المقاربات الطائفية في الرواية العربية المعاصرة... حظوة عند أهل «البوكر»

المقاربات الطائفية في الرواية العربية المعاصرة... حظوة عند أهل «البوكر»

ناوشت الرواية العربية قلاع عديد من المحرّمات، فضلاً عن الثالوث المعروف
( الدين والجنس والسياسة)، ووضعت قدمها على امتداد زمن تطوّرها في مواطئ كانت محفوفة بأسيجة التهيّب.
وهي تواصل اليوم تقحّم المسارب التي صارت مداخل واسعة بفعل ما استجدّ في العالم العربي من أحداث سياسية واجتماعية، وما طرأ عليه من تحوّلات وسمت الثقافة والفكر والإبداع بميسمها الخاص، فتجلّى ما كان متوارياً، وطفا على السطح ما كان مقبوراً في مغاور الخوف أو التواطؤ، ودُقّق فيما كان ملتبساً، وفُكّر فيما كان مهمّشاً، وفُجّر ما كان مكبوتاً خاصّة فيما عرف بالثورات العربية الجديدة، أو بالربيع العربيّ، الذي نقف فيه عند التسمية، أو المصطلح، مكتفين بالإشارة إليه بوصفه إيذاناً بولوج الإنسان العربي مرحلة جديدة في التعبير عن الفكرة أو الرؤية من جهة، والتفكير في طرائق العمل من جهة أخرى.

ما‭ ‬الطائفية؟‭ ‬ما‭ ‬مدى‭ ‬حضورها‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬العربية؟‭ ‬ما‭ ‬الداعي‭ ‬إلى‭ ‬إثارتها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التوقيت‭ ‬بالذّات‭ (‬العشرية‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬الألفية‭ ‬الثالثة‭)‬؟‭ ‬كيف‭ ‬تجلّت؟‭ ‬وكيف‭ ‬تمّ‭ ‬التعاطي‭ ‬معها؟‭ ‬أسئلة‭ ‬كثيرة‭ ‬راودتني‭ ‬وأنا‭ ‬أقرأ‭ ‬بعض‭ ‬الروايات‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬حديثاً،‭ ‬وطرقت‭ ‬هذه‭ ‬المسألة‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬حادّة،‭ ‬وأخرى‭ ‬منفرجة‭.‬

بدءاً،‭ ‬تعرّف‭ ‬الطائفية‭ ‬بأنها‭ ‬انتماء‭ ‬لطائفة‭ ‬معينة‭ ‬تشترك‭ ‬دينياً‭ ‬واجتماعياً‭ ‬وعرقياً،‭ ‬وتستخدم‭ ‬بديلا‭ ‬للملّة‭ ‬والعرق‭ ‬والدين،‭ ‬ويرى‭ ‬برهان‭ ‬غليون‭ ‬أنّ‭: ‬‮«‬الخلط‭ ‬بين‭ ‬الدين‭ ‬والطائفة‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬فهم‭ ‬الأحداث‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬يمرّ‭ ‬بها‭ ‬العالم‭ ‬العربي‮»‬،‭ ‬وأنّ‭ ‬السلوك‭ ‬الطائفي‭ ‬يظلّ‭ ‬عاديا‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يَحِد‭ ‬إلى‭ ‬إثارة‭ ‬نعرات،‭ ‬أو‭ ‬دعوة‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬طوأفته‮»‬‭ ‬برفض‭ ‬الطوائف‭ ‬الأخرى،‭ ‬أمّا‭ ‬مشكلة‭ ‬الأقليّات‭ ‬الدينية‭ ‬فـ‭ ‬‮«‬ليست‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬لكنّها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تحوّلت‭ ‬إلى‭ ‬محرّمات‭ ‬يُمنع‭ ‬الحديث‭ ‬عنها‭ ‬كُبتت‭ ‬في‭ ‬اللاشعور‭ ‬القومي‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬تخرج‭ ‬إلى‭ ‬الوعي‭ ‬إلّا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مرآة‭ ‬أخرى‭ ‬ليست‭ ‬لها‭ ‬علاقة‭ ‬مباشرة‭ ‬بالتمايز‭ ‬الفكري‭ ‬والثقافي،‭ ‬وهي‭ ‬مرآة‭ ‬الصراع‭ ‬السياسي‮»‬‭.‬

وهذا‭ ‬ما‭ ‬يتسبب‭ ‬في‭ ‬رأيه‭ ‬في‭ ‬تفكيك‭ ‬أوصال‭ ‬الأمم‭.‬

ولكي‭ ‬لا‭ ‬تتشعّب‭ ‬بنا‭ ‬السبل‭ ‬في‭ ‬التمحّض‭ ‬لتحديد‭ ‬مفهوم‭ ‬عام‭ ‬وتفصيلي‭ ‬للطائفية،‭ ‬فنجانف‭ ‬بذلك‭ ‬الغاية،‭ ‬فإنّنا‭ ‬نعود‭ ‬إلى‭ ‬طرق‭ ‬مسألة‭ ‬الطائفية‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬في‭ ‬الألفية‭ ‬الثالثة،‭ ‬بالاشتغال‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬منذ‭ ‬وقت‭ ‬قريب،‭ ‬وحازت‭ ‬إعجاب‭ ‬النقاد‭ ‬والقراء،‭ ‬بل‭ ‬إنّ‭ ‬أغلب‭ ‬ما‭ ‬سنعكف‭ ‬على‭ ‬دراسته‭ ‬من‭ ‬نصوص،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬سنشير‭ ‬إليه‭ ‬منها،‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬توّج‭ ‬بالحصول‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬‮«‬البوكر‭ ‬للرواية‭ ‬العربية‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬تعدّ‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬الجوائز‭ ‬التي‭  ‬تُمنح‭  ‬لأفضل‭  ‬عمل‭  ‬روائي‭  ‬عربيّ،‭ ‬فمن‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭  ‬اخترناها‭: ‬‮«‬عزازيل‮»‬‭ ‬للروائي‭ ‬المصري‭ ‬يوسف‭ ‬زيدان،‭ ‬و«دروز‭ ‬بلغراد‭... ‬حكاية‭ ‬حنّا‭ ‬يعقوب‮»‬‭ ‬للروائي‭ ‬اللبناني‭ ‬ربيع‭ ‬جابر،‭ ‬و«اليهودي‭ ‬الحالي‮»‬‭ ‬للروائي‭ ‬اليمني‭ ‬علي‭ ‬المقري‭ ‬و«فرانكنشتاين‭ ‬في‭ ‬بغداد‮»‬‭ ‬للأديب‭ ‬العراقي‭ ‬أحمد‭ ‬السعداوي،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬روايات‭ ‬أخرى‭.‬

وكان‭ ‬أوّل‭ ‬مدارج‭ ‬البحث‭ ‬سؤال‭ ‬إشكاليّ‭: ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬حدا‭ ‬بالروائيين‭ ‬العرب‭ ‬إلى‭ ‬الانبراء‭ ‬شطر‭ ‬الطائفية‭ ‬موضوعاً‭ ‬مركزياً،‭ ‬وخصّها‭ ‬بنصوص‭ ‬كاملة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬نتفاً‭ ‬مبثوثة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬أو‭ ‬ذاك؟‭ ‬

ثمّ‭ ‬إنّ‭ ‬ما‭ ‬انبثّ‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬النصوص‭ ‬كان‭ ‬تعبيراً‭ ‬عن‭ ‬انتماء،‭ ‬ورصداً‭ ‬للذات‭ ‬في‭ ‬تفاعلها‭ ‬مع‭ ‬محيطها،‭ ‬وإثباتاً‭ ‬لهويتها،‭ ‬وتجذيراً‭ ‬لحضورها،‭ ‬فإدوارد‭ ‬الخراط‭ ‬في‭ ‬‮«‬ترابها‭ ‬زعفران‮»‬‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬‮«‬صخور‭ ‬السماء‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬ينقل‭ ‬الشخصي‭ ‬ويرفعه‭ ‬إلى‭ ‬الإنساني،‭ ‬كان‭ ‬يؤسّس‭ ‬لحضور‭ ‬الفرد‭ ‬المسيحي‭ ‬في‭ ‬البيئة‭ ‬المصرية،‭ ‬بوصفه‭ ‬فاعلاً‭ ‬ومكوناً‭ ‬لطَيْف‭ ‬من‭ ‬أطياف‭ ‬المجتمع‭ ‬المصري‭.‬

وكذا‭ ‬الأمر‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬حنّا‭ ‬مينة،‭ ‬الذي‭ ‬بدا‭ ‬في‭ ‬رواياته‭ ‬العديدة‭: ‬‮«‬الثلج‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬النافذة‮»‬،‭ ‬‮«‬المستنقع‮»‬،‭ ‬‮«‬مأساة‭ ‬ديميتريو‮»‬،‭ ‬حريصاً‭ ‬على‭ ‬إظهار‭ ‬انتماء‭ ‬معيّن‭ ‬أكثر‭ ‬منه‭ ‬إثارة‭ ‬لمسألة‭ ‬الطائفية،‭ ‬ولئن‭ ‬كانت‭ ‬أغلب‭ ‬شخصياته‭ ‬مسيحية،‭ ‬فإنّها‭ ‬دارت‭ ‬في‭ ‬فلك‭ ‬اجتماعيّ‭ ‬ثقافيّ‭ ‬يغلب‭ ‬عليه‭ ‬الحسّ‭ ‬الوطنيّ،‭ ‬ويلقي‭ ‬عليه‭ ‬غلالة‭ ‬من‭ ‬أدلجة‭ ‬الماركسية،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬المسيحي‭ ‬أمراً‭ ‬عاديّاً‭ ‬لا‭ ‬خصوصية‭ ‬فيه‭ ‬ولا‭ ‬شبهة‭.‬

