فضاء مجلة العربي وزمنها

فضاء مجلة العربي وزمنها

منذ صدور مجلة العربي في شهر ديسمبر 1958، جسد اسمها دالاً على مدلوله، متضمناً هوية المجلة وانتماءها إلى كل العرب، ونزوعها الصادق إلى إنهاض الأمة العربية بعد انعتاق كثير من الدول العربية من قيد الاستعمار الأجنبي، لهذا ارتبط إصدارها بمخاض يحمل معه الآمال العريضة التي كان يتوق إليها العالم العربي، نحو إرساء دعائم المشروع النهضوي، فالمجلة تتوجه برسالتها من الكويت إلى المواطنين العرب قاطبة، لقد كان أول استطلاع مصور نشرته مجلة العربي في عددها الأول، يتعلق بانطلاق الثورة الجزائرية، في فترة عصيبة من نضالها نحو الاستقلال، فكانت المجلة الصدى الحاكي لما يجري في هذا البلد العربي الشقيق، وكان البعد القومي والاختيار  العروبي الذي تنهجه مجلة العربي آنذاك، بمنزلة الجواب الرافض على المؤامرات التقسيمية التي قامت بها اتفاقيات سايكس بيكو الاستعمارية.

ترسخت علاقتي بمجلة العربي منذ فترة الطفولة، عندما كان يرسلني والدي إلى صديقه الكتبي من أجل اقتنائها عند متم كل شهر، ولقد بقيت أعداد المجلة مركونة في مكتبة والدي حتى رحيله في منتصف العقد السابع من القرن الماضي، في مرحلة تأسيس المجلة، التي كان يرأسها د. أحمد زكي 
(1958 - 1975) المتعدد الاختصاصات، والذي أثر في منهج المجلة، الداعي إلى الإصلاح والتنوير والتأكيد على الخط المعتدل، دون إفراط أو تفريط، نتيجة لميول رئيس تحرير المجلة، الذي كان قريب الهوى من الفلسفة الاشتراكية الفابية على الطريقة الإنجليزية، التي كان يدعو إليها المفكر الإنجليزي برنارد شو، والتي أوجز تعريفها الدكتور أحمد زكي في (إيمانها بالعدل الاجتماعي والحرية الفردية دون شطط أو تطرف)، كما جاء في العدد الأول من مجلة العربي، ولقد أضفى على المجلة رئيس تحريرها الأول بشخصيته العالمة، أسلوباً مشوقاً يجمع بين التخصص العلمي والتعبير الأدبي اليسير والممتع، الذي يقدم للقراء المعلومات العلمية الصعبة بطريقة سهلة للكبار والصغار، وبقي هذا الخط التحريري سائدا، بالنسبة لرؤساء التحرير الذين أتوا بعده، مع مراعاتهم للظروف الزمكانية وسياقات التحولات العالمية، حيث نجد أن الدكتور سليمان العسكري (1999 – 2013) رئيس تحرير مجلة العربي اللاحق، يؤكد أن مسار المجلة منذ بدايتها جعل منها «مجلة عقلانية تؤمن بأن آفة المواطن العربي هي الإغراق في الخرافة والبعد عن الأساليب المنطقية في مواجهة الحياة، وحتى في تداولها للقضايا الفكرية كان العقل هو دائماً سبيلها للمنطق» (كتاب العربي ج 1) المخصص للمجلات العربية.
من أهم ما شدني إلى هذه المجلة منذ انطلاقتها، جمالية الإخراج الفني، الذي كانت تفتقر إليه المجلات المصرية كمجلة الكاتب والهلال، من خلال استعمالها ورقاً صقيلاً وألوانا جميلة، لم نكن نراها إلا في كبريات المجلات الأجنبية الفرنسية والإسبانية الناعمة، انطلاقاً من صورة الغلاف إلى باب الرحلات الاستطلاعية، الذي كان يشرف عليه الكاتب سليم زبال بكتابته للنص الرحلي، والمصور أوسكار متري الذي يوثقه بالصور الجميلة، ويضفي على استطلاعات المجلة إلى مدن عربية قصية، بهجة من السحر والغرابة، التي تأخذ القارئ إلى أماكن عربية أو إسلامية كانت مجهولة عند القراء في المغرب الأقصى، وفي هذا السياق، قدمت مجلة العربي لوحات تعريفية لمدن المغرب عن طريق الاستطلاعات المصورة، كما خصصت مجموعة من المحاور والموضوعات المتعلقة بالحضارة المغربية والفن الإسلامي المغربي والفكر المغربي المعاصر، ولقد توطدت علاقة المثقفين المغاربة بمجلة العربي عندما صارت تحضر أسماءهم بكثرة في إطار سياسة هيئة التحرير المنفتحة، التي تريد أن تكون المجلة حاضنة لأقلام تنتمي إلى مختلف دول العالم العربي، كما أن تبويب المواد والموضوعات ساهم في خلق تكامل ومتعة جاذبة للاطلاع على جميع محاور المجلة، التي حوّلتها إلى موسوعة مرجعية متنوعة في مختلف المعارف العلمية والأدبية والتراثية، تتوجه إلى أجيال مختلفة وجغرافيات متباعدة، بسبب قدرتها على تلبية أفق انتظاراتهم الإبداعية والثقافية. 
