وثيقة «هبة قسطنطين» المزيفة وأثرها في التاريخ الأوربي

وثيقة «هبة قسطنطين» المزيفة  وأثرها في التاريخ الأوربي

تُعَدُّ قضية «الوثائق المزيفة» من أهم القضايا التي تواجه الباحثين في التاريخ، فكثير من هذه الوثائق كان حجة لقيام دول لا أساس تاريخياً أو قانونياً  لقيامها، كما أن البعض منها كان حجة لتدمير دول وخراب بلدان. ومما زاد هذه الإشكالية تعقيداً هو أن اكتشاف زيف هذه الوثيقة أو تلك لا يتم غالباً في الوقت المناسب، وإنما بعد سنوات أو عشرات من السنين من «تلفيقها» واستخدامها، أي بعد أن تكون هذه الوثيقة قد حققت أهدافها وغدت نتائجها جزءاً من الواقع الذي اعتاد الناس عليه، وبالتالي تنحصر قيمة اكتشاف زيفها، في معظم الأحيان، في الجانبين العلمي والأخلاقي وليس في الجانب العملي. وموضوعنا هذا يلقي الضوء على واحدة من أشهر «الوثائق المزيفة» التي عرفتها العصور الوسطى، وهي وثيقة «هبة قسطنطين» التي لم تقتصر نتائجها على قيام الدولة البابوية في قلب إيطاليا فحسب، وإنما أسهمت في تشكيل العلاقات بين القوى الأوربية في تلك العصور. 

تقوم‭ ‬وثيقة‭ ‬‮«‬هبة‭ ‬قسطنطين‮»‬‭ ‬على‭ ‬رواية‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬الإمبراطور‭ ‬الروماني‭ ‬قسطنطين‭ ‬الكبير‭ ‬أو‭ ‬الأول،‭ ‬الذي‭ ‬حكم‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬305‭ ‬و337م،‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬إمبراطور‭ ‬اعتنق‭ ‬المسيحية،‭ ‬قد‭ ‬أُصيب‭ ‬بمرض‭ ‬الجُذام،‭ ‬ولم‭ ‬يشف‭ ‬منه‭ ‬إلا‭ ‬بصلوات‭ ‬وشفاعة‭ ‬البابا‭ ‬سيلفستر‭ ‬الأول‭ (‬314‭ - ‬335م‭). ‬واعترافاً‭ ‬بالجميل‭ ‬أصدر‭ ‬الإمبراطور‭ ‬ما‭ ‬عرف‭ ‬بوثيقة‭ ‬‮«‬هبة‭ ‬قسطنطين‮»‬‭. ‬وهي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬رسالة‭ ‬كُتبت‭ ‬في‭ ‬30‭ ‬مارس‭ ‬عام‭ ‬315‭ ‬م،‭ ‬وتبدأ‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬تحول‭ ‬قسطنطين‭ ‬إلى‭ ‬المسيحية‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬إصابته‭ ‬بمرض‭ ‬الجذام‭ ‬وكيف‭ ‬شفي‭ ‬ببركات‭ ‬البابا‭ ‬سيلفستر‭. ‬ثم‭ ‬تعرض‭ ‬الوثيقة‭ ‬المنح‭ ‬التي‭ ‬وهبها‭ ‬الإمبراطور‭ ‬للبابا،‭ ‬ومنها‭: ‬

1 ‭- ‬مَنحْ‭ ‬البابا‭ ‬السلطة‭ ‬المطلقة‭ ‬على‭ ‬روما‭ ‬وإيطاليا‭ ‬وكل‭ ‬أقاليم‭ ‬ومدن‭ ‬وجزر‭ ‬القسم‭ ‬الغربي‭ ‬من‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الرومانية‭.‬

