انطباعات أديب عن المشهد الأدبي العربي المراوحة بين اللاجدوى واللامعنى

انطباعات أديب عن المشهد الأدبي العربي المراوحة بين اللاجدوى واللامعنى

 تواجهني عند وجودي في منتديات أدبية عربية وأجنبية، عندما يطلب مني إعطاء فكرة عن المشهد الثقافي الليبي،  مشكلة الخوف من  التكرار أولاً والخوف من العجز عن استيعاب تعقيدات المشهد الثقافي أدباً وفناً وفكراً، ثانياً، خاصة عندما كانت البلاد تعيش في ظل حكم عسكري، يضع كثيراً من الحواجز والحدود والسدود على حرية الكلمة وحرية التعبير وحرية الإبداع.

كان‭ ‬إحساساً‭ ‬عظيماً‭ ‬بالحرية‭ ‬ورفع‭ ‬الحرج‭ ‬عندما‭ ‬انتهى‭ ‬ذلك‭ ‬النظام،‭ ‬وتحررت‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬قيوده‭ ‬وسدوده‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الصورة‭ ‬الوردية‭ ‬التي‭ ‬كنا‭ ‬نتوقع‭ ‬حصولها‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬ذلك‭ ‬النظام‭ ‬لم‭ ‬تحدث،‭ ‬ودخلت‭ ‬البلاد‭ ‬في‭ ‬صراعات‭ ‬طاحنة‭ ‬أوجبتها‭ ‬المرحلة‭ ‬الانتقالية‭ ‬التي‭ ‬طالت‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يجب‭ ‬لأي‭ ‬مرحلة‭ ‬انتقالية‭ ‬أن‭ ‬تطول،‭ ‬وعندما‭ ‬تكرر‭ ‬سؤالي‭ ‬عن‭ ‬تقديم‭ ‬فكرة‭ ‬عن‭ ‬المشهد‭ ‬الأدبي‭ ‬في‭ ‬بلادي‭ ‬بعد‭ ‬حصول‭ ‬ثورات‭ ‬الربيع‭ ‬العربي،‭ ‬كان‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬أستهل‭ ‬حديثي‭ ‬قائلاً‭ ‬إننا‭ ‬لن‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نتكلم‭ ‬عن‭ ‬الأدب‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ربطه‭ ‬بالحالة‭ ‬الراهنة‭ ‬وما‭ ‬تحفل‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬أزمات‭ ‬سياسية،‭ ‬لأن‭ ‬التواشج‭ ‬بين‭ ‬الأدب‭ ‬والسياسة‭ ‬كان‭ ‬موجوداً‭ ‬في‭ ‬أدبنا‭ ‬العربي‭ ‬ربما‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬أدب‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬آداب‭ ‬شعوب‭ ‬العالم،‭ ‬ليس‭ ‬لأن‭ ‬السياسة‭ ‬موضوع‭ ‬جذاب‭ ‬يستقطب‭ ‬الأدب‭ ‬والأدباء‭ ‬ويغريهم‭ ‬بالحديث‭ ‬عنه،‭ ‬ولكن‭ ‬لأن‭ ‬السياسة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجزء‭ ‬من‭ ‬العالم،‭ ‬كانت‭ ‬دائماً‭ ‬كرباً‭ ‬وبلاءً‭ ‬ووبالاً‭ ‬على‭ ‬أهلها،‭ ‬لا‭ ‬تجلب‭ ‬إلا‭ ‬الآلام‭ ‬والكوارث‭ ‬والمآسي،‭ ‬ولأن‭ ‬ميدان‭ ‬الأدب‭ ‬ومجاله‭ ‬هما‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬المشاعر‭ ‬والأحاسيس‭ ‬التي‭ ‬تخالج‭ ‬القلب‭ ‬والوجدان،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬ممكناً‭ ‬لأي‭ ‬أديب‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬جلده،‭ ‬ويهرب‭ ‬من‭ ‬محنته‭ ‬ومحنة‭ ‬أهله،‭ ‬ويكتب‭ ‬عن‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭ ‬غير‭ ‬هذه‭ ‬الإحن‭ ‬والمحن‭ ‬التي‭ ‬تجلبها‭ ‬السياسة‭.‬

