ماجد السامرائي وإبراهيم نصرالله تقدّمَ الروائي ولم يتخلف الشاعر

تقاسم الشعر والرواية حياة الشاعر والروائي الفلسطيني إبراهيم نصرالله (1954)، وفي المجالين كان له حضوره الإبداعي المتميز. ولكن المتابع لمنجزه الإبداعي هذا يجد أن الرواية تغلبت على ما أنتج في السنوات العشرين الأخيرة، حتى أصبح معروفاً روائياً، وتحظى روايته بالاهتمام النقدي أكثر من حظوة الشاعر بالشعر... الأمر الذي يحاول أن ينفيه، مؤكداً توازن الحضور في المجالين.
لذلك كان لابدّ من متابعة هذه المسيرة الإبداعية معه، ومن خلاله... فأنتَ، إبراهيم نصرالله.
< بدأتَ شاعراً، وحزت مكانة شعرية ليس من السهل مجافاتها أو التفريط بها... ثم فجأة انقلبت نحو الرواية، وفي فترة زمنية قصيرة كتبتَ عدداً من الروايات شدّت الانتباه إليك روائياً، فهل جاء هذا مصادفة، أم أنه اختيار منك؟
- حين أعود إلى بدايات تجربتي في المدرسة الثانوية، يتبين لي أنني كنت أكتب الرواية والشعر في آن، فأيامها كتبت روايتين طويلتين نسبياً، مقارنة بعمري، وقدرةِ شاب صغير على الجلوس فترات طويلة لإنجازهما. وحين بدأت بكتابة روايتي الأولى «براري الحُمّى» في الرابعة والعشرين من عمري، كنت في الحقيقة أكتبها بالتزامن مع ديواني الأول الذي صدر عام 1980، ومع صدوره كانت الرواية شبه منتهية، لكن دفْعها للمطبعة تأخّر بطلب من ناشر «دار الشروق/عمّان»، الذي رأى أن نجاح الديوان الأول يجب أن يُعزّز بديوان آخر، وليس برواية، وهذا ما كان. لذا، لا أستطيع القول إنني انتقلت من الشعر إلى الرواية، بل إنهما سارا معاً. فظهور مشروع «الملهاة الفلسطينية» منذ ثلاثين سنة، بداية التخطيط له، كانت قبل عشرين سنة من بداية النشر، وكذلك مشروع «الشرفات»، أعطى انطباعاً بأن الثقل أصبح للرواية. ربما يعود ذلك إلى تقدم فن الرواية، واكتساحه بقية الأجناس الأدبية، فالشعر لدي لم يتوقف، ولعل أفضل ديوانين كتبتهما كانا الأحدث صدوراً «لو أنني كنت مايسترو» (2009) و«على خيط نور... هنا بين ليلين» (2013)، وهما ديوانان كبيران يضمان 160 قصيدة، وأعيدت طباعتهما مرات عدة، وهذه مسألة لافتة، فطباعة الأعمال الشعرية لا تتكرر في السنوات الأخيرة عربياً، والآن لدي ديوان جديد، لم يصدر بعد، مكرّس لقصائد حب.
لكن الملاحظة التي تغيب عن بالنا أن الشاعر لا يتوقف عن كونه شاعراً إذا ما توقف عن كتابة الشعر، فرامبو كتب الشعر لمدة عامين خلال حياته، ولكنه بقي شاعراً بارزاً، والسياب مات صغيراً، وكذلك لوركا وبوشكين، وهذا يعني أن الشاعر الذي يتوقف أيضاً عن الكتابة بسبب موته، يمكن أن يبقى شاعراً، كالأم التي إن توقفت عن الإنجاب لا يعني ذلك أنها لم تعد أمّاً. فالمنجز المتحقق للشاعر أو للكاتب الذي يتوقف عن الكتابة هو الذي يؤهله لأن يكون شاعراً أو كاتباً أو لا، لا ذلك الذي يمكن أن يكتبه في ما بعد، وقد علّمتنا التجارب أن الاستمرار لا يعني الحياة، فكثير من الكتّاب قدّموا أردأ ما لديهم في أواخر أعمارهم.
< هل أفهم من هذا أن الروائي فيك، وهو المتغلب حضورًا، لايزال متمسكاً بالشاعر، ما يعني أنك تنظر إلى الشاعر فيك بأهمية موازية لأهمية الروائي من حيث الإبداع؟
- في الحقيقة لا أنظر إلى الفنين نظرتي لملاكمين في حلبة، وإنما أنظر إليهما نظرتي إلى شجرتين في حديقة، لنقل: شجرة تفاح وشجرة برتقال، أو نخلة وزيتونة، أو يمكن القول إنهما جناحان لطائر... ولا أحسب أن طائراً في الكون يُفضّل جناحاً على جناح.