‭ ‬2 ‭- ‬مَنحْ‭ ‬البابا‭ ‬الأولوية‭ ‬في‭ ‬المنزلة‭ ‬على‭ ‬البطاركة‭ ‬الأربعة‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ (‬إنطاكية‭ ‬والإسكندرية‭ ‬وبيت‭ ‬المقدس‭ ‬والقسطنطينية‭).‬

3 ‭- ‬مَنحْ‭ ‬البابا‭ ‬حق‭ ‬حمل‭ ‬الشارات‭ ‬الإمبراطورية‭: ‬التاج‭ ‬والعباءة‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الأرجوانية‭ ‬وعصا‭ ‬القيادة،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬منحه‭ ‬قصر‭ ‬اللاتيران‭ ‬للإقامة‭ ‬فيه‭.‬

ولكي‭ ‬يضمن‭ ‬الإمبراطور‭ ‬ألا‭ ‬تُنتهك‭ ‬هذه‭ ‬المنح‭ ‬أو‭ ‬الهبات‭ ‬أمر‭ ‬أن‭ ‬تُودع‭ ‬الوثيقة‭ ‬في‭ ‬ضريح‭ ‬القديس‭ ‬بطرس‭ ‬في‭ ‬روما‭. ‬وحرصاً‭ ‬على‭ ‬ألا‭ ‬تتأثر‭ ‬سلطة‭ ‬البابا‭ ‬بوجود‭ ‬الإمبراطور‭ ‬في‭ ‬روما،‭ ‬فقد‭ ‬غادرها‭ ‬قسطنطين‭ ‬وابتنى‭ ‬لنفسه‭ ‬عاصمة‭ ‬جديدة‭ ‬هي‭ ‬القسطنطينية‭.‬

 

‮«‬هبة‭ ‬قسطنطين‮»‬‭ ‬والتاريخ‭ ‬الأوربي‭ ‬

لم‭ ‬يقتصر‭ ‬تأثير‭  ‬‮«‬هبة‭ ‬قسطنطين‮»‬‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬البابوية‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬امتد‭ ‬ليشمل‭ ‬معظم‭ ‬القوى‭ ‬الأوربية‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭. ‬فقد‭ ‬شكَّلت‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬الهبة‮»‬‭ ‬الأساس‭ ‬النظري‭ ‬لكل‭ ‬المطالب‭ ‬البابوية،‭ ‬وهذا‭ ‬أدى‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬إلى‭ ‬قيام‭ ‬تحالفات‭ ‬ومواجهات‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬أباطرة‭ ‬وملوك‭ ‬الغرب‭ ‬استمرت‭ ‬قروناً،‭ ‬ومنها‭:‬

‭ ‬1‭- ‬يتفق‭ ‬معظم‭ ‬المؤرخين‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أول‭ ‬ظهور‭ ‬لهذه‭ ‬الوثيقة‭ ‬كان‭ ‬عندما‭ ‬حملها‭ ‬البابا‭ ‬ستيفن‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬روما‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭ ‬للاجتماع‭ ‬مع‭ ‬ملك‭ ‬الفرنجة‭ ‬بيبن‭ ‬القصير‭ ‬عام‭ ‬754م،‭ ‬حيث‭ ‬تقبلها‭ ‬الملك‭ ‬باعتبارها‭ ‬وثيقة‭ ‬رسمية‭ ‬تتضمن‭ ‬حقوق‭ ‬البابوية،‭ ‬وأقرَّ‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬فيها،‭ ‬وتعهد‭ ‬للبابا‭ ‬بحماية‭ ‬البابوية‭ ‬وإعادة‭ ‬كل‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬استولى‭ ‬عليها‭ ‬اللومبارديون‭ ‬الجرمان‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭. ‬وبالفعل‭ ‬قام‭ ‬الملك‭ ‬الفرنجي‭ ‬بحملتين‭ ‬ناجحتين‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا،‭ ‬الأولى‭ ‬عام‭ ‬755‭ ‬والثانية‭ ‬عام‭ ‬756م،‭ ‬وسلَّم‭ ‬البابوية‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬بيد‭ ‬اللومبارديين،‭ ‬وأصدر‭ ‬بدوره‭ ‬وثيقة‭ ‬عُرفت‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬هبة‭ ‬بيبن‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬تؤكد‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬‮«‬هبة‭ ‬قسطنطين‮»‬،‭ ‬ولاسيما‭ ‬مسألة‭ ‬استقلال‭ ‬المدن‭ ‬والأملاك‭ ‬البابوية‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭. ‬وجدد‭ ‬الملك‭ ‬شارلمان‭ ‬هبة‭ ‬والده‭ ‬بيبن‭ ‬عام‭ ‬774‭ ‬م‭ ‬بوثيقة‭ ‬عرفت‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬هبة‭ ‬شارلمان‮»‬‭. ‬وهكذا‭ ‬كانت‭ ‬أولى‭ ‬نتائج‭  ‬هبة‭ ‬قسطنطين‭ ‬قيام‭ ‬الدولة‭ ‬البابوية‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬في‭ ‬أواسط‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬الميلادي،‭ ‬التي‭ ‬لعبت‭ ‬دوراً‭ ‬مهما‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬أوربا‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬أحد‭ ‬عشر‭ ‬قرناً،‭ ‬أي‭ ‬حتى‭ ‬توحيد‭ ‬إيطاليا‭ ‬عام‭ ‬1870م‭.‬

