سلامٌ إلى.. الجامع الأموي الكبير

سلامٌ إلى.. الجامع الأموي الكبير

نقتربُ من الباب الخشبي الذي يجاور المنبر في قلب الجامع الأموي الكبير في حلب. أستمع إلى كلمات شارحة للمهندس الخبير تميم قاسمو: «كان وضع الباب سيئًا بسبب وجود طبقات من الدهان تمت إزالتها»، أراهُ يشيرُ إلى سطر منحوت بشكل بارز في نسيج الخشب أظهره الترميم الأحدث أعلى ذلك الباب. تبدَّى لنا ذلك السطر، الذي يوثق لاسم «صانع» الباب، المعلم إسماعيل بن محمد، وقد صنعه بالمشاركة مع تلميذه محمد بن عبد الله، وقد أضيفت كلمتان بعد اسم التلميذ هما «رحمَه الله». أي أن المعلم أكمل الباب بعد وفاة تلميذه، ولم يشأ أن يوقع اسمه صانعًا للباب بمفرده، على غير الحقيقة. إذن لم يكشف الترميم عن سطور مجهولة وحسب، ولكن عن أخلاق ذلك العصر الذي زهت فيه الحضارة الإسلامية، وقدمت فيه آيات من العمارة. وكأن قيم الفن لم تكن منفصلة عن قيم الإنسان.

لا تجدُ أثرًا تاريخيًّا يوثق للحضارة الإسلامية في تقلباتها، أكثر من الجامع الأموي الكبير في حلب. فالصرحُ الذي يقع في قلب حلب القديمة بحي سويقة علي، بناهُ الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك (تولى الخلافة يوم 15 جمادى الآخرة سنة96هـ / 715م، وتوفى يوم 10 صفر 99 هـ/717م)، مستخدمًا في بنائه أحجار أبنية قديمة جلبت من المقالع الحجرية القريبة من مدينة حلب، على الرغم من أن مراجع تاريخية تكتب أن الأحجار جُلبتْ من مقالع قرب كنيسة سيريوس (النبي هوري حاليًا).

لم يكن الجامع الأموي الكبير في حلب يقل فخامة عن جامع دمشق الأموي، وبعد زوال دولة الأمويين، نقض العباسيون ما في هذا الجامع من رخام وفسيفساء، نقلوها إلى جامع الأنبار، المشيد في مدينة على الفرات غربي بغداد وفي سنة 351هـ/ 963م أحرقه نقفور فوكاس ملك الروم عندما اجتاح حلب، ثم أصلحه ورممه سيف الدولة الحمداني، حتى أحرقه الإسماعيليون في سنة 563هـ ـ 1169م.

جاء السلطان نور الدين الزنكي إلى حلب، فأعاد بناء الجامع الأموي الكبير، واجتهد في عمارته، فقطع له الأعمدة الصفراء من بعاذين، وهي إحدى قرى حلب، كما نقل إليه عمد مسجد مدينة قنِّسْرين القريبة من المدينة، والتي تقوم موقعها الآن قرية العيس. وحين استولى التتار بقيادة هولاكو على حلب سنة 658هـ ـ 1260م، أحرقوا حائط الجامع القبلي، فأعاد عمارته نائب حلب المملوكي قراسنقر الجو كندار، وأكمل بناءه سنة 684هـ ـ 1285م، في أيام الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي العلاني الصالحي، أما العثمانيون فأولوه الكثير من العناية وذلك بإصلاحه وترميمه كان في طليعتها، صحن الجامع والأروقة وواجهته القبلية.

تاريخ طويل لأثر بديع، تعرَّض لما يتعرض له كل مكان له مكانة. وبسبب ما تعرض له، وما طرأ عليه، كان لابد من إعادة ترميم وصيانة وحفظ وتوثيق كامل أجزاء الجامع، كمعلم تراثي أثري عالمي، وقد بدأت أعمال الترميم في نوفمبر عام 1999م، وفق دراسة مسبقة وضعتها الوحدة الهندسية التابعة لجامعة حلب، بعد دراسة حالة الجامع ووضع المخططات والمساقط المعمارية مع توصيف كامل لأجزاء الجامع، وقامت بالتنفيذ مؤسسة الإنشاءات العسكرية في سورية، ليفتتح ذلك الصرح ومدينة حلب تحتفل هذا العام باختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية.

