ماجد السامرائي وإبراهيم نصرالله تقدّمَ الروائي ولم يتخلف الشاعر

ماجد السامرائي وإبراهيم نصرالله تقدّمَ الروائي ولم يتخلف الشاعر

تقاسم‭ ‬الشعر‭ ‬والرواية‭ ‬حياة‭ ‬الشاعر‭ ‬والروائي‭ ‬الفلسطيني‭ ‬إبراهيم‭ ‬نصرالله‭ (‬1954‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬المجالين‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬حضوره‭ ‬الإبداعي‭ ‬المتميز‭. ‬ولكن‭ ‬المتابع‭ ‬لمنجزه‭ ‬الإبداعي‭ ‬هذا‭ ‬يجد‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬تغلبت‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أنتج‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬العشرين‭ ‬الأخيرة،‭ ‬حتى‭ ‬أصبح‭ ‬معروفاً‭ ‬روائياً،‭ ‬وتحظى‭ ‬روايته‭ ‬بالاهتمام‭ ‬النقدي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬حظوة‭ ‬الشاعر‭ ‬بالشعر‭... ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬ينفيه،‭ ‬مؤكداً‭ ‬توازن‭ ‬الحضور‭ ‬في‭ ‬المجالين‭. ‬

لذلك‭ ‬كان‭ ‬لابدّ‭ ‬من‭ ‬متابعة‭ ‬هذه‭ ‬المسيرة‭ ‬الإبداعية‭ ‬معه،‭ ‬ومن‭ ‬خلاله‭... ‬فأنتَ،‭ ‬إبراهيم‭ ‬نصرالله‭. ‬

‭<‬‭ ‬بدأتَ‭ ‬شاعراً،‭ ‬وحزت‭ ‬مكانة‭ ‬شعرية‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬مجافاتها‭ ‬أو‭ ‬التفريط‭ ‬بها‭... ‬ثم‭ ‬فجأة‭ ‬انقلبت‭ ‬نحو‭ ‬الرواية،‭ ‬وفي‭ ‬فترة‭ ‬زمنية‭ ‬قصيرة‭ ‬كتبتَ‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬شدّت‭ ‬الانتباه‭ ‬إليك‭ ‬روائياً،‭ ‬فهل‭ ‬جاء‭ ‬هذا‭ ‬مصادفة،‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬اختيار‭ ‬منك؟