وأحب‭ ‬أن‭ ‬أذكر‭ ‬هنا‭ ‬اقتباساً‭ ‬أعجبني‭ ‬ووجدته‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬الحالة‭ ‬تعبيراً‭ ‬دقيقاً،‭ ‬وهو‭ ‬هذا‭ ‬التعبير‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬كنت‭ ‬أؤكد،‭ ‬كلما‭ ‬سنحت‭ ‬المناسبة،‭ ‬أنني‭ ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬الحركة‭ ‬الثقافية‭ ‬الليبية‭ ‬الحديثة،‭ ‬تتميز‭ ‬بكونها،‭ ‬إجمالاً،‭ ‬حركة‭ ‬ثقافية‭ ‬مقاوِمة،‭ ‬فهي‭ ‬تتقدم‭ ‬وتتطور‭ ‬بمشقة،‭ ‬تشتد‭ ‬أو‭ ‬تخفت،‭ ‬بين‭ ‬حقبة‭ ‬وأخرى،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تنعدم‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬حقبة‭. ‬إنها،‭ ‬في‭ ‬المحصلة،‭ ‬تتقدم‭ ‬رغماً‭ ‬عن‭ ‬الظروف‭ ‬المعاكسة،‭ ‬وليس‭ ‬بسببها‮»‬‭.‬

ثم‭ ‬اكتشفت‭ ‬أنه‭ ‬اقتباس‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬من‭ ‬كتابي‭ ‬‮«‬بدايات‭ ‬القصة‭ ‬الليبية‭ ‬القصيرة‮»‬‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬طرابلس‭ ‬عام‭ ‬1985،‭ ‬وأضفت‭ ‬قائلاً‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاقتباس‭: ‬‮«‬تاريخياً،‭ ‬من‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬ليبيا‭ ‬ظلت‭ ‬من‭ ‬أملاك‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬العشرية‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬ومع‭ ‬صدور‭ ‬الدستور‭ ‬العثماني،‭ ‬الذي‭ ‬عرف‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬المشروطية‮»‬،‭ ‬سنة‭ ‬1908م،‭ ‬الذي‭ ‬سمح‭ ‬بالصحافة‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬التابعة‭ ‬للدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬ومنها‭ ‬ليبيا،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬بإيالة‭ ‬طرابلس،‭ ‬بدأت‭ ‬تظهر‭ ‬تلمسات‭ ‬الأدب‭ ‬الحديث‭ ‬لدى‭ ‬بعض‭ ‬الكتاب‭ ‬والمثقفين‭ ‬الليبيين‮»‬‭. (‬د‭. ‬أحمد‭ ‬إبراهيم‭ ‬الفقيه،‭ ‬بدايات‭ ‬القصة‭ ‬الليبية‭ ‬القصيرة،‭ ‬المنشأة‭ ‬العامة‭ ‬للنشر‭ ‬والتوزيع‭ ‬والإعلان،‭ ‬طرابلس،‭ ‬1985م،‭ ‬ص‭ ‬8‭).‬