سماحة وانفتاح

إذا واجهتَ القبلة داخل الجامع الأموي الكبير فستجد الرجال على اليمين، والنساء إلى أقصى اليسار، لا يفصل بين المؤمنين والمؤمنات باب، أو ستار، أو جدار، فالكل موجهٌ وجهه شطر الخالق. إن سماحة الحلبيين في الدين وانفتاحهم أمام الدنيا، يجتازان عتبة الباب الكبير إلى داخل الجامع. قد تأتي كثيراتٌ بلا استعداد لزيارة المكان والتبرك به والصلاة فيه، فيجدن عند مدخل النساء الخارجي من الشارع حارسًا يؤجر لهن بليرات قليلة ثوبا محتشما ذا قلنسوة تغطي الرأس، كالعباءات المغاربية. لكنهن ما إن يدخلن، حتى يشاركن الرجال في الميضأة، مثلما يصلين كما أسلفنا في حرم المكان.

ما إن تنتهِ النساء من واجبهن تجاه الدين، حتى يتفرغن لواجب دنيوي، إذ يحلو لهن الانطلاق عبر باب في الجدار الشرقي للرواق يشترك مع المحلات التجارية المطلة على سوق «الصاغة» وسوق «المناديل». عدا ذلك الجدار، هناك أيضا الجدار الجنوبي المشترك ـ أيضاـ مع محلات تجارية مطلة على سوق «الحبال» وسوق «الصرماتية» المحلات التجارية مبنية على جدار القبلية الجنوبي، ويرتفع ذلك الجدار عن منسوب سطح السوقين بحوالي المترين، ويتم تصريف مياه سطح الجزء الجنوبي من القبلية بواسطة مصارف تصب على سطح الأسواق. على طول الجدار الجنوبي بني جدار من البلوك الإسمنتي (سمكه عشرة سنتيمترات) مع وجود فاصل بينه وبين الجدار الحجري لإخفاء الرطوبة الظاهرة عليه وقد تمت تعرية هذا الجدار من طبقة الزريقة التي كانت تكسوه تمهيدًا لإعادة تزريقه مجددًا.

مع المؤرخ محمد قجة، الأمين العام لاحتفالية حلب عاصمة للثقافة الإسلامية، نتحرك في ظل الرواق الذي تنبسط أمامه سجادة هائلة من الرخام المتنوعة زخارفه، فلا تكاد تحس فيها بالتكرار أو السيمترية، قدر الإحساس بالسَّبْكِ والحبك، يضيء لنا الكثير، وكأنه يستدعي قصة حياة ذلك المعمار: «كان موضع الجامع بُستانًا لكنيسة حلب في أيام الروم، ولما فتح المسلمون حلب صالحوا أهلها على موضع المسجد الجامع، ويذكر أبو ذر سبط بن العجمي أنه عندما فتح أبو عبيدة مدينة حلب كان دخولها من باب أنطاكية صالحوا أهلها على موضع المسجد الجامع فاختطه الصحابة رضي الله عنهم؛ وكان بستانًا لكنيسة هي الحلاوية الآن، والجب الذي فيه كان دولابًا للبستان، ثم جدده سليمان بن عبد الملك، ولم يذكر ابن العديم في ترجمة سليمان أن سليمان بناه، وقال في مكان آخر: «وبلغني أن سليمان هو الذي بناه، ولم يبق فيه من أبناء سليمان سوى السور». وهذا المرجعان يوضحان أن الأرض التي أقيم عليها الجامع لم تكن كنيسة، وإنما كانت بستانًا. وتشير دراسات أخرى إلى أن هذه الأرض كانت ساحة.