وغادة‭ ‬السمان‭ ‬مثلاً،‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬نبذت‭ ‬علناً،‭ ‬وبنبرة‭ ‬مباشرة،‭  ‬تلك‭ ‬الدعوات‭ ‬الطائفية‭ ‬التي‭ ‬عصفت‭ ‬بلبنان‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬السبعينيات،‭ ‬وزجّت‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬أهلية‭ ‬طاحنة،‭ ‬وقد‭ ‬كشَفَتْ‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬كوابيس‭ ‬بيروت‮»‬‭ ‬عن‭ ‬أنّ‭ ‬حقيقة‭ ‬الصراع‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالدين،‭ ‬وإنّما‭ ‬هي‭ ‬الأهواء‭ ‬والمصالح‭ ‬والمكاسب،‭ ‬فالصراع‭ ‬ليس‭ ‬بين‭ ‬محمّد‭ ‬وعيسى،‭ ‬وليس‭ ‬لامتلاك‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬السماء،‭ ‬وإنما‭ ‬لامتلاك‭ ‬ناطحات‭ ‬سحاب‭ ‬ترتفع‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬لتبلغ‭ ‬السماء‭.‬

وللإجابة‭ ‬عن‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬كنّا‭ ‬قد‭ ‬طرحناه،‭ ‬فإنّنا‭ ‬نخال‭ ‬الأمر‭ ‬مرتدّاً‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬طبيعة‭ ‬تطوّر‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬السياقات‭ ‬التي‭ ‬تؤطر‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭ ‬عموماً،‭ ‬وذلك‭ ‬يعني‭ ‬أنّ‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬الألفية‭ ‬الثالثة‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬أن‭ ‬تنزوي‭ ‬عن‭ ‬حقيقة‭ ‬الصراعات‭ ‬العرقية‭ ‬والإثنية‭ ‬والدينية‭ ‬التي‭ ‬صارت‭ ‬منذ‭ ‬فترة،‭ ‬تعصف‭ ‬بأغلب‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬تزايد‭ ‬وطأتها،‭ ‬وتعقّد‭ ‬مساراتها‭.‬

ولكن‭ ‬السؤال‭ ‬يظلّ‭ ‬يلحّ‭ ‬هنا‭: ‬هل‭ ‬استهداف‭ ‬جائزة‭ ‬البوكر‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬وقف‭ ‬وحده‭ ‬وراء‭ ‬هذا‭ ‬التهافت‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬تحديداً،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬التوقيت‭ ‬بالذات؟

 

‮«‬عزازيل‮»‬‭ ‬وإشكالية‭ ‬القراءة

كان‭ ‬نص‭ ‬‮«‬عزازيل‮»‬‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬التي‭ ‬أثارت‭ ‬عند‭ ‬صدورها‭ ‬جدلاً‭ ‬واسعاً‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬الثقافية،‭ ‬والمسيحية‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص،‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أنّ‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬ما‭ ‬يسيء‭ ‬إلى‭ ‬الديانة‭ ‬المسيحية‭ ‬وإلى‭  ‬المسيحيين،‭ ‬خاصة‭ ‬أنّ‭ ‬صاحبها‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬الطائفة‭ ‬المسلمة،‭ ‬ويدرك‭ ‬ما‭ ‬لمثل‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬من‭ ‬أثر،‭ ‬وما‭ ‬ينجرّ‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬إذكاء‭ ‬لنعرات‭ ‬طائفية‭ ‬في‭ ‬فترة‭  ‬حاسمة‭ ‬وخطيرة‭ ‬تمرّ‭ ‬بها‭ ‬مصر‭.‬

‭ ‬ركب‭ ‬الكاتب‭ ‬مغامرة‭ ‬سردية‭ ‬ليدفع‭ ‬بها‭ ‬فكرة‭ ‬النعرة‭ ‬الطائفية،‭ ‬فيُحوّل‭ ‬من‭ ‬ثمّ‭ ‬الوجهة‭ ‬من‭ ‬الطائفي‭ ‬المحلّي‭ ‬إلى‭ ‬السّيري‭ ‬الإنساني،‭ ‬وفي‭ ‬المدوّنة‭ ‬الروائية‭ ‬العالمية‭ ‬المعاصرة‭ ‬نصوص‭ ‬طرحت‭  ‬هذا‭ ‬الضرب‭ ‬من‭ ‬الإشكالات،‭ ‬وأثارت‭ ‬جدلاً‭ ‬كبيراً‭ ‬حولها‭.‬

لقد‭ ‬عمد‭ ‬يوسف‭ ‬زيدان‭ ‬إلى‭ ‬اختيار‭ ‬سيرة‭ ‬راهب‭ ‬مسيحي‭ ‬يُدعى‭ ‬هيبا‭ ‬دُوّنت‭ ‬سيرته‭ ‬في‭ ‬مخطوط‭ ‬ثمّ‭ ‬تُرجمت‭ ‬‮«‬فما‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬وأيدينا‭ (‬رقوق‭) ‬حبّر‭ ‬فيها‭ ‬الراهب‭ ‬هيبا‭ (‬رواية‭)‬،‭ ‬صيّرها‭ ‬الروائي‭ ‬‮«‬نصاً‭ ‬مترجماً‮»‬‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬يضمّ‭ (‬سيرة‭)‬‮»‬‭.‬

ويروي‭ ‬النص‭ ‬الروائي‭ ‬خروج‭ ‬هذا‭ ‬الراهب‭ ‬هيبا‭ ‬من‭ ‬صعيد‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬بحث‭ ‬عن‭ ‬الله‭ ‬وعن‭ ‬اليقين،‭ ‬وزَادُه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬طموح‭ ‬إلى‭ ‬امتلاك‭ ‬المعرفة‭ ‬والتشبع‭ ‬بروح‭ ‬المسيحية‭ ‬الصحيحة‭ ‬حتى‭ ‬بلغ‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬مدينة‭ ‬العلم‭ ‬والدين‭ ‬والفلسفة‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬الميلادي،‭ ‬وهناك‭ ‬اكتشف‭ ‬الزيف،‭ ‬وعاش‭ ‬المأساة‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬بالكنيسة‭ ‬ورجالها‭ ‬والدسائس‭ ‬والمؤامرات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تُحاك‭ ‬فيها،‭ ‬والصراع‭ ‬اللاهوتي‭ ‬الذي‭ ‬اضطرم‭ ‬بين‭ ‬طرفين‭ ‬مثّل‭ ‬فيه‭ ‬البابا‭ ‬‮«‬كيرلس‮»‬‭ ‬المُلقب‭ ‬بـ«عامود‭ ‬الدين‮»‬‭ ‬الكنيسةَ،‭ ‬ومَثَّلَ‭ ‬‮«‬نسطور‮»‬‭ ‬فيه‭ ‬فئةَ‭ ‬الهراطقة‭ ‬كما‭ ‬سمّتهم‭ ‬الكنيسة‭ ‬لخروجهم‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس‭ ‬وتبنّيهم‭ ‬الفلسفة‭ ‬اليونانية،‭ ‬وهنا‭ ‬وقف‭ ‬هيبا‭ ‬موقف‭ ‬المحتار‭: ‬‮«‬هل‭ ‬القويم‭ ‬هو‭ ‬إيمان‭ ‬كيرلس،‭ ‬أم‭ ‬إيمان‭ ‬نسطور‭ ‬المسكين‭ ‬الذي‭ ‬سيلحق‭ ‬عمّا‭ ‬قريب‭ ‬بمن‭ ‬سبقوه‭ ‬من‭ ‬المحرومين‭ ‬بولس‭ ‬السمياطي،‭ ‬أريوس‭ ‬المطرود،‭ ‬تيودور‭ ‬المبجل،‭ ‬كل‭ ‬المهرطقين‭ ‬هنا؟‮»‬‭.‬

‭ ‬مرّ‭ ‬هيبا‭ ‬بتجارب‭ ‬مريرة،‭ ‬فَقَدْ‭ ‬شَهِدَ‭ ‬مقتل‭ ‬والديه‭ ‬وأحداث‭ ‬الاضطهاد‭ ‬المريعة‭ ‬التي‭ ‬رافقت‭ ‬ذلك،‭ ‬كما‭ ‬حضر‭ ‬مقتل‭ ‬هيباتيا‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬شنيعة،‭ ‬إذ‭ ‬تمّ‭ ‬سحلها‭ ‬وتجريدها‭ ‬من‭ ‬ثيابها،‭ ‬وتقشير‭ ‬جلدها‭ ‬بالأصداف،‭ ‬ثم‭ ‬ذبحها‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬رجال‭ ‬الكنيسة‭.‬

