أحمد الجرطي نموذجاً أسئلة نشأة السردية العربية الحديثة

أحمد الجرطي نموذجاً  أسئلة نشأة السردية العربية الحديثة

لا شك في أن البحث في  نشأة السردية العربية لا يخلو من صعوبات، لاسيما عندما تتصل الدراسة بحقل نقد النقد، الذي يتطلب إلماما أكبر بقضايا الموضوع، بل والخوض في مقابل ذلك في واقع النقد العربي لاستغوار طرائق خوضه في هذه الإشكاليات والقضايا، لكن الناقد المغربي أحمد الجرطي في كتابه «أسئلة نشأة الرواية العربية الحديثة بين سوسيولوجيا الأدب وخطاب ما بعد الكولونيالية» آثر أن يخوض هذا الدرب الصعب الذي يزيد من صعوبته أن النظريات والمناهج النقدية التي سعى بها النقاد العرب إلى مقاربة كيفية تخلّق السردية العربية، تجد صداها في الغرب، ليطفو السؤال حول طبيعة هذا المتح، الذي ارتضاه هؤلاء النقاد في سياق مغاير تمام المغايرة للمحضن الذي تولدت فيه هذه النظريات، 
هل هو تفاعل مطبوع بالامتثال التام لشروط التنظير الغربي «مكرسين أزمة التبعية والتغريب»؟ أم هو تفاعل بناء حريص على استحضار سياقات الثقافة العربية، ومن ثم تخصيبها وفق الشروط الجديدة؟

شكل‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬هدفاً‭ ‬رئيساً‭ ‬للمؤلف،‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬فضاءات‭ ‬للنشر‭ ‬والتوزيع،‭ ‬وتأسيساً‭ ‬عليه‭ ‬آثر‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الإشكالية‭ ‬بهدف‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬المنهمرة‭ ‬التي‭ ‬صاحبت‭ ‬ولادة‭ ‬الرواية‭ ‬العربية،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬هدف‭ ‬ثان‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬الغاية‭ ‬من‭ ‬تخصيص‭ ‬كتاب‭ ‬حول‭ ‬الموضوع،‭ ‬محاولاً‭ ‬تصنيف‭ ‬أهم‭ ‬الاتجاهات‭ ‬النقدية‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬احتفت‭ ‬بموضوع‭ ‬النشأة‭ ‬هذه،‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬وهكذا‭ ‬نتيجة‭ ‬لتضافر‭ ‬هذه‭ ‬الدوافع‭ ‬العلمية‭ ‬والمنهجية،‭ ‬استقوت‭ ‬قناعتنا‭ ‬بضرورة‭ ‬إفراد‭ ‬كتاب‭ ‬مستقل‭ ‬لإشكالية‭ ‬تلقي‭ ‬نشأة‭ ‬السردية‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الروائي‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر،‭ ‬متطلعين‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬إلى‭ ‬تصنيف‭ ‬أهم‭ ‬الاتجاهات‭ ‬النقدية‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬احتفت‭ ‬بموضوع‭ ‬نشأة‭ ‬السردية‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬المنهجية‭ ‬وتفكيك‭ ‬محصلة‭ ‬نتائجها‮»‬‭.‬

فإلى‭ ‬أي‭ ‬حد‭ ‬التزم‭ ‬المؤلف‭ ‬بطبيعة‭ ‬هذه‭ ‬الأهداف،‭ ‬وهو‭ ‬يحاور‭ ‬تلك‭ ‬التصورات‭ ‬النقدية؟

 

نظرية‭ ‬الرواية‭ ‬الغربية

عنوان‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬بين‭ ‬أيدينا‭ ‬لا‭ ‬يترك‭ ‬مجالاً‭ ‬للتساؤل‭ ‬حول‭ ‬نوعية‭ ‬الموضوعات‭ ‬المطروقة‭ ‬فيه،‭ ‬فالإشكالية‭ ‬التي‭ ‬يحاول‭ ‬المؤلف‭ ‬مناقشتها‭ ‬تتعلق‭ ‬بنشأة‭ ‬السردية‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬تجاوز‭ ‬ذلك‭ ‬بتخصيص‭ ‬فصل‭ ‬نظري‭ ‬حول‭ ‬نشأة‭ ‬الرواية‭ ‬الغربية،‭ ‬وهو‭ ‬اختيار‭ ‬منهجي‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬يسوغه،‭ ‬ولاسيما‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬المشاريع‭ ‬النقدية‭ ‬العربية‭ ‬المبثوثة‭ ‬في‭ ‬ثنايا‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬تتكئ‭ ‬على‭ ‬خلفيات‭ ‬نقدية‭ ‬غربية‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬نشأة‭ ‬الرواية‭ ‬العربية،‭ ‬وهكذا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يقدم‭ ‬الناقد‭ ‬د‭. ‬أحمد‭ ‬الجرطي‭ ‬في‭ ‬مدخل‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬دفعته‭ ‬للخوض‭ ‬في‭ ‬الموضوع،‭ ‬والأهداف‭ ‬التي‭ ‬ينشد‭ ‬تحقيقها،‭ ‬موضحاً‭ ‬بذلك‭ ‬منهجية‭ ‬الاشتغال،‭ ‬نجده‭ ‬يقف‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭ ‬المعنون‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬نظرية‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الغربي‭ ‬بين‭ ‬سوسيولوجيا‭ ‬الأدب‭ ‬وخطاب‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونيالية‮»‬‭ ‬عند‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬الطروحات‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬عملت‭ ‬على‭ ‬تفسير‭ ‬نشأة‭ ‬الرواية‭ ‬الغربية‭ ‬بالاستناد‭ ‬إلى‭ ‬خلفيات‭ ‬فكرية‭ ‬وفلسفية‭ ‬مختلفة،‭ ‬فمن‭ ‬جورج‭ ‬لوكاتش‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬الفكر‭ ‬الهيجلي‭ ‬منغرساً‭ ‬في‭ ‬أحكامه‭ ‬النقدية،‭ ‬وطروحاته‭ ‬حول‭ ‬تشكُّل‭ ‬الرواية،‭ ‬بتأكيده‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬هي‭ ‬حصيلة‭ ‬للتبدلات‭ ‬التي‭ ‬شهدها‭ ‬المجتمع‭ ‬الغربي‭ ‬بالانتقال‭ ‬من‭ ‬مجتمع‭ ‬أرستقراطي‭ ‬إقطاعي،‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬رأسمالي‭ ‬بورجوازي‭ ‬يعيش‭ ‬التشظي‭ ‬والتشتت،‭ ‬من‭ ‬جراء‭ ‬تصدع‭ ‬الحاضر‭ ‬وغموض‭ ‬المستقبل‭. ‬ولذلك‭ ‬كانت‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬لوكاتش‭ ‬هي‭ ‬الجنس‭ ‬الأدبي‭ ‬القادر‭ ‬على‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬تناقضات‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع،‭ ‬وتصوير‭ ‬اللاتناغم‭ ‬الذي‭ ‬يدب‭ ‬فيه،‭ ‬في‭ ‬توق‭ ‬محموم‭ ‬‮«‬للكلية‭ ‬الغائبة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يرشح‭ ‬بها‭ ‬زمن‭ ‬الملحمة‭ ‬البهيج‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬يؤكد‭ ‬ذلك‭ ‬المؤلف،‭ ‬الذي‭ ‬وإن‭ ‬شدد‭ ‬على‭ ‬أهمية‭ ‬هذا‭ ‬الطرح‭ ‬النقدي‭,‬‭ ‬فإنه‭ ‬أبرز‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬نفسه‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الانتقادات‭ ‬التي‭ ‬وجهت‭ ‬إلى‭ ‬لوكاتش،‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬بريخت‭ ‬وأدورنو‭ ‬اللذين‭ ‬رفضا‭ ‬تباعاً‭ ‬توثين‭ ‬الشكل‭ ‬وتصنيمه،‭ ‬ثم‭ ‬الانغراس‭ ‬التام‭ ‬في‭ ‬تمثيل‭ ‬تناقضات‭ ‬الواقع‭ ‬الخارجي‭.‬