لقد استطاعت مجلة العربي من خلال اسمها الأيقوني، أن تكون المنبر الأول، قبل الأحزاب العربية التي تدعي زعامتها للتوجه القومي الجماهيري، وذلك عن طريق التعريف بربوع العالم العربي وأحوال كل بلد على حدة، وبذلك كسرت تلك الرؤية الإقليمية المنغلقة على ذاتها، والمتعارضة مع الانتماء العربي المواكب للبعد القومي الصاعد في العالم العربي، مع التيار الوحدوي الذي كان ينادي بمبادئ الوحدة والعدالة الاجتماعية من أجل التخلص من نتائج وسياسة التفرقة الاستعمارية.
هناك في كل أعداد المجلة، توجد صورة لامرأة تمثل نموذجاً نهضوياً يحتذى، غالباً ما تكون نساء غلاف المجلة من النماذج الناجحة والمتفوقة في مسار حياتهن وفي مختلف مجالات العلم والإبداع والصناعة والحياة، تقدمهن المجلة كقدوة لمجتمع الغد، وهذه الدعوة الإصلاحية لأوضاع المرأة العربية، أطلقتها مجلة العربي قبل أن تظهر حركات تحرر المرأة العربية في عقد السبعينيات من القرن الماضي، وقد تم دعم هذه النهضة النسائية العربية الصاعدة من لدن «العربي»، عبر تخصيص أعداد من «كتاب العربي» لمعالجة تيمة الكتابة النسائية وموضوع الإبداع النسائي، لكن بالرغم من تعدد رؤساء التحرير الذين أشرفوا على إدارة المجلة طوال فترة مسارها، فإن «العربي» لم تتراجع عن انفتاحها الثقافي على مختلف الحساسيات الأدبية في الوطن العربي أو على المستوى العالمي، مع مراعاة الموضوعية العلمية الرصينة، وهذا ما جعلها لا تنحاز إلى التقاطب والتخندق الأعمى في زمن الحرب الباردة، أو الموالاة لمدرسة إبداعية محددة، أو لعقيدة شمولية، ولهذا لم تقع في نفس المأزق الذي تعرضت له بقية المجلات العربية، التي انتهت مدة صلاحيتها بانحسار توجهها الأيديولوجي. ولقد أعرب الدكتور أحمد زكي عن هذا التوجه المستقل، الذي اختارته المجلة منذ البدايات، بقوله في افتتاحية العدد الأول، بأنها «مجلة تصدر من الكويت لكل العرب»، و«باسم العروبة خالصة نخط أول سطر في هذه المجلة، إن مجلة العربي لهذا الوطن العربي كله، من الخليج شرقاً إلى المحيط غرباً ومن حلب شمالاً إلى المكلا جنوباً... إنها للفكرة العربية خالصة».
كما أن من مزايا مجلة العربي الحداثية، بالمقارنة مع غيرها من بقية المجلات العربية، نجد قدرتها على الصمود والاستمرارية والتجدد الخلاق، الذي جعلها لا تقتصر على صيغتها الأولى، بل أن تساير الفضاء الثقافي المتجدد، عبر تطوير ذاتها بتعدد أبواب المجلة بين الفكر وملفات العدد والاستطلاعات الموسومة بعنوان دال «اعرف وطنك أيها العربي» والأبواب الثابتة، بعد ذلك، تناسل من صلبها صدور «كتاب العربي» (1984)، وهو سلسلة فصلية عبارة عن كتاب مستقل، يضم إبداع كبار الكتاب ومساهماتهم التي سبق أن نشرت على صفحات المجلة، كما أصدرت المجلة منذ تأسيسها «العربي الصغير» الذي كان موجهاً إلى فئة الأطفال، ولقد بقيت مجلة العربي متمنعة عن الخوض في الجدالات السياسية والصراعات الجانبية، التي تؤدي إلى تفرقة الشعوب وتجزئة الأوطان، واستطاعت هذه المجلة الغراء، أن تتحدى كل الصعاب المادية والأدبية، بفضل حنكة وحكمة رؤساء تحريرها، الذين تعاقبوا على رئاستها إلى الآن، وتحملوا بكفاءة عالية، مسؤولية تدبير شؤون هذا الصرح الثقافي الباذخ، وسط أعاصير الأحداث الجسام، التي اعترضت مسيرتها وجعلتها أحياناً تتعرض للمضايقات في بعض الدول العربية، أو إلى إكراهات وضغوط الرقابة والمنع، وذلك في أعقاب هزيمة 1967، أو كما عبّر عن ذلك، الدكتور أحمد زكي في إحدى افتتاحياته قائلاً: «عزيزي القارئ، رأينا أن نكف بعض حين عن تناول الأمور العربية بالتعليق، بسبب الرقابات الكثيرة القائمة، وحتى بغير هذه الرقابة، يعسر على الكاتب، بل يتعذر عليه أن يكتب والأجواء غير مهيأة للقول الصريح الحر»، (انظر افتتاحية المجلة، عدد 107)، ولذلك ربحت مجلة العربي رهان التحدي، وممارسة نوع من الرقابة الذاتية لكي تكسب أصدقاءها القراء من مختلف الأذواق والمشارب الثقافية من الخليج إلى المحيط، ومن الشام إلى اليمن ومن مصر فتطوان، وحتى في الفترة التي أشيع فيها أن مجلة العربي ستتوقف عن الصدور، هب محبوها وقراؤها وكتَّابها قومة رجل واحد، للالتفاف حولها ودعمها لكي تستمر، لأنها وجدت لكي تبقى، بفضل الذين تناوبوا على النشر فيها من القامات الكبيرة، كطه حسين وبدر شاكر السياب ونزار قباني ونازك الملائكة ويوسف إدريس وفؤاد زكريا، ومازال شلال الكتاب مستمراً مع الأجيال الجديدة. لقد تعرفت على مجلة العربي منذ أن كنت طفلاً يافعاً، وكان لها القدح المعلى في تكويني، وهأنذا أعود إليها كاتباً، في انتظار قدوم الذكرى المئوية■