وانطلاقاً‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التواشج‭ ‬بين‭ ‬الأدب‭ ‬والسياسة،‭ ‬سأبدأ‭ ‬بهذه‭ ‬المقدمة‭ ‬التي‭ ‬تلامس‭ ‬الوجع‭ ‬الناتج‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الفصول‭ ‬السياسية‭ ‬القاسية‭ ‬والمؤلمة،‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬بها‭ ‬ليبيا،‭ ‬وخلقت‭ ‬لدى‭ ‬المبدعين‭ ‬والكتَّاب،‭ ‬بل‭ ‬والطلائع‭ ‬المستنيرة‭ ‬المعنية‭ ‬بالشأن‭ ‬الثقافي،‭ ‬فكراً‭ ‬وأدبا‭ ‬وفناً،‭ ‬إحساساً‭ ‬باللاجدوى،‭ ‬كان‭ ‬سبباً‭ ‬في‭ ‬هجرة‭ ‬أقلام‭ ‬كثيرة‭ ‬للكتابة،‭ ‬وتوقف‭ ‬مواهب‭ ‬ومبدعين‭ ‬عن‭ ‬الإنتاج‭ ‬وهم‭ ‬يحسون‭ ‬بأن‭ ‬ما‭ ‬يفعلون‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭ ‬حرثاً‭ ‬في‭ ‬‮«‬السباخ‮»‬‭ ‬كما‭ ‬يقولون،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تراكم‭ ‬النكبات‭ ‬السياسية‭ ‬واشتداد‭ ‬القبضة‭ ‬القمعية‭ ‬أثمرا‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬الإحساس‭ ‬باللاجدوى‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬أكثر‭ ‬رعباً‭ ‬ويأساً،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬نعيشها‭ ‬اليوم،‭ ‬واسمها‭ ‬مرحلة‭ ‬الإحساس‭ ‬باللامعنى،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬العبثية‭ ‬والعدمية،‭ ‬ولن‭ ‬أجد‭ ‬توصيفاً‭ ‬لهذه‭ ‬الحالة‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الجامعة‮»‬‭ ‬المنسوب‭ ‬إلى‭ ‬نبي‭ ‬الله‭ ‬سليمان،‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬التفت‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬أعمالي‭ ‬التي‭ ‬عملتها‭ ‬يداي،‭ ‬وإلى‭ ‬التعب‭ ‬الذي‭ ‬تعبته‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬فإذا‭ ‬الكل‭ ‬باطل‭ ‬وقبض‭ ‬الريح،‭ ‬ولا‭ ‬منفعة‭ ‬تحت‭ ‬الشمس‮»‬‭.‬

ويتوافق‭ ‬هذا‭ ‬مع‭ ‬انتقال‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬الحكم‭ ‬الديكتاتوري،‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬أكثر‭ ‬سوءاً‭ ‬هي‭ ‬المرحلة‭ ‬الداعشية،‭ ‬التي‭ ‬رأينا‭ ‬فيها‭ ‬أنواعاً‭ ‬من‭ ‬التوحش‭ ‬قلت‭ ‬نظائرها‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬وكان‭ ‬آخرها‭ ‬ما‭ ‬نقلته‭ ‬الأخبار‭ ‬عن‭ ‬أم‭ ‬وأب،‭ ‬ربطا‭ ‬حزامين‭ ‬ناسفين‭ ‬حول‭ ‬خصري‭ ‬طفليهما،‭ ‬وقاما‭ ‬بتفجيرهما‭ ‬في‭ ‬حشد‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬حدا‭ ‬بأحد‭ ‬المعلقين‭ ‬الصحفيين‭ ‬أن‭ ‬يعترض‭ ‬على‭ ‬نسبة‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬إلى‭ ‬التوحش،‭ ‬لأن‭ ‬الوحش‭ ‬يحمي‭ ‬طفله‭ ‬ويدافع‭ ‬عنه‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الموت،‭ ‬وليس‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الأب‭ ‬ولا‭ ‬هذه‭ ‬الأم‭ ‬اللذين‭ ‬يقتلان‭ ‬ويقدمان‭ ‬طفليهما‭ ‬للتفجير‭ ‬والقتل‭ ‬تفخيخاً‭ ‬بالأحزمة‭ ‬الناسفة‭.‬