وبسبب‭ ‬ذلك‭ ‬خرج‭ ‬هيبا‭ ‬من‭ ‬الإسكندرية‭  ‬هائماً‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬سائراً‭ ‬على‭ ‬قدميه‭ ‬لمدّة‭ ‬أربعة‭ ‬أشهر،‭ ‬باحثا‭ ‬عن‭ ‬أصل‭ ‬الدين‭ ‬الحقّ،‭ ‬حتّى‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬سيناء‭ ‬فتذكّر‭ ‬اليهود‭: ‬‮«‬كنت‭ ‬كمثل‭ ‬اليهود‭ ‬في‭ ‬سنوات‭ ‬التيه‭ ‬العظيم‭ ‬بصحراء‭ ‬سيناء‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أسير‭ ‬نحوها،‭ ‬لماذا‭ ‬أخذتني‭ ‬خطاي‭ ‬نحو‭ ‬سيناء؟‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬تدبيراً‭ ‬إلهياً‭ ‬لم‭ ‬أفطن‭ ‬إليه؟‭ ‬أم‭ ‬هي‭ ‬الأيام‭ ‬تعبث‭ ‬بي‭ ‬وتقلّبني‭ ‬كلّ‭ ‬منقلب‭...‬‮»‬‭.‬

ولسنا‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يحمله‭ ‬هذا‭ ‬المقطع‭ ‬من‭ ‬الإيحاءات،‭ ‬والغمز‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬خفيّ‭ ‬خاصة‭ ‬لمّا‭ ‬يُعضَّدُ‭ ‬بقول‭ ‬الراهب‭ ‬هيبا‭: ‬‮«‬كنت‭ ‬أعتقد‭ ‬أنّ‭ ‬الديانة‭ ‬الحقّة‭ ‬واحدة،‭ ‬ولها‭ ‬أصل‭ ‬واحد‮»‬‭. ‬وذلك‭ ‬لمّا‭ ‬بلغ‭ ‬هيبا‭ ‬البحر‭ ‬الميّت‭ ‬وقابل‭ ‬‮«‬الأسيتين‮»‬‭ ‬ووصل‭ ‬إلى‭ ‬يقين‭ ‬بأنّ‭ ‬اليهودية‭ ‬هي‭ ‬الأصل‭ ‬وليست‭ ‬المسيحية‭. ‬

صدرت‭ ‬الرواية،‭ ‬ورُفعت‭ ‬دعوة‭ ‬قضائية‭ ‬لمنع‭ ‬تداولها‭ ‬لإساءتها‭ ‬للمسيحية،‭ ‬وهوجم‭ ‬يوسف‭ ‬زيدان‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬وأغلبها‭ ‬جهات‭ ‬مسيحية‭ ‬رأت‭ ‬فيه‭ ‬إهانة‭ ‬للمسيحية،‭ ‬وإثارة‭ ‬للأحقاد‭ ‬بين‭ ‬المسلمين‭ ‬والمسيحيين‭.‬

ولكن‭ ‬ألا‭ ‬يمكن‭ ‬قراءة‭ ‬الرواية‭ ‬إلّا‭ ‬بالاستناد‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الخلفية‭ ‬الدينية؟‭ ‬ألا‭ ‬تكون‭ ‬الاستجارة‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬التيمات‭ ‬موصولة‭ ‬بالتاريخ‭ ‬محاولة‭ ‬لرصد‭ ‬طبيعة‭ ‬العلاقة‭ ‬الملتبسة‭ ‬دائماً‭ ‬بين‭ ‬الناسوت‭ ‬واللاهوت،‭ ‬ألا‭ ‬تجوز‭ ‬قراءة‭ ‬الرواية‭ ‬بعين‭ ‬القلق‭ ‬الوجودي‭ ‬الذي‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‭ ‬بشكل‭ ‬مطلق؟

 

‮«‬دروز‭ ‬بلغراد‮»‬‭ ‬والحس‭ ‬المخاتل

‭ ‬أمّا‭ ‬النص‭ ‬الثاني‭ ‬الذي‭ ‬يحسن‭ ‬بنا‭ ‬الوقوف‭ ‬عنده،‭ ‬فهو‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬دروز‭ ‬بلغراد‭... ‬حكاية‭ ‬حنّا‭ ‬يعقوب‮»‬‭ ‬بسبب‭ ‬لعبة‭ ‬المخاتلة‭ ‬التي‭ ‬استمتع‭ ‬بها‭ ‬المؤلف‭ ‬ربيع‭ ‬جابر‭ ‬الذي‭ ‬حرص‭ ‬على‭ ‬وضع‭ ‬تلك‭ ‬الملاحظة‭ ‬التي‭ ‬يُلجأُ‭ ‬إليها‭ ‬غالباً‭ ‬عندما‭ ‬يُخشى‭ ‬ممّا‭ ‬قد‭ ‬ينشأ‭ ‬من‭ ‬مطابقات‭ ‬أو‭ ‬مماثلات‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬النصوص،‭ ‬وما‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬حدث‭ ‬فعلاً‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬وعلى‭ ‬وجه‭ ‬الحقيقة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬سعى‭ ‬الروائي‭ ‬إلى‭ ‬إيهامنا‭ ‬به،‭ ‬لأنّ‭ ‬ما‭ ‬يُخشى‭ ‬منه‭ ‬حقيقة‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يُقرأ‭ ‬ضمن‭ ‬رؤية‭ ‬تؤطّره‭ ‬فكرياً‭ ‬وأيديولوجياً‭ ‬فيصير‭ ‬معها‭ ‬العمل‭ ‬إمّا‭ ‬وثيقة‭ ‬تحريضية،‭ ‬وإمّا‭ ‬تسجيلاً‭ ‬توثيقياً‭ (‬روبورتاجاً‭ ‬مطوّلاً‭) ‬لحدث‭ ‬أو‭ ‬أحداث‭ ‬وقعت‭ ‬فعلاً،‭ ‬وعليه‭ ‬يمكن‭ ‬تفسير‭ ‬قول‭ ‬الروائي‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬نسج‭ ‬الخيال،‭ ‬وأيّ‭ ‬شبه‭ ‬بين‭ ‬أشخاصها‭ ‬وأحداثها‭ ‬وأماكنها‭ ‬مع‭ ‬أشخاص‭ ‬حقيقيين،‭ ‬وأحداث‭ ‬وأماكن‭ ‬حقيقية‭ ‬هو‭ ‬محض‭ ‬صدفة،‭ ‬ومجرّد‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬قصد‮»‬،‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬إدراك‭ ‬لما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تثيره‭ ‬نصوص‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬من‭ ‬حساسيات‭ ‬وما‭ ‬يحتمل‭ ‬أن‭ ‬تنشره‭ ‬من‭ ‬توتّر‭.‬

‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬متن‭ ‬الرواية‭ ‬‮«‬هذه‭ ‬حكاية‭ ‬حنّا‭ ‬يعقوب‭ ‬وزوجته‭ ‬هيلانة‭ ‬قسطنطين‭ ‬يعقوب‭ ‬وابنتهما‭ ‬بربارة‮»‬،‭ ‬كاد‭ ‬يجعلنا‭ ‬نطمئنّ‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬ما‭ ‬ستحويه‭ ‬الرواية‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬العنوان‭ ‬الثاني،‭ ‬لكنّ‭ ‬الإفادات‭ ‬التي‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬مواضع‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬النص‭ ‬ألقت‭ ‬بغلالة‭ ‬من‭ ‬الغموض‭ ‬والتوجّس،‭ ‬ففي‭ ‬صفحة‭ ‬موالية‭ ‬للإشارة‭ ‬السابقة‭ ‬نلفي‭ ‬السارد‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬وقعت‭ ‬حرب‭ ‬أهلية‭ ‬في‭ ‬الجبل‭ ‬الذي‭ ‬يُظلّل‭ ‬بيروت،‭ ‬وبعد‭ ‬معارك‭ ‬ومذابح‭ ‬دامت‭ ‬ثلاثة‭ ‬أسابيع‭ ‬كسر‭ ‬الدروز‭ ‬المسيحيين،‭ ‬واستولوا‭ ‬على‭ ‬جبل‭ ‬لبنان‭. ‬عدوى‭ ‬القتل‭ ‬انتقلت‭ ‬على‭ ‬الألسنة‭ ‬وفي‭ ‬الهواء‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬دمشق‭: ‬أغار‭ ‬المسلمون‭ ‬بالبارود‭ ‬على‭ ‬حيّ‭ ‬النصارى‭ ‬وأحرقوه‮»‬‭.‬

وهذا‭ ‬الضرب‭ ‬من‭ ‬التوضيحات‭ ‬كفيل‭ ‬بأن‭ ‬يـدعنا‭ ‬نرجّح‭ ‬وقوفنا‭ ‬أمام‭ ‬رواية‭ ‬تاريخية‭ ‬تتناول‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬التـاريخ‭ ‬في‭ ‬الشام‭ ‬وفي‭ ‬لبنان‭ ‬تـحديداً،‭ ‬وخاصة‭ ‬فيما‭ ‬يتصل‭ ‬بطائفة‭ ‬الدروز،‭ ‬وقد‭ ‬تعرّض‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬لتاريخ‭ ‬هذه‭ ‬الطائفة،‭ ‬وكُتب‭ ‬كثير‭ ‬عن‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬عصفت‭ ‬بالمنطقة،‭ ‬ودور‭ ‬الدروز‭ ‬فيها‭. ‬