‭ ‬2 ‭- ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬هبة‭ ‬قسطنطين،‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬البابا‭ ‬صاحب‭ ‬السلطة‭ ‬العليا‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬فقد‭ ‬طالب‭ ‬البابوات‭ ‬بأنهم‭ ‬أصحاب‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬تتويج‭ ‬الأباطرة‭ ‬والملوك‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬فعلاً،‭ ‬حيث‭ ‬توج‭ ‬البابا‭ ‬ستيفن‭ ‬الثاني‭ ‬بيبن‭ ‬ملكاً‭ ‬على‭ ‬الفرنجة‭ ‬عام‭ ‬754م‭ ‬وتوج‭ ‬البابا‭ ‬ليو‭ ‬الثالث‭ ‬شارلمان‭ ‬إمبراطوراً‭ ‬‮«‬رومانياً‮»‬‭ ‬عام‭ ‬800م‭. ‬وتوج‭ ‬البابا‭ ‬هونوريوس‭ ‬الثالث‭  ‬فردريك‭ ‬الثاني‭ ‬‮«‬إمبراطوراً‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬الرومانية‭ ‬المقدسة‭ ‬وملكاً‭ ‬على‭ ‬صقلية‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1220م‭.‬

‭ ‬3 ‭- ‬واستناداً‭ ‬إلى‭ ‬هبة‭ ‬قسطنطين،‭ ‬منح‭ ‬البابا‭ ‬نيقولا‭ ‬الثاني‭ ‬عام‭ ‬1059م‭ ‬الزعيمَ‭ ‬النورماني‭ ‬روبرت‭ ‬جويسكار‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬دوق‮»‬‭ ‬مقاطعتي‭ ‬أبوليا‭ ‬وكالبريا‭ ‬الإيطاليتين‭ ‬مقابل‭ ‬حماية‭ ‬النورمان‭ ‬للبابوية‭. ‬كما‭ ‬عين‭ ‬البابا‭ ‬أوربان‭ ‬الثاني‭ ‬روجر‭ (‬شقيق‭ ‬جويسكار‭) ‬نائباً‭ ‬بابوياً‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬صقلية‭ ‬مكافأة‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬استردادها‭ ‬من‭ ‬أيدي‭ ‬المسلمين‭ ‬عام‭ ‬1091م‭. ‬

