البطاطس قصة ثمرة صارت سيدة الموائد

البطاطس قصة ثمرة صارت سيدة الموائد

البطاطس، طعام شائع لكل الأعمار، وكل الطبقات، وتقدم في أشكال متنوعة، منها الرقائق التي يحبها الأطفال علي شكل «شيبسي» (مقرمشة) والأطباق المطبوخة التي يتفنن الطباخون في تقديمها ما بين المسلوق، والمقلي، والمشوي، وصينيات الفرن... باللحم أو الدجاج. المهم أن البطاطس صارت الآن من الأطباق الرئيسة على كل الموائد، وفي جميع أنحاء العالم. بيد أن البطاطس لها قصة طويلة مثيرة. فلم تكن هذه الثمرة معروفة قبل منتصف القرن السادس عشر. وصحبت بداياتها قصص كثيرة تحمل طابع الخرافة، والخوف منها، والجهل بحقيقتها، ولكنها فرضت نفسها على كل الموائد وكل الأذواق على النحو الذي نعرفه اليوم، وهي قصة تستحق أن تروى.

لم‭ ‬يعرف‭ ‬العالم‭ ‬البطاطس‭ ‬قبل‭ ‬سنة‭ ‬1563م‭ ‬عندما‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬إسبانيا‭ ‬وإيطاليا،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أحضرت‭ ‬من‭ ‬موطنها‭ ‬الأصلي‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬الجنوبية،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬الأراضي‭ ‬الواطئة‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1587م،‭ ‬عندما‭ ‬دخلت‭ ‬قائمة‭ ‬طعام‭ ‬المندوب‭ ‬البابوي،‭ ‬لتنتشر‭ ‬بعد‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬وتصل‭ ‬إلى‭ ‬إنجلترا‭ ‬في‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭. ‬وقبل‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬نفسه‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬فرنسا‭. ‬ولكنها‭ ‬لم‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬البلاد‭ ‬الإسكندنافية‭ (‬السويد‭ ‬والنرويج‭ ‬والدنمارك‭) ‬قبل‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الوجود‭ ‬المبكر،‭ ‬أخذت‭ ‬البطاطس‭ ‬وقتاً‭ ‬طويلاً‭ ‬لكي‭ ‬ترسخ‭ ‬مكانتها،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬لا‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬الدهشة‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬المظهر‭ ‬غير‭ ‬الجذاب‭ ‬والبنية‭ ‬التي‭ ‬اتسمت‭ ‬بها‭ ‬التنويعات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬البطاطس‭ ‬ذات‭ ‬الطبيعة‭ ‬الهشة‭. ‬وعلى‭ ‬أي‭ ‬حال،‭ ‬كانت‭ ‬المزايا‭ ‬التي‭ ‬تعوض‭ ‬هذا‭ ‬عظيمة‭ ‬جداً،‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬البطاطس‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تكتسب‭ ‬القبول،‭ ‬أولاً‭ ‬في‭ ‬البستنة‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬الزراعة،‭ ‬وكما‭ ‬يعرف‭ ‬كل‭ ‬بستاني،‭ ‬تمتاز‭ ‬البطاطس‭ ‬بسمة‭ ‬خاصة،‭ ‬لأن‭ ‬زراعتها‭ ‬سهلة،‭ ‬وتتطلب‭ ‬أقل‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الاهتمام،‭ ‬وتصل‭ ‬للنضج‭ ‬بسرعة،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬ذ‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬الأهم‭ ‬ذ‭ ‬إنتاجها‭ ‬وفير‭. ‬وفي‭ ‬المطبخ‭ ‬تلقى‭ ‬البطاطس‭ ‬ترحيباً‭ ‬مساوياً‭ ‬لأنها‭ ‬تتطلب‭ ‬القليل‭ ‬جداً‭ ‬من‭ ‬التجهيز،‭ ‬ويمكن‭ ‬طبخها‭ ‬في‭ ‬سهولة‭ ‬بطرق‭ ‬عدة‭ ‬مختلفة،‭ ‬وهي‭ ‬طيبة‭ ‬المذاق‭ ‬ومشبعة‭ ‬على‭ ‬السواء‭.‬

‭ ‬وبحسب‭ ‬مؤرخ‭ ‬اقتصادي‭ ‬هولندي‭ ‬هو‭ ‬سليشر‭ ‬فان‭ ‬باث،‭ ‬ففي‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬كان‭ ‬إنتاج‭ ‬الفدان‭ ‬من‭ ‬البطاطس‭ ‬أعلى‭ ‬عشر‭ ‬مرات‭ ‬ونصف‭ ‬المرة‭ ‬من‭ ‬القمح،‭ ‬و‭ ‬6.6‭ ‬مرات‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الشيلم،‭ ‬وهو‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬تعويض‭ ‬السعرات‭ ‬الحرارية‭ ‬المنخفضة‭ ‬فيها‭. ‬ولكي‭ ‬نضع‭ ‬هذه‭ ‬الإحصائية‭ ‬بطريقة‭ ‬أخرى،‭ ‬تكون‭ ‬القيمة‭ ‬الخالصة‭ ‬للسعرات‭ ‬الحرارية‭ ‬للبطاطس‭ ‬3.6‭ ‬مرات‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الحبوب‭. ‬وقد‭ ‬أكد‭ ‬آدم‭ ‬سميث‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬ثروة‭ ‬الأمم‭ (‬1776م‭) ‬أن‭ ‬‮«‬الطعام‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬إنتاجه‭ ‬من‭ ‬حقل‭ ‬بطاطس‭ ‬ليس‭ ‬أقل‭ ‬في‭ ‬الكمية‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬ينتجه‭ ‬حقل‭ ‬من‭ ‬الأرز،‭ ‬ويفوق‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬ينتجه‭ ‬حقل‭ ‬من‭ ‬القمح،‭ ‬واثنا‭ ‬عشر‭ ‬ألف‭ ‬وزنة‭ ‬من‭ ‬البطاطس‭ ‬من‭ ‬هكتار‭ ‬الأرض‭ ‬ليس‭ ‬إنتاجاً‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬ألفي‭ ‬وزنة‭ ‬من‭ ‬القمح‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬علّق‭ ‬أيضاً‭ ‬بأنه‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬السنوات‭ ‬الثلاثين‭ ‬أو‭ ‬الأربعين‭ ‬السابقة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬انخفض‭ ‬سعر‭ ‬البطاطس‭ ‬إلى‭ ‬النصف،‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬زراعتها‭ ‬قد‭ ‬انتقلت‭ ‬من‭ ‬الحديقة‭ ‬إلى‭ ‬الحقل‭. ‬والأكثر‭ ‬مدعاة‭ ‬للجدل،‭ ‬أنه‭ ‬غامر‭ ‬بالرأي‭ ‬القائل‭ ‬إن‭ ‬فائدة‭ ‬قائمة‭ ‬الطعام‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬البطاطس‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نشهد‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬الطاقة‭ ‬الجسدية‭ ‬المثيرة‭ ‬للعمال‭ ‬والغانيات‭ ‬في‭ ‬لندن‭ (‬أقوى‭ ‬الرجال‭ ‬وأجمل‭ ‬النساء‭ ‬ربما‭ ‬في‭ ‬الأراضي‭ ‬البريطانية‭ ‬كلها‭)‬،‭ ‬خاصة‭ ‬عندما‭ ‬تتم‭ ‬مقارنتها‭ ‬برفاقه‭ ‬من‭ ‬الأسكتلنديين‭ ‬‮«‬الذين‭ ‬يشعرون‭ ‬بالدوخة،‭ ‬ويتغذون‭ ‬على‭ ‬قائمة‭ ‬طعام‭ ‬الشوفان‮»‬‭.‬