وهذه‭ ‬الرواية‭ ‬التاريخية‭ ‬تضعنا‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬بين‭ ‬حضور‭ ‬التاريخي‭ ‬العام‭ ‬والحكائي‭ ‬الخاص‭ ‬‮«‬حكاية‭ ‬حنا‭ ‬يعقوب‮»‬‭ ‬المسيحي،‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬احتشد‭ ‬به‭ ‬النص‭ ‬من‭ ‬وقائع‭ ‬تاريخية،‭ ‬ومواقع‭ ‬جغرافية،‭ ‬وشخصيات‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬طبقات‭ ‬مختلفة‭ ‬وإلى‭ ‬أجناس‭ ‬وأعراق‭ ‬وأديان‭ ‬وطوائف‭ ‬متعدّدة،‭ ‬وبين‭ ‬حضور‭ ‬متواضع‭ ‬لحنا‭ ‬يعقوب،‭ ‬وبدرجة‭ ‬أقلّ‭ ‬زوجته‭ ‬وابنته‭.‬

‭ ‬بل‭ ‬إنّ‭ ‬عناية‭ ‬السارد‭ ‬ومن‭ ‬ورائه‭ ‬الروائي‭ ‬بطائفة‭ ‬الدروز‭ ‬عموماً،‭ ‬مع‭ ‬التزام‭ ‬مسافة‭ ‬بيّنة‭ ‬من‭ ‬التحفظ‭ ‬يصيّر‭ ‬أمر‭ ‬النصّ‭ ‬إلى‭ ‬قصدية‭ ‬توثيقية‭ ‬تتضافر‭ ‬مع‭ ‬التخييلي‭ ‬لتنشئ‭ ‬عالماً‭ ‬سردياً‭ ‬مخاتلاً،‭ ‬فقد‭ ‬تولّى‭ ‬حنّا‭ ‬يعقوب‭ ‬هذا‭ ‬المسيحي‭ ‬البسيط‭ ‬المسالم‭ ‬مهمة‭ ‬التعريف‭ ‬بالدروز‭.‬

بل‭ ‬إنّنا‭ ‬نجده‭ ‬يثبّت‭ ‬في‭ ‬حوار‭ ‬له‭ ‬مع‭ ‬أحد‭ ‬الدروز‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬الرواية‭ ‬التاريخية،‭ ‬والذي‭ ‬صرّح‭ ‬له‭: ‬‮«‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬كم‭ ‬مسيحياً‭ ‬من‭ ‬ملّتك‭ ‬قتلتُ‭ ‬يا‭ ‬شيخ‭ ‬حنّا،‭ ‬لكنّني‭ ‬لم‭ ‬أقتل‭ ‬لا‭ ‬ولداً‭ ‬ولا‭ ‬امرأة‮»‬‭.‬

وقد‭ ‬تتولّى‭ ‬شخصيات‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الروائي‭ ‬تلك‭ ‬المهمة‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬شراوالي‭ ‬بيك‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬قدّم‭ ‬للوكيل‭ ‬اليهوديّ‭ ‬فكرة‭ ‬عن‭ ‬الدروز‭: ‬‮«‬المظاهر‭ ‬تخدع،‭ ‬أنت‭ ‬يهوديّ،‭ ‬صحيح؟‭ ‬هؤلاء‭ ‬دروز‭ ‬من‭ ‬لبنان،‭ ‬الجبل‭ ‬المذكور‭ ‬في‭ ‬التوراة،‭ ‬لكنهم‭ ‬أسود‭ ‬كاسرة‭. ‬الآن‭ ‬تراهم‭ ‬مربوطين‭ ‬مذلولين‭ ‬كالغنم،‭ ‬لكن‭ ‬اقطع‭ ‬هذا‭ ‬الحبل،‭ ‬وأعْطِهِم‭ ‬خردقاً‭ ‬وبلطات‭ ‬وأَوقِف‭ ‬جيشاً‭ ‬أمامهم‭ ‬وانظر‭! ‬هل‭ ‬تعرف‭ ‬ماذا‭ ‬فعلوا‭ ‬بجيرانهم‭ ‬المسيحيين‭ ‬في‭ ‬بلدهم؟‭ ‬وهؤلاء‭ ‬جيرانهم‭ ‬وأكلوا‭ ‬معهم‮»‬‭.‬

وهو‭ ‬الذي‭ ‬سأل‭ ‬واحدا‭ ‬منهم‭ ‬‮«‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬يتزوجون‭ ‬إلّا‭ ‬امرأة‭ ‬واحدة‭ ‬ماداموا‭ ‬يقولون‭ ‬دوما‭ ‬إنهم‭ ‬مسلمون؟‭ ‬وإنهم‭ ‬‮«‬مثل‭ ‬أهل‭ ‬الهند‭ ‬يعتقدون‭ ‬أن‭ ‬الواحد‭ ‬لا‭ ‬يموت‭ ‬حين‭ ‬يموت،‭ ‬ولكن‭ ‬روحه‭ ‬تترك‭ ‬جسمه‭ ‬إلى‭ ‬جسم‭ ‬طفل‭ ‬يولد‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة؟‭ ‬أجابه‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬يُسمّى‭ ‬في‭ ‬لغتهم‭ ‬التقمص،‭ ‬ومعناه‭ ‬أنّ‭ ‬الروح‭ ‬تبدل‭ ‬الجسم‭ ‬كما‭ ‬نبدل‭ ‬نحن‭ ‬القميص‭...‬‮»‬‭.‬

أو‭  ‬مثل‭ ‬رئيس‭ ‬الحرس‭ ‬الذي‭ ‬اكتشف‭ ‬أمراً‭ ‬أغرب‭: ‬‮«‬هؤلاء‭ ‬الدروز‭ ‬يتجنبون‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬القاطفات‭ ‬الموزّعات‭ ‬في‭ ‬الكروم‭ ‬المجاورة‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬إنّ‭ ‬الوكيل‭ ‬اليهوديّ‭ ‬صمويل‭ ‬يصفهم‭ ‬قائلاً‭: ‬‮«‬الدروز‭ ‬استلقوا‭ ‬على‭ ‬جنبهم‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬حيث‭ ‬ربطوهم،‭ ‬وناموا‭ ‬عشر‭ ‬دقائق‭ ‬ثمّ‭ ‬قاموا‭ ‬إلى‭ ‬القطاف‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬فلاحون‭ ‬حقيقيون‮»‬‭.‬

ويجرّنا‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬طرح‭ ‬سؤال‭ ‬حول‭ ‬المساحة‭ ‬التي‭ ‬امتدّت‭ ‬عليها‭ ‬حكاية‭ ‬‮«‬حنّا‭ ‬يعقوب‭ ‬وزوجته‭ ‬هيلانة‭ ‬وابنتهما‭ ‬بربارة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ترد‭ ‬في‭ ‬بضع‭ ‬صفحات‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الرواية،‭ ‬وصفحة‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬نهايتها،‭ ‬أكانت‭ ‬الحكاية‭ ‬مطيّة‭ ‬لتمرير‭ ‬التاريخي‭ ‬والسياسي‭ ‬والطائفي‭ ‬أم‭ ‬أنّ‭ ‬ذلك‭ ‬يرتدّ‭ ‬إلى‭ ‬موضع‭ ‬الزاوية‭ ‬التي‭ ‬أطلّ‭ ‬منها‭ ‬الروائي‭ ‬فكان‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬القصصي‭ ‬الحكائي‭ ‬الذي‭ ‬يقترب‭ ‬من‭ ‬الشعبي‭ ‬البسيط‭ ‬حين‭ ‬تقاطع‭ ‬في‭ ‬منعرج‭ ‬حدثي‭ ‬مع‭ ‬السرد‭ ‬التاريخي‭ ‬المتكئ‭ ‬على‭ ‬الوثيقة،‭ ‬فحاك‭ ‬نصّاً‭/‬رواية‭ ‬قررت‭ ‬لجنة‭ ‬تحكيم‭ ‬جائزة‭ ‬البوكر‭ ‬العربية‭ ‬2012‭ ‬منحها‭ ‬الجائزة‭ ‬‮«‬لتصويرها‭ ‬القويّ‭ ‬لهشاشة‭ ‬الوضع‭ ‬الإنساني‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إعادة‭ ‬خلق‭ ‬فترة‭ ‬تاريخية‭ ‬ماضية‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬عالية‭ ‬الحساسية»؟