إلى‭ ‬جانب‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬يقف‭ ‬الناقد‭ ‬عند‭ ‬طرح‭ ‬ميخائيل‭ ‬باختين،‭ ‬الذي‭ ‬رفض‭ ‬التصور‭ ‬اللوكاتشي‭ ‬المحتفي‭ ‬بالملحمة‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الرواية،‭ ‬بالتأكيد‭ ‬على‭ ‬الميزة‭ ‬الحوارية‭ ‬لفن‭ ‬الرواية،‭ ‬وهي‭ ‬الميزة‭ ‬التي‭ ‬دفعته‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬المؤلف،‭ ‬إلى‭ ‬الاحتفاء‭ ‬بدوستويفسكي‭ ‬باعتباره‭ ‬روائياً‭ ‬بوليفونياً‭ (‬متعدد‭ ‬الأصوات‭)‬،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تم‭ ‬تبخيس‭ ‬أعمال‭ ‬أخرى‭ ‬ذات‭ ‬منزع‭ ‬منولوجي‭ (‬ذو‭ ‬صوت‭ ‬واحد‭ ‬باطني‭)‬،‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬تنماز‭ ‬به‭ ‬الرواية‭ ‬المونولوجية‭ ‬من‭ ‬خصائص‭ ‬فنية‭ ‬مائزة‭ ‬ترفعها‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬الأعمال‭ ‬الإبداعية‭ ‬الجيدة‭.‬

ورغم‭ ‬ما‭ ‬اكتنز‭ ‬به‭ ‬هذا‭ ‬المبحث‭ ‬من‭ ‬أسئلة‭ ‬موضوعية‭ ‬وجادة،‭ ‬فإن‭ ‬الناقد‭ ‬الجرطي‭ ‬يثمن‭ ‬هذا‭ ‬الجهد‭ ‬النقدي‭ ‬اللماح،‭ ‬ويشدد‭ ‬على‭ ‬أهميته‭ ‬في‭ ‬فتح‭ ‬كوىً‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬نظرية‭ ‬الأدب،‭ ‬ملأت‭ ‬فجواتها‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬الجهود‭ ‬النقدية‭ ‬اللاحقة‭ ‬التي‭ ‬استرشدت‭ ‬بالتصور‭ ‬الباختيني،‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬اضطلع‭ ‬به‭ ‬بيير‭ ‬زيما،‭ ‬الذي‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬تفريد‭ ‬طرحه‭ ‬النقدي‭ ‬بالمتح‭ ‬من‭ ‬خلفيات‭ ‬نقدية‭ ‬وفكرية‭ ‬مختلفة،‭ ‬ومتعارضة‭ ‬أحياناً،‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬دفع‭ ‬الباحث‭ ‬لطرح‭ ‬السؤال‭ ‬التالي‭: ‬‮«‬إلى‭ ‬أي‭ ‬حد‭ ‬سيوفق‭ ‬الناقد‭ ‬البلغاري‭ ‬الأصل‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬التماسك‭ ‬النظري،‭ ‬والتعاضد‭ ‬التأويلي‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الروافد‭ ‬المعرفية‭ ‬والنقدية»؟

  ‬وهو‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬سيقدم‭ ‬له‭ ‬إجابة‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الإطار‭ ‬الموجه‭ ‬لهذه‭ ‬المحاورة‭ ‬النقدية‭ ‬هو‭ ‬تخليق‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬القابلة‭ ‬للارتهان‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الممارسة‭ ‬النقدية‮»‬‭. ‬ولكن‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬يطرح‭ ‬هنا‭ ‬هو‭: ‬كيف‭ ‬ينظر‭ ‬لهذا‭ ‬الجمع‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬محاورة‭ ‬نقدية‭ ‬هدفها‭ ‬تخليق‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬المسعفة‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التحليل،‭ ‬بينما‭ ‬توسم‭ ‬أعمال‭ ‬أخرى‭ ‬سعت‭ ‬إلى‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬مناهج‭ ‬نقدية‭ ‬متنابذة‭ ‬أبستيمياً‭ ‬بالتلفيقية‭ ‬والفوضى‭ ‬المنهجية؟‭ ‬وهنا‭ ‬أستحضر‭ ‬الانتقادات‭ ‬اللاذعة‭ ‬التي‭ ‬وجهها‭ ‬الباحث‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬سابق‭ ‬موسوم‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬تمثلات‭ ‬النظرية‭ ‬الأدبية‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الروائي‭ ‬المعاصر‮»‬‭ ‬للناقد‭ ‬سعيد‭ ‬يقطين،‭ ‬الذي‭ ‬حاول‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬سوسيولوجيا‭ ‬النص‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تطعيم‭ ‬جهازه‭ ‬المفاهيمي،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬دفع‭ ‬المؤلف‭ ‬ليصفه‭ ‬بأنه‭ ‬نموذج‭ ‬صارخ‭ ‬لأزمة‭ ‬التغريب‭ ‬في‭ ‬نقدنا‭ ‬العربي،‭ ‬بينما‭ ‬يتبدى‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬باعتباره‭ ‬أحد‭ ‬أقطاب‭ ‬السرديات‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الجمع‭ ‬من‭ ‬لدن‭ ‬زيما‭ ‬يخرق‭ ‬الاعتبار‭ ‬الثاني‭ ‬الذي‭ ‬عضده‭ ‬المؤلف‭ ‬بمقولة‭ ‬لـ«بول‭ ‬أمسترونغ‮»‬‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬اللافت‭ ‬‮«‬القراءات‭ ‬المتصارعة‮»‬‭ ‬والتي‭ ‬شدد‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الجمع‭ ‬الانتقائي‭ ‬بين‭ ‬المداخل‭ ‬التأويلية‭ ‬التي‭ ‬فيها‭ ‬خلافات‭ ‬أساسية‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬‮«‬يخلق‭ ‬المشاكل‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يحلها‮»‬‭.‬