‭- ‬حين‭ ‬أعود‭ ‬إلى‭ ‬بدايات‭ ‬تجربتي‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬الثانوية،‭ ‬يتبين‭ ‬لي‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أكتب‭ ‬الرواية‭ ‬والشعر‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬فأيامها‭ ‬كتبت‭ ‬روايتين‭ ‬طويلتين‭ ‬نسبياً،‭ ‬مقارنة‭ ‬بعمري،‭ ‬وقدرةِ‭ ‬شاب‭ ‬صغير‭ ‬على‭ ‬الجلوس‭ ‬فترات‭ ‬طويلة‭ ‬لإنجازهما‭. ‬وحين‭ ‬بدأت‭ ‬بكتابة‭ ‬روايتي‭ ‬الأولى‭ ‬‮«‬براري‭ ‬الحُمّى‮»‬‭ ‬في‭ ‬الرابعة‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬عمري،‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬أكتبها‭ ‬بالتزامن‭ ‬مع‭ ‬ديواني‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬عام‭ ‬1980،‭ ‬ومع‭ ‬صدوره‭ ‬كانت‭ ‬الرواية‭ ‬شبه‭ ‬منتهية،‭ ‬لكن‭ ‬دفْعها‭ ‬للمطبعة‭ ‬تأخّر‭ ‬بطلب‭ ‬من‭ ‬ناشر‭ ‬‮«‬دار‭ ‬الشروق‭/‬عمّان‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬رأى‭ ‬أن‭ ‬نجاح‭ ‬الديوان‭ ‬الأول‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يُعزّز‭ ‬بديوان‭ ‬آخر،‭ ‬وليس‭ ‬برواية،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬كان‭. ‬لذا،‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬القول‭ ‬إنني‭ ‬انتقلت‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬إلى‭ ‬الرواية،‭ ‬بل‭ ‬إنهما‭ ‬سارا‭ ‬معاً‭. ‬فظهور‭ ‬مشروع‭ ‬‮«‬الملهاة‭ ‬الفلسطينية‮»‬‭ ‬منذ‭ ‬ثلاثين‭ ‬سنة،‭ ‬بداية‭ ‬التخطيط‭ ‬له،‭ ‬كانت‭ ‬قبل‭ ‬عشرين‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬بداية‭ ‬النشر،‭ ‬وكذلك‭ ‬مشروع‭ ‬‮«‬الشرفات‮»‬،‭ ‬أعطى‭ ‬انطباعاً‭ ‬بأن‭ ‬الثقل‭ ‬أصبح‭ ‬للرواية‭. ‬ربما‭ ‬يعود‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬تقدم‭ ‬فن‭ ‬الرواية،‭ ‬واكتساحه‭ ‬بقية‭ ‬الأجناس‭ ‬الأدبية،‭ ‬فالشعر‭ ‬لدي‭ ‬لم‭ ‬يتوقف،‭ ‬ولعل‭ ‬أفضل‭ ‬ديوانين‭ ‬كتبتهما‭ ‬كانا‭ ‬الأحدث‭ ‬صدوراً‭ ‬‮«‬لو‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬مايسترو‮»‬‭ (‬2009‭) ‬و«على‭ ‬خيط‭ ‬نور‭... ‬هنا‭ ‬بين‭ ‬ليلين‮»‬‭ (‬2013‭)‬،‭ ‬وهما‭ ‬ديوانان‭ ‬كبيران‭ ‬يضمان‭ ‬160‭ ‬قصيدة،‭ ‬وأعيدت‭ ‬طباعتهما‭ ‬مرات‭ ‬عدة،‭ ‬وهذه‭ ‬مسألة‭ ‬لافتة،‭ ‬فطباعة‭ ‬الأعمال‭ ‬الشعرية‭ ‬لا‭ ‬تتكرر‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬عربياً،‭ ‬والآن‭ ‬لدي‭ ‬ديوان‭ ‬جديد،‭ ‬لم‭ ‬يصدر‭ ‬بعد،‭ ‬مكرّس‭ ‬لقصائد‭ ‬حب‭. 

لكن‭ ‬الملاحظة‭ ‬التي‭ ‬تغيب‭ ‬عن‭ ‬بالنا‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬كونه‭ ‬شاعراً‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬توقف‭ ‬عن‭ ‬كتابة‭ ‬الشعر،‭ ‬فرامبو‭ ‬كتب‭ ‬الشعر‭ ‬لمدة‭ ‬عامين‭ ‬خلال‭ ‬حياته،‭ ‬ولكنه‭ ‬بقي‭ ‬شاعراً‭ ‬بارزاً،‭ ‬والسياب‭ ‬مات‭ ‬صغيراً،‭ ‬وكذلك‭ ‬لوركا‭ ‬وبوشكين،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬يتوقف‭ ‬أيضاً‭ ‬عن‭ ‬الكتابة‭ ‬بسبب‭ ‬موته،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬شاعراً،‭ ‬كالأم‭ ‬التي‭ ‬إن‭ ‬توقفت‭ ‬عن‭ ‬الإنجاب‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬أمّاً‭. ‬فالمنجز‭ ‬المتحقق‭ ‬للشاعر‭ ‬أو‭ ‬للكاتب‭ ‬الذي‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬الكتابة‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يؤهله‭ ‬لأن‭ ‬يكون‭ ‬شاعراً‭ ‬أو‭ ‬كاتباً‭ ‬أو‭ ‬لا،‭ ‬لا‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكتبه‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد،‭ ‬وقد‭ ‬علّمتنا‭ ‬التجارب‭ ‬أن‭ ‬الاستمرار‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬الحياة،‭ ‬فكثير‭ ‬من‭ ‬الكتّاب‭ ‬قدّموا‭ ‬أردأ‭ ‬ما‭ ‬لديهم‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬أعمارهم‭. ‬

‭<‬‭ ‬هل‭ ‬أفهم‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬الروائي‭ ‬فيك،‭ ‬وهو‭ ‬المتغلب‭ ‬حضورًا،‭ ‬لايزال‭ ‬متمسكاً‭ ‬بالشاعر،‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أنك‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬الشاعر‭ ‬فيك‭ ‬بأهمية‭ ‬موازية‭ ‬لأهمية‭ ‬الروائي‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الإبداع؟