‮«‬اليهودي‭ ‬الحالي‮»‬‭ ‬والمفارقة‭ ‬التاريخية

أمّا‭ ‬الرواية‭ ‬الثالثة‭ ‬التي‭ ‬فرضت‭ ‬نفسها‭ ‬فرضاً‭ ‬لتكون‭ ‬ضمن‭ ‬المدونة‭ ‬المشتغل‭ ‬عليها،‭ ‬فهي‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬اليهودي‭ ‬الحالي‮»‬‭ ‬للروائي‭ ‬اليمني‭ ‬‮«‬علي‭ ‬المقري‮»‬،‭ ‬ذلك‭ ‬أنّ‭ ‬عنوانا‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬كفيل‭ ‬بلفت‭ ‬الانتباه،‭ ‬والتحريض‭ ‬على‭ ‬معرفة‭ ‬المتن‭ ‬الذي‭ ‬يحيل‭ ‬عليه،‭ ‬سواء‭ ‬أكان‭ ‬المفهوم‭ ‬من‭ ‬‮«‬الحالي‮»‬‭ ‬ما‭ ‬يعنيه‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬الفصيحة‭ ‬أو‭ ‬باللهجة‭ ‬اليمنية‭ ‬المحلية‭ ‬‮«‬المَلِيح‮»‬،‭ ‬فالمثير‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬هو‭ ‬وجود‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬اليهوديّ‮»‬،‭ ‬فالنصوص‭ ‬الروائية‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬تناولت‭ ‬طائفة‭ ‬‮«‬اليهود‮»‬‭ ‬نادرة،‭ ‬فهي‭ ‬لم‭ ‬تعدُ‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬إمّا‭ ‬إشارات‭ ‬عابرة‭ ‬تخلّلت‭ ‬بعض‭ ‬النصوص‭ ‬وخاصة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬وإمّا‭ ‬نصوصاً‭ ‬كتبها‭ ‬يهود‭ ‬عرب،‭ ‬أو‭ ‬عرب‭ ‬يكتبون‭ ‬باللغات‭ ‬الأجنبية‭. ‬

شرع‭ ‬المقري‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬المفارقة،‭ ‬بأن‭ ‬حَمَلَنا‭ ‬هو‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬التاريخ‭ ‬محدثاً‭ ‬الدهشة‭ ‬والمتعة،‭ ‬فالأحداث‭ ‬تجري‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر،‭ ‬والشخصيتان‭ ‬المركزيتان‭ ‬‮«‬فاطمة‮»‬‭ ‬المسلمة‭ ‬و«سالم‮»‬‭ ‬اليهودي‭ ‬تعيشان‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬‮«‬ريدة‮»‬‭ ‬اليمنية،‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬بلغت‭ ‬فيها‭ ‬الصراعات‭ ‬الطائفية‭ ‬أشدّها‭ ‬بين‭ ‬المسلمين‭ ‬واليهود،‭ ‬ولكنّ‭ ‬فاطمة‭ ‬وسالم‭ ‬يتحدّيان‭ ‬الوضع‭ ‬ويتزوجان‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أدركا‭ ‬أنّ‭ ‬ما‭ ‬يقرّبهما‭ ‬من‭ ‬بعضهما‭ ‬البعض‭ ‬أعظم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تقف‭ ‬أمامه‭ ‬اختلافات‭ ‬دينية،‭ ‬أو‭ ‬تصنيفات‭ ‬عرقية،‭ ‬فَلَقِيا‭ ‬ما‭ ‬لَقِيا‭ ‬من‭ ‬صنوف‭ ‬العداء،‭ ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬المحنة‭ ‬التي‭ ‬كابدتها‭ ‬الذرية‭ ‬المتحدرة‭ ‬منهما‭ ‬كانت‭ ‬أشدّ‭ ‬وقعاً،‭ ‬فبعد‭ ‬العنت‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬لقيه‭ ‬سالم‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أهله‭ ‬اليهود‭ ‬لدفن‭ ‬فاطمة‭ ‬في‭ ‬مقابرهم‭ ‬‮«‬أخذوا‭ ‬جثتها‭ ‬ودفنوها‭ ‬هناك،‭ ‬عزلوها‭ ‬عن‭ ‬اليهود،‭ ‬قالوا‭ ‬هي‭ ‬مسلمة،‭ ‬كافرة‮»‬‭.‬

كانت‭ ‬الصدمة‭ ‬عندما‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬مع‭ ‬طفل‭ ‬رضيع‭ ‬عمره‭ ‬يوم‭ ‬واحد‭ ‬رفض‭ ‬اليهود‭ ‬والمسلمون‭ ‬معاً‭ ‬العناية‭ ‬به‭ ‬‮«‬بالله‭ ‬عليكم،‭ ‬هل‭ ‬يجوز‭ ‬بدينكم‭ ‬وعُرفكم‭ ‬ترك‭ ‬طفل‭ ‬عمره‭ ‬يوم،‭ ‬هكذا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬رحمة،‭ ‬حتّى‭ ‬يموت‭... ‬شعرت‭ ‬بألم‭ ‬شديد،‭ ‬كدت‭ ‬معه‭ ‬أمقت‭ ‬كلّ‭ ‬يهوديّ‭ ‬ومسلم‮»‬‭.‬

وظلّت‭ ‬المأساة‭ ‬تلاحق‭ ‬الابن‭ ‬سعيد‭ ‬والأحفاد‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬الرواية،‭ ‬فقد‭ ‬رفض‭ ‬اليهود‭ ‬والمسلمون‭ ‬معا‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬دفن‭ ‬الأب‭ ‬سالم‭ ‬في‭ ‬مقابرهما،‭ ‬ويروي‭ ‬الحفيد‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬سعيد‭: ‬‮«‬في‭ ‬تلك‭ ‬الليلة،‭ ‬بقي‭ ‬أبي‭ ‬يهذي‭ ‬دون‭ ‬توقّف‭: ‬ما‭ ‬هذا؟‭ ‬كيف؟‭ ‬لا‭ ‬أرض‭ ‬تقبل‭ ‬بهما‭ ‬ولا‭ ‬ناس‭... ‬لا‭ ‬أحد‭...‬لا‭ ‬أرض‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭... ‬لا‭ ‬أحد‭...‬‮»‬‭.‬

وهكذا،‭ ‬افتتح‭ ‬المقري‭ ‬الرواية‭ ‬باستهلال‭ ‬جعل‭ ‬فيه‭ ‬السارد‭ ‬‮«‬سالم‭ ‬اليهودي‮»‬‭ ‬يوضح‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬بصدده،‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬قرّرت‭ ‬أن‭ ‬أُدوّن‭ ‬هذه‭ ‬الأخبار‭ ‬عن‭ ‬أيّام‭ ‬فاطمة،‭ ‬وزمنها،‭ ‬حتّى‭ ‬هذه‭ ‬السنة‭ (‬أربع‭ ‬وخمسين‭ ‬وألف‭) ‬التي‭ ‬تزوّجت‭ ‬فيها‭ ‬حلماً‭ ‬لننجب‭ ‬توأمين‭: ‬أملاً‭ ‬وفجيعة‮»‬‭. ‬فبدا‭ ‬حكيا‭ ‬لقصة‭ ‬عاشق‭ ‬يحنّ‭ ‬إلى‭ ‬أيّام‭ ‬الحبيبة،‭ ‬يستذكر‭ ‬زمنها،‭ ‬ويستعيد‭ ‬ما‭ ‬عاناه‭ ‬الاثنان‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام،‭ ‬لكنّنا‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬نلفي‭ ‬الروائي‭ ‬ينفذ‭ ‬من‭ ‬مسارب‭ ‬القصة‭ ‬الواسعة‭ (‬الحبيبان‭ ‬يهودي‭ ‬ومسلمة‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬صغيرة‭ ‬في‭ ‬اليمن‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر‭) ‬إلى‭ ‬مسألة‭ ‬الطائفية‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬الأقلية‭ ‬الدينية‭ ‬اليهودية‭ ‬والاضطهاد‭ ‬الذي‭ ‬سُلّط‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬مسلمي‭ ‬اليمن‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬فيصبح‭ ‬سالم‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬يصرّح‭ ‬فيما‭ ‬يلي‭ ‬من‭ ‬صفحات‭ ‬الرواية‭: ‬‮«‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬سجَّلْتُ‭ ‬فيه‭ ‬أخبار‭ ‬اليهود‭ ‬أيام‭ ‬الإمام‭ ‬المتوكل،‭ ‬وما‭ ‬جرى‭ ‬ومازال‭ ‬يجري‮»‬‭. ‬ليصل‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬الحفيد‭ ‬إبراهيم‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أرغب‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬ومواصلة‭ ‬ما‭ ‬بدأه‭ ‬جدّي‭ ‬في‭ ‬تدوين‭ ‬حوليات‭ ‬السنين‭ ‬لما‭ ‬جرى‭ ‬لليهود‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬اليمن‭ ‬لولا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬لجدّي‭ ‬وجدّتي‭ ‬وأبي‭ ‬من‭ ‬مصير‮»‬‭.‬

وقد‭ ‬تحوّل‭ ‬هذا‭ ‬التبرير‭ ‬إلى‭ ‬منفذ‭ ‬تسلّل‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬المقري‭ ‬فوزّع‭ ‬السرد‭ ‬على‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬أبرزها‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تروي‭ ‬بضمير‭ ‬الأنا‭ ‬فتَصِف‭ ‬وتحاور‭ ‬وتؤرّخ‭ ‬وتدوّن،‭ ‬وإن‭ ‬تكرّست‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬سالم،‭ ‬فإنّها‭ ‬امتدّت‭ ‬إلى‭ ‬الابن‭ ‬والحفيد،‭ ‬وهي‭ ‬هنا،‭ ‬مهمّة‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬التعقيد‭ ‬والحساسية،‭ ‬فأن‭ ‬يقف‭ ‬أحدهم‭ ‬مرّة‭ ‬ناقلاً‭ ‬لحدث‭ ‬ثمّ‭ ‬يصبح‭ ‬بعدها‭ ‬مسجّلاً‭ ‬لواقعة‭ ‬تاريخية،‭ ‬ليجد‭ ‬نفسه،‭ ‬في‭ ‬مواضع‭ ‬أخرى‭ ‬كثيرة،‭ ‬شخصيةً‭ ‬طرفاً،‭ ‬ليس‭ ‬بالأمر‭ ‬اليسير‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭.‬

‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ورود‭ ‬بعض‭ ‬المقاطع‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬سعى‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬الروائي‭ ‬إلى‭ ‬التخفيف‭ ‬من‭ ‬حدّة‭ ‬طرحه‭ ‬لمسألة‭ ‬اضطهاد‭ ‬المسلمين‭ ‬لليهود‭ ‬كما‭ ‬في‭:‬‭ ‬‮«‬ما‭ ‬فعلته‭ ‬فاطمة‭ ‬كان‭ ‬كمن‭ ‬أشعل‭ ‬حريقاً‭ ‬في‭ ‬الحيّ‭ ‬اليهوديّ،‭ ‬مع‭ ‬أنّها‭ ‬لم‭ ‬تعمل‭ ‬شيئاً،‭ ‬علّمتني‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬فحسب‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬‮«‬وقف‭ ‬عامل‭ ‬الإمام‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬اليهود‭ ‬في‭ ‬مطالبتهم‭ ‬بالتعويض،‭ ‬حسب‭ ‬الشريعة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬لحقهم‭ ‬من‭ ‬أضرار‮»‬‭. ‬فإنّ‭ ‬الرواية‭ ‬تعجّ‭ ‬بما‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬من‭ ‬ذلك‭.‬

 

‮«‬يا‭ ‬مريم‮»‬‭ ‬والخروج‭ ‬عن‭ ‬السرب

أمّا‭ ‬الرواية‭ ‬الرابعة‭ ‬‮«‬يا‭ ‬مريم‮»‬‭  ‬للكاتب‭ ‬العراقي‭ ‬سنان‭ ‬أنطون،‭ ‬فتخرج‭ ‬عن‭ ‬السرب‭ ‬لا‭ ‬لكونها‭ ‬لم‭ ‬تفز‭ ‬بجائزة‭ ‬‮«‬البوكر‮»‬‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬لأنّ‭ ‬تيمة‭ ‬الطائفية‭ ‬فيها‭ ‬مركزية،‭ ‬وتعلن‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬من‭ ‬العنوان،‭  ‬فيوسف‭ ‬ومها‭ ‬وزوجها‭ ‬مواطنون‭ ‬مسيحيّون‭ ‬يعيشون‭ ‬الأزمة‭ ‬الطائفية‭ ‬الحادة‭ ‬التي‭ ‬تفجّرت‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬بعد‭ ‬الحرب،‭ ‬يجدون‭ ‬أنفسهم‭ ‬مهدّدين‭ ‬بالاضطهاد‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬طائفة‭ ‬المسلمين‭.‬

‭ ‬يستعيد‭ ‬يوسف‭ ‬العجوز‭ ‬ماضياً‭ ‬مُشرقاً‭ ‬زاهياً‭ ‬‮«‬كان‭ ‬الماضي‭ ‬مثل‭ ‬حديقة‭ ‬البيت‭ ‬التي‭ ‬أُحبها‭ ‬وأعتني‭ ‬بها‭ ‬مثل‭ ‬ابني‮»‬،‭ ‬ويحاول‭ ‬أن‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬الماضي‭ ‬أمام‭ ‬جيل‭ ‬الشباب‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬مها‭ ‬وزوجها‭ ‬المسيحيين‭ ‬اللذين‭ ‬فقدا‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬العيش‭ ‬بسلام‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض،‭ ‬فـ‭ ‬‮«‬مها‮»‬‭ ‬تنتفض‭ ‬‮«‬احنا‭ ‬مشكلتنا‭ ‬هسّه،‭ ‬بالوقت‭ ‬الحاضر‭ ‬الإسلام‭ ‬ميريدونا،‭ ‬بكل‭ ‬بساطة،‭ ‬علمود‭ ‬يظلّ‭ ‬البلد‭ ‬إِلهم‮»‬‭.  ‬لذلك‭ ‬تفكر‭ ‬في‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬أوطان‭ ‬بعيدة‭ ‬مثلما‭ ‬هاجر‭ ‬اليهود‭ ‬وتركوا‭ ‬العراق‭ ‬تحت‭ ‬الضغط،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬يقول‭ ‬يوسف‭ ‬‮«‬مو‭ ‬بسّ‭ ‬كنايس‭ ‬تنحرق‭ ‬بنتي،‭ ‬الجوامع‭ ‬اللي‭ ‬انحرقت‭ ‬أكثر‭ ‬بكثير،‭ ‬والإسلام‭ ‬اللي‭ ‬انقتلوا‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‮»‬،‭ ‬و«بابا‭ ‬موضوع‭  ‬اليهود‭ ‬غير‭ ‬شكل،‭ ‬موضوع‭ ‬معقّد،‭ ‬دخلت‭ ‬بينو‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬الخط،‭ ‬وحكومة‭ ‬العهد‭ ‬البائد‭ ‬كانت‭ ‬متآمرة،‭ ‬وصار‭ ‬إسقاط‭ ‬جنسية‭ ‬وقصة‭ ‬طويلة‭ ‬عريضة‮»‬‭. ‬

لم‭ ‬تكتف‭ ‬شخصية‭ ‬يوسف‭ ‬المسيحي‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬فكرة‭ ‬التسامح‭ ‬بمهمة‭ ‬الإقناع،‭ ‬بل‭ ‬تجاوزتها‭ ‬إلى‭ ‬الإيمان‭ ‬بالتعايش،‭ ‬فقد‭ ‬أحبّ‭ ‬فتاة‭ ‬مسلمة‭ ‬اسمها‭ ‬دلال‭ ‬‮«‬وكان‭ ‬مستعدا‭ ‬أن‭ ‬يشهر‭ ‬إسلامه‭ ‬إذا‭ ‬اقتضى‭ ‬الأمر،‭ ‬فالتوقيع‭ ‬على‭ ‬ورقة‭ ‬أو‭ ‬التلفظ‭ ‬بكلمات‭ ‬عدة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعني‭ ‬الكثير‮»‬‭.‬

كما‭ ‬أبدى‭ ‬تعاطفاً‭ ‬واضحاً‭ ‬مع‭ ‬عائلة‭ ‬نسيم‭ ‬اليهودي‭ ‬الذي‭ ‬قال‭: ‬‮«‬إنّ‭ ‬أباه‭ ‬فُصل‭ ‬من‭ ‬عمله،‭ ‬وتمّ‭ ‬تجميد‭ ‬أموال‭ ‬العائلة‭ ‬وممتلكاتها،‭ ‬فقررت‭ ‬العائلة‭ ‬أن‭ ‬تلتحق‭ ‬بالبقية‭ ‬الذين‭ ‬قرروا‭ ‬التسجيل‭ ‬للهجرة‮»‬‭. ‬

وفي‭ ‬مقابله‭ ‬تقف‭ ‬مها،‭ ‬شخصية‭ ‬تقرأ‭ ‬الوضع‭ ‬الطائفي‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬أخرى‭ ‬مختلفة،‭ ‬ترى‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬تواطؤ‭ ‬السياسي‭ ‬والديني‭ ‬لإذكاء‭ ‬النعرات‭ ‬الطائفية‭ ‬ضد‭ ‬المسيحيين،‭ ‬فتقول‭ ‬‮«‬عن‭ ‬عبدالسلام‭ ‬عارف‭ ‬الذي‭ ‬حكم‭ ‬البلاد‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أولد‭ ‬أنا‭ ‬بسنين‭ ‬طويلة،‭ ‬أمام‭ ‬حشد‭ ‬كبير‭: ‬لا‭ ‬جوني‭ ‬ولا‭ ‬جورج‭ ‬بعد‭ ‬اليوم‭. ‬بوية‭ ‬حمد‭ ‬وخوية‭ ‬حمود‮»‬‭.‬

كما‭ ‬تحاكم‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬التاريخ،‭ ‬تُجرّم‭ ‬اضطهاد‭ ‬الأقليات،‭ ‬وتنفي‭ ‬وجود‭ ‬ماض‭ ‬سعيد‭ ‬لها‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض،‭ ‬بل‭ ‬إنّها‭ ‬تُذكّر‭ ‬بالمآسي‭ ‬التي‭ ‬تعرّضت‭ ‬لها‭ ‬تلك‭ ‬الأقليّات‭ ‬‮«‬ألم‭ ‬يُذبح‭ ‬الآشوريون‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العهد‭ ‬الملكي‭ ‬السعيد؟‭ ‬ألم‭ ‬يتم‭ ‬تهجير‭ ‬اليهود‭ ‬العراقيين‭ ‬وطردهم‭ ‬من‭ ‬بيوتهم‭ ‬وبلدهم‭ ‬الذي‭ ‬عاشوا‭ ‬فيه‭ ‬بين‭ ‬ليلة‭ ‬وضحاها؟‭ ‬ألم‭ ‬يكن‭ ‬الفقر‭ ‬مستشرياً؟‭ ‬والعهود‭ ‬التي‭ ‬تلته،‭ ‬ألم‭ ‬تكن‭ ‬مليئة‭ ‬بالمذابح‭ ‬والمقابر‭ ‬الجماعية‭ ‬للأكراد‭ ‬والشيعة؟‮»‬‭.‬