فضلا‭ ‬عن‭ ‬ذلك،‭ ‬ينفتح‭ ‬الباحث‭ ‬على‭ ‬الطرح‭ ‬النقدي‭ ‬لإدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬الذي‭ ‬ربط‭ ‬صعود‭ ‬الرواية‭ ‬بالتوسعات‭ ‬الاستعمارية‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬وهو‭ ‬تصور‭ ‬يرى‭ ‬المؤلف‭ ‬له‭ ‬وجاهته‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬التحولات‭ ‬التي‭ ‬بات‭ ‬يعيشها‭ ‬العالم،‭ ‬حيث‭ ‬هيمنة‭ ‬مركزية‭ ‬واحدة‭ ‬متعالية،‭ ‬ومعتدة‭ ‬بذاتها‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬نفسها‭ ‬الخلاصة‭ ‬النهائية‭ ‬لكل‭ ‬شيء،‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬هوامش‭ ‬ترنو‭ ‬لترميم‭ ‬ذواتها،‭ ‬وإعادة‭ ‬كتابة‭ ‬تواريخها‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬المساءلة‭ ‬والرغبة‭ ‬في‭ ‬استرداد‭ ‬الصوت‭ ‬المقموع‭.‬

ونظراً‭ ‬لأهمية‭ ‬هذا‭ ‬الطرح‭ ‬يقف‭ ‬الباحث‭ ‬عند‭ ‬أهم‭ ‬الخلفيات‭ ‬الفكرية‭ ‬والنقدية،‭ ‬التي‭ ‬شكلت‭ ‬رافدا‭ ‬رئيسا‭ ‬لإدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬في‭ ‬افتراع‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬الإجرائية،‭ ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬هاته‭ ‬الخلفيات‭ ‬تأثيرات‭ ‬ميشيل‭ ‬فوكو‭ ‬وغرامشي‭ ‬وفرانز‭ ‬فانون‭ ‬وجاك‭ ‬دريدا،‭ ‬وغيرهم،‭ ‬وإذ‭ ‬يقف‭ ‬الباحث‭ ‬عند‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الروافد،‭ ‬فهو‭ ‬يشدد‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬القدرة‭ ‬الكبيرة‭ ‬لسعيد‭ ‬في‭ ‬تطويعها‭ ‬حتى‭ ‬تستجيب‭ ‬لتحليلاته،‭ ‬رغم‭ ‬التنابذ‭ ‬الحاصل‭ ‬بينها‭ ‬أحياناً‭. ‬

وبالرغم‭ ‬من‭ ‬الانتقادات‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬وجهت‭ ‬لمشروع‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد،‭ ‬ولاسيما‭ ‬من‭ ‬لدن‭ ‬إعجاز‭ ‬أحمد،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬المؤلف‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬سعيد‭ ‬استطاع‭ ‬بما‭ ‬يملك‭ ‬من‭ ‬حس‭ ‬نقدي،‭ ‬ورؤية‭ ‬نافذة‭ ‬وعميقة‭ ‬أن‭ ‬يقدم‭ ‬تصوراً‭ ‬متفرداً،‭ ‬حاصله‭ ‬أن‭ ‬الفن‭ ‬الروائي‭ ‬كان‭ ‬مواكباً‭ ‬للتوسعات‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬في‭ ‬أراضي‭ ‬العالم،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬القول‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬تواطؤ‭ ‬الرواية‭ ‬مع‭ ‬الإمبريالية‭ ‬ودعمها‭ ‬لمشروعها‭ ‬الاستعماري‮»‬‭. ‬

ويخلص‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬تركيب‭ ‬عام‭ ‬تكشفت‭ ‬فيه‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬الحقائق‭ ‬أبرزها‭ -‬‭ ‬حسب‭ ‬الباحث‭ - ‬امتياح‭ ‬تلك‭ ‬التصورات‭ ‬من‭ ‬‮«‬منابع‭ ‬فلسفية‭ ‬وفكرية‭ ‬ومحددة،‭ ‬وارتهانها‭ ‬بسياقات‭ ‬حضارية‭ ‬وتاريخية‭ ‬معينة‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬‮«‬عدم‭ ‬اتفاقها‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬نهائي‭ ‬للرواية‭ ‬الغربية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬القيمة‭ ‬الجمالية‭ ‬والفكرية‭ ‬نتيجة‭ ‬تباين‭ ‬منطلقاتها‭ ‬الأبستمولوجية‮»‬‭.‬

 