4 ‭- ‬كانت‭ ‬هبة‭ ‬قسطنطين‭ ‬سنداً‭ ‬قوياً‭ ‬في‭ ‬المشروع‭ ‬الإصلاحي‭ ‬الذي‭ ‬قاده‭ ‬البابا‭ ‬جريجوري‭ ‬السابع‭ (‬ت‭ ‬1085‭) ‬لتطهير‭ ‬الكنيسة‭ ‬الرومانية‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬التي‭ ‬لحقت‭ ‬بها،‭ ‬مثل‭ ‬التقليد‭ ‬العلماني‭ (‬أي‭ ‬تعيين‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬مناصبهم‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬العلمانيين‭ ‬من‭ ‬أباطرة‭ ‬وملوك‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬منحت‭ ‬‮«‬الهبة‮»‬‭ ‬البابا‭ ‬المنزلة‭ ‬الأولى‭ ‬بين‭ ‬بطاركة‭ ‬العالم‭ ‬المسيحي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تقع‭ ‬على‭ ‬عاتقه‭ ‬مسؤولية‭ ‬إصلاح‭ ‬ما‭ ‬تعانيه‭ ‬الكنيسة‭ ‬الرومانية‭. ‬وقد‭ ‬أدى‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬إلى‭ ‬صراع‭ ‬مرير‭ ‬بين‭ ‬البابوية‭ ‬والإمبراطورية‭ ‬دام‭ ‬نحو‭ ‬ثلاثة‭ ‬قرون‭ (‬ق‭ ‬11‭ - ‬ق‭ ‬13‭) ‬ودفعت‭ ‬الأطراف‭ ‬جميعاً‭ ‬أثماناً‭ ‬باهظة‭ ‬مادية‭ ‬ومعنوية‭  ‬نتيجة‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭.‬

‭ ‬5 ‭-  ‬لقد‭ ‬جعلت‭ ‬‮«‬هبة‭ ‬قسطنطين‮»‬‭ ‬البابوية‭ ‬قوة‭ ‬اقتصادية‭ ‬كبرى،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬قوتها‭ ‬الروحية‭ ‬والسياسية،‭ ‬حيث‭ ‬غدت‭ ‬أكبر‭ ‬مالك‭ ‬للأراضي‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬فحسب‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬كله‭. ‬وقد‭ ‬تضخمت‭ ‬أملاكها‭ ‬وثرواتها‭ ‬بفضل‭ ‬المنح‭ ‬والهبات‭ ‬ومواريث‭ ‬الأثرياء‭ ‬والأشراف‭. ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬الثروات‭ ‬موضع‭ ‬طمع‭ ‬الطبقة‭ ‬الحاكمة‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬خلال‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭.‬

 