ويتعزّز‭ ‬موقف‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬فتجد‭ ‬لمخاوفها‭ ‬مبررّاً،‭ ‬ولاتهاماتها‭ ‬مسوّغاً‭ ‬بحدث‭ ‬تفجير‭ ‬الكنيسة‭ ‬لتشهد‭ ‬بنفسها‭ ‬حجم‭ ‬الاضطهاد‭  ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مقتل‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المسيحيين‭ ‬ومنهم‭ ‬يوسف،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعلم‭ ‬بأنّ‭ ‬مصير‭ ‬الأقليات‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬مكان‭ ‬هو‭ ‬مصير‭ ‬واحد،‭ ‬تقول‭ ‬مها‭: ‬‮«‬حذّرني‭ ‬يوسف‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرّة‭ ‬بأنّ‭ ‬الهجرة‭ ‬والسكن‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬أغلبيتها‭ ‬من‭ ‬المسيحيين‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬بلا‭ ‬مشكلات‭ ‬ولا‭ ‬صعوبات،‭ ‬ولا‭ ‬يعني‭ ‬بأنّني‭ ‬لن‭ ‬أشعر‭ ‬بأنّني‭ ‬أقلّية‭ ‬أيضاً‭. ‬قال‭ ‬إنني‭ ‬سأتعرّض‭ ‬للعنصرية‭ ‬لأنّني‭ ‬عربية‮»‬‭.‬

 

‮«‬فرانكشتاين‭ ‬في‭ ‬بغداد‮»‬‭ ‬والتخييل‭ ‬اللمّاح

ولا‭ ‬تشذّ‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬فرانكنشتاين‭ ‬في‭ ‬بغداد‮»‬‭ ‬لأحمد‭ ‬السعداوي‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬التوجّه‭ ‬إلّا‭ ‬في‭ ‬كونها‭ ‬مثل‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬يا‭ ‬مريم‮»‬‭ ‬لا‭ ‬تستدعي‭ ‬التاريخ‭ ‬ولا‭ ‬تلوذ‭ ‬به،‭ ‬بل‭ ‬تعكف‭ ‬على‭ ‬الحاضر‭ ‬العراقيّ،‭ ‬ولكنّ‭ ‬قراءة‭ ‬متفحّصة‭ ‬متقصّية‭ ‬في‭ ‬تضاعيف‭ ‬الرواية‭ ‬تضعنا‭ ‬أمام‭ ‬عمل،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬لم‭ ‬يرقَ‭ ‬إلى‭ ‬مطاولة‭ ‬الأعمال‭ ‬السابقة‭ ‬جماليّة‭ ‬ومعماراً‭ ‬ورؤية،‭ ‬إلّا‭ ‬أنه‭ ‬ثَرٌّ‭ ‬في‭ ‬تفاصيله،‭ ‬ذكيّ‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬عالمه،‭ ‬طريف‭ ‬لمّاح‭ ‬في‭ ‬طرحه‭ ‬لمسألة‭ ‬الطائفية،‭ ‬ولعلّ‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬لفت‭ ‬الانتباه‭ ‬إليه،‭ ‬فأحداث‭ ‬الرواية‭ ‬المقدودة‭ ‬من‭ ‬اليوميّ‭ ‬العراقي‭ ‬الراهن‭ ‬تنضفر‭ ‬بتخييلي‭ ‬سعى‭ ‬الكاتب‭ ‬جهده‭ ‬أن‭ ‬يؤثّث‭ ‬به‭ ‬رؤيته‭ ‬لما‭ ‬جرى‭ ‬وما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬عقب‭ ‬أحداث‭ ‬التفجير‭ ‬الدموية‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬فيه‭ ‬سنة‭ ‬2005،‭ ‬وأن‭ ‬يوجّه‭ ‬به‭ ‬ذ‭ ‬أي‭  ‬التخييلي‭ - ‬أصابع‭ ‬الاتهام‭ ‬إلى‭ ‬الذات‭ ‬والآخرين‭ ‬بالإسهام‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬هذا‭ ‬الكائن‭ ‬البشري‭ ‬الغريب‭ ‬‮«‬الشِّسْمَة‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬قامت‭ ‬إحدى‭ ‬شخصيات‭ ‬الرواية‭ (‬هادي‭ ‬العتاك‭) ‬بجمع‭ ‬أعضائه‭ ‬من‭ ‬جثث‭ ‬ضحايا‭ ‬التفجيرات‭ ‬وقام‭ ‬بلصقها‭ ‬وتشكيلها‭ ‬كائناً‭ ‬بشرياً‭ ‬صار‭ ‬بعد‭ ‬اكتماله‭ ‬وحشاً‭ ‬يلاحق‭ ‬من‭ ‬تسببّوا‭ ‬في‭ ‬قتل‭ ‬أجزائه،‭ ‬فأخذ‭ ‬من‭ ‬ثمّ‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬فرانكشتاين‮»‬‭ ‬المستوحى‭ ‬من‭ ‬الرواية‭ ‬الإنجليزية‭ ‬المعروفة‭ ‬التي‭ ‬جرى‭ ‬تحويلها‭ ‬إلى‭ ‬فيلم‭ ‬لقي‭ ‬شهرة‭ ‬كبيرة‭.‬

راهنت‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬فرانكشتاين‭ ‬في‭ ‬بغداد‮»‬‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬على‭ ‬المغايرة،‭ ‬طالعنا‭ ‬حديث‭ ‬عن‭  ‬نجاة‭ ‬العجوز‭ ‬‮«‬إيليشوا‭ ‬أم‭ ‬دانيال‮»‬‭ ‬من‭ ‬حادث‭ ‬تفجير‭ ‬حافلة‭ ‬صباح‭ ‬ذلك‭ ‬الأحد‭ ‬إثر‭ ‬عودتها‭ ‬من‭ ‬قدّاس‭ ‬‮«‬كنيسة‭ ‬مارعوديشو‮»‬،‭ ‬لتُحاط‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بجيرانها‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬والنساء‭ ‬من‭ ‬المسلمين‭ ‬والمسيحيين‭ ‬واليهود‭ ‬والأرمن‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬تحمل‭ ‬أسماؤهم‭ ‬إحالات‭ ‬إلى‭ ‬طوائفهم‭ ‬أو‭ ‬دياناتهم‭ ‬ماعدا‭ ‬‮«‬أمّ‭ ‬دانيال‮»‬،‭ ‬أمّا‭ ‬فرج‭ ‬الدلال‭ ‬وهادي‭ ‬العتّاك‭ ‬وأم‭ ‬سليم‭ ‬البيضه‭ ‬وأبو‭ ‬أنمار،‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬حيّ‭ ‬‮«‬البتاويين‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬عمد‭ ‬السارد‭ ‬إلى‭ ‬تسريب‭ ‬إمّا‭ ‬ومضات‭ ‬مقتضبة‭ ‬وإما‭ ‬إيماءات‭ ‬تفصيلية،‭ ‬فشخصية‭ ‬‮«‬هادي‭ ‬العتاك‮»‬‭ ‬لا‭ ‬تتقدّم‭ ‬إلينا‭ ‬يهوديّة‭ ‬إلّا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مسكنها‭ ‬في‭ ‬‮«‬الخرابة‭ ‬اليهودية‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬‮«‬اندفعت‭ ‬الرقعة‭ ‬الخشبية‭ ‬الداكنة‭ ‬للأيقونة‭ ‬اليهودية‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭. ‬شاهدها‭ ‬هادي‭ ‬العتاك‭ ‬لثوان‭ ‬معدودة‭...‬‮»‬‭. ‬