أربعة‭ ‬تصورات‭ ‬نقدية

أما‭ ‬الفصل‭ ‬الثاني‭ ‬الموسوم‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬إشكاليات‭ ‬نشأة‭ ‬السردية‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬التنظير‭ ‬النقدي‭ ‬العربي‭ ‬السوسيولوجي‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬تطرق‭ ‬فيه‭ ‬المؤلف‭ ‬إلى‭ ‬أربعة‭ ‬تصورات‭ ‬نقدية،‭ ‬أولها‭ ‬تصور‭ ‬الناقد‭ ‬المغربي‭ ‬محمد‭ ‬برادة‭ ‬الذي‭ ‬أقرّ‭ ‬كما‭ ‬يؤكد‭ ‬الباحث‭ ‬‮«‬بفاعلية‭ ‬النظرية‭ ‬الباختينية‭ ‬في‭ ‬توصيف‭ ‬خصوصية‭ ‬الرواية‭ ‬العربية،‭ ‬وتأويل‭ ‬ظروف‭ ‬نشأتها‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬برادة‭ - ‬حسب‭ ‬الناقد‭ - ‬يحتفي‭ ‬بمفهوم‭  ‬‮«‬التعدد‭ ‬اللغوي‮»‬‭ ‬الباختيني،‭ ‬القادر‭ ‬من‭ ‬منظوره‭ ‬على‭ ‬استغوار‭ ‬مختلف‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬المتبطنة‭ ‬في‭ ‬المحاضن‭ ‬التاريخية،‭ ‬وكذا‭ ‬تشخيص‭ ‬مختلف‭ ‬التبدلات‭ ‬التي‭ ‬يعرفها‭ ‬المجتمع،‭ ‬وإن‭ ‬ظل‭ ‬المؤلف‭ ‬يؤكد‭ ‬عدم‭ ‬انجراف‭ ‬برادة‭ ‬وراء‭ ‬طروحات‭ ‬باختين‭ ‬رغم‭ ‬افتتانه‭ ‬الكبير‭ ‬بها،‭ ‬إذ‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬تنسيب‭ ‬المفهوم‭ ‬و«تضفيره‭ ‬وفق‭ ‬الخلفية‭ ‬الأبستيمولوجية‭ ‬الموجهة‭ ‬لسوسيولوجيا‭ ‬الأدب‮»‬،‭ ‬ليخلص‭ ‬بعد‭ ‬تتبع‭ ‬حثيث‭ ‬لمفاصل‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬محمد‭ ‬برادة،‭ ‬ظل‭ ‬في‭ ‬تأويله‭ ‬لتاريخ‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬‮«‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬نموذجية‭ ‬الأشكال‭ ‬الروائية‭ ‬الغربية‭ ‬ونمطيتها‮»‬‭.‬

وثانيها،‭ ‬هو‭ ‬التصور‭ ‬الذي‭ ‬قدمه‭ ‬الناقد‭ ‬الفلسطيني‭ ‬فيصل‭ ‬دراج،‭ ‬الذي‭ ‬أكد‭ ‬أن‭ ‬تعثر‭ ‬ولادة‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬راجع‭ ‬أساساً‭ ‬إلى‭ ‬استرفاد‭ ‬الروائيين‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬محاضن‭ ‬فكرية‭ ‬وفلسفية‭ ‬غربية،‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تغريب‭ ‬منجزهم‭ ‬الروائي،‭ ‬مما‭ ‬أسفر‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬عن‭ ‬ولادة‭ ‬معوّقة‭ ‬للرواية‭ ‬العربية،‭ ‬ولعل‭ ‬الانتهاء‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬النتيجة‭ ‬من‭ ‬لدن‭ ‬دراج،‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬الجرطي‭ ‬إلى‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬الانشداد‭ ‬الكلي‭ ‬لدراج‭ ‬‮«‬لجاهزية‭ ‬النظرية‭ ‬الباختينية‭ ‬في‭ ‬دراسته‭ ‬لظروف‭ ‬صعود‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬وتقويم‭ ‬مكتسباتها‮»‬‭. ‬وهو‭ ‬الانشداد‭ ‬الذي‭ ‬حدا‭ ‬بالباحث‭ ‬إلى‭ ‬التساؤل‭ ‬حول‭ ‬الأسباب‭ ‬الكامنة‭ ‬وراء‭ ‬الفشل‭ ‬في‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬تمثل‭ ‬النظرية،‭ ‬إلى‭ ‬الممارسة‭ ‬النقدية‭ ‬لدى‭ ‬دراج،‭ ‬بل‭ ‬وثلة‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬العرب،‭ ‬منذ‭ ‬جيل‭ ‬التنوير‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬ومسوغ‭ ‬ذلك‭ - ‬حسب‭ ‬الناقد‭- ‬هو‭ ‬‮«‬غياب‭ ‬خلفيات‭ ‬فلسفية‭ ‬ومعرفية‭ ‬نابعة‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬الواقع‭ ‬العربي‭ ‬وثقافته‮»‬،‭ ‬ترفده‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬بمداخل‭ ‬منهجية‭ ‬تخصب‭ ‬وعيه‭ ‬بتاريخية‭ ‬التجارب‭ ‬الأدبية‭ ‬والفنية،‭ ‬وتمكنه‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية‭ ‬من‭ ‬التسلح‭ ‬بحس‭ ‬نقدي‭ ‬وثقافي‭ ‬ينأى‭ ‬بنفسه‭ ‬عن‭ ‬الامتثال‭ ‬للمحمول‭ ‬الغربي‭ ‬عند‭ ‬كل‭ ‬محاورة‭ ‬نقدية‭.‬

أما‭ ‬ثالث‭ ‬هذه‭ ‬التصورات‭ ‬النقدية،‭ ‬فهو‭ ‬تصور‭ ‬الناقد‭ ‬المصري‭ ‬د‭. ‬جابر‭ ‬عصفور،‭ ‬الذي‭ ‬ربط‭ ‬نشوء‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬بـ«عالم‭ ‬المدينة‭ ‬الناشئ‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬يمور‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬تناقضات‭ ‬يتواشج‭ ‬داخلها‭ ‬الموروث‭ ‬بالوافد،‭ ‬وينجدل‭ ‬الشرقي‭ ‬بالغربي،‭ ‬ويتصارع‭ ‬الاتباع‭ ‬بالابتداع‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬تصور‭ ‬ظل‭ ‬مشدوداً‭ ‬للطرح‭ ‬الباختيني،‭ ‬مما‭ ‬دفع‭ ‬الباحث‭ ‬إلى‭ ‬التساؤل‭ ‬حول‭ ‬قدرة‭ ‬جابر‭ ‬عصفور‭ ‬على‭ ‬تطويع‭ ‬وتنسيب‭ ‬النظرية‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬يبلور‭ ‬في‭ ‬أفقها‭ ‬تصوره،‭ ‬بالابتعاد‭ ‬عن‭ ‬مرجعيتها‭ ‬وناجزيتها،‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬سيظل‭ ‬محكوماً‭ ‬بسلطة‭ ‬المحمول‭ ‬الغربي،‭ ‬مبلوراً‭ ‬قراءاته‭ ‬عبر‭ ‬الإسقاط‭ ‬العمودي‭ ‬لمفاهيمه؟