لورنزو‭ ‬فالا‭ ‬يكشف‭ ‬‮«‬زيف‮»‬‭ ‬الوثيقة‭ ‬

نشر‭ ‬العالم‭ ‬الإيطالي‭ ‬لورنزو‭ ‬فالا‭ ‬عام‭ ‬1440‭ ‬نقداً‭ ‬عنيفاً‭ ‬لوثيقة‭ ‬‮«‬هبة‭ ‬قسطنطين‮»‬،‭ ‬وأثبت‭ ‬أنها‭ ‬مزيفة‭. ‬وكان‭ ‬فالا‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬روما‭ (‬1405 ‭- ‬1457م‭). ‬درس‭ ‬في‭ ‬بافيا‭ ‬وميلان‭ ‬وجامعة‭ ‬روما،‭ ‬وتدرب‭ ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬نصوص‭ ‬التراث‭ ‬الكلاسيكي‭ (‬اليوناني‭ ‬والروماني‭) ‬ونقدها،‭ ‬وغدا‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬العلماء‭ ‬في‭ ‬فقه‭ ‬اللغة‭ (‬الفيلولوجيا‭) ‬ومناهج‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬والتاريخي،‭ ‬وطَبَّقَ‭ ‬لورنزو‭ ‬هذه‭ ‬المناهج‭ ‬على‭ ‬وثيقة‭ ‬‮«‬هبة‭ ‬قسطنطين‮»‬،‭ ‬وتبين‭ ‬له‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬الوثيقة‭ ‬قد‭ ‬كُتبت‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬الميلادي،‭ ‬وهو‭ ‬القرن‭ ‬الذي‭ ‬تُنسب‭ ‬إليه‭ ‬الوثيقة‭ (‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬فيه‭ ‬الإمبراطور‭ ‬قسطنطين‭ ‬والبابا‭ ‬سلفستر‭ ‬الأول‭)‬،‭ ‬لأن‭ ‬اللغة‭ ‬اللاتينية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬القرن‭ ‬كانت‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬اللاتينية‭ ‬الفصحى‭ ‬النقية‭ ‬من‭ ‬الشوائب‭ ‬التي‭ ‬كتب‭ ‬فيها‭ ‬الأدباء‭ ‬الرومان‭ ‬أمثال‭ ‬شيشرون،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬اللاتينية‭ ‬التي‭ ‬كُتبت‭ ‬بها‭ ‬الوثيقة‭ ‬فعلاً‭ ‬هي‭ ‬اللاتينية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬سائدة‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى،‭ ‬وهي‭ ‬اللاتينية‭ ‬الدارجة،‭ ‬أي‭ ‬اللهجة‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يتحدثها‭ ‬عامة‭ ‬الناس،‭ ‬والتي‭ ‬انبثقت‭ ‬عنها‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬اللغات‭ ‬الرومانسية‭: ‬الإيطالية‭ ‬والفرنسية‭ ‬والإسبانية‭ ‬وغيرها‭. ‬ومن‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬فقد‭ ‬أكد‭ ‬فالا‭ ‬أن‭ ‬الوثيقة‭ ‬كُتبت‭ ‬بلاتينية‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬الميلادي‭ ‬تحديداً‭ ‬وليس‭ ‬بلاتينية‭ ‬القرن‭ ‬الرابع،‭ ‬وأنها‭ ‬كُتبت‭ ‬في‭ ‬المحيط‭ ‬البابوي‭ ‬وعلى‭ ‬يد‭ ‬أحد‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭,‬‭ ‬وبالتالي‭ ‬فهي‭ ‬وثيقةٌ‭ ‬مزيفةٌ‭ ‬ولا‭ ‬أساس‭ ‬تاريخياً‭ ‬لها‭.‬

 

إنجاز‭ ‬كبير

إنَّ‭ ‬ما‭ ‬توصل‭ ‬إليه‭ ‬لورنزو‭ ‬فالا‭ ‬كان‭  ‬إنجازاً‭ ‬علمياً‭ ‬كبيراً،‭ ‬ولكنه‭ ‬جاء‭ ‬بعد‭  ‬نحو‭ ‬سبعة‭ ‬قرون‭ (‬ق‭ ‬8‭ - ‬15‭) ‬على‭ ‬‮«‬انتحال‮»‬‭ ‬الوثيقة‭ ‬واستخدامها،‭ ‬وبالتالي‭ ‬كانت‭  ‬قد‭ ‬قامت‭ ‬بالدور‭ ‬الذي‭ ‬وُضع‭ ‬لها‭ ‬وحققت‭ ‬أغراضها‭. ‬ومهما‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬فقد‭ ‬جاء‭ ‬اكتشاف‭ ‬فالا‭ ‬بمنزلة‭ ‬دعوة‭ ‬لعلماء‭ ‬عصره،‭ ‬وهو‭ ‬فجر‭ ‬النهضة‭ ‬الأوربية‭ ‬الحديثة،‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬مفاهيمهم‭ ‬ومواقفهم،‭ ‬وإلى‭ ‬إماطة‭ ‬اللثام‭ ‬عن‭ ‬المراسيم‭ ‬والوثائق‭ ‬التي‭ ‬كُتبت‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى،‭ ‬وذلك‭ ‬احتراماً‭ ‬للحقيقة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬أساسٌ‭ ‬لكل‭ ‬نهضة‭ ‬