمير طرابلس يتقن العربية وتعلمها في أثناء وقوعه في الأسر في حلب.
ومن الطريف ما أورده ابن جبير في رحلته، من أن المرء إذا أتقن لغتين أخذ يقلِّب بهما لسانه وكأن اللغتين هما ملكته اللسانية ولغته الأصلية، يقول: «فصعد واعظ خرساني حسن الشارة مليح الإشارة، يجمع بين اللسانين عربي وعجمي، فأتى في الحالين بالسحر الحلال من البيان فصيح المنطق بارع الألفاظ ثم يقلب لسانه للأعاجم بلغتهم فيهزهم إطراباً ويذيبهم زفرات وانتحاباً».
وكان وجود الشرق في ذهن الغرب، من خلال النتاج الفكري الأدبي والتاريخي الذي أعقب هذه الحروب. والواقع فإن المجتمع الغربي قد اكتشف أهمية الشرق ومعارفه وعلومه منذ العصور الوسطـى، ونقل ذلك التراث نقلاً لا يظهر فيه التصرف إلا في تجاهل ذكر المؤلفين الحقيقيين، وعن طريق ذلك خطت أوربا خطواتها التاريخية في مجال النهضة المعروفة بالنهضة الأوربية، وبذلك الفكر وعلى هديه أخذت أَوربا منهج التطور العلمي وبنت لنفسها الشخصية العلمية الرائدة. وأدرك الغرب من خلال حروبه الصليبية أن الشرق يتفوق عليه فكرياً وحضارياً واقتصادياً، وأنه يجب على الغربيين أن يسيروا في الطريق نفسه الذي سارت فيه شعوب الشرق، لكي ينهضوا ويتقدموا. فالفكر الاستشراقي إذن في رأي البعض نشأ في رعاية الكنيسة، وخضع فيما صدر عنه لتوجيهاتها، ومن ثَمَّ لم يكن عملاً علمياً على نحو من الأنحاء، وإنما كان لوناً من ألوان المقاومة للمد الإسلامي.
ثم جاء الفصل الخامس فكان بعنوان «العلوم والفلسفة في أوربا» وناقش فيه بداية الاطلاع على علوم العرب، وفترة ازدهار الترجمة، وتطور الرياضيات والفلك في أوربا، وكذلك تناول تطور الطب والمنطق والميتافيزيقا في أوربا.
وسرعان ما توطَّدت الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة فاحتكَّت بالحضارات والثَّقافات الأخرى، وتهيَّأ لها المناخ لحركة علميَّة واسعة بدأت بالاهتمام بالتَّرجمة، وخلال العصر العباسي وعلى مدى قرن كامل حوالي 750-850 م تمت ترجمة كتب كثيرة في الرياضيات والفلك والطب والفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية. فكان خلفاء بني العبَّاس يشترطون على أباطرة الروم بيْعَهم المخطوطات اليونانيَّة في مختلف العلوم لترجمتها إلى العربية، حتى إنَّ المنصور كان يدفع ما يساوي وزن المخطوطات ذهباً، وكان أهم مركز من مراكز حركة الترجمة هذه هو بيت الحكمة الذي أنشأه الخليفة المأمون في بغداد، ووقف عليه الأموال للذين يريدون أن ينقطعوا إلى نقل الكتب الفلسفية إلى اللغة العربية. وكان بيت الحكمة يضم إلى جانب المكتبة والأكاديمية، مكتباً للترجمة إلى العربية التي أصبحت لغة البحث بين العلماء والمسلمين والأوربيين على حد سواء.
أما الفصل السادس والأخير، فتناول «الإسلام والوعي الذاتي في أوربا»، وناقش فيه الصورة المشوهة للإسلام والوضع المختلف في العالم الإسلامي. وأكد واط أهمية التقارب مع الإسلام بالنسبة إلى أوربا. ويقول في ختام الفصل العبارة المهمة التالية: «وإذا أخذنا بالحسبان جميع جوانب المواجهة بين الإسلام والمسيحية في العصور الوسطى فسنجد أن تأثير الإسلام في العالم المسيحي الغربي أكبر مما يعتقد؛ فالإسلام لم يشارك الغرب منتجاته وتقنياته واختراعاته فحسب، ولم يحفز أوربا فكرياً في مجالات العلوم والفلسفة فقط، بل حفزها لتشكل صورة لنفسها. وبسبب وقوف أوربا ضد الإسلام، قللت من شأن التأثير الإسلامي، وبالغت في اعتمادها على تراث الإغريق والرومان. ولذلك، مهمتنا نحن أوربيي اليوم – حيث إننا ننتقل إلى عصر العالم الواحد - تصحيح الاعتقادات الخاطئة، والاعتراف بفضل العالمين العربي والإسلامي».
واختتم واط الكتاب بقائمة بالكلمات الإنجليزية المشتقة من اللغة العربية، ثم قائمة بأهم المصادر التي استعان بها في إنجاز هذا الكتاب المتميز .