< ولكن الشاعر فيك أصبح شبه مغيَّب حضوراً شعرياً، فضلاً عن تغييبه نقدياً، بفعل حضور الروائي بديلاً؟
- لا أحس بأن هناك تغييباً للشاعر فيَّ، لا على المستوى النقدي ولا على مستوى رسائل الماجستير والدكتوراه، لكن نجومية الشعراء على مستوى العالم العربي والعالم (إعلامياً) تراجعت، والإعلام ليس جزءاً من الفعل الثقافي، بل صدى له، بل هو أوهى قشوره. علينا أن نعترف بأن الرواية تتقدم على المستوى القرائي، وفي كل مكان، وليس لدينا فحسب، وهذا ما يلمسه القراء والنقاد والناشرون في العالم. لكنني في الحقيقة أحسّ، وربما يحسّ معي محبّو الشعر، أنه لا بديل للقصيدة الجيدة، ففيها من كثافة الحياة ما لا يعوّضه أي لون أدبيّ آخر، لكن الناس امتلأوا بالشعر في النصف الثاني من القرن العشرين، ولدينا مخزون شعري يكفي لخمسمائة سنة، أما ما كان البشر بحاجة إليه، واكتشفوه متأخرًا، فهو أنهم يتطلعون لفهم واقعهم وتاريخهم، لا الإحساس بهما (شعرياً) فحسب، وقد تقدّمت الرواية، أو لنكن أكثر تحديداً: الرواية الجيدة، لتلبي نداء أسئلة الحيرة والترهل والتزييف التي أطبقت على مجتمعاتنا.
< ولكني أسأل: من أين نبع هذا «الاختيار» عندك؟ هل وجدت أن رؤيتك للعالم لا تستوعبها القصيدة، فذهبت إلى الرواية؟ أم استجبت لما أشاعه بعض النقاد من أن العصر الذي نحن فيه هو «عصر الرواية»؟
- تعرف أن روايتي الأولى كتبت قبل عشرين عاماً مما بات في نهاية الألفية الماضية يسمى عصر الرواية، كما أن مشروع الملهاة الفلسطينية ولد مباشرة من بعد صدورها، في زمن كان فيه الاهتمام الحقيقي هو الاهتمام بالشعر، وكان الشاعر هو النجم وليس الروائي، لكن ما كان يؤرقني أيامها هو بداية رحيل كبار السنّ من الفلسطينيين الذين عاشوا فلسطين وتفاصيلها، وبالتالي رحيل ذاكرتهم معهم، ما دفعني للعمل على مشروع يمكن أن يكون جزءاً من حماية الذاكرة، لأنني كنت على يقين من أن الحكايات التي لا نكتبها تصبح ملْكاً لأعدائنا، وفي الوقت نفسه، أن أقدّم إسهاماً فنياً في حقل الرواية، فالقضايا الكبرى بحاجة إلى مستويات فنية عالية للتعبير عنها، وقد قلت هذه الجملة في أول حوار صحفي أُجري معي في حياتي، ونشر في الكويت.
وحين نتحدث عن الرواية، والشعر، نتحدث أيضاً عن فترة اتسعت فيها قصيدتي نحو الملحمية في ثمانينيات القرن الماضي، حين أصدرت أعمالاً شعرية طويلة فيها شخصيات وأحداث متعددة، لكن ذلك كله لم يكن في ظني كافياً لاستيعاب الحالة الملحمية التي تتحرك في داخلي، وقد استطاعت الروايات، وبخاصة الطويلة، التاريخية، مثل «زمن الخيول البيضاء» و«قناديل ملك الجليل» أن تلبي حاجتي إلى تعبير أكثر اتساعاً، ومدى تتحرك فيه مئات الشخصيات بيسر أكبر، وهذا أمر لا يمكن للقصيدة أن تستوعبه مهما اتّسعت.
< يخطر لي هنا أن أسأل عن المسافة، إن كانت هناك مسافة تضعها بين «القصيدة رؤية» و«الرواية رؤية» من حيث الموضوع، وتدخلات الذات الإبداعية في صوغ حضورها من خلال هذين النمطين الإبداعيين، في ما لكل منهما من أسس موضوعية وأخرى فنية.