وبرغم‭ ‬أن‭ ‬للعهدين‭ ‬الديكتاتوري‭ ‬والداعشي‭ ‬الإجرامي‭ ‬الذي‭ ‬نمر‭ ‬به‭ ‬الآن،‭ ‬جذورهما‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬سابقة‭ ‬هي‭ ‬المرحلة‭ ‬الاستعمارية‭ (‬الكولونيالية‭) ‬التي‭ ‬مر‭ ‬بها‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي،‭ ‬فسأتجاوز‭ ‬الحديث‭ ‬عنها‭ ‬بسرعة،‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬مرحلة‭ ‬عالمية‭ ‬كما‭ ‬يقولون،‭ ‬ربما‭ ‬لم‭ ‬تنجُ‭ ‬منها‭ ‬أي‭ ‬منطقة‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬ومثال‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬سيبتيموس‭ ‬سيفيروس‭ ‬الإمبراطور‭ ‬الروماني‭ ‬المولود‭ ‬في‭ ‬‮«‬لبتس‭ ‬ماجنا‮»‬‭ ‬في‭ ‬ليبيا،‭ ‬له‭ ‬قبر‭ ‬موجود‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬يورك‭ ‬شمال‭ ‬إنجلترا،‭ ‬حيث‭ ‬مات‭ ‬وهو‭ ‬يغزو‭ ‬بلاد‭ ‬كلادونيا‭ ‬المسماة‭ ‬الآن‭ ‬أسكتلندا،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬بسط‭ ‬حكمه‭ ‬على‭ ‬بقية‭ ‬الجزر‭ ‬البريطانية‭ ‬التي‭ ‬تكوِّن‭ ‬الآن‭ ‬المملكة‭ ‬المتحدة،‭ ‬وأن‭ ‬إمبراطوراً‭ ‬رومانياً‭ ‬آخر،‭ ‬هو‭ ‬ماركوس‭ ‬أوروليوس،‭ ‬صاحب‭ ‬القوس‭ ‬الأثري‭ ‬في‭ ‬طرابلس‭ ‬الذي‭ ‬يمثل‭ ‬أهم‭ ‬وأكبر‭ ‬مأثرة‭ ‬تاريخية‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬الليبية،‭ ‬له‭ ‬قبر‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬عاصمة‭ ‬النمسا،‭ ‬حيث‭ ‬مات‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬كانت‭ ‬تحت‭ ‬حكمه‭ ‬أثناء‭ ‬موته،‭ ‬ولايزال‭ ‬البحث‭ ‬جارياً‭ ‬عن‭ ‬قبر‭ ‬الإسكندر‭ ‬المقدوني‭ ‬في‭ ‬سيوة‭ ‬التي‭ ‬وصل‭ ‬إليها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انتهى‭ ‬من‭ ‬غزو‭ ‬فارس‭ ‬وبلاد‭ ‬السند‭ ‬والهند‭ ‬وبسط‭ ‬نفوذه‭ ‬على‭ ‬مصر،‭ ‬وهو‭ ‬المولود‭ ‬في‭ ‬مقدونيا‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬الإغريق‭. ‬