كان هذا الجامع الأموي الكبير في حلب يضاهي جامع دمشق في الزخرفة والفسيفساء وينقل ابن شداد عن ابن العديم قوله: «وبلغني أن سليمان بن عبد الملك هو الذي بناه وتأنق في بنائه ليضاهي به ما عمله أخوه الوليد في جامع دمشق. وقيل إنه من بناء الوليد وإنه نقل آلة كنيسة قورص وكانت هذه الكنيسة من عجائب الدنيا، ويقال إن ملك الروم بذل في ثلاثة أعمدة كانت فيها سبعين ألف دينار فلم يسمح لهم الوليد بها». وهكذا فبناء الجامع أخذ شكله النهائي أيام سليمان سواء أكان أخوه الوليد هو الذي اختطّه، أم أن الصحابة الأوائل هم الذين اختطوه عقب فتح حلب. تأخذنا الحكاية إلى إحدى أسوأ مراحل أو قصة حياة الجامع حين استولى التتر المخذولون على مدينة حلب يوم الأحد العاشر من صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة ودخل إلى الجامع صاحب سيس، وقتل به خلقًا كثيرًا، وأحرق الحائط القبلي منه، وأخذ الحريق يمتد غربًا وقبلة، إلى المدرسة الحلاوية، واحترق سوق البزازين فعرف عماد الدين الغزنوي ما اعتمده السيسيون من الإحراق للجامع، وإعفائهم كنائس النصارى، فأمر برفع ذلك، وإطفاء النار، وقتل السيسيين، فقتل منهم خلق، ولم يقدر على إطفاء النار، فأرسل الله تعالى مطرًا عظيمًا فأطفأه. ثم اعتنى نور الدين يوسف بن أبي بكر بن عبد الرحمن السلماسي الصوفي بتنظيف الجامع، ودفن من كان فيه من قتلى المسلمين.

معبد للنار ومنارة للنور

يقول المؤرخ كمال الدين، ابن العديم في «تاريخه»: أنبأنا شيخنا العلامة أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي، عن أبي عبد الله محمد بن علي العظيمي قال: وفي حوادث سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، أسست منارة جامع حلب، وعمِّرت على يد القاضي أبي الحسن محمد بن يحيى بن محمد بن الخشاب. وكان بحلب معبد للنار، قديم العمارة، وقد تحول إلى أن صار أتون حمام، فاضطر القاضي إلى أخذ حجارته لعمارة هذه المنارة. فوشى بعض حساد القاضي خبره إلى الأمير قسيم الدولة، فاستحضره وقال:«هدمت موضعًا، وهو لي وملكي؟» فقال أيها الأمير! هذا معبد للنار، وقد صار أتونًا، وقد أخذت حجارته، عمرت بها معبدًا للإسلام، يذكر الله عليها وحده لا شريك له، وكتبت اسمك عليه، وجعلت الثواب لي، فإن رسمت لي أنت أغرم ثمنه لك فعلت ويكون الثواب لي». فأعجب الأمير كلامه، واستصوب رأيه، وقال: «بل الثواب لي، وافعل أنت ما تريد». وقد بلغ طول هذه المنارة سبعة وتسعين ذراعًا بذراع اليد وعدد مراقيها مائة وأربعًا وستين درجة. ولما جاء زلزال بمدينة حلب، وتهدمت أكثر دور المدينة، وكان ذلك ليلة الإثنين ثامن عشر شوال سنة خمس وستين وخمسمائة حركت المنارة، فدفعت هلالاً كان على رأسها مقدار ستمائة قدم وتشققت. أما المئذنة التي نصعد إليها الآن عبر سلم ضيق فتقع عند الزاوية الشمالية الغربية من الصحن، وعمرها أكثر من تسعة قرون، وقد أقيمت عوضًا عن المئذنة السابقة، وعليها خط كوفي مورَّق، وفي أوسطها شريط كتاني(ثلث) مع زخارف نباتية بديعة، وهي مربعة المسقط مثل مآذن العهد الأموي، وطول الضلع 4,95 أمتار، وارتفاعها 45 مترًا حتى شرفة الآذان، ويصعد إليها بـ174 درجة. وتقول إحدى الرويات إن تجديد بنائها بدأ في عهد السلطان السلجوقي (ملك شاه بن ألب أرسلان). وكان له نائب على حلب اسمه آق سنقر 482هـ. وقد انتهى بناؤها سنة 483 هجرية.