‭ - ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬لا‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬الفنين‭ ‬نظرتي‭ ‬لملاكمين‭ ‬في‭ ‬حلبة،‭ ‬وإنما‭ ‬أنظر‭ ‬إليهما‭ ‬نظرتي‭ ‬إلى‭ ‬شجرتين‭ ‬في‭ ‬حديقة،‭ ‬لنقل‭: ‬شجرة‭ ‬تفاح‭ ‬وشجرة‭ ‬برتقال،‭ ‬أو‭ ‬نخلة‭ ‬وزيتونة،‭ ‬أو‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إنهما‭ ‬جناحان‭ ‬لطائر‭... ‬ولا‭ ‬أحسب‭ ‬أن‭ ‬طائراً‭ ‬في‭ ‬الكون‭ ‬يُفضّل‭ ‬جناحاً‭ ‬على‭ ‬جناح‭.‬

‭ ‬‭<‬‭ ‬ولكن‭ ‬الشاعر‭ ‬فيك‭ ‬أصبح‭ ‬شبه‭ ‬مغيَّب‭ ‬حضوراً‭ ‬شعرياً،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬تغييبه‭ ‬نقدياً،‭ ‬بفعل‭ ‬حضور‭ ‬الروائي‭ ‬بديلاً؟

‭- ‬لا‭ ‬أحس‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬تغييباً‭ ‬للشاعر‭ ‬فيَّ،‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬النقدي‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬رسائل‭ ‬الماجستير‭ ‬والدكتوراه،‭ ‬لكن‭ ‬نجومية‭ ‬الشعراء‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬والعالم‭ (‬إعلامياً‭) ‬تراجعت،‭ ‬والإعلام‭ ‬ليس‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬الفعل‭ ‬الثقافي،‭ ‬بل‭ ‬صدى‭ ‬له،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬أوهى‭ ‬قشوره‭. ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نعترف‭ ‬بأن‭ ‬الرواية‭ ‬تتقدم‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬القرائي،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬وليس‭ ‬لدينا‭ ‬فحسب،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يلمسه‭ ‬القراء‭ ‬والنقاد‭ ‬والناشرون‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬لكنني‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬أحسّ،‭ ‬وربما‭ ‬يحسّ‭ ‬معي‭ ‬محبّو‭ ‬الشعر،‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬بديل‭ ‬للقصيدة‭ ‬الجيدة،‭ ‬ففيها‭ ‬من‭ ‬كثافة‭ ‬الحياة‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يعوّضه‭ ‬أي‭ ‬لون‭ ‬أدبيّ‭ ‬آخر،‭ ‬لكن‭ ‬الناس‭ ‬امتلأوا‭ ‬بالشعر‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬ولدينا‭ ‬مخزون‭ ‬شعري‭ ‬يكفي‭ ‬لخمسمائة‭ ‬سنة،‭ ‬أما‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬البشر‭ ‬بحاجة‭ ‬إليه،‭ ‬واكتشفوه‭ ‬متأخرًا،‭ ‬فهو‭ ‬أنهم‭ ‬يتطلعون‭ ‬لفهم‭ ‬واقعهم‭ ‬وتاريخهم،‭ ‬لا‭ ‬الإحساس‭ ‬بهما‭ (‬شعرياً‭) ‬فحسب،‭ ‬وقد‭ ‬تقدّمت‭ ‬الرواية،‭ ‬أو‭ ‬لنكن‭ ‬أكثر‭ ‬تحديداً‭: ‬الرواية‭ ‬الجيدة،‭ ‬لتلبي‭ ‬نداء‭ ‬أسئلة‭ ‬الحيرة‭ ‬والترهل‭ ‬والتزييف‭ ‬التي‭ ‬أطبقت‭ ‬على‭ ‬مجتمعاتنا‭. ‬

‭<‬‭ ‬ولكني‭ ‬أسأل‭: ‬من‭ ‬أين‭ ‬نبع‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬الاختيار‮»‬‭ ‬عندك؟‭ ‬هل‭ ‬وجدت‭  ‬أن‭ ‬رؤيتك‭ ‬للعالم‭ ‬لا‭ ‬تستوعبها‭ ‬القصيدة،‭ ‬فذهبت‭ ‬إلى‭ ‬الرواية؟‭ ‬أم‭ ‬استجبت‭ ‬لما‭ ‬أشاعه‭ ‬بعض‭ ‬النقاد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬نحن‭ ‬فيه‭ ‬هو‭ ‬‮«‬عصر‭ ‬الرواية»؟