- لنعترف أن الكاتب حاضر في كل ما يكتب، بأحاسيسه ورؤاه، لكن للمفارقة: إذا ظهَرَ في الرواية فإن ظهوره سقطة فنية، أما إذا ظهر في القصيدة، فلا مشكلة في ذلك!
أظن أنك حين تكتب الرواية تكون في كامل حضورك، فأنت الذي تكتب اللغة، وتبني عملك فنياً، وتُنطق الشخصيات، وتتركها تموت أو تحيا، أو تحتلَّ المشهد أو تتهمش، ورؤيتها في النهاية هي مجمل رؤاك وأفكارك وثقافتك، لنقل: معرفتك. لكنك هنا، ككاتب: شبح، أو يمكننا القول: طيف، أما في القصيدة فأنت بلحمك ودمك وأحاسيسك المكشوفة، لك وللقارئ.
< في رواياتك تتعدد عندك المعاني، وتنفتح المسافات... فمرة تُطل على الماضي، وفي أخرى تتأمل في الحاضر، وفي ثالثة تضع الذات، ذاتك أو ذات البطل، في مواجهة العالم... ما يثير السؤال عن منظورك للرواية ودور العمل الروائي في حياتنا، نحن الذين نعيش الحياة بوجوهها المتعددة.
- أظن أن أشياء كثيرة يمكن أن يتمّ افتعالها، إلا الفن، ويمكنني أن أقول الآن، وقد غدوت في برَّ الستين من عمري، إنني عشت تجارب كثيرة، منذ أصداء النكبة الفلسطينية التي ولدتُ من بعدها بست سنوات، حتى اليوم، وعملت في حقول عدة، وعايشت أكثر من فن، بدءاً بالشعر، فالرواية، ثم، السينما، والتصوير، والرسم، وتنوع القراءات، وصولاً إلى الموسيقى، ولأعترف أن ذلك كله يحشدك بيقظة من نوع خاص، قادرة على التقاط أشياء كثيرة في هذه الحياة، وهكذا تعددت هواجس روايتي، وشعري أيضاً، فهناك تلك المعايشات كلها للفرد والمجموع، للحاضر والماضي، وكنت دائماً أتطلع إلى أن أطلّ على المستقبل، إلى أن تحقق ذلك في روايتي الأخيرة «حرب الكلب الثانية» التي تدور أحداثها في زمن قادم مختلف.
< الزمان والمكان بُعدان واضحان في رواياتك.. كما أزمنة الإنسان بينهما... وفيهما/ ومن خلالهما تتعيّن عندك العلاقات، والمسارات. فهل أنت في هذا بصدد إعادة البناء، وبلورة ما أمامك من تكوينات؟
- في ظني أن كل عمل أدبي يحمل مشروعه الخاص، ومقوماته في تعامله مع كل ما يتعلق به من رؤى وأمكنة وأزمنة وشخوص وأحداث، لكن المسألة تبدو أكثر وضوحاً حينما نتحدث عن روايات «الملهاة الفلسطينية»، وهي حتى الآن عشر روايات. فحين تكتب عن وطن مسروق، فأنت تعيد بناء الوطن من جديد في عملك، بحيث يصعب على السارق أن يسرقه مرة أخرى من الذاكرة ومن حقيقة كونه وطنك، فأنت ربما تستعيده بصورة ما. وحين تكتب عن البيت الذي تمّ هدمه، فأنت تكتب عن بيتك أو قريتك بطريقة لا تسمح بإعادة هدمهما من جديد، وحين تكتب عن الشهيد، فأنت لا تسمح لهم بأن يقتلوه مرة أخرى في القصيدة. لكن هذا كله لا يتحقق إلا إذا قدمت عملاً ينتمي لأرفع مستويات الكتابة، أو على الأقل تسعى إلى ذلك، وهذه هي خطورة الفن، وخطورة الكتابة، والرواية بالذات، فهي من أقوى أشكال الكتابة قدرة على إعادة بناء الهويات القومية. وحين تقول الزعيمة الصهيونية جولدا مائير: «لو كان الفلسطينيون شعباً، لكان لهم أدب»، ستدرك أن الكتابة لدينا، بحدّ ذاتها، هي فعل وجود. الآن لا يستطيع أحد في العالم أن يقول إن الفلسطينيين لا أدب لهم.