لتتبدى‭ ‬الإجابة‭ ‬التالية،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬عصفور‭ ‬انقاد‭ ‬‮«‬لجاهزية‭ ‬النظرية‭ ‬اللوكاتشية‮»‬،‭ ‬مسترشداً‭ ‬لمبدأ‭ ‬المقايسة‭ ‬للقول‭ ‬بولادة‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭: ‬‮«‬فتناقضات‭ ‬المجتمع‭ ‬البورجوازي‭ ‬الغربي‭ ‬التي‭ ‬ولّدت‭ ‬إحساساً‭ ‬بالمفارقة‭ ‬لدى‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬وجسدت‭ ‬فنياً‭ ‬عبر‭ ‬الشكل‭ ‬الروائي،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬نظرية‭ ‬لوكاتش،‭ ‬يوازيها‭ ‬ويماثلها‭ ‬عند‭ ‬عصفور‭ ‬مبدأ‭ ‬‮«‬دينامية‭ ‬المجاورة‮»‬‭ ‬بين‭ ‬تناقضات‭ ‬عالم‭ ‬المدينة‭ ‬المتحول،‭ ‬والتي‭ ‬استثارت‭ ‬الوعي‭ ‬المديني‭ ‬الناشئ‭ ‬عند‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬من‭ ‬التنويريين‭ ‬والنهضويين‭ ‬العرب،‭ ‬وكانت‭ ‬حافزاً‭ ‬لاجتراح‭ ‬هذا‭ ‬الشكل‭ ‬الروائي‮»‬‭,‬‭ ‬لينتهي‭ ‬المؤلف‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬عصفور‭ ‬ظل‭ ‬أسيراً‭ ‬للتصور‭ ‬اللوكاتشي،‭ ‬وخاضعاً‭ ‬لهيكله‭ ‬النظري‭ ‬الغربي‭.‬

وبخصوص‭ ‬التصور‭ ‬الرابع،‭ ‬فيتمحور‭ ‬حول‭ ‬طرح‭ ‬الناقدة‭ ‬اللبنانية‭ ‬يمنى‭ ‬العيد،‭ ‬التي‭ ‬قدّمت‭ ‬طرحاً‭ ‬مغايراً،‭ ‬رافضة‭ ‬بذلك‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬التنظيرات‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬خاضعة‭ - ‬حسب‭ ‬تصورها‭ - ‬لإطلاقية‭ ‬المحمول‭ ‬الغربي،‭ ‬ولاسيما‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬استرشدت‭ ‬بطروحات‭ ‬باختين،‭ ‬ولوكاتش،‭ ‬مؤكدة‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬ذلك‭ ‬الرفض،‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬‮«‬استطاعت‭ ‬الاستعاضة‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الشروط‭ ‬الغربية‭ ‬المنتجة،‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬الحفر‭ ‬في‭ ‬قاع‭ ‬الهامشي‭ ‬وتحبيكه‭ ‬فنياً،‭ ‬مما‭ ‬فتح‭ ‬أمامه‭ ‬كوى‭ ‬تعبيرية‭ ‬هائلة‭ ‬في‭ ‬تخليق‭ ‬مرجعيات‭ ‬تنضح‭ ‬بإيقاعات‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬معيش‭ ‬ومجتمعي،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬رسم‭ ‬شخصيات‭ ‬روائية‭ ‬تستمد‭ ‬أصالتها‭ ‬المائزة‭ ‬من‭ ‬الإحالة‭ ‬على‭ ‬ألوان‭ ‬من‭ ‬المعاناة‭ ‬التي‭ ‬ترزح‭ ‬تحت‭ ‬نيرها‭ ‬فئة‭ ‬هامشية‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬يطولها‭ ‬الإقصاء‭ ‬والتجاهل‭ ‬والانسحاق‭ ‬تحت‭ ‬قهر‭ ‬الرتابة‭ ‬والجمود‭ ‬وتبلد‭ ‬الإحساس‭ ‬بمتعة‭ ‬الحياة‮»‬‭.‬

 

إعادة‭ ‬تفسير

أما‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالفصل‭ ‬الثالث‭ ‬والأخير،‭ ‬والمعنون‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬أسئلة‭ ‬نشوء‭ ‬السردية‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬خطاب‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونيالية‭ ‬عند‭ ‬عبدالله‭ ‬إبراهيم‮»‬،‭ ‬فيسلط‭ ‬فيه‭ ‬المؤلف‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬طرح‭ ‬الناقد‭ ‬العراقي‭ ‬عبدالله‭ ‬إبراهيم،‭ ‬الذي‭ ‬أعاد‭ ‬تفسير‭ ‬نشأة‭ ‬السردية‭ ‬العربية‭ ‬باستلهامه‭ ‬لمفاهيم‭ ‬النقد‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونيالي،‭ ‬ولكن‭ ‬قبل‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬يثيرها‭ ‬هذا‭ ‬الطرح،‭ ‬نجده‭ ‬يقدم‭ ‬عرضاً‭ ‬لأهم‭ ‬التصورات‭ ‬النظرية‭ ‬الغربية‭ ‬التي‭ ‬وقف‭ ‬عندها‭ ‬عبدالله‭ ‬إبراهيم،‭ ‬قصد‭ ‬الغض‭ ‬من‭ ‬قيمتها،‭ ‬لكونها‭ ‬ترتبط‭ ‬ارتباطاً‭ ‬وشيجاً‭ ‬بسياقات‭ ‬إنتاجها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يستوعبه‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬من‭ ‬منظوره،‭ ‬الذين‭ ‬سعوا‭ ‬إلى‭ ‬تفسير‭ ‬النشأة‭ ‬باعتماد‭ ‬التنظيرات‭ ‬الغربية،‭ ‬ليقدم‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬ذلك‭ ‬تفسيراً‭ ‬جديداً‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬نشأة‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬مرتبطة‭ ‬أساساً‭ ‬بتفكك‭ ‬وتحلل‭ ‬المرويات‭ ‬السردية‭ ‬العربية‭ ‬القديمة،‭ ‬التي‭ ‬شكلت‭ ‬رصيداً‭ ‬سردياً‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬شكل‭ ‬البذرة‭ ‬الأولى‭ ‬لنشوء‭ ‬الرواية‭ ‬العربية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تتبعه‭ ‬المؤلف‭ ‬بتفصيل‭ ‬دقيق،‭ ‬وإن‭ ‬خلص‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬عبدالله‭ ‬إبراهيم‭ ‬يظل‭ ‬في‭ ‬تصوره‭ ‬هذا‭ ‬دون‭ ‬مستوى‭ ‬الإقناع‭ ‬‮«‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬المعيار‭ ‬التاريخي‭ ‬يثبت‭ ‬سلامته،‭ ‬ولا‭ ‬المعيار‭ ‬الفني‭ ‬يعزز‭ ‬اتساقه‭ ‬وتماسكه‭ ‬النظري‭ ‬والإجرائي‮»‬،‭ ‬ولتعضيد‭ ‬هذه‭ ‬الخلاصة‭ ‬ينفتح‭ ‬المؤلف‭ ‬على‭ ‬تصورات‭ ‬نقدية‭ ‬أخرى،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يفرد‭ ‬لها‭ ‬مساحة‭ ‬أكبر،‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬مع‭ ‬التصورين‭ ‬النقديين‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬صبري‭ ‬حافظ‭ ‬وسعيد‭ ‬يقطين‭.‬