‭- ‬تعرف‭ ‬أن‭ ‬روايتي‭ ‬الأولى‭ ‬كتبت‭ ‬قبل‭ ‬عشرين‭ ‬عاماً‭ ‬مما‭ ‬بات‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الألفية‭ ‬الماضية‭ ‬يسمى‭ ‬عصر‭ ‬الرواية،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬مشروع‭ ‬الملهاة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬ولد‭ ‬مباشرة‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬صدورها،‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬الاهتمام‭ ‬الحقيقي‭ ‬هو‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالشعر،‭ ‬وكان‭ ‬الشاعر‭ ‬هو‭ ‬النجم‭ ‬وليس‭ ‬الروائي،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يؤرقني‭ ‬أيامها‭ ‬هو‭ ‬بداية‭ ‬رحيل‭ ‬كبار‭ ‬السنّ‭ ‬من‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬الذين‭ ‬عاشوا‭ ‬فلسطين‭ ‬وتفاصيلها،‭ ‬وبالتالي‭ ‬رحيل‭ ‬ذاكرتهم‭ ‬معهم،‭ ‬ما‭ ‬دفعني‭ ‬للعمل‭ ‬على‭ ‬مشروع‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬حماية‭ ‬الذاكرة،‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬على‭ ‬يقين‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الحكايات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬نكتبها‭ ‬تصبح‭ ‬ملْكاً‭ ‬لأعدائنا،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬أن‭ ‬أقدّم‭ ‬إسهاماً‭ ‬فنياً‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬الرواية،‭ ‬فالقضايا‭ ‬الكبرى‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬مستويات‭ ‬فنية‭ ‬عالية‭ ‬للتعبير‭ ‬عنها،‭ ‬وقد‭ ‬قلت‭ ‬هذه‭ ‬الجملة‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬حوار‭ ‬صحفي‭ ‬أُجري‭ ‬معي‭  ‬في‭ ‬حياتي،‭ ‬ونشر‭ ‬في‭ ‬الكويت‭. ‬

وحين‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬الرواية،‭ ‬والشعر،‭ ‬نتحدث‭ ‬أيضاً‭ ‬عن‭ ‬فترة‭ ‬اتسعت‭ ‬فيها‭ ‬قصيدتي‭ ‬نحو‭ ‬الملحمية‭ ‬في‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬حين‭ ‬أصدرت‭ ‬أعمالاً‭ ‬شعرية‭ ‬طويلة‭ ‬فيها‭ ‬شخصيات‭ ‬وأحداث‭ ‬متعددة،‭ ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬ظني‭ ‬كافياً‭ ‬لاستيعاب‭ ‬الحالة‭ ‬الملحمية‭ ‬التي‭ ‬تتحرك‭ ‬في‭ ‬داخلي،‭ ‬وقد‭ ‬استطاعت‭ ‬الروايات،‭ ‬وبخاصة‭ ‬الطويلة،‭ ‬التاريخية،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬زمن‭ ‬الخيول‭ ‬البيضاء‮»‬‭ ‬و«قناديل‭ ‬ملك‭ ‬الجليل‮»‬‭ ‬أن‭ ‬تلبي‭ ‬حاجتي‭ ‬إلى‭ ‬تعبير‭ ‬أكثر‭ ‬اتساعاً،‭ ‬ومدى‭ ‬تتحرك‭ ‬فيه‭ ‬مئات‭ ‬الشخصيات‭ ‬بيسر‭ ‬أكبر،‭ ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬للقصيدة‭ ‬أن‭ ‬تستوعبه‭ ‬مهما‭ ‬اتّسعت‭. ‬

‭<‬‭ ‬يخطر‭ ‬لي‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬أسأل‭ ‬عن‭ ‬المسافة،‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬مسافة‭ ‬تضعها‭ ‬بين‭ ‬‮«‬القصيدة‭ ‬رؤية‮»‬‭ ‬و«الرواية‭ ‬رؤية‮»‬‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الموضوع،‭ ‬وتدخلات‭ ‬الذات‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬صوغ‭ ‬حضورها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذين‭ ‬النمطين‭ ‬الإبداعيين،‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬لكل‭ ‬منهما‭ ‬من‭ ‬أسس‭ ‬موضوعية‭ ‬وأخرى‭ ‬فنية‭.‬