كما‭ ‬تنتصب‭ ‬أمامنا‭ ‬شخصيات‭ ‬أخرى‭ ‬لا‭ ‬يكلّف‭ ‬السارد‭ ‬عناء‭ ‬تفسير‭ ‬إظهارها‭ ‬في‭ ‬الموضع‭ ‬الذي‭ ‬ظهرت‭ ‬فيه،‭ ‬وما‭ ‬الداعي‭ ‬إلى‭ ‬إظهارها‭ ‬أصلاً،‭ ‬ولكنّ‭ ‬اسمها‭ ‬ومسكنها‭ ‬وأسماء‭ ‬أفراد‭ ‬أسرتها‭ ‬تعلن‭ ‬عن‭ ‬انتمائها‭ ‬إلى‭ ‬طائفة‭ ‬معينة،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬مع‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬حسيب‭ ‬محمد‭ ‬جعفر‮»‬‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬محاولة‭ ‬الروائي‭ ‬تجنب‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬مزالق‭ ‬الطرح‭ ‬الطائفي‭ ‬السّافر،‭ ‬والنّأي‭ ‬عن‭ ‬التورّط‭ ‬في‭ ‬السجالات‭ ‬المذهبية‭ ‬الضيقة،‭ ‬وذلك‭ ‬بالانحياز‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬المواطنة‭ ‬حيناً،‭ ‬والإنسانية‭ ‬حيناً‭ ‬آخر،‭ ‬فإنّ‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ينفلت‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الاحتراز،‭ ‬عنوة‭ ‬أو‭ ‬طواعية،‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬السارد‭ ‬أو‭ ‬الشخصيات،‭ ‬يُنبئ‭ ‬عن‭ ‬مخاتلة‭ ‬ذكية‭ ‬في‭ ‬تناول‭ ‬تيمة‭ ‬الطائفية،‭ ‬فشخصية‭ ‬كبير‭ ‬المنجمين‭ ‬العجوز‭ ‬تذكر‭ ‬‮«‬بعض‭ ‬الكلام‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يُطرح‭ ‬في‭ ‬صالة‭ ‬الاجتماعات‭ ‬داخل‭ ‬دائرة‭ ‬المتابعة‭ ‬والتعقيب‭ ‬حين‭ ‬ذكر‭ ‬السائق‭ ‬العجوز‭ ‬شيئاً‭ ‬عن‭ ‬الطائفية‭ ‬والأحزاب‭ ‬السياسية‮»‬‭.‬

 

تيمات‭ ‬وجماليات

وحتّى‭ ‬لا‭ ‬نلوي‭ ‬عنق‭ ‬النص‭ ‬فنجعله‭ ‬ينطق‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يحمل‭ ‬ولا‭ ‬يحتمل،‭ ‬فإنّه‭ ‬يحسن‭ ‬بنا‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬حضور‭ ‬الطائفية‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬الأخيرة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬صارخاً‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬النصوص‭ ‬الروائية‭ ‬السابقة،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬لم‭ ‬تشكّل‭ ‬الطائفية‭ ‬تيمة‭ ‬مركزية‭ ‬ظاهرة‭ ‬فيها،‭ ‬وهو‭ ‬بذلك‭ ‬قد‭ ‬يلتقي‭ ‬مع‭ ‬نصوص‭ ‬أخرى‭ ‬حظيت‭ ‬بجائزة‭ ‬بوكر‭ ‬ولم‭ ‬تتعرّض‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ ‬لمسألة‭ ‬الطائفية،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نضرب‭ ‬مثالاً‭ ‬لذلك‭ ‬برواية‭ ‬‮«‬واحة‭ ‬الغروب‮»‬‭ ‬للروائي‭ ‬المصري‭ ‬بهاء‭ ‬طاهر‭ ‬سنة‭ ‬2008،‭ ‬ورواية‭ ‬‮«‬ساق‭ ‬البامبو‮»‬‭ ‬للروائي‭ ‬الكويتي‭ ‬الشاب‭ ‬سعود‭ ‬السنعوسي‭ ‬سنة‭ ‬2013،‭ ‬وقد‭ ‬استدعت‭ ‬الرواية‭ ‬الأولى‭ ‬التاريخ‭ ‬وأطّلت‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬على‭ ‬الآخر،‭ ‬وعكفت‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬تفكيك‭ ‬مقولات‭ ‬الهوية‭ ‬والوجود‭.‬

أمّا‭ ‬الرواية‭ ‬الثانية‭ ‬فقد‭ ‬نقلت‭ ‬هواجس‭ ‬المجتمع‭ ‬الخليجي‭ ‬وما‭ ‬طرأ‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬تغييرات،‭ ‬وإمكانات‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬آخر‭ ‬جديد،‭ ‬آخر‭ ‬آسيوي‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬الآخر‭ ‬الغربي‭ ‬الأوربي‭ ‬الذي‭ ‬تعاطت‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬معه‭ ‬منذ‭ ‬مرحلة‭ ‬نشوئها‭.‬

‭ ‬ونخلص‭ ‬ممّا‭ ‬سبق‭ ‬طرحه‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬الروايات‭ ‬قد‭ ‬تناغمت،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬تيماتها‭ ‬المركزية‭ ‬في‭:‬

‭-  ‬استحضار‭ ‬الشخصية‭ ‬اليهودية‭ ‬إمّا‭ ‬بإدراجها‭ ‬ضمن‭ ‬تيمة‭ ‬اضطهاد‭ ‬الأقليات‭ (‬اليهودي‭ ‬الحالي،‭ ‬يا‭ ‬مريم،‭...) ‬وإمّا‭ ‬بالتعاطي‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬إطار‭  ‬إبداء‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التعاطف‭ ‬الإنساني‭ ‬تأسيساً‭ ‬على‭ ‬ثبات‭ ‬وجودها‭ ‬التاريخي‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ (‬دروز‭ ‬بلغراد،‭ ‬عزازيل‭...).‬

‭- ‬خصوصية‭ ‬نهايات‭ ‬علاقات‭ ‬الحب‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الروايات،‭ ‬بين‭ ‬‮«‬هيبا‮»‬‭ ‬وهيباتيا‮»‬‭ ‬و«سالم‮»‬‭ ‬و«فاطمة‮»‬‭ ‬و«حنّا‭ ‬يعقوب‮»‬‭ ‬و«هيلانة‮»‬‭ ‬و‮«‬يوسف‭ ‬ودلال‮»‬‭ ‬و«محمود‭ ‬عبدالظاهر‭ ‬وكاترين‮»‬‭ ‬و«جوزافين‭ ‬وراشد‮»‬،‭ ‬لقد‭ ‬مُنيت‭ ‬جميعها‭ ‬إمّا‭ ‬بالفشل،‭ ‬وإمّا‭ ‬بمأساة‭ ‬تساوقت‭ ‬مع‭ ‬الإطار‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬شُكّلت‭ ‬به‭ ‬هذه‭ ‬العوالم‭ ‬التخييلية‭.‬

‭- ‬هيمنة‭ ‬النمط‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الكتابات‭ ‬الروائية،‭ ‬التي‭ ‬سارت‭ ‬فيها‭ ‬الأحداث‭ ‬وفق‭ ‬خطّية‭ ‬زمنية‭ ‬متتابعة،‭ ‬فليس‭ ‬ثمة‭ ‬تشظية‭ ‬زمن‭ ‬ولا‭ ‬تكسير‭ ‬لخطّيته،‭ ‬ولا‭ ‬اشتغال‭ ‬على‭ ‬تداع،‭ ‬ولا‭ ‬استدعاء‭ ‬للاوعي،‭ ‬ولا‭ ‬ترحيل‭ ‬تراث،‭ ‬ولا‭ ‬توظيف‭ ‬أسطورة،‭ ‬ولا‭ ‬نداء‭ ‬عجائبي،‭ ‬ولا‭ ‬إجراء‭ ‬للغة‭ ‬كابوسية،‭ ‬ولا‭ ‬تشييء‭ ‬لشخصيات،‭ ‬بل‭ ‬إنّنا‭ ‬ألفيناها،‭ ‬حين‭ ‬توظف‭ ‬التاريخ‭ ‬لا‭ ‬تطوّعه‭ ‬بل‭ ‬ترحل‭ ‬إليه‭ (‬عزازيل‭ ‬ودروز‭ ‬بلغراد‭ ‬واليهودي‭ ‬الحالي‭)‬،‭ ‬وحين‭ ‬ترصد‭ ‬واقعاً‭ ‬راهناً‭ ‬تمعن‭ ‬في‭ ‬التوثيق‭ (‬يا‭ ‬مريم،‭ ‬فرانكشتاين‭ ‬في‭ ‬بغداد‭)‬،‭ ‬حين‭ ‬تجرّب‭ ‬العجائبي‭ ‬تتكّئ‭ ‬على‭ ‬مرجعي‭ ‬مستعار‭ (‬فرانكشتاين‭ ‬في‭ ‬بغداد‭). 

  ‬وصفوة‭ ‬القول،‭ ‬استطاعت‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬الألفية‭ ‬الثالثة‭ ‬أن‭ ‬ترسّخ‭ ‬قدمها‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬هذا‭ ‬الجنس‭ ‬الروائي‭ ‬القابل‭ ‬للخرق‭ ‬باستمرار،‭ ‬وأن‭ ‬تطلّ‭ ‬عبر‭ ‬كوى‭ ‬متفاوتة‭ ‬الاتساع‭ ‬على‭ ‬المشهد‭ ‬الروائي‭ ‬العالمي،‭ ‬وأن‭ ‬تلفت‭ ‬إليها‭ ‬الأنظار،‭ ‬وأن‭ ‬تُقنعَ‭ ‬فتُقبلَ،‭ ‬وأن‭ ‬تُمتِع‭ ‬فتُجازى،‭ ‬ولكنّها‭ ‬مطالبة‭ ‬بالاحتراز‭ ‬وهي‭ ‬سادرة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السبيل،‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تقع‭ ‬أسيرة‭ ‬إغراء‭ ‬جائزة،‭ ‬أو‭ ‬تتهاوى‭ ‬مفتونة‭ ‬بمغازلة‭ ‬دائرة‭ ‬من‭ ‬الدوائر‭ ‬أيّا‭ ‬كان‭ ‬ضرب‭ ‬الإغراء،‭ ‬ومهما‭ ‬كانت‭ ‬سطوة‭ ‬الفتنة‭ ‬