شعيرة الصوم من أداء الطقس.. إلى إشراقة الروح

شعيرة الصوم من أداء الطقس.. إلى إشراقة الروح

ثمة فارق بين الدين والتدين، فلئن كان الدين هو تلك المنظومة التي تشتمل على العقائد والشعائر والشرائع والقصص، فإن التدين هو تلك القابلية الفردية أو الاجتماعية لهذه المنظومة. لهذا فإن النص الواحد يقرؤه أفراد مختلفون بعقول وضمائر مختلفة، فإذا هو في المحصلة النهائية نص واحد، من حيث انتماؤه إلى منظومته، ولكنه نصوص مختلفة من حيث تطبيقه، واختلاف الحساسيات، وهذا راجع في الحقيقة إلى اختلاف الضمائر, واختلاف الضمائر نتيجة لاختلاف الأفراد. ربما يتلقى ضميران قيمة خلقية واحدة، ولكنك تجد أحدهما يتفاعل مع هذه القيمة بطريقة، والآخر يتفاعل معها بطريقة أخرى.

الضمير هو الكائن الوحيد الذي ليس إلى خداعه من سبيل، فإن في وسعك أن تصيبه بغيبوبة مؤقتة، أو تخرج على أوامره ونواهيه، ولكنك أبدًا لا تستطيع أن تغير محتواه لتلبس عليه الحق بالباطل. ومن الضمير وحده تكون نقطة إشراق القيم في النفس.

ولكن كيف يشرق الدين في أعماق المتدين؟ أبعقله حينما يفكر؟ أم بحواسه عندما يعمل؟ أم بقلبه إذ يحس؟ ليس للعقل دخل ضخم في عملية التدين، لأن قصارى ما يستطيعه هو أن يقوم بالبرهنة على النتائج التي استقرت سلفًا في النفس، فدور العقل ليس هو البحث عن نتائج لمقدمات موجودة، بل عن مقدمات لنتائج تم الاستقرار عليها بالفعل. ونحن لا نقصد بالتدين هنا مجرد الانتماء الشكلي إلى هذا الدين أو ذاك، ذلك الانتماء الذي يحدد وضعك على الخارطة الاجتماعية، ويحدد علاقتك بأناس معينين، بل نقصد بالتدين تلك الزلزلة التي تأخذ بناصية الروح لتمضي بها صعدًا إلى العالم الأعلى، أملاً في أن تحصل سعادة ليس للحواس إليها من سبيل. نقول ليس للعقل دوره ههنا لأنك تستطيع بعقلك أن تناظر واحدًا من الناس فتفحمه وتسكته، فإذا أنت قد أورثته من البغضاء ما لا يسعه معها أن ينقاد لك حتى ولو كنت أنت الحق نفسه. نعم تستطيع أن تلزمه من الحجة ما شئت. ولكن هل تستطيع بعقلك أنت أن تخلق في قلبه رعشة توقظه في ليلة شاتية ليتوضأ بماء بارد، ويقوم في خفية من الناس يصلي لإله لا تدركه الحواس؟

وأما العمل - أعني أداء الشعائر - فهو مترتب على الإحساس والفكر معًا فأنت تحس، ثم تتأمل إحساسك، ثم تعمل بناء على ما استقر في قلبك وعقلك، لم يبق معنا إذن إلا القلب ذلك الكائن الذي يفرز لغة سحرية أنت وحدك تفهمها، وأنت وحدك تتفاعل معها فهي على الرغم من شدة وضوحها تستعصي على الترجمة الفورية، يعرفها الأفراد حق المعرفة، ولكن أحدًا لا يستطيع أن ينقلها إلى الآخر فهي إن صح التعبير سر عام.

الصوم والضمير

وليست هناك شعيرة من شعائر الأديان ألصق بالضمير الإنساني من شعيرة الصوم، لأن في ذرعك أن تقف الناس جميعًا - أو بعضهم على الأقل - على صلاتك وزكاتك وحجك ونطقك بالشهادتين، ولكن كيف لك أن تثبت لواحد فقط من الناس أنك صائم؟ أجل إن في وسع معامل التحليل أن تثبت أنك بعيد عهد بطعام أو شراب أو جماع، ولكن كيف لهذه المعامل أن تثبت أنك قديم عهد بغش أو كذب أو غيبة أو نميمة أو رشوة؟ وكل تلك موبقات أخلاقية تفسد الصوم كما يفسده الطعام أو الشراب؟ هذا هو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - «رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش»، إشارة تجمع بين الذكاء والشفافية.