‭ ‬ونخلص‭ ‬إلى‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬منطقتنا‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬وفي‭ ‬قلبه‭ ‬ليبيا،‭ ‬حيث‭ ‬أعقبت‭ ‬المرحلة‭ ‬الاستعمارية‭ ‬مرحلة‭ ‬الحكم‭ ‬الديكتاتوري،‭ ‬بمختلف‭ ‬مستوياته‭ ‬وتجلياته،‭ ‬والتي‭ ‬تجسدت‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الحكام‭ ‬هم‭ ‬الأكثر‭ ‬قسوة‭ ‬وإجراماً‭ ‬وتوحشاً،‭ ‬وليس‭ ‬غريباً‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬هؤلاء‭ ‬الحكام‭ ‬إرثاً‭ ‬دموياً‭ ‬يستمر‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬حكمهم‭ ‬أو‭ ‬موتهم،‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬حصل‭ ‬مع‭ ‬ديكتاتوريات‭ ‬أخرى‭ ‬كانت‭ ‬تلجمها‭ ‬حركة‭ ‬الشعب‭ ‬ووجود‭ ‬مؤسسات‭ ‬أكثر‭ ‬رسوخاً،‭ ‬وكنا‭ ‬مع‭ ‬الأسف‭ ‬الشديد‭ ‬نأمل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الثورات‭ ‬التي‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬ثورات‭ ‬الربيع‭ ‬العربي،‭ ‬موجة‭ ‬ثالثة‭ ‬تتبع‭ ‬موجتين‭ ‬سابقتين‭ ‬من‭ ‬الثورات،‭ ‬كانت‭ ‬إحداهما‭ ‬التي‭ ‬أطاحت‭ ‬الطغاة‭ ‬الذين‭ ‬حكموا‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينية،‭ ‬وأفضت‭ ‬إلى‭ ‬ديمقراطيات‭ ‬حديثة‭ ‬تنعم‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تنعم‭ ‬به‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية‭ ‬العصرية،‭ ‬والموجة‭ ‬الثانية‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬أطاحت‭ ‬طغيان‭ ‬الحزب‭ ‬الواحد‭ ‬في‭ ‬كتلة‭ ‬الدول‭ ‬الشرقية‭ ‬التابعة‭ ‬للاتحاد‭ ‬السوفييتي،‭ ‬وأبدلت‭ ‬بهذا‭ ‬الحزب‭ ‬حكم‭ ‬التعددية‭ ‬الحزبية‭ ‬والليبرالية‭ ‬السياسية،‭  ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حفز‭ ‬إنساناً‭ ‬مثلي‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭ ‬وينتمي‭ ‬إلى‭ ‬الثورة‭ ‬ويسخر‭ ‬قلمه‭ ‬لخدمتها،‭ ‬وكان‭ ‬الحصاد‭ ‬مراً‭ ‬مع‭ ‬الأسف،‭ ‬وكانت‭ ‬الصدمة‭ ‬شديدة‭ ‬للمآلات‭ ‬الإجرامية‭ ‬التي‭ ‬آلت‭ ‬إليها‭ ‬هذه‭ ‬الثورة‭ ‬بسبب‭ ‬القوى‭ ‬التي‭ ‬سطت‭ ‬عليها‭ ‬وأدخلتها‭ ‬في‭ ‬أزمة‭ ‬استعصت‭ ‬على‭ ‬الحل‭ ‬خلال‭ ‬ستة‭ ‬أعوام‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬النظام‭ ‬القديم،‭ ‬ولا‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬حلاً‭ ‬قريباً‭ ‬يلوح‭ ‬في‭ ‬الأفق‭.‬