‭- ‬لنعترف‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬حاضر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يكتب،‭ ‬بأحاسيسه‭ ‬ورؤاه،‭ ‬لكن‭ ‬للمفارقة‭: ‬إذا‭ ‬ظهَرَ‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬فإن‭ ‬ظهوره‭ ‬سقطة‭ ‬فنية،‭ ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬ظهر‭ ‬في‭ ‬القصيدة،‭ ‬فلا‭ ‬مشكلة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭!‬

أظن‭ ‬أنك‭ ‬حين‭ ‬تكتب‭ ‬الرواية‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬كامل‭ ‬حضورك،‭ ‬فأنت‭ ‬الذي‭ ‬تكتب‭ ‬اللغة،‭ ‬وتبني‭ ‬عملك‭ ‬فنياً،‭ ‬وتُنطق‭ ‬الشخصيات،‭ ‬وتتركها‭ ‬تموت‭ ‬أو‭ ‬تحيا،‭ ‬أو‭ ‬تحتلَّ‭ ‬المشهد‭ ‬أو‭ ‬تتهمش،‭ ‬ورؤيتها‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬هي‭ ‬مجمل‭ ‬رؤاك‭ ‬وأفكارك‭ ‬وثقافتك،‭ ‬لنقل‭: ‬معرفتك‭. ‬لكنك‭ ‬هنا،‭ ‬ككاتب‭: ‬شبح،‭ ‬أو‭ ‬يمكننا‭ ‬القول‭: ‬طيف،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬فأنت‭ ‬بلحمك‭ ‬ودمك‭ ‬وأحاسيسك‭ ‬المكشوفة،‭ ‬لك‭ ‬وللقارئ‭.‬

‭<‬‭ ‬في‭ ‬رواياتك‭ ‬تتعدد‭ ‬عندك‭ ‬المعاني،‭ ‬وتنفتح‭ ‬المسافات‭... ‬فمرة‭ ‬تُطل‭ ‬على‭ ‬الماضي،‭ ‬وفي‭ ‬أخرى‭ ‬تتأمل‭ ‬في‭ ‬الحاضر،‭ ‬وفي‭ ‬ثالثة‭ ‬تضع‭ ‬الذات،‭ ‬ذاتك‭ ‬أو‭ ‬ذات‭ ‬البطل،‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬العالم‭... ‬ما‭ ‬يثير‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬منظورك‭ ‬للرواية‭ ‬ودور‭ ‬العمل‭ ‬الروائي‭ ‬في‭ ‬حياتنا،‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬نعيش‭ ‬الحياة‭ ‬بوجوهها‭ ‬المتعددة‭. ‬

‭- ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتمّ‭ ‬افتعالها،‭ ‬إلا‭ ‬الفن،‭ ‬ويمكنني‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬الآن،‭ ‬وقد‭ ‬غدوت‭ ‬في‭ ‬برَّ‭ ‬الستين‭ ‬من‭ ‬عمري،‭ ‬إنني‭ ‬عشت‭ ‬تجارب‭ ‬كثيرة،‭ ‬منذ‭ ‬أصداء‭ ‬النكبة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬التي‭ ‬ولدتُ‭ ‬من‭ ‬بعدها‭ ‬بست‭ ‬سنوات،‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬وعملت‭ ‬في‭ ‬حقول‭ ‬عدة،‭ ‬وعايشت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬فن،‭ ‬بدءاً‭ ‬بالشعر،‭ ‬فالرواية،‭ ‬ثم،‭ ‬السينما،‭ ‬والتصوير،‭ ‬والرسم،‭ ‬وتنوع‭ ‬القراءات،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬الموسيقى،‭ ‬ولأعترف‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬يحشدك‭ ‬بيقظة‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬خاص،‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التقاط‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة،‭ ‬وهكذا‭ ‬تعددت‭ ‬هواجس‭ ‬روايتي،‭ ‬وشعري‭ ‬أيضاً،‭ ‬فهناك‭ ‬تلك‭ ‬المعايشات‭ ‬كلها‭ ‬للفرد‭ ‬والمجموع،‭ ‬للحاضر‭ ‬والماضي،‭ ‬وكنت‭ ‬دائماً‭ ‬أتطلع‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أطلّ‭ ‬على‭ ‬المستقبل،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تحقق‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬روايتي‭ ‬الأخيرة‭ ‬‮«‬حرب‭ ‬الكلب‭ ‬الثانية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬أحداثها‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬قادم‭ ‬مختلف‭.‬