إلى أولئك الذين يضربون حول دنياهم إطارًا من الدين الشكلي فيفسدونها، لأن الدنيا تُطْلَبُ بقوانينها، ويملئون دينهم بمحتوى دنيوي فيفسدونه، وتلحق بهذه الطائفة طائفة أخرى يريدون دنياهم بدينهم، فإذا ما طاف بهم طائف من السوء فزعوا إلى الله بالأدعية والشعائر، حتى إذا ما انكشفت عنهم الغمة عاودوا دنياهم التي كانوا عليها، فالله ودينه في عرف هؤلاء ليس إلا أداة من أدوات الدنيا، والمنتمون إلى كلا الفريقين يخرجون صيامهم بأبدان قد أرهقها الصوم، وأرواح قد أجهدها الوزر، وعقول قد أثقلها التبلد أو مزقتها الحيرة، فإذا هم أحق الناس بقول إبراهيم بين أدهم:

نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقي ولا ما نرقع


وبوحي من هذا نستطيع أن نفهم هذا الحديث القدسي الدال كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، صحيح أن كل عمل ابن آدم له لأنه إما أن يؤدي للآخرة كالزكاة، أو يؤدى مع الآخر كالصلاة والحج، أو يمكن أن يؤدى أمام الآخر كالنطق بالشهادتين. أما في الصوم فإن الله جل شأنه هو الوحيد الذي تؤدى هذه الشعيرة له ومعه وأمامه.

وقوله: «أنا أجزي به» إشارة إلى قصر خيال المتخيلين، لأنك لن تستطيع أن تتخيل شيئًا إلا وعطاء الله أكبر منه، خصوصًا إن قرّ في قلبك أن العطاء على قدر المعطي، فيالها من جوائز تلك التي قسمها الله بين الدنيا والآخرة، ليجعل الصائم بها في صفقة رابحة حين يدفع قليلاً من الحرمان ليصيب به ما لا حد له من العطاء، ولن يسعني هنا أن أحدثك عن الجوائز واضحها وغامضها وبعيدها وقريبها. حسبي أن أشير إلى نوعين من الجوائز أحدهما تحصله في نفسك في الدنيا، والآخر في الآخرة، فأما الذي تحصله في نفسك في الدنيا، فهو شيء لا تستطيع أن تناله بحواسك ولا بعقلك، ولا بما بين يديك. أتدري ما ذلك الشيء؟ إنه تلك الومضة السماوية التي تتنزل على قلبك في لحظة غير منتظرة لتملأ قلبك خشوعًا وعينيك دموعًا وروحك انتعاشًا وبدنك ارتعاشًا، فإذا أنت أمام رحلة جديدة، أنت فيها المسافر والطريق والبلد، أو ولادة جديدة أنت فيها الأم والألم والولد. نعم، ومضة سماوية تتنزل على قلبك فلا تكاد تبقي لك جنبًا تنام عليه ولا ليلاً تسهره، بل تستعيرك من نفسك وتردك إلى غيرك، فتذرك لا حيًا صحيحًا ولا ميتًا مستريحًا فإذا أنت ظل من ظلال الله على الأرض وإذا روح الله تتخلل حواسك فلا تستطيع أن ترى الدنيا إلا بالله وأنت أقدر أن تكون على أن ترى الله بمعزل عن الدنيا.

وقد قيل إن رابعة العدوية لما قرأت قوله تعالى: وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون قالت: فنحن إذن صغار حتى نفرح بالطير والفاكهة!! تقصد أن الله قد أغنى عباده بحبه حتى عن الجنة.

فإن طاب لك أن تقول إن الإيمان معنى من معاني العشق، فأنت من القريبين فإن قلت إن العشق ثمرة من ثمرات الإيمان، فأنت يومئذ من الواصلين. نعم لأنك لابد أن تصدق قبل أن تحب، وهذا معنى قول سهل بن عبدالله التستري: «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينًا». ولك الآن أن تقول فما بال الصوم أحق بهذا من بقية الشعائر، وكلها طرق موصلة إلى الغاية نفسها؟ لأن مدار الصوم أساسًا على الحرمان. وما أجهل أولئك الذين يقولون لا أشعر في الصوم بالجوع أو العطش، فلو كان الصوم كالنوم لما امتاز مجد من كسول، ولا عرف مؤمن من مرتاب أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين صدقوا منكم ويعلم الصابرين .