 

ملاحظات‭ ‬نقدية

قبل‭ ‬أن‭ ‬نقدم‭ ‬بعض‭ ‬الملاحظات‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬عنّت‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬القراءة،‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬التأكيد‭ ‬أولاً‭ ‬أن‭ ‬المؤلف‭ ‬يعكس‭ ‬دقة‭ ‬منهجية‭ ‬متناهية،‭ ‬تنم‭ ‬عن‭ ‬الضبط‭ ‬الجيد‭ ‬لموضوع‭ ‬الدراسة،‭ ‬والاطلاع‭ ‬الواسع‭ ‬للباحث‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬الكتابات‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬تناولت‭ ‬الموضوع،‭ ‬ثم‭ ‬تفرد‭ ‬الدراسة‭ ‬ثانياً‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬اختيار‭ ‬النماذج‭ ‬المدروسة،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬النقاط‭ ‬المضيئة‭ ‬جداً‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العمل،‭ ‬حيث‭ ‬تجاوز‭ ‬عقدة‭ ‬منطقي‭ ‬الإقليمية‭ ‬والمحلية‭ ‬اللذين‭ ‬يتشبع‭ ‬بهما‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬مثقفينا،‭ ‬ولذلك‭ ‬جاءت‭ ‬الدراسة‭ ‬منفتحة‭ ‬على‭ ‬مشاريع‭ ‬نقدية‭ ‬تنتمي‭ ‬لأقطار‭ ‬عربية‭ ‬مختلفة،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬التماسك‭ ‬الواضح‭ ‬بين‭ ‬مقدمات‭ ‬الدراسة‭ ‬ونتائجها،‭ ‬بحيث‭ ‬يمكننا‭ ‬التأكيد‭ ‬أن‭ ‬الناقد‭ ‬ظل‭ ‬وفياً‭ ‬لمنطلقاته‭ ‬المعرفية‭ ‬والنقدية،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬التناول‭ ‬الحصيف‭ ‬لمجمل‭ ‬التصورات‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬عالجها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعلنا‭ ‬نقر‭ ‬بقيمة‭ ‬هذا‭ ‬المنجز‭ ‬النقدي‭ ‬وجديته‭ ‬في‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬التساؤلات‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬تتعلق‭ ‬بمسألة‭ ‬نشأة‭ ‬الرواية‭ ‬العربية،‭ ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يمنعنا‭ ‬من‭ ‬تسجيل‭ ‬بعض‭ ‬الملاحظات‭ ‬النقدية‭ ‬نسوقها‭ ‬كالتالي‭:‬

إذا‭ ‬كان‭ ‬الناقد‭ ‬يؤكد‭ ‬تسلحه‭ ‬بعدة‭ ‬منهجية‭ ‬تنأى‭ ‬بنفسها‭ ‬عن‭ ‬القراءة‭ ‬الأيديولوجية،‭ ‬وتتوجس‭ ‬من‭ ‬السقوط‭ ‬في‭ ‬مطب‭ ‬العرض‭ ‬والتلخيص،‭ ‬فإننا‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التسلح‭ ‬لم‭ ‬يخلُ‭ ‬بدوره‭ ‬من‭ ‬البعد‭ ‬الأيديولوجي،‭ ‬لاسيما‭ ‬عندما‭ ‬يروم‭ ‬الباحث‭ ‬قراءة‭ ‬مشاريع‭ ‬نقدية‭ ‬لا‭ ‬تتساوق‭ ‬والخلفية‭ ‬الناظمة‭ ‬لمشروع‭ ‬الكتاب‭ ‬ككل،‭ ‬والتي‭ ‬تجد‭ ‬صداها‭ ‬في‭ ‬سوسيولوجيا‭ ‬النص،‭ ‬التي‭ ‬أشاد‭ ‬كثيراً‭ ‬بكشوفاتها‭ ‬المتميزة،‭ ‬وهكذا‭ ‬عندما‭ ‬ينفتح‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬محمد‭ ‬برادة‭ ‬ويمنى‭ ‬العيد‭ ‬على‭ ‬طروحات‭ ‬زيما،‭ ‬نجد‭ ‬التقويم‭ ‬النقدي‭ ‬يتخذ‭ ‬منحى‭ ‬إيجابياً،‭ ‬حيث‭ ‬يتراوح‭ ‬بين‭ ‬الإشادة‭ ‬والتثمين،‭ ‬وعندما‭ ‬تظل‭ ‬طروحات‭ ‬نقدية‭ ‬أخرى‭ ‬لجابر‭ ‬عصفور‭ ‬حبيسة‭ ‬اللوكاتشية،‭ ‬ولفيصل‭ ‬دراج‭ ‬متمسكة‭ ‬بتلابيب‭ ‬الباختينية،‭ ‬ولعبدالله‭ ‬إبراهيم‭ ‬تستدعي‭ ‬طروحات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونيالية،‭ ‬نجد‭ ‬التقويم‭ ‬النقدي‭ ‬يتخذ‭ ‬بعداً‭ ‬آخر،‭ ‬حيث‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬الجدال‭ ‬ثم‭ ‬الانتهاء‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المشاريع‭ ‬النقدية‭ ‬برغم‭ ‬إضاءاتها‭ ‬الكاشفة،‭ ‬وبرغم‭ ‬تمثلها‭ ‬الجيد‭ ‬للخلفيات‭ ‬الفكرية‭ ‬والنقدية،‭ ‬وتناولها‭ ‬الحصيف‭ ‬لإشكال‭ ‬نشأة‭ ‬الرواية‭ ‬العربية،‭ ‬فإنها‭ ‬سقطت‭ ‬في‭ ‬مطب‭ ‬الجاهزية،‭ ‬والامتثال‭ ‬الكلي‭ ‬للمحمول‭ ‬الغربي‭.‬