‭<‬‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬بُعدان‭ ‬واضحان‭ ‬في‭ ‬رواياتك‭.. ‬كما‭ ‬أزمنة‭ ‬الإنسان‭ ‬بينهما‭... ‬وفيهما‭/ ‬ومن‭ ‬خلالهما‭ ‬تتعيّن‭ ‬عندك‭ ‬العلاقات،‭ ‬والمسارات‭. ‬فهل‭ ‬أنت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬بصدد‭ ‬إعادة‭ ‬البناء،‭ ‬وبلورة‭ ‬ما‭ ‬أمامك‭ ‬من‭ ‬تكوينات؟

‭- ‬في‭ ‬ظني‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬عمل‭ ‬أدبي‭ ‬يحمل‭ ‬مشروعه‭ ‬الخاص،‭ ‬ومقوماته‭ ‬في‭ ‬تعامله‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬رؤى‭ ‬وأمكنة‭ ‬وأزمنة‭ ‬وشخوص‭ ‬وأحداث،‭ ‬لكن‭ ‬المسألة‭ ‬تبدو‭ ‬أكثر‭ ‬وضوحاً‭ ‬حينما‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬روايات‭ ‬‮«‬الملهاة‭ ‬الفلسطينية‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬عشر‭ ‬روايات‭. ‬فحين‭ ‬تكتب‭ ‬عن‭ ‬وطن‭ ‬مسروق،‭ ‬فأنت‭ ‬تعيد‭ ‬بناء‭ ‬الوطن‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬عملك،‭ ‬بحيث‭ ‬يصعب‭ ‬على‭ ‬السارق‭ ‬أن‭ ‬يسرقه‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الذاكرة‭ ‬ومن‭ ‬حقيقة‭ ‬كونه‭ ‬وطنك،‭ ‬فأنت‭ ‬ربما‭ ‬تستعيده‭ ‬بصورة‭ ‬ما‭. ‬وحين‭ ‬تكتب‭ ‬عن‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬تمّ‭ ‬هدمه،‭ ‬فأنت‭ ‬تكتب‭ ‬عن‭ ‬بيتك‭ ‬أو‭ ‬قريتك‭ ‬بطريقة‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬بإعادة‭ ‬هدمهما‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬وحين‭ ‬تكتب‭ ‬عن‭ ‬الشهيد،‭ ‬فأنت‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬لهم‭ ‬بأن‭ ‬يقتلوه‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭. ‬لكن‭  ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬لا‭ ‬يتحقق‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬قدمت‭ ‬عملاً‭ ‬ينتمي‭ ‬لأرفع‭ ‬مستويات‭ ‬الكتابة،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬وهذه‭ ‬هي‭ ‬خطورة‭ ‬الفن،‭ ‬وخطورة‭ ‬الكتابة،‭ ‬والرواية‭ ‬بالذات،‭ ‬فهي‭ ‬من‭ ‬أقوى‭ ‬أشكال‭ ‬الكتابة‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬الهويات‭ ‬القومية‭. ‬وحين‭ ‬تقول‭ ‬الزعيمة‭ ‬الصهيونية‭ ‬جولدا‭ ‬مائير‭: ‬‮«‬لو‭ ‬كان‭ ‬الفلسطينيون‭ ‬شعباً،‭ ‬لكان‭ ‬لهم‭ ‬أدب‮»‬،‭ ‬ستدرك‭ ‬أن‭ ‬الكتابة‭ ‬لدينا،‭ ‬بحدّ‭ ‬ذاتها،‭ ‬هي‭ ‬فعل‭ ‬وجود‭. ‬الآن‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬لا‭ ‬أدب‭ ‬لهم‭. ‬

‭<‬‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يعطي‭ ‬الروائي‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المشروعية؟