< ما الذي يعطي الروائي مثل هذه المشروعية؟
- ربما تعطيه هذه المشروعية قوة الأداة التي يمتلكها، إذا كانت تنتمي لمستويات فنية عالية، وقدرة على تقديم رؤى تسهم في تشكل القرّاء، وتعيد بناء العوالم من جديد، سواء تلك العوالم التي اندثرت أو العوالم القائمة التي يحاورها من الداخل ويفاجئنا بأننا لم نعرفها، إلا من بعد أن كتبها، على الرغم من أننا طوال الوقت جزء منها.
< وأنا أتابع ما كتبت من أعمال روائية، تبدو لي أنك «صاحب مشروع روائي»... فإن كان، فما الذي تسعى إلى تحقيقه، وتأكيده، خصوصاً أنك تواصل الكتابة بروح تبدو لي أنها روح من يحمل مشروعاً؟
- منذ البداية تعاملت مع الكتابة بوصفها مشروع حياة، شعراً ورواية. ولكن، لأعترف: فإن كون المرء فلسطينياً مُقتَلعاً من أرضه يفرض عليه أسئلة كثيرة، حول جدوى وجوده، ومعنى إنسانيته، وهو جزء من هذه القضية الكبرى التي أُعطيَ العالم فرصةَ مائة عام لأن يثبت أن له ضميراً في تعامله معها، وأثبت العكس. الآن، بات مشروع الملهاة الفلسطينية يغطي أكثر من مائتين وخمسين عاماً من تاريخ فلسطين الإنساني والثقافي والجمالي، وهذه فترة طويلة، كنت بحاجة إلى أن أعرفها قارئاً، وقد أتاحت لي الكتابة أن أعيشها، بأحلامها وكوابيسها، بجمالها وقسوتها، وأن أعيد بناء أجزاء كثيرة من هذا الوطن الذي سُلب. لكنني، داخل هذا الهاجس القوي والمسيطر، كنت أسعى إلى تحقيق الذات الفنية، لأنني على يقين من أن العالم سيقف معك بصورة أفضل إذا ما قرأ أعمالاً جيدة لك، وسيقلّ تعاطفه معك إذا ما قرأ أعمالاً متوسطة أو متدنية، وليس العالم وحده، بل ابن وطنك وابن عروبتك أيضاً.
ما كتبته حتى الآن أصبح واقعاً، لكن ما يؤرقني هو ذلك الذي لم أكتبه بعد، وهو كثير، ومتنوع، ولا أعرف كم سيسعفني العمر، في هذا، لإنجازه، أو لإنجاز بعضه.
< ركّز قراؤك على روايتك «زمن الخيول البيضاء»، فمن أين جاءهم هذا الاهتمام بها أكثر من سواها من أعمالك الأخرى، بحسب متابعتك لآرائهم؟ وهل تراها أنت كذلك؟
- في ظني أن «زمن الخيول» استطاعت أن تصل إلى قلوب القراء ووعيهم، لأنها كانت الرواية التي يحتاجون إليها، كما كانت الرواية التي أحتاج إليها قارئاً، ولذا ألمس بشكل واضح قوة تأثيرها على الأجيال الشابة، ليس في فلسطين وحدها، بل في العالم العربي أيضاً، وإلى جانبها رواياتي الأخرى التي تعاد طباعتها سنوياً أكثر من مرة، ولعل اختيار خمس من رواياتي من بين أفضل عشر روايات كتبها فلسطينيون، من قبل القراء، واختيار «زمن الخيول» رواية فلسطينية أولى، أمر يدعو إلى الفرح حقاً، وبخاصة أنني لم أكن يوماً ابناً لنظام أو تنظيم أو مؤسسة كبيرة مؤثرة، لقد ولدت في الهامش وعشت فيه حياتي كلها، وكنت ابناً للناس. لقد أسعدني تعليق الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي على اختيارات القراء حين كتبت لي تقول: «إن الذوق العام اختار أحسن ما عندنا، إن هذه هي أحسن روايات شعبنا في العصر الحديث», وكانت تشير إلى أعمالي الخمسة هذه، وإلى أعمال أخرى لغسان كنفاني وإميل حبيبي من بين الروايات العشر. ولعل ما يفرح أكثر هو أن هذه الروايات تقف في طليعة الروايات العربية من حيث تقويم القراء لها، والاستطلاعات. وما يدهشني ويفرحني في قارئ اليوم أنه يمتلك رؤية عميقة وذائقة رفيعة، ومن الصعب إقناعه بأي شيء ما لم يكن هو نفسه مقتنعاً به.