وأعود‭ ‬إلى‭ ‬الموضوع‭ ‬الأدبي‭ ‬وإلى‭ ‬الاقتباس‭ ‬الذي‭ ‬بدأت‭ ‬به‭ ‬عن‭ ‬كونه‭ ‬أدباً‭ ‬وثقافة‭ ‬يقاومان‭ ‬ويتحديان‭ ‬ليس‭ ‬العوامل‭ ‬الخارجية،‭ ‬بل‭ ‬العوامل‭ ‬الداخلية‭ ‬مثل‭ ‬الإحساس‭ ‬باللاجدوى‭ ‬الذي‭ ‬ربما‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬سطرين‭ ‬لشرحه،‭ ‬وأقول‭ ‬إنني‭ ‬عندما‭ ‬بدأت‭ ‬أتلمس‭ ‬طريقي‭ ‬للنشر‭ ‬وولوج‭ ‬الميدان‭ ‬الأدبي،‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أذكر‭ ‬أسماء‭ ‬أدباء‭ ‬كنت‭ ‬أتطلع‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬مثلهم،‭ ‬وأن‭ ‬أصل‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬أحرزوه‭ ‬من‭ ‬مكانة‭ ‬وما‭ ‬حققوه‭ ‬من‭ ‬ذيوع،‭ ‬أغلبها‭ ‬كان‭ ‬يسطع‭ ‬مثل‭ ‬شهاب‭ ‬ثم‭ ‬ينطفئ،‭ ‬دعك‭ ‬من‭ ‬أسماء‭ ‬حققت‭ ‬نجاحاً‭ ‬أكبر‭ ‬حفزها‭ ‬على‭ ‬الاستمرار‭ ‬رغم‭ ‬ضعف‭ ‬المردود،‭ ‬وهم‭ ‬مع‭ ‬حفظ‭ ‬الألقاب‭ ‬المصراتي‭ ‬والتليسي‭ ‬والقويري،‭ ‬وبدرجة‭ ‬أقل‭ ‬استمرارية‭ ‬كامل‭ ‬المقهور‭ ‬وفريد‭ ‬سيالة،‭ ‬وعلي‭ ‬صدقي‭ ‬عبدالقادر‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الشعر،‭ ‬وحسن‭ ‬السوسي،‭ ‬رحم‭ ‬الله‭ ‬الراحلين‭ ‬منهم،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬أسماء‭ ‬أخرى‭ ‬أذكر‭ ‬منها‭ ‬بشير‭ ‬الهاشمي،‭ ‬محمد‭ ‬الجفائري،‭ ‬محمود‭ ‬الفساطوي،‭ ‬محمود‭ ‬البلعزي،‭ ‬علي‭ ‬الغودي،‭ ‬الدويب‭ ‬الأخضر،‭ ‬محمود‭ ‬بريون،‭ ‬يوسف‭ ‬هامان،‭ ‬كانوا‭ ‬كتاباً‭ ‬يملكون‭ ‬أدواتهم‭ ‬وحققوا‭ ‬اعتراف‭ ‬المجتمع‭ ‬الأدبي‭ ‬الصغير‭ ‬بمواهبهم،‭ ‬إلا‭ ‬أنهم‭ ‬جميعاً‭ ‬صمتوا‭ ‬صمتاً‭ ‬كاملاً،‭ ‬ولم‭ ‬نر‭ ‬كتاباً‭ ‬صدر‭ ‬لأي‭ ‬منهم،‭ ‬عدا‭ ‬القصّاص‭ ‬بشير‭ ‬الهاشمي‭ ‬الذي‭ ‬أصدر‭ ‬ثلاثة‭ ‬كتب‭ ‬صغيرة‭ ‬لم‭ ‬تصل‭ ‬في‭ ‬مجموعها‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثين‭ ‬قصة‭ ‬قصيرة،‭ ‬هي‭ ‬مجموعة‭ ‬قصص‭ ‬كتاب‭ ‬واحد‭ ‬لكاتب‭ ‬مجايل‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬أو‭ ‬سورية‭ ‬أو‭ ‬العراق‭ ‬بحصيلة‭ ‬ثلاثين‭ ‬أو‭ ‬أربعين‭ ‬كتاباً‭ ‬قصصياً‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭. ‬

والسبب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصمت‭ ‬والانقطاع‭ ‬والضمور‭ ‬في‭ ‬الإنتاج‭ ‬هو‭ ‬الإحساس‭ ‬باللاجدوى‭.‬

‭ ‬وأذكر‭ ‬أدباء‭ ‬تركوا‭ ‬بصمة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الليبي‭ ‬مثل‭ ‬كامل‭ ‬المقهور،‭ ‬لتميز‭ ‬موهبته،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬نتاجه‭ ‬كان‭ ‬قليلاً‭ ‬مقارنة‭ ‬بأي‭ ‬مجايل‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬وأعتبر‭ ‬يوسف‭ ‬القويري‭ ‬عبقرياً‭ ‬من‭ ‬عباقرة‭ ‬الحرف‭ ‬والكلمة،‭ ‬ولكن‭ ‬فترات‭ ‬صمته‭ ‬تطول‭ ‬كثيراً،‭ ‬وقد‭ ‬بلغت‭ ‬إحدى‭ ‬هذه‭ ‬الفترات‭ ‬ثلاثين‭ ‬عاماً،‭ ‬لماذا؟‭ ‬إنها‭ ‬مسألة‭ ‬اللاجدوى‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭.‬