معنى الحرمان

والحرمان هنا وسيلة وليس غاية، فليس المقصود أن يعيش المؤمن ذليلاً منكسر القلب في الدنيا، تبرمًا بها وسخطًا عليها، كما هي الحال عند بعض متقشفي الهنود، بل المقصود أن يكون فوق الدنيا لا تحتها، قادرًا على صد ما تجيء به من الموبقات، وهذا باب واسع من أبواب الرضا، الذي هو أس السعادة. وقد قيل: يا ابن آدم إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك، فأقلها يكفيك، وإن كنت تريد فوق ما يكفيك فكلها لا يكفيك.

فإن قلت إن الحرمان مطلوب للآخرة، فأنت محق، وإن قلت إنه مطلوب لإصلاح الدنيا، فأنت أيضًا محق، والحرمان في هذه الحال ليس حرمانًا عاديًا، بل هو حرمان مزدوج، حرمان من ملاذ الدنيا في حد ذاتها، وحرمان من اعتيادك أنت عليها قبل الصوم، فإن كنت قادرًا على هذا الحرمان بلونيه، فإن كل ما يضعف به جسدك تقوى به نفسك.

ولله در العقاد إذ تساءل في بعض كتبه: بأي شيء يقاس تقدم الأمم؟ أبالعلم؟ أم بالمال؟ أم بالقوة العسكرية؟ ثم انتهى إلى أن كل هذه العوامل ليست من آيات التقدم في شيء، لأنه قد تعلم الأمم الشائخة، وتغنى الأمم الضعيفة وتقوى الأمم البربرية، ثم انتهى إلى أن معيار تقدم الأمم هو قدرتها على تحمل المسئولية، وهل المسئولية إلا القدرة على التفاعل مع الدنيا في شتى صروفها وقبول مختلف ظروفها؟ ومبنى كل ذلك على شيء من الحرمان، لأن من أخذ كل ما أراد، واستسلم لشهواته، يضرب معها في كل سبيل، دب الخور في نفسه فأقعده عن كل أمر مهم، وهذا مفهوم من قوله تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا . صدق الله العظيم.

ومن أطيب ثمرات الصوم قدرتك على الاستغناء والقادر على الاستغناء مالك لنفسه، التي بين أضلعه ودنياه، التي من حوله، ومثل هذا الطراز من الناس أبعد ما يكون عن المذلة، خصوصًا إن وضعت في حسبانك أنه ليس استغناءً صرفًا عن الدنيا، بل هو استغناء عن الدنيا بخالق الدنيا، ومن استغنى بالله احتاجت إليه دنياه، فإذا الدنيا التي يتمرّغ عبيدها تحت أقدامها تتمرّغ هي تحت قدمي من صرف نظره تلقاء السماء. ولله در من قال:

أبعين مفتقر إليك رأيتني بعد الغني فرميت بي من حالق
لست الملوم أنا الملوم لأنني أملت للإحسان غير الخالق


فحين يكون طموحك في الله يستوي في عينيك صغائر الدنيا وكبائرها، ويتقلص لديك ما يقتتل عليه الناس من حولك، وعكس ذلك صحيح أيضًا حين تنعدم لديك القدرة على الاستغناء، فتعظم في عينيك صغائر الأشياء، فتقاتل كل أحد على كل شيء، سواء أكنت في حاجة ماسة إليه أم لا، وأقرب مثل لهذا الأطفال بما تربوا عليه، فمنهم صنف عظيم الأثرة ما يكاد يترك لغيره شيئًا، ومنهم صنف قانع يزهد في الكثير ويفرح بالقليل، وقديمًا قال الشاعر:

والنفسٌ راغبةٌ إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليلٍ تقنعُ


تلك بعض جوائز الدنيا لك، أما في الآخرة فحسبي أن أشير إلى أربع: روعة المفاجأة، وضخامة العطاء، وأنه لن يزول، وأنك لن تمله، فالصيام على الحقيقة ليس مجرد شعيرة، بل هو تأسيس لحياة جديدة أولها في النفس وآخرها عند الله.