دفتر يوميات

نصل إلى جوار المئذنة، وهناك نرى مشهدًا ساحرًا لقلعة حلب، وكأن ذلك الحصن ليس يحمي ساكنيه وحسب، وإنما يبسط حمايته في خدمة بيت الله. تحولت المئذنة عبر العصور إلى دفتر يوميات، يؤرخ عبر صفحاته، أو طبقاتها إلى تاريخ المنارة والجامع والمدينة وأهلها. وفي الطبقة الثانية كتب على المنارة: «بسم الله الرحمن الرحيم. وإذ يرفع ابراهيم القواعد التواب الرحيم». وهناك نافذة صماء دائرية محوطة بإطار مربع بارز وتحتها نافذة طولية. وحين نصل الطبقة الثالثة المزينة بتاج زخرفي نباتي، نقرأ بالخط الثلث: «بسم الله الرحمن الرحيم إن الله وملائكته يصلون على النبي» وفوقها طبقة ترتكز على ثلاثة تيجان وعقدين ونافذتين مستديرتين، إلى أن نصل الطبقة الخامسة والأخيرة ويحيط بها إطار مزخرف مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. شهد الله تبارك أمر بإتمام هذه البنية في دولة السلطان المعظم.. أبو سعيد تتش بن محمد ناصر أمير المؤمنين. ثم تعلو ذلك مقرنصات رائعة.

ويقع المدخل الجنوبي للجامع على هذا الجدار ويُعرف باسم باب النحاسين ويؤدي مباشرة إلى القبلية. وفي الغرب نرى امتدادًا لجدار الرواق الغربي ويطل على سوق «المساميرية»، وقد شيد أيضا جدار إسمنتي عازل له المواصفات نفسها وللسبب نفسه وهو إخفاء الرطوبة الظاهرة على الجدار. ويطل الجدار الشمالي على باحة الجامع، وهو مؤلف من حبتين (جزءين): الحبة الداخلية باتجاه القبلية تشترك مع الدعامات الحاملة لقبوات السقف وهناك فاصل إنشائي بين هذه الحبة والحبة الخارجية.

كان هناك تصدعات في جدران القبلية، ظهرت بعد الكشف الكامل عن الجدران، حيث وضعت قطع بلوك أمام الحجر الأساسي لجدران القبلية. وحين أزيلت، ظهرت الأحجار الأساسية كاملة، لتبدأ مراحل جديدة من الترميم، بتوثيق قطع الأحجار بترقيمها، وتغيير الأحجار المفتتة ولصق الأحجار المكسرة بواسطة الايبوكسي المستخدم للصق الحجارة، وهو سائل قوامه مادتان تحقن به الحجارة المتكسرة، حيث تتصلب المادة وتلتصق بالحجر بعد فترة قليلة من الزمن وذلك بعد تنظيفها بواسطة الماء وبشكل كامل. ثم تُختبرُ الفراغات بين الحجارة بالهواء، ويحقن بينها لتُملأ هذه الفراغات، إلى أن يُختتم العمل بتكحيل الحجارة بواسطة مونة (ملاط) كلسية.