ولئن‭ ‬كنا‭ ‬نتفق‭ ‬مع‭ ‬المؤلف‭ ‬في‭ ‬الانتقاد‭ ‬الذي‭ ‬وجهه‭ ‬لعبدالله‭ ‬العروي،‭ ‬الذي‭ ‬غالى‭ ‬في‭ ‬أحكامه‭ ‬النقدية،‭ ‬المتصلة‭ ‬بالرواية‭ ‬العربية،‭ ‬فإننا‭ ‬نطرح‭ ‬السؤال‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬نفسه‭ ‬حول‭ ‬الداعي‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الطرح‭ ‬النقدي،‭ ‬وقد‭ ‬عدله‭ ‬العروي‭ ‬في‭ ‬‮«‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬إلى‭ ‬الحب‮»‬،‭ ‬بأن‭ ‬ظلت‭ ‬أغلب‭ ‬الشواهد‭ ‬المنتقاة‭ ‬تتكئ‭ ‬على‭ ‬‮«‬الأيديولوجية‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرة‮»‬،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬تراجع‭ ‬فيه‭ ‬العروي‭ ‬عن‭ ‬طرحه‭ ‬بخصوص‭ ‬نشأة‭ ‬الرواية‭ ‬العربية،‭ ‬مؤكداً‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬الطرح‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬ثقافي‭ ‬مغاير‭ ‬تماماً،‭ ‬يقول‭ ‬مجيباً‭ ‬عن‭ ‬سؤال‭ ‬للدكتور‭ ‬محمد‭ ‬برادة‭ ‬في‭ ‬الموضوع‭ ‬نفسه‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬طرحت‭ ‬القضية‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬آخر،‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬عبته‭ ‬في‭ ‬كتابي‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يكتبه‭ ‬النقاد‭ ‬في‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬حول‭ ‬الإنتاج‭ ‬الأدبي‭. ‬كانوا‭ ‬غير‭ ‬واعين‭ ‬بمسألة‭ ‬الأشكال‭. ‬الآن‭ ‬يقال‭ ‬إن‭ ‬الكتاب‭ ‬الشباب‭ ‬تعمّقوا‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬الأشكال‭ ‬السردية،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬الشيء‭ ‬جديد‭. ‬لا‭ ‬أقول‭ ‬إنه‭ ‬مبني‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬كتابي‭ ‬‮«‬الأيديولوجية‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرة‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬أقول‭ ‬إنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬واسع‭ ‬الانتشار‮»‬‭.‬

وعندما‭ ‬يطرح‭ ‬الناقد‭ ‬السؤال‭ ‬حول‭ ‬معالم‭ ‬المغايرة‭ ‬والإضافة‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬التأويلية‭ ‬الدنيوية،‭ ‬الذي‭ ‬اجترحه‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد،‭ ‬يقدم‭ ‬إجابة‭ ‬تعكس‭ ‬فرادة‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬في‭ ‬كون‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬‮«‬لم‭ ‬يقف‭ ‬في‭ ‬تفعيله‭ ‬عبر‭ ‬مختلف‭ ‬دراساته‭ ‬الأدبية‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬تحليل‭ ‬ما‭ ‬تلتحف‭ ‬به‭ ‬الأعمال‭ ‬الإبداعية‭ ‬من‭ ‬مرجعيات‭ ‬اجتماعية‭ ‬منزرعة‭ ‬في‭ ‬شروطها‭ ‬التاريخية،‭ ‬بل‭ ‬تجاوز‭ ‬هذا‭ ‬المنحى‭ ‬في‭ ‬التحليل‭ ‬إلى‭ ‬استيعاء‭ ‬ما‭ ‬يتناسج‭ ‬خلف‭ ‬هذه‭ ‬الأنساق‭ ‬الثقافية،‭ ‬والمحمولات‭ ‬السياقية‭ ‬المنصهرة‭ ‬داخل‭ ‬النسيج‭ ‬التعبيري‭ ‬للأعمال‭ ‬الأدبية‭ ‬من‭ ‬علائق‭ ‬وشيجة‭ ‬بين‭ ‬المعرفة‭ ‬والسلطة‮»‬‭. ‬والحال‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التشديد‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬المعرفة‭ ‬بالسلطة،‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬أكده‭ ‬ميشيل‭ ‬فوكو‭ ‬قبل‭ ‬سعيد،‭ ‬حيث‭ ‬ظل‭ ‬يلح‭ ‬على‭ ‬التواشج‭ ‬الحاصل‭ ‬بين‭ ‬خطاب‭ ‬السلطة‭ ‬وخطاب‭ ‬المعرفة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تلقفه‭ ‬سعيد‭ ‬وزاد‭ ‬عليه‭ ‬بأن‭ ‬قال‭ ‬بضرورة‭ ‬المقاومة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أحجم‭ ‬عنه‭ ‬فوكو‭.‬