‭- ‬ربما‭ ‬تعطيه‭ ‬هذه‭ ‬المشروعية‭ ‬قوة‭ ‬الأداة‭ ‬التي‭ ‬يمتلكها،‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬تنتمي‭ ‬لمستويات‭ ‬فنية‭ ‬عالية،‭ ‬وقدرة‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬رؤى‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬تشكل‭ ‬القرّاء،‭ ‬وتعيد‭ ‬بناء‭ ‬العوالم‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬سواء‭ ‬تلك‭ ‬العوالم‭ ‬التي‭ ‬اندثرت‭ ‬أو‭ ‬العوالم‭ ‬القائمة‭ ‬التي‭ ‬يحاورها‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬ويفاجئنا‭ ‬بأننا‭ ‬لم‭ ‬نعرفها،‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كتبها،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أننا‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬جزء‭ ‬منها‭. ‬

‭<‬‭ ‬وأنا‭ ‬أتابع‭ ‬ما‭ ‬كتبت‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬روائية،‭ ‬تبدو‭ ‬لي‭ ‬أنك‭ ‬‮«‬صاحب‭ ‬مشروع‭ ‬روائي‮»‬‭... ‬فإن‭ ‬كان،‭ ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬تحقيقه،‭ ‬وتأكيده،‭ ‬خصوصاً‭ ‬أنك‭ ‬تواصل‭ ‬الكتابة‭ ‬بروح‭ ‬تبدو‭ ‬لي‭ ‬أنها‭ ‬روح‭ ‬من‭ ‬يحمل‭ ‬مشروعاً؟

‭- ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬تعاملت‭ ‬مع‭ ‬الكتابة‭ ‬بوصفها‭ ‬مشروع‭ ‬حياة،‭ ‬شعراً‭ ‬ورواية‭. ‬ولكن،‭ ‬لأعترف‭: ‬فإن‭ ‬كون‭ ‬المرء‭ ‬فلسطينياً‭ ‬مُقتَلعاً‭ ‬من‭ ‬أرضه‭ ‬يفرض‭ ‬عليه‭ ‬أسئلة‭ ‬كثيرة،‭ ‬حول‭ ‬جدوى‭ ‬وجوده،‭ ‬ومعنى‭ ‬إنسانيته،‭ ‬وهو‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القضية‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬أُعطيَ‭ ‬العالم‭ ‬فرصةَ‭ ‬مائة‭ ‬عام‭ ‬لأن‭ ‬يثبت‭ ‬أن‭ ‬له‭ ‬ضميراً‭ ‬في‭ ‬تعامله‭ ‬معها،‭ ‬وأثبت‭ ‬العكس‭. ‬الآن،‭ ‬بات‭ ‬مشروع‭ ‬الملهاة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬يغطي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مائتين‭ ‬وخمسين‭ ‬عاماً‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬فلسطين‭ ‬الإنساني‭ ‬والثقافي‭ ‬والجمالي،‭ ‬وهذه‭ ‬فترة‭ ‬طويلة،‭ ‬كنت‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أعرفها‭ ‬قارئاً،‭ ‬وقد‭ ‬أتاحت‭ ‬لي‭ ‬الكتابة‭ ‬أن‭ ‬أعيشها،‭ ‬بأحلامها‭ ‬وكوابيسها،‭ ‬بجمالها‭ ‬وقسوتها،‭ ‬وأن‭ ‬أعيد‭ ‬بناء‭ ‬أجزاء‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الوطن‭ ‬الذي‭ ‬سُلب‭. ‬لكنني،‭ ‬داخل‭ ‬هذا‭ ‬الهاجس‭ ‬القوي‭ ‬والمسيطر،‭ ‬كنت‭ ‬أسعى‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬الذات‭ ‬الفنية،‭ ‬لأنني‭ ‬على‭ ‬يقين‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬سيقف‭ ‬معك‭ ‬بصورة‭ ‬أفضل‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬قرأ‭ ‬أعمالاً‭ ‬جيدة‭ ‬لك،‭ ‬وسيقلّ‭ ‬تعاطفه‭ ‬معك‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬قرأ‭ ‬أعمالاً‭ ‬متوسطة‭ ‬أو‭ ‬متدنية،‭ ‬وليس‭ ‬العالم‭ ‬وحده،‭ ‬بل‭ ‬ابن‭ ‬وطنك‭ ‬وابن‭ ‬عروبتك‭ ‬أيضاً‭.‬

