لوكليزيو ثائر ومجدد يبحث في التيه عن جوهر الإنسان
مدينة نيس الفرنسية الساحليّة والمفجوعة هي عينها مسقط جان ماري غوستاف لوكليزيو Le Clézio. في هذا المكان الجغرافي الذي تلفحه ملوحة البحر الأبيض المتوسط كالرذاذ المنعش، ولد الصوت الروائي المسموع الذي ركن إليه تاج الجوائز الأدبية، أي «نوبل» في الآداب في عام 2008، وفي شأن هذا المطرح العزيز استلّ قلمه ليكتب من عمق المأساة، في مجلة «لو بوان» الفرنسيّة.
في مقال حديث رجع الكاتب، إلى جانب مؤلفين سواه، إلى الحيّز الذي لم يجفّ دمه المهرق بعد، في أعقاب تعرّضه لنسق من الترهيب الحاقد والجبان في آن. عاد إليه بدفع من الخيال المعطوف على دفء الحنين وكأنه يلحق بحبل السرة إلى حيث الضوء البكر، ليكتب «ولدتُ في نيس وكبرتُ فيها. على الأرجح، ليس ثمة مكان في العالم أعرفه على نحو أفضل. أعلم أين يقع كل شارع وكل حي في المدينة وكل زاوية وكل شبر. لابدّ أني قصدتها جميعها في أحد الأيام، أعرف جميع التفاصيل. أعرف هذا الشيء البسيط الذي يجعل هذا المطرح ما هو عليه وليس شيئاً آخر.
لم يكن «لا برومونــاد ديز أنغلييه» (جادة الإنجليز) مكاني الأثير، ذلك أنــــني لا أتــــحدّر من هذا الحيّ الجميل جداً والموغل في الترف، في المقارنة مع ذوقي الشخصي. أجيء من الميناء، وفي طفولتي استهوتني السفن ومراكــب الصيادين ومراكب الــشحن العتيـــقة والصـــدئة».
لا يقتصد لوكليزيو في نصه ومن موقعه كابن نيس البار في طرح ألمه واستفهاماته وذكرياته المنوطة بالمدينة ذات السقوف البرتقالية. ينساق إلى تصفّح تاريخها مستعيداً أولئك الإنجليز الذين أجروا مقايضة مع سكان مدينة نيس فمنحوهم «مقابل سلّة الحصى، سلّة خبز». والحال أنه جرى استخدام الحصى على ما يزيد «في بناء طريق يحاذي البحر: جادة الإنجليز». ولا يلبث لوكليزيو أن ينتقل من باب التاريخ إلى تلك الواقعة الراهنة والمُلتهبة، إلى الحدث الأمني الجلل، فيأتي بما يشبه المرافعة العالية النبرة والمبللة بالألم.
نقرأ «من خلال قتل هؤلاء الأبرياء، دمّر هذا المجرم ما نتعلّق به وقضى عليه وأصابه: أي الحياة العادية ومصادر لذّتها المنمنمة وقصص الحب العابرة على شاطئ الحصى وألعاب الأطفال (...) فلتحِلّ اللعنة على هذا القاتل الذي فتح جُرحاً في المدينة».
رجل الجنون والنسيان
من الجليّ أن علاقة لوكليزيو بالبحر الأبيض المتوسط ليست مستجدّة، على المستوى الشخصي كما على المستوى الروائي، ذلك أنه ألقى روايته الأولى «محضر ضبط» على شفا مدّ مائي يحاذي إحدى المدن التي يمكن ووفق معطيات كثيرة أن تكون نيس.
أتاه هذا النص، وهو لايزال فـــي عامه الثــــالث بعد العشرين بجــائزة «رونودو» الأدبيّة، وجعل من لوكليزيو موهبة تأليفية تســـتحـــق استمهالها.
في كنف هذه القطعة البديعة، أو لنُطلق عليها مُسمّى «الرواية - اللعبة» أو «الرواية - الأحجية»، لم يقتصد لوكليزيو في الإتيان بكل ما يلزم على مستوى النبرة والأسلوب من أجل أن يصف تناقضاً يعيشه الرجل المعاصر بين حالتين، فهو من جهة أولى سعيد بالطبيعة البريّة التي يعجز عن ترويضها بينما تسحقه، من جهة ثانية حضارة مخيبة وملزمة.