وحتى‭ ‬نكون‭ ‬أقدر‭ ‬على‭ ‬استغوار‭ ‬الغاية‭ ‬من‭ ‬طرح‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬الذي‭ ‬شدد‭ ‬على‭ ‬مفهوم‭ ‬المقاومة‭ ‬بينما‭ ‬تجاوزها‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬الغربيين،‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬استحضار‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يحتله‭ ‬كل‭ ‬طرف،‭ ‬فسعيد‭ ‬يتحدث‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬الهامشي‭ ‬والأقلوي،‭ ‬والمهاجر،‭ ‬الذي‭ ‬ينافح‭ ‬عن‭ ‬قضية‭ ‬ويحاول‭ ‬الانتصار‭ ‬لها،‭ ‬بينما‭ ‬معظم‭ ‬النقاد‭ ‬الذين‭ ‬ناقشهم‭ ‬الباحث‭ ‬ينتمون‭ ‬للميتروبول‭ ‬الغربي،‭ ‬ولذلك‭ ‬فالخوض‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬التفاصيل‭ ‬ليس‭ ‬ضرورياً‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليهم‭ ‬ماداموا‭ ‬ينتمون‭ ‬للمركز،‭ ‬وهذه‭ ‬من‭ ‬الالتفاتات‭ ‬اللماحة‭ ‬التي‭ ‬سجلها‭ ‬سعيد‭ ‬على‭ ‬سارتر،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يُبد‭ ‬رأيه‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬الإسرائيلي‭ - ‬الفلسطيني،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬مواقف‭ ‬شجاعة‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬وفيتنام،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬تفكيكية‭ ‬دريدا‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بمنزلة‭ ‬الذبابة‭ ‬السقراطية‭ ‬بالنسبة‭ ‬للمركز،‭ ‬لم‭ ‬يحركها‭ ‬الوازع‭ ‬الإنساني‭ ‬في‭ ‬مطلقيته،‭ ‬وإنما‭ ‬الإرث‭ ‬اليهودي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يستشعر‭ ‬هامشيته‭ ‬ودونيته،‭ ‬والنزعة‭ ‬العدمية‭ ‬اللاإنسانية‭.‬

وما‭ ‬يسترعي‭ ‬الانتباه‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬هذا‭ ‬التناول‭ ‬لإشكالية‭ ‬نشأة‭ ‬الرواية‭ ‬الغربية‭/ ‬العربية،‭ ‬أن‭ ‬المؤلف‭ ‬ظل‭ ‬منشغلاً‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬بطبيعة‭ ‬المفاهيم‭ ‬والممارسة‭ ‬النقديتين،‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬تفسير‭ ‬عوامل‭ ‬النشأة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نلمحه‭ ‬بدرجة‭ ‬أكبر‭ ‬في‭ ‬المباحث‭ ‬الخاصة‭ ‬ببيير‭ ‬زيما،‭ ‬وإدوارد‭ ‬سعيد،‭ ‬ومحمد‭ ‬برادة،‭ ‬ويمنى‭ ‬العيد‭.‬

والواقع‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬الناقد‭ ‬يثمن‭ ‬طرح‭ ‬يمنى‭ ‬العيد،‭ ‬باعتباره‭ ‬ظل‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬جاهزية‭ ‬النموذج‭ ‬الغربي،‭ ‬فإننا‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬تصورها‭ ‬للقول‭ ‬بأن‭ ‬استرفاد‭ ‬الهامشي‭ ‬والدوني‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬العوامل‭ ‬المساهمة‭ ‬في‭ ‬نشأة‭ ‬السردية‭ ‬العربية،‭ ‬يجد‭ ‬بدوره‭ ‬صداه‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬التصورات‭ ‬الغربية،‭ ‬وهو‭ ‬تصور‭ ‬ميلان‭ ‬كونديرا‭ ‬الذي‭ ‬ذهب‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬فن‭ ‬الرواية‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نشأة‭ ‬الرواية‭ ‬ارتبطت‭ ‬بالرغبة‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬للذات‭ ‬الإنسانية‭ ‬المهمشة،‭ ‬والمقصية‭ ‬جراء‭ ‬هيمنة‭ ‬خطاب‭ ‬فلسفي‭ ‬عقلاني‭ ‬وأحادي‭ ‬الجانب‭. ‬ثم‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬سؤال‭ ‬نشأة‭ ‬الرواية‭ ‬هو‭ ‬الإشكالية‭ ‬الرئيسة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬أحرى‭ ‬بأن‭ ‬تناقش‭ ‬أعمال‭ ‬تنتمي‭ ‬للمراحل‭ ‬الأولى‭ ‬لتخلّق‭ ‬هذا‭ ‬الجنس‭ ‬الأدبي‭ ‬لا‭ ‬مناقشة‭ ‬أعمال‭ ‬روائية‭ ‬لروائيين‭ ‬يدرجون‭ ‬ضمن‭ ‬تيار‭ ‬التجريب،‭ ‬كإبراهيم‭ ‬أصلان‭ ‬وعلوية‭ ‬صبح‭ ‬وغيرهما،‭ ‬ثم‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نطرح‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المبحث‭ ‬نفسه‭ ‬كيف‭ ‬انتقل‭ ‬الباحث‭ ‬من‭ ‬سؤال‭ ‬نشأة‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬تصور‭ ‬يمنى‭ ‬العيد‭ ‬إلى‭ ‬مساءلة‭ ‬طبيعة‭ ‬الممارسة‭ ‬النقدية‭ ‬لديها،‭ ‬ويكاد‭ ‬المبحث‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التصور‭ ‬يندرج‭ ‬كله‭ ‬تحت‭ ‬هذه‭ ‬الخانة‭.‬

وإجمالاً‭ ‬لعل‭ ‬الانصياع‭ ‬الكلي‭ ‬من‭ ‬لدن‭ ‬النقاد‭ ‬العرب‭ ‬لجاهزية‭ ‬المحمول‭ ‬الغربي،‭ ‬الذي‭ ‬انتهى‭ ‬إليه‭ ‬المؤلف،‭ ‬والمرتبط‭ ‬أساساً‭ ‬حسب‭ ‬الناقد‭ ‬بغياب‭ ‬خلفيات‭ ‬فلسفية‭ ‬وفكرية‭ ‬متجذرة‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬وقادرة‭ ‬على‭ ‬رفد‭ ‬النقد‭ ‬والأدب‭ ‬العربيين،‭ ‬بمداخل‭ ‬فكرية‭ ‬وعدة‭ ‬منهجية‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬خلخلة‭ ‬نسوغ‭ ‬النصوص‭ ‬ومحاورتها،‭ ‬يعود‭ ‬من‭ ‬منظورنا‭ ‬إلى‭ ‬إشكال‭ ‬أوَّلي‭ ‬وسابق‭ ‬عن‭ ‬إشكالية‭ ‬الخلفيات‭ ‬الفلسفية‭ ‬والفكرية،‭ ‬وهو‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬حسمنا‭ ‬بشكل‭ ‬تام‭ ‬ونهائي‭ ‬مع‭ ‬البحث‭ ‬الفيلولوجي‭ ‬لتراثنا‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬قطعت‭ ‬فيه‭ ‬الثقافة‭ ‬الغربية‭ ‬أشواطاً‭ ‬بعيدة‭ ‬جداً‭ ‬