ما‭ ‬كتبته‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬أصبح‭ ‬واقعاً،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬يؤرقني‭ ‬هو‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬أكتبه‭ ‬بعد،‭ ‬وهو‭ ‬كثير،‭ ‬ومتنوع،‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬كم‭ ‬سيسعفني‭ ‬العمر،‭ ‬في‭ ‬هذا،‭ ‬لإنجازه،‭ ‬أو‭ ‬لإنجاز‭ ‬بعضه‭. ‬

‭<‬‭ ‬ركّز‭ ‬قراؤك‭ ‬على‭ ‬روايتك‭ ‬‮«‬زمن‭ ‬الخيول‭ ‬البيضاء‮»‬،‭ ‬فمن‭ ‬أين‭ ‬جاءهم‭ ‬هذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬بها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سواها‭ ‬من‭ ‬أعمالك‭ ‬الأخرى،‭ ‬بحسب‭ ‬متابعتك‭ ‬لآرائهم؟‭ ‬وهل‭ ‬تراها‭ ‬أنت‭ ‬كذلك؟

‭- ‬في‭ ‬ظني‭ ‬أن‭ ‬‮«‬زمن‭ ‬الخيول‮»‬‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬قلوب‭ ‬القراء‭ ‬ووعيهم،‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬يحتاجون‭ ‬إليها،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬أحتاج‭ ‬إليها‭ ‬قارئاً،‭ ‬ولذا‭ ‬ألمس‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬قوة‭ ‬تأثيرها‭ ‬على‭ ‬الأجيال‭ ‬الشابة،‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬وحدها،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬أيضاً،‭ ‬وإلى‭ ‬جانبها‭ ‬رواياتي‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬تعاد‭ ‬طباعتها‭ ‬سنوياً‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة،‭ ‬ولعل‭ ‬اختيار‭ ‬خمس‭ ‬من‭ ‬رواياتي‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أفضل‭ ‬عشر‭ ‬روايات‭ ‬كتبها‭ ‬فلسطينيون،‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬القراء،‭ ‬واختيار‭ ‬‮«‬زمن‭ ‬الخيول‮»‬‭ ‬رواية‭ ‬فلسطينية‭ ‬أولى،‭ ‬أمر‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬الفرح‭ ‬حقاً،‭ ‬وبخاصة‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬يوماً‭ ‬ابناً‭ ‬لنظام‭ ‬أو‭ ‬تنظيم‭ ‬أو‭ ‬مؤسسة‭ ‬كبيرة‭ ‬مؤثرة،‭ ‬لقد‭ ‬ولدت‭ ‬في‭ ‬الهامش‭ ‬وعشت‭ ‬فيه‭ ‬حياتي‭ ‬كلها،‭ ‬وكنت‭ ‬ابناً‭ ‬للناس‭. ‬لقد‭ ‬أسعدني‭ ‬تعليق‭ ‬الدكتورة‭ ‬سلمى‭ ‬الخضراء‭ ‬الجيوسي‭ ‬على‭ ‬اختيارات‭ ‬القراء‭ ‬حين‭ ‬كتبت‭ ‬لي‭ ‬تقول‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الذوق‭ ‬العام‭ ‬اختار‭ ‬أحسن‭ ‬ما‭ ‬عندنا،‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬أحسن‭ ‬روايات‭ ‬شعبنا‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‮»‬‭, ‬وكانت‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬أعمالي‭ ‬الخمسة‭ ‬هذه،‭ ‬وإلى‭ ‬أعمال‭ ‬أخرى‭ ‬لغسان‭ ‬كنفاني‭ ‬وإميل‭ ‬حبيبي‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الروايات‭ ‬العشر‭. ‬ولعل‭ ‬ما‭ ‬يفرح‭ ‬أكثر‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الروايات‭ ‬تقف‭ ‬في‭ ‬طليعة‭ ‬الروايات‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬تقويم‭ ‬القراء‭ ‬لها،‭ ‬والاستطلاعات‭. ‬وما‭ ‬يدهشني‭ ‬ويفرحني‭ ‬في‭ ‬قارئ‭ ‬اليوم‭ ‬أنه‭ ‬يمتلك‭ ‬رؤية‭ ‬عميقة‭ ‬وذائقة‭ ‬رفيعة،‭ ‬ومن‭ ‬الصعب‭ ‬إقناعه‭ ‬بأي‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬مقتنعاً‭ ‬به‭.