ينصرف لوكليزيو إلى وصف نمط من الحرّ المرتجف الذي يرتفع كمثل الحمى إلى الدرجات الأخيرة وإلى الحدود القصوى. ولا يلبث الكاتب أن يرسم معالم الهواجس المولودة من رحم القيظ وهذا النمط من الهذيان المنبثق من اللهيب المسيطر.
في هذه القطعة الروائية ثمة شاب بهوية آدم أبولو يأتي للإقامة في منزل خاوٍ يطلّ على البحر، ولا نلبث أن نتورّط في ملاحقة تفاصيل زياراته المتتالية إلى الشاطئ كما إلى المدينة. يهجس الشاب بالعالم الحيّ ويحاول التماهي مع ما يراه من حوله ومع جميع العناصر النابضة، أي الشاطئ والكلاب وحيوانات الحديقة.
يدفع بنا لوكليزيو، وعلى ما سيفعل في عناوينه اللاحقة، إلى الاستفهام حول ما يعدّ طبيعياً وفق السائد. وليس من باب المصادفة تالياً أن تحمل الشخصية الرئيسة في وسط هذا التمرين السردي هوية آدم، ذلك أنه الرجل الأول والأخير في آن، وهو رجل الجنون والنسيان أيضاً، رجل يستقدم مقاربة للأمور تختلف عن مقاربات جميع من يحوطه.
من خلال بطله الذي ستنزل به عقوبة الجنون صوب نهاية السرد، فيجري عزله في مصحة عقليّة، يضع لوكليزيو تحت المجهر تأمّلاً فلسفيّا حول معيار الاتزان العقلي، بل وحول تفسير ما هو اصطلاحي، ولا يتردّد أيضاً وهو يسلك هذا المنحى الاستفهامي في تحرير محضر ضبط في حقّ اللغة الفرنسيّة كذلك.
وإذا كان لوكليزيو يلجأ، في تلك الحقبة الأولى، إلى تقنيّات سرديّة خاصة، فلأنه انحاز آنذاك إلى منطق «الرواية الجديدة»، التي لم يلبث أن أخذ مسافة منها كنوع في نصوصه الأخيرة. وفي حين أعاد الاشتغال لاحـقاً على أسلوبه على نحو سمح بتدجين مصادر تأثير إضافية كانت غابت عن نصه الأول، يمكن وفي جميع الحقبات أن نلمح هذه الصلات القائمة بين تجربته وتجربة جوزيف كونراد Conrad، عند الضفة الإنجليزية، وإن لم يَدْنُ أسلوب لوكليزيو - كما عند كونراد - إلى الحسّ الدرامي على مستوى الحبكة والحوار.
ولابدّ أنه من اللافت أن يعمد لوكليزيو عينه وفي أحدث عناوينه التأليفية الذي حمل هوية «عواصف» إلى الإشارة إلى ذاك الرابط التأليفي بينه وبين كونراد. إنه يكتب في شأن مؤلّفه الموزع في قصتين قصيرتين، أي novella إن «هذه الكلمة في الإنجليزية تحيل على قصة قصيرة مديدة توحّد بين الأماكن والحركة والنبرة. جوزيف كونراد هو النموذج المثالي في هذا السياق. والحال أن إحدى هاتين القصتين تدور في جزيرة أودو في بحر اليابان الذي يسميه سكان كوريا بحر الشرف، أما الثانية فتجري في باريس وفي بعض الأماكن الأخرى، والقصتان معاصرتان». ومن الناتئ أيضاً أن يحضر البحر مجدّداً في هاتين القطعتين السرديتين، علماً بأنه عنصر طاغٍ في القصة القصيرة الأولى «العواصف»، التي تمنح اسمها للكِتاب. يتراءى البحر ذريعة تسمح ببثّ مناخ وجودي في النثر.