من معاني الصوم

ثمة مغزى آخر من مغازي الصوم هو قدرة الصائم على أن يستحضر الله في نفسه كل دقيقة، فالعبرة ليست بالضار والنافع، ولا ما يجلب الكسب أو الخسران، بل بما يحب الله وما لا يحب، يبيح لك الطيبات عامًا كاملاً، ويحرّمها عليك شهرًا واحدًا، فلم تصر الطيبات خبائث، بل الخبث يتخلق في بعدك أنت عن خالق الطيبات، وفي الصيام تذكرة تربط أول الدنيا بآخرها، فالله قد أحل لآدم وحواء جنة بأسرها، وحرم عليهم شجرة واحدة، كما أحل لك اليوم عامًا بأسره، وحرم عليك شهرًا واحدًا، فإن أعرضت عن هذا الشهر، طردت من جنة السكينة كما طرد أبواك من جنة السماء، وفي جنة السكينة استطاع المسلمون الأوائل أن يملكوا ثلثي العالم القديم في تسعين عامًا فقط، فهل صارت الفوضى إلى دنياهم إلا حين بدأت من أنفسهم؟ لأن التفريط بطبيعته لا يتجزأ، وقد أراد لك الله ألا يجرك بعض التفريط إلى بعض، فأقام جسرًا شفافًا بين نهار الصوم وليله، فأنت تظل صائمًا نهارك، فإذا جَنَّ عليك الليل فقد أبيح لك كل شيء، ولكنها إباحة مقيدة، إباحة تحفظ عليك الحياة دون أن تسمح لك بأن تذوب فيها، لأن ذوبانك فيها سوف يبغض إليك صيام الغد. فأنت بالنهار صائم، وبالليل محتاط، فصومك نهارًا يقوي لديك الاحتياط ليلاً، كما أن احتياطك ليلاً يجعلك أصلح لصوم النهار. ويطيب لنا أن نذكر «أنه لا دين بلا إيمان ولا إيمان بلا تضحية»، لنؤكد من خلال هذا أنه ليس من المغالاة في شيء أن نقرر أن مبدأ التضحية في الإسلام قائم على أساس رؤيته للوجود، ومؤدى هذه الرؤية ببساطة أن هناك جسورًا ممتدة بين عالمي الغيب والشهادة، إلا أن هذه الجسور الممتدة لا تجعلهما عالمًا واحدًا، ومن هنا فإن المضحي يجب أن يبقى ليجني بنفسه ثمرة تضحياته، ويكون آية لمن خلفه، غير أن التضحية يجب أن تكون مرآة ينعكس عليها صفاء العلاقة بين العبد وربه، فليس المهم ضخامة أو ضآلة التضحية، بل المهم حقًا هو المبدأ الذي عليه تتم التضحية.

لهذا نهى الإسلام تمامًا عن أي تضحية شعائرية تودي بالنفس البشرية، أما الأديان التي جعلت العالمين عالمًا واحدًا، فإنها لم تر بأسًا بأن يكون المضحي بنفسه جزءًا من تضحيته على أساس أنه انتقل من أحد قسمي العالم إلى القسم الآخر الذي يساويه تمامًا، بل الذي هو جزء منه، وحسبنا أن نذكر عقيدة السوتي عند الهنود، تلك العقيدة التي تلزم توابعها من النساء بأن يحرقن أنفسهن إذا ما هلك عنهن أزواجهن، وعقيدة الانتحار على طريقة الهاراكيري عند طبقة الساموراي اليابانيين، تلك العقيدة التي تلزم أتباعها من رجال هذه الطبقة بأن يبقروا بطونهم متى ما لحقت بهم مهانة.

تَبَارَكَ اللهُ مَا وَحَيٌ بِمُكْتَسِبٍ وَلاَ نَبيُّ عَلَى غَيْبٍ بِمُتَّهَمِ
كَمْ أَبْرَأَتْ وَصِبًا بِاللَّمْسِ رَاحَتُهُ وَأَطْلَقَتْ أَرِبًا مِنْ رِبْقَةِ اللَّمَمِ
وَأَحَيتِ السَّنَةَ الشَّهْبَاءَ دَعْوَتُهُ حَتَّى حَكَتْ غُرَّةً فيِ الأَعْصُرِ الدُّهُمِ
بِعَارضٍ جَاَد أَوْ خِلْتَ البِطَاحَ بِهَا سَيْبًا مِنَ اليَمِّ أَوْ سَيْلاً مِنَ العَرِم


البوصيري

 

صلاح الدين عبد الله