‭ ‬ولعل‭ ‬أحسن‭ ‬وصف‭ ‬لهذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬اللاجدوى‭ ‬ما‭ ‬عبَّر‭ ‬عنه‭ ‬أحد‭ ‬الكتاب‭ ‬بأن‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬نعيشها‭ ‬تشبه‭ ‬من‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يصعد‭ ‬سلماً‭ ‬كهربائياً،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يصعد‭ ‬وإنما‭ ‬يهبط،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬تجتاز‭ ‬عتبة‭ ‬حتى‭ ‬يعيدك‭ ‬بعنف‭ ‬إلى‭ ‬السفح،‭ ‬فلماذا‭ ‬العناء؟‭ ‬وأتوقف‭ ‬هنا‭ ‬لأقول‭ ‬إنه‭ ‬برغم‭ ‬أحاسيس‭ ‬اللاجدوى،‭ ‬والوصول‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬اللامعنى‭ ‬بطابعها‭ ‬العبثي‭ ‬العدمي،‭ ‬وبرغم‭ ‬أن‭ ‬مهنة‭ ‬القلم‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأوقات‭ ‬مهنة‭ ‬تورث‭ ‬صاحبها‭ ‬المحن‭ ‬والكوارث‭ ‬التي‭ ‬تجعله‭ ‬يغيب‭ ‬أعواماً‭ ‬خلف‭ ‬الشمس‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬سبباً‭ ‬في‭ ‬تهديد‭ ‬حياته‭ ‬ذاتها،‭ ‬فإنه‭ ‬برغم‭ ‬ذلك‭ ‬وُجِد‭ ‬وسط‭ ‬هذه‭ ‬الحالة،‭ ‬إبداع‭ ‬أدبي‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬من‭ ‬أسميهم‭ ‬دراويش‭ ‬الأدب،‭ ‬إنهم‭ ‬فئة‭ ‬من‭ ‬سالكي‭ ‬الطريق،‭ ‬أهل‭ ‬الزهد‭ ‬والتصوف،‭ ‬الذين‭ ‬نذروا‭ ‬أنفسهم‭ ‬لوضع‭ ‬ليبيا‭ ‬على‭ ‬خريطة‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬والأدب‭ ‬العالمي،‭ ‬سائرين‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬الزهد‭ ‬والتقشف‭ ‬والعزوف‭ ‬عن‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬ماراثون‭ ‬التربح‭ ‬والكسب‭ ‬والجري‭ ‬وراء‭ ‬مباهج‭ ‬الحياة‭. ‬

ولأن‭ ‬الأدب‭ ‬وراءه‭ ‬أدباء‭ ‬والإبداع‭ ‬وراءه‭ ‬مبدعون‭ ‬أنتجوه‭ ‬وراكموه‭ ‬وصنعوا‭ ‬منه‭ ‬إرثا‭ ‬قابلاً‭ ‬للبقاء‭ ‬والتداول‭ ‬مستقبلاً‭ ‬تقرأه‭ ‬أجيال‭ ‬لم‭ ‬تولد‭ ‬بعد،‭ ‬فإن‭ ‬القائمة‭ ‬تضيق‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬تستوعبها‭ ‬مقالة‭ ‬قصيرة‭ ‬في‭ ‬مطبوعة‭ ‬أدبية،‭ ‬والمكتبة‭ ‬الليبية‭ ‬زاخرة‭ ‬بأسماء‭ ‬وأعمال‭ ‬هؤلاء‭ ‬المبدعين‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الأجيال‭ ‬