تقع قبلية على امتداد الضلع الجنوبي من الباحة والجزأين الجنوبيين للرواقين الشرقي والغربي، وهي عبارة عن صالة مستطيلة أبعادها (00ر101x55ر91م) مسقوفة بطريقة الأقبية المتقاطعة والمحمولة على دعائم (أعمدة) حجرية ضخمة عددها ثمانون عمودًا موزعة على أربعة صفوف، اثنان وسطيان واثنان أحدهما ملاصق للجدار الجنوبي والآخر ملاصق للجدار الشمالي بحيث يتشكل فراغ القبلية من ثلاثة أروقة ممتدة من الشرق إلى الغرب، ويعتلي القبلية عند تقاطع محور المدخل الرئيس مع الرواق الأوسط قبةٌ دائرية عالية صغيرة نسبيًا ومحاطة بنوافذ خشبية.

أمام المحاريب والمنبر

تضم القبلة ثلاثة محاريب أوسطها هو أوسعها وأكبرها. أما المحراب الأوسط فقد أقيم من الحجر الأصفر والمصقول وقد أقامه كافل حلب قراسنقر الجوكندار عام 684هـ ـ 1285م ونقش في أعلاه: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بعمارته بعد حريقه مولانا السلطان الأعظم الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون أعز الله نصره»، وهذا النقش بخط الثلث المملوكي يحيط بجانبيه عبارات كتابية صغيرة الحجم نسبيًا تقول «بالإشارة العالية المولوية الأميرية الشمسية قراسنقر الجوكندار الملكي المنصوري»، «المملكة الحلبية المحروسة أثابه الله وحرسه في رجب سنة أربع وثمانين وستمائة».

ثم يقع المحراب الأيمن غربي المحراب الأوسط وهو خاص بالحنفية كما عرف بمحراب العلمين لأنَّ جانبيه كانا يضمان علمين من أعلام الطرق الصوفية، شكل هذا المحراب بسيط مبني من الحجر الكلسي، تجويفه عميق وعقده مدبب ولا يضم أي عنصر زخرفي أو نقش كتابي، إلا طلاء بدهان بلون بني وقد غطى على طبيعة أحجاره ولونها مما أفقده رونقه. فيما يقع المحراب الأيسر شرقي المحراب الأوسط وهو خاص بالحنابلة، وقد صنع من الحجر الأصفر، وتجويفه عميق نسبيًا كما أنه لا يضم أي عنصر كتابي أو زخرفي، وقد طلي بالدهان الذي غطى لون حجارته الجميلة وأفقدها رونقها. لذلك كان الترميم بإزالة طبقات الدهان وإظهار اللون الأصلي لحجارة المحاريب مع ترميم بعض الحجارة.

وجوار المنبر الحجرة النبوية، وحولها شبك من النحاس مشغول بشكل جميل، وترقى هذه الحجرة إلى العهد العثماني، ويوجد داخل الحجرة قبر، تضاربت الآراء حول صاحبه فمنهم من قال إنه رأس النبي يحيى بن زكريا عليهما السلام، والبعض الآخر يفيد أنه النبي زكريا نفسه عليه السلام.كلما اقتربت من المنبر رأيت كيف يتحلق حوله الذاكرون، والدارسون، والداعون الله بالفرج. ومنبر الجامع الأموي الكبير من أقدم المنابر الحلبية الباقية بعد إحراق الاحتلال الإسرائيلي للمنبر الحلبي في بيت المقدس عام 1389هـ/1969م ويعتبر من القطع الفنية النادرة، بدت فيه الصناعة الخشبية غاية في الإتقان، قوامه الأخشاب الثمينة وهو ما أفقده رونقه القديم. ويرتفع هذا المنبر إلى 3.75 أمتار ويمتد باتجاه القبلة 3.65 أمتار وعرضه متر وثمانية سنتيمترات ويرقى إليه بدرجات عشر حتى يجلس الخطيب، ومدخله باب بمصراعين يعتليه حلق متوج بمقرنص على صفٍ واحد فوقه تاج زخرفي مورق، قد فرغ ما بين الوريقات لتبرز معالمها بطريقة الحفر، يليه تحت المقرنص نقرأ على حشوة بارزة هذا النص: «عُمِل في أيام مولانا السلطان الملك الناصر أبي الفتح محمد عَزَّ نصره» وتحته نص كتابي أصغر حجمًا: «عَمَلُ العبدِ الفقير إلى الله محمد بن علي الموصلي».لقد تواصل العمل في بناء هذا الأثر قرنا بعد قرن، وسلطان وراء آخر، وفنان يخلف زميله، وصولا إلى المعاصرين من أبناء حلب الغيورين على أجمل آثار المدينة. وقد استمتعت بقراءة ما كتبه الباحثون الشباب أدهم ناصرآغا ورامي الأفندي، ومرهف عبد الله الكردي، حول ترميم الجامع، مثلما استمتعت بمشاهدة المخططات في المدرسة الحلوية، والتي نفذتها الوحدة الهندسية، بكلية الهندسة في جامعة حلب، لمشروع ترميم وصيانة الجامع، فالأجيال التي تحافظ على تاريخها، تبني مستقبلها. كانت الرسوم تقول إن فناني ومهندسي اليوم هم حفدة صناع ومعماريي الأمس، وجميعهم يحفظون درر العمارة الإسلامية لأجيال الغد؛ فسلامٌ إلى أبناء الجامع الأموي الكبير في حلب.