في الحكاية الأولى إذاً ثمة راو باسم فيليب كيو يعمل صحفياً وكاتباً واختبر حالاً من الصدمة على خلفيّة الحرب التي عجز عن الإفلات منها على وجه كامل، ذلك أنه حمل وزر تقصيره في الإبلاغ عن عمليّة اغتصاب جماعية شهد عليها خلال الصراع الحربي، ولم يلبث أن يسجن بسببها. ها هو يلجأ إلى جزيرة أودو ليواجه في هذه الرقعة، البحر. والبحر هو المؤتمن على جميع التناقضات. فوق البحر، ثمة جانب مضيء: طيور محلّقة وجبال عالية وضحكات الأطفال. وفي عمق البحر، ثمة عمق وظلمة: هناك ذكريات الحرب ومآسيها ومخيمات اللاجئين والجوع المستشري وآلات تطحن الناس وأحلامهم، وثمة اتجار بالناس وعالم أوهام يُشرف على الانفجار.
لغة استعمارية
راودت لوكليزيو فكرة الكتابة بالإنجليزية التي تحدّثها حين أقام في نيجيريا في نهاية الأربعينيات وفي مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، غير أنه بدّل رأيه حيال لغة تراءت له «استعمارية إلى حد بعيد». فدأب على هذا النحو يكتب بالفرنسيّة التي عاينها «بلاده الوحيدة»، ليضيف أنها «المكان الوحيد الذي يسعني أن أدعوه منزلي الفعلي».
غير أن هوية الكاتب الأخرى، أي انتماءه إلى جزر موريشيوس، حيث رأى والده النور، جعلته يوزّع جذوره في ثنائية تقاطعت أحيانا وتباعدت في أحياناً أخرى. ولم يتوانَ لهذا السبب في أن يعدّ كينونته موازية للمنفى. لم يكن هيناً عليه، ولم يرغب أيضاً، في أن يفكّ هذا الرابط مع أسرة ذات خصوصيّة تحدّرت من جزر موريشيوس الموغلة في الفولكلور وتذوّق الطعام والأساطير. وليس من باب المصادفات تالياً أن تستمهل «الأكاديمية السويدية» حين منحته «نوبل» في الآداب صفاته ككاتب «الانطلاقات الجديدة والمغامرة الشعرية والنشوة الحسيّة» وكمستكشف لإنسانية تتخطى الحضارة السائدة. والحال أن لوكليزيو كذلك فعلاً. على نسق رامبو أو هايدجر، حام لوكليزيو في منطقة الوحدة والبعد والانفصال والانحراف.
في «الطوفان» و«الحمى» و«الحرب» و«كِتاب الهروب» وسواها من العناوين التي زرعها كبذور في مساره التأليفي، أراد على ما أعلن مرة أن ينقّب في الأكثر درامية وفــــي الأكثر صدقاً بغية إيجاد لغة مؤثرة تحيي العواطف وربما تحوّل الليل إلى طيف. كان يشعر بأنه شيء مــنمـــنــــم في هذا الـــكون، وأن الأدب يساعده على التعبير عن هذا الواقع.
أضاف «في حال غامرتُ في الفلسفة، ربما قيل إني أحد أتباع جان جاك روسو، ولكنه التلميذ الذي لم يفقه شيئاً». هكذا هو لوكليزيو القريب من الثقافات كلها، والبعيد منها في آن. كاتب العزلة الذي يروقه - ويا للمفارقة - أن يحتلّ تلك الرقعة الجامعة بين جميع تيارات العالم.
في خطاب نيله «نوبل» في الآداب وقبالة المحتفين به، عاد لوكليزيو إلى الأصل ليطرح السؤال الأكثر بساطة والأكثر أهمية: «لماذا نكتب؟». وفي جوابه لفت إلى وجود استعداد لدى البعض للكتابة، بالإضافة إلى البيئة والظروف ومصادر العجز أيضاً.
وأردف «إذا كنّا نكتب فهذا يعني أننا لا نتصرف، وأننا نحسّ بعجزنا إزاء الواقع، وأننا نختار سبيل فعل مختلفاً، بل وطريقة أخرى للتواصل».
لوكليزيو هذا المجدّد والثوري ورفيق أفكار دولوز وفوكو، ظلّ ينظر إلى نفسه بعين التواضع تجاه منجزه، ولهذا السبب فحسب، تمكّن من الارتقاء إلى الذرى ■