‭ ‬كانت‭ ‬البطاطس‭ ‬أيضاً‭ ‬أقل‭ ‬عرضة‭ ‬لتقلبات‭ ‬الطقس‭ ‬من‭ ‬معظم‭ ‬المواد‭ ‬الغذائية‭ ‬الأخرى‭. ‬وبالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬أوربا‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬العصور‭ ‬الحديثة،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬السؤال‭ ‬مطروحاً‭ ‬عمّا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬محصول‭ ‬الحبوب‭ ‬سوف‭ ‬يفشل،‭ ‬وإنما‭ ‬متى‭ ‬سوف‭ ‬يفشل؟‭ ‬وهو‭ ‬سؤال‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬وارداً‭ ‬بشأن‭ ‬البطاطس‭. ‬وكان‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬البطاطس‭ ‬‮«‬عندما‭ ‬يحدث‭ ‬هذا‮»‬‭ ‬قد‭ ‬حرر‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬خطر‭ ‬المجاعة‭. ‬وكما‭ ‬زعم‭ ‬الإنجليزي‭ ‬جون‭ ‬فوستر‭ ‬في‭ ‬كتيب‭ ‬سنة‭ ‬1664م،‭ ‬كانت‭ ‬البطاطس‭ ‬‮«‬علاجاً‭ ‬أكيداً‭ ‬وسهلاً‮»‬‭ ‬لنقص‭ ‬الطعام‭. ‬وبطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬كان‭ ‬الاعتماد‭ ‬المفرط‭ ‬على‭ ‬البطاطس‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬كارثة‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬ضرب‭ ‬المرض‭ ‬ضربته،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬إيرلندا‭ ‬في‭ ‬أربعينيات‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬كانت‭ ‬البطاطس‭ ‬منقذة‭ ‬للأرواح،‭ ‬ولذلك‭ ‬السبب‭ ‬وحده‭ ‬كانت‭ ‬الحكومات‭ ‬حريصة‭ ‬على‭ ‬تحسين‭ ‬زراعتها‭. ‬

ولأسباب‭ ‬لاتزال‭ ‬غير‭ ‬واضحة،‭ ‬كانت‭ ‬ثمار‭ ‬جهودهم‭ ‬قليلة‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬باستثناء‭ ‬الأقاليم‭ ‬المنعزلة‭ ‬على‭ ‬الهوامش‭ ‬في‭ ‬دوفيني‭ ‬والبرينيس‭. ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬الأنباء‭ ‬القائلة‭ ‬إن‭ ‬البطاطس‭ ‬تقدم‭ ‬على‭ ‬موائد‭ ‬العائلة‭ ‬الملكية‭ ‬في‭ ‬فرساي‭ ‬أو‭ ‬المطبوعات‭ ‬التي‭ ‬تصور‭ ‬الملكة‭ ‬ماري‭ ‬أنطوانيت‭ ‬ترتدي‭ ‬ثوباً‭ ‬تزين‭ ‬صدره‭ ‬زهور‭ ‬البطاطس،‭ ‬كانت‭ ‬كافية‭ ‬للتغلب‭ ‬على‭ ‬الانحياز‭ ‬الراسخ،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬البطاطس‭ ‬لم‭ ‬تظهر‭ ‬على‭ ‬قوائم‭ ‬الطعام‭ ‬الفرنسية‭ ‬حتى‭ ‬القرن‭ ‬التالي‭. ‬في‭ ‬تولوز،‭ ‬مثلاً،‭ ‬وجد‭ ‬روبرت‭ ‬فوستر‭ ‬أن‭ ‬الفلاحين‭ ‬لا‭ ‬يطعمون‭ ‬البطاطس‭ ‬حتى‭ ‬لخنازيرهم،‭ ‬خوفاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يتلوث‭ ‬لحمها‭. ‬وقد‭ ‬ابتكر،‭ ‬أهل‭ ‬بورجنديا‭ ‬التسمية‭ ‬الفرنسية‭ ‬pomme‭ ‬de‭ ‬terre‭ ‬ولكنهم‭ ‬أيضاً‭ ‬منعوا‭ ‬البطاطس‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أنها‭ ‬تسبب‭ ‬البرص‭. ‬وعندما‭ ‬كان‭ ‬عالم‭ ‬الفيزياء‭ ‬المستنير‭ ‬تورجوت‭ ‬مسؤولاً‭ ‬في‭ ‬ليموج‭ ‬سنة‭ ‬1761م،‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يفند‭ ‬الاعتقاد‭ ‬الشعبي‭ ‬بأن‭ ‬الزهرة‭ ‬القرمزية‭ ‬للبطاطس‭ ‬نسخة‭ ‬من‭ ‬نبات‭ ‬عنب‭ ‬الثعلب‭ ‬المميت‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬أكلت‭ ‬علناً،‭ ‬وجعل‭ ‬الفلاحين‭ ‬يجلسون‭ ‬بجواره‭ ‬لكي‭ ‬يلاحظوا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يتسمم‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الفرنسيون،‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬وحدهم‭ ‬في‭ ‬انحيازهم،‭ ‬ففي‭ ‬سنة‭ ‬1770م‭ ‬رفض‭ ‬أهالي‭ ‬نابولي‭ ‬الذين‭ ‬تأثروا‭ ‬بالشائعات،‭ ‬أن‭ ‬يمسّوا‭ ‬حمولة‭ ‬مركب‭ ‬من‭ ‬البطاطس‭ ‬أرسلت‭ ‬إليهم‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المنحة،‭ ‬وقد‭ ‬أخبر‭ ‬سكان‭ ‬كورلبرج‭ ‬في‭ ‬بروسيا‭ ‬الإمبراطور‭ ‬فريدريك‭ ‬العظيم‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬الأشياء‭ ‬ليست‭ ‬لها‭ ‬رائحة‭ ‬ولا‭ ‬طعم،‭ ‬وحتى‭ ‬الكلاب‭ ‬لن‭ ‬تأكلها،‭ ‬إذن‭ ‬فما‭ ‬هي‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا؟‮»‬،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الفلاحون‭ ‬الروس‭ ‬يثقون‭ ‬بالبطاطس‭ ‬لأنها‭ ‬لم‭ ‬تذكر‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس،‭ ‬وكانوا‭ ‬يعتقدون‭ ‬أنها‭ ‬تسبب‭ ‬الكوليرا،‭ ‬وثاروا‭ ‬عندما‭ ‬جرت‭ ‬محاولات‭ ‬لإجبارهم‭ ‬على‭ ‬زراعتها‭. ‬والأخطر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الشائعات‭ ‬دارت‭ ‬بأن‭ ‬البطاطس‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬التفاحة‭ ‬التي‭ ‬تسببت‭ ‬في‭ ‬طرد‭ ‬آدم‭ ‬من‭ ‬الجنة‭.‬

‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الانحياز‭ ‬الشعبي،‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬الجزر‭ ‬البريطانية،‭ ‬والبلاد‭ ‬الواطئة،‭ ‬وشمال‭ ‬أوربا‭ ‬وفي‭ ‬أجزاء‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الرومانية‭ ‬المقدسة،‭ ‬فقد‭ ‬أحدثت‭ ‬البطاطس‭ ‬تأثيراً‭ ‬غذائياً‭ ‬كبيراً‭ ‬بحلول‭ ‬سنة‭ ‬1815م‭. ‬وعلى‭ ‬غير‭ ‬المعتاد،‭ ‬كان‭ ‬الفلاحون‭ ‬الإيرلنديون‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬في‭ ‬طليعة‭ ‬التقدم‭. ‬وكما‭ ‬كتب‭ ‬أحدث‭ ‬مؤرخ‭ ‬للبطاطس،‭ ‬لاري‭ ‬زوكرمان‭: ‬‮«‬ليست‭ ‬هناك‭ ‬أمة‭ ‬أوربية‭ ‬كانت‭ ‬لها‭ ‬علاقة‭ ‬أطول‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬حميمية‭ ‬مع‭ ‬البطاطس‭ ‬من‭ ‬إيرلندا‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الإيرلنديون‭ ‬أول‭ ‬الأوربيين‭ ‬الذين‭ ‬تقبلوها‭ ‬محصولاً‭ ‬حقلياً‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر،‭ ‬وكان‭ ‬الإيرلنديون‭ ‬أيضاً‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬اتخذوها‭ ‬قوتاً‭ ‬رئيساً‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬اكتشف‭ ‬المهندس‭ ‬الزراعي‭ ‬دوهامل‭ ‬دو‭ ‬مونسو،‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر،‭ ‬أن‭ ‬الاستهلاك‭ ‬الإنجليزي‭ ‬من‭ ‬البطاطس‭ ‬‮«‬مدهش‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬حماستهم‭ ‬كانت‭ ‬فاترة‭ ‬بالمقارنة‭ ‬مع‭ ‬الإيرلنديين،‭ ‬‮«‬وهم‭ ‬مغرمون‭ ‬للغاية‭ ‬بالبطاطس،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يدخرون‭ ‬وسعاً‭ ‬لحيازة‭ ‬كميات‭ ‬كبيرة‭ ‬منها‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬أتاح‭ ‬أسلوبهم‭ ‬الكسول‭ ‬في‭ ‬الزراعة‭ ‬للأسرة‭ ‬المكونة‭ ‬من‭ ‬ستة‭ ‬أفراد‭ ‬أن‭ ‬يعيشوا‭ ‬على‭ ‬نتاج‭ ‬هكتار‭ ‬واحد‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬من‭ ‬البطاطس‭. ‬وعندما‭ ‬كان‭ ‬إدوارد‭ ‬ويكفيلد‭ ‬مسافراً‭ ‬في‭ ‬أنحاء‭ ‬إيرلندا‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1809‭ ‬و1811م،‭ ‬حسب‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬عضو‭ ‬في‭ ‬عائلة‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬كان‭ ‬يستهلك‭ ‬في‭ ‬المتوسط‭ ‬خمسة‭ ‬أرطال‭ ‬ونصف‭ ‬الرطل‭ (‬2‭ ‬كيلوجرام‭ ‬ونصف‭ ‬الكيلو‭) ‬من‭ ‬البطاطس‭ ‬يوميا‭. ‬وكان‭  ‬لدى‭ ‬سادتهم‭ ‬البريطانيين‭ ‬تحفظات‭ ‬أكبر‭ ‬ولكنهم‭ ‬أيضاً‭ ‬أذعنوا‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬وسلموا‭ ‬بأهمية‭ ‬هذه‭ ‬الثمرة‭ ‬المبجلة‭.  ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1818م‭ ‬كتب‭ ‬وليم‭ ‬كوبرت،‭ ‬الذي‭ ‬اعتبر‭ ‬البطاطس‭ ‬بمنزلة‭ ‬علامة‭ ‬العبودية‭ (‬هذه‭ ‬الجذور‭ ‬الشريرة‭... ‬هذه‭ ‬الجذور‭ ‬من‭ ‬الشر‭) ‬في‭ ‬غضب‭: ‬‮«‬إنها‭ ‬الموضة‭ ‬أن‭ ‬يمجدوا‭ ‬البطاطس‭ ‬وأن‭ ‬يأكلوا‭ ‬البطاطس‭. ‬وينضم‭ ‬الجميع‭ ‬لتمجيد‭ ‬البطاطس،‭ ‬والعالم‭ ‬كله‭ ‬يحب‭ ‬البطاطس،‭ ‬أو‭ ‬يتظاهر‭ ‬بأنه‭ ‬يحب‭ ‬البطاطس،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬الواقع‮»‬‭. ‬

وهكذا‭ ‬انتصرت‭ ‬البطاطس‭ ‬على‭ ‬الخوف‭ ‬والتوجس‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬أنحاء‭ ‬القارة‭ ‬الأوربية،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ظلت‭ ‬طوال‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬حتى‭ ‬أوائل‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬أسيرة‭ ‬الخوف‭ ‬والشائعات‭ ‬باسم‭ ‬الدين‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬القارة‭ ‬الأوربية،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الأدلة‭ ‬متقطعة،‭ ‬فإنها‭ ‬تشير‭ ‬بوضوح‭ ‬إلى‭ ‬ترحيب‭ ‬متصاعد‭ ‬بتجربتها‭. ‬وكان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬توجد‭ ‬البطاطس‭ ‬في‭ ‬أجزاء‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬الفلاندرز،‭ ‬وبرابنت‭ ‬ووستفاليا‭ ‬قبل‭ ‬سنة‭ ‬1700م،‭ ‬وفي‭ ‬فرانكونيا‭ ‬سنة‭ ‬1715م،‭ ‬وفي‭ ‬بادنبورج‭ ‬في‭ ‬عشرينيات‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر،‭ ‬وفي‭ ‬وادي‭ ‬الموسيل‭ ‬في‭ ‬إمارة‭ ‬تريير‭ ‬في‭ ‬ثلاثينيات‭ ‬القرن‭ ‬نفسه،‭ ‬وهكذا‭. ‬وبإقليم‭ ‬كورمارك‭ ‬في‭ ‬بروسيا‭ ‬زاد‭ ‬إنتاج‭ ‬البطاطس‭ ‬من‭ ‬5200‭ ‬طن‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1765م‭ ‬إلى‭ ‬19‭ ‬ألف‭ ‬طن‭ ‬سنة‭ ‬1779م،‭ ‬وإلى‭ ‬103‭ ‬آلاف‭ ‬طن‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1801م،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬كانت‭ ‬البطاطس‭ ‬تزرع‭ ‬باعتبارها‭ ‬محصولاً‭ ‬حقلياً‭. ‬

كان‭ ‬فشل‭ ‬محصول‭ ‬الحبوب‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬قد‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬حدوث‭ ‬دفعة‭ ‬قوية‭ ‬تجاه‭ ‬تحول‭ ‬الزراعة‭ ‬نحو‭ ‬البطاطس‭. ‬كما‭ ‬تذكر‭ ‬عالم‭ ‬الزراعة‭ ‬الألماني‭ ‬ألبريخت‭ ‬ثاير‭ (‬1752‭ ‬‭-‬‭ ‬1828م‭) ‬أنه‭: ‬‮«‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬حتى‭ ‬سنة‭ ‬1771‭ ‬وسنة‭ ‬1772م‭ ‬أن‭ ‬بدأت‭ ‬ممارسة‭ ‬زراعة‭ ‬البطاطس‭ ‬محصولاً‭ ‬حقلياً‭ ‬تجد‭ ‬من‭ ‬يؤيدها،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬فشلت‭ ‬جميع‭ ‬محاصيل‭ ‬الحبوب،‭ ‬وقد‭ ‬أدت‭ ‬المجاعة‭ ‬التي‭ ‬نشبت‭ ‬إلى‭ ‬اكتشاف‭ ‬أن‭ ‬التغذية‭ ‬الكافية‭ ‬المناسبة‭ ‬ربما‭ ‬تستمد‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬البطاطس‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعتبر‭ ‬حتى‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭ ‬رفاهية‭ ‬فقط،‭ ‬كما‭ ‬اعتبرت‭ ‬أيضاً‭ ‬من‭ ‬الخبز‮»‬‭. ‬

بعد‭ ‬ذلك‭ ‬ذاعت‭ ‬زراعة‭ ‬البطاطس،‭ ‬وانتشرت‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬لأسباب‭ ‬مختلفة،‭ ‬بحيث‭ ‬صارت‭ ‬من‭ ‬محاصيل‭ ‬التصدير‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬العالم،‭ ‬ويعتمد‭ ‬عليها‭ ‬اقتصاد‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭. ‬ومن‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬تحسنت‭ ‬سلالتها‭ ‬وأصنافها،‭ ‬وتفنن‭ ‬مزارعوها‭ ‬وخبراء‭ ‬الزراعة‭ ‬في‭ ‬تطويرها‭ ‬والتقدم‭ ‬بها‭ ‬حتى‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬عليه‭ ‬اليوم‭... ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬جانب‭ ‬يسير‭ ‬من‭ ‬قصة‭ ‬البطاطس‭ ‬أو‭ ‬تاريخها،‭ ‬فهل‭ ‬نعرف‭ ‬جانباً‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬أو‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ؟‭ ‬وهل‭ ‬يؤثر‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬تذوقنا‭ ‬لهذه‭ ‬الثمرة‭ ‬الرائعة‭ ‬في‭ ‬أطباقها‭ ‬المتنوعة‭ ‬على‭ ‬موائدنا؟‭ ‬