 

أشرف أبو اليزيد 




باب القبلية يصافح العيون، حيث يقع مدخل المصلي





مئذنة عمرها أكثر من تسعة قرون، تحمل خطا كوفيًا مورَّقا، وفي أوسطها شريط كتاني(ثلث) مع زخارف نباتية بديعة، وهي مربعة المسقط مثل مآذن العهد الأموي





الميضأتان وقد نهضتا في قلب ساحة الجامع ، المتدة كبساط ، لتمثلا زهرتين معماريتين تمنحان الظل لطالبي التطهر





على باب مدخل المصلى تقف هذه التحفة النحاسية شاهدة علي التصميم المبتكر والحس الفني البديع





المهندس د. تامر الحجة محافظ حلب، يقول إن ترميم الجامع شمل الأعمدة (عددها ثمانون عمودًا موزعة على أربعة صفوف، اثنان وسطيان واثنان أحدهما ملاصق للجدار الجنوبي والآخر ملاصق للجدار الشمالي بحيث يتشكل فراغ القبلية من ثلاثة أروقة ممتدة من الشرق إلى الغرب)





مع محمد قجة، الأمين العام لاحتفالية حلب عاصمة للثقافة الإسلامية، نتحرك في ظل الرواق الذي تنبسط أمامه سجادة هائلة من الرخام المتنوعة زخارفه، فلا تكاد تحس فيها بالتكرار أو السيمترية، قدر الإحساس بالسَّبْكِ والحبك، يضيء لنا الكثير





تحولت المئذنة عبر العصور إلى دفتر يوميات، يؤرخ عبر صفحاته، تاريخ المنارة والجامع والمدينة وأهلها. ويشير المهندس تميم قاسمو للطبقة الأولى من بين خمس طبقات نقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم جددت هذه المئذنة في دولة مولانا السلطان المعظم ملك شاه أبي الفتح





قلعة حلب، كما تبدو من سطح الجامع، وكأن ذلك الحصن ليس يحمي ساكنيه وحسب، وإنما يبسط حمايته في خدمة بيت الله





من العجيب أن في المئذنة ميلا قدره 93 سنتيمترًا باتجاه شمالي غربي، ولذلك حقن بالأعمدة الصلب قلب المنارة، لتشد حتى لا تتأثر، أو تنهار. وكانت تلك إحدى حسنات الترميم الجديد للجامع، الذي يقوم على مساحة مستطيلة الشكل





العبادة وذكر الله آناء الليل، وأطراف النهار، داخل المسجد، وخارجه، رجال ونساء، أمام المحراب أو في ظل الرواق. وفي الخارج تسبح نخلة أمام المنارة ليلا





يقول سبحانه وتعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) سورة الجمعة الآية 10، وحول الجامع أسواق تراثية